الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
وريثما يتم تحقيق الهدفين السالفين لباد من وعي الطليعة المؤمنة لجملة من الأمور حتى تأمن على نفسها العثار منها:
1 أهمية إدراك الشباب المسلم أنه إن كان الباري جلت قدرته قد يسر القرآن للذكر وهيأ لنا سبل الاطلاع الواسع على السنة من خلال كتبها الكثيرة المتوفرة فإن الأخذ عن تلك المصادر بمبادرات فردية فيه الكثير من المحاذير، فلابد من الاستعداد السابق ثم التزود لذلك بأدواته التي فصلها أهل الاختصاص من معرفة ضوابط الاستنباط وقواعده، وإتقان العربية وأساليب التعبير فيها، ومعرفة
علوم الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والعام المراد به الخصوص، والمطلق والمقيد من النصوص غير ذلك من عوارضها، فإن أي قول يصدر عن المسلم من غير إحاطة ومعرفة بتلك الوسائل إنما هو قول في الدين بالتشهي والخرص والتخمين، من غير نور ولا هدى ولا علم، ومن فعل ذلك فقد ركب مركبا صعبا وأودى بنفسه والعياذ بالله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (166) وهذا النوع من المعرفة لا يمكن تحصيله من خلال قراءة كتاب أو كتابين، بل لابد من دراسة منهجية متقنة، تضع في يد الدارس مفاتيح تلك العلوم التي تهيئ له سبيل الولوج الى ساحة الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية، وحتى تؤتي تلك الدراسة أكلها لابد أن تعتمد على البحث المستقصي الذي يقوده الأستاذ المتقن والموجّه المجيد، والناقد البصير، في ظل من تقوى الله وابتغاء الأجر منه.
2 لابد من التنبيه إلى أن هذه الشريعة أنزلت لتسعد الناس في الدارين: الدنيا والآخرة، ولتحقق لهم مصالحهم بما ينسجم وقدراتهم العقلية التي أنعم الله بها على عباده، فكرمهم سبحانه
(166) أخرجه الترمذي عن ابن عباس بسند صحيح على ما في الجامع الصغير (2/309) والفتح الكبير (3/291) كما أخرجه الثلاثة من أصحاب السنن بلفظ (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) من طريق جندب على ما في الفتح الكبير (3/219) .
على سائر مخلوقاته، ولم تضمن الشريعة السمحاء أمرا لا يطيق الناس إتيانه أبدا ولذلك قال الله تعالى: «وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78) وقد يسر سبحانه على عباده حتى يعملوا بهذا الدين في ظل المحبة لا القسر والإكراه، ويقول جلّت قدرته في ذلك:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(البقرة: 185) و (يريد الله أن يخفف عنكم)(النساء:28) لعلمه بضعفكم (وخلق الإنسان ضعيفا)(النساء: 28) .
وكل الأحكام الشرعية حوت مصلحة العباد وحرصت على تحقيق النفع لهم، ولا شيء فيها يعود لله تعالى نفعه، ذلك لأنه تعالى هو الغني الحميد، ولذلك فإنه لابد من فهم جزئيات الشريعة في ضوء تلك الكليات ونحوها، ومن لم يحط بكليات الشريعة، ويفهم مقاصدها، ويدرك قواعدها فإنه لن يستطيع أن يرد الفروع إلى الأصول والجزئيات الى الكليات، يقول الإمام ابن برهان (167) : «
…
إن الشرائع سياسات يدبر بها الله عباده، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان
(167) ابن برهان: هو أحمد بن علي بن برهان البغدادي المتوفى سنة (518 هـ) . أصولي معروف، له جملة من المؤلفات الاصولية منها: الوصول إلى علم الأصول، والأوسط والوجيز، كان حنبليا، ثم تحول إلى المذهب الشافعي، له ترجمة في طبقات الشافعية لابن السبكي (4/42) والوفيات (1/199) والبداية والنهاية (12/196) وطبقات الاشنودي (1/208) والمنتظم لابن الجوزي (9/250) ولقبه بابن تركان.
نوع من التدبير، حظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعا من التدبير يصلحهم وإن كان ذلك مفسدة في حق غيرهم» (168) .
وقد اتفقت كلمة علماء الأمة على أن أحكام الشريعة كلها معللة بمصالح العباد، ولأجلها شرعت، سواء منها ما هدانا الله لمعرفته بالنص عليه أو بالإيماء إليه؛ وما لم نهتد اليه فلحكمة يعلمها الله جل شأنه، ولذلك فإن كثيرا من الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الأزمنة، وقد تختلف باختلاف الأشخاص وطاقاتهم وقدراتهم وظروفهم.
كذلك ينبغي أن نصوص الكتاب والسنة، منها ما هو قطعي في ثبوته، وهو القرآن العظيم والمتواتر من السنة.. وأن من السنة ما هو ظني في ثبوته، مثل: أخبار الآحاد. ودلالة النص قد تكون ظنية، قد تكون قطعية كذلك، ومعرفة كل ذلك له أثره في الاستنباط والاجتهاد والفهم من النص، فليس لأحد أن ينكر على الآخرين ما قد يفهمونه من الص من فهم مخالف لفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، والدليل يتسع له، ونصوص الشرع الأخرى لا تناقضه أو تعارضه، ومعظم الأحكام المتعلقة بالفروع والمتناولة للنواحي العملية هي من النوع الذي يثبت بالطرق الظنية رحمة من الله تعالى بعباده، ليتسع للناس مجال الاجتهاد فيها، وما دام
(168) كتاب الوصول إلى الأصول المسألة الرابعة في مسائل النسخ «مخطوط» .
الشارع الحكيم قد فتح باب اليسر للعباد، وجعل مصلحة الناس معتبرة فلا يليق بأحد أن ينسب مخالفا له في أمر من هذه الأمور إلى كفر أو فسق أو بدعة، بل عليه أن يلتمس لمخالفه من الأعذار ما يجعل حبل الود موصولا بينهما، فيحظى بحبه وتقديره ويرعى أخوته وولداه.
3 إن من أهم الواجبات أن يدرك الجميع أن أخوة الإسلام ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها من أهم الفرائض وأخطرها، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات لأننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي تعيق استئناف الحياة الإسلامية على الصورة التي ترضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرنا من الفرقة بأن أهدر دم المفرق للجماعة، ولذلك فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، ولا سيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي بدأت تتقد في القلوب، وتبيد البذرة الطيبة التي بدأت تشق التربة رغم الأيدي العابثة التي تنهال عليها وتحاول اجتثاثها.
إن الأخوة في الله ووحدة القلوب بين المسلمين تحتل المراتب الأولى للواجبات، بل هي في مقدمتها لأنها شقيقة التوحيد وقرينته، كما أن هناك مراتب للمنهيات يقع النيل من الأخوة في
مقدمتها كذلك. ولذلك فإن علماء السلف كثيرا ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجا من الخلاف، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقا لذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «المسلمون متفقون على جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرا ولا جهرا، وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد
…
وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟» (169) ولا يجولن بفكر أحد أن حرصنا على الأخوة الإسلامية ووحدة صف المسلمين يعني التساهل في قضايا العقيدة
(169) الفواكه العديدة للشيخ المنقور (2/181) .
الأساسية التي لا تحتمل التأويل ضمن حدود القواعد الثابتة في العقيدة، ذلك لأن الحرص على مجابهة أعداء الأمة لن يدفعنا الى أن نضع أيدينا بأيدي الذين ليس لهم نصيب من الإسلام إلا الأسماء بحجة الحرص على الأخوة، فالقضايا الخلافية التي لا يجوز أن تفرقنا هي تلك التي اعترف بها كرام العلماء من أئمة السلف، وتعاملوا معها من خلال آداب فاضلة، وكان لديهم من الادلة ما يجيز أكثر من وجه.
4 كما أن من الأمور المعروفة أن الباري سبحانه قد شرع للناس تأدية العبادات في كثير من الأمور على درجات تتنوع بين الأفضل والاختيار والجواز، وإن كانت الدرجات السابقة كلها تلتقي في زاوية القبول عند الله تعالى، لكنها تتفاوت في المراتب، فكثير من الفرائض والواجبات لها صور متعددة تدخل ضمن هذه الدرجات الثلاث، فيمكن أن تؤدى العبادة على أفضل صورها الشرعية فتقبل مع ثواب الفضل، كمن يصلي أول الوقت مع الجماعة ويؤدي سائر السنن المطلوبة للصلاة، وهناك الأختيار وهو تأدية العمل نفسه دون مرتبة الأفضل كمن يصلي في الوقت ولكن ليس في أوله، بل في وقت الاختيار منه، ثم المرتبة الثالثة: مرتبة الجواز وهي المرتبة التي إن قبل العبد لنفسه باقل منها سلك في عداد المقصرين، وفي الأثر (حسنات الأبرار سيئات المقربين) فمن انتظر من جميع الناس على اختلاف ظروفهم وأوضاعهم تحقيق الصورة المثلى للإسلام، فقد أراد أمرا
ليس من السهل إدراكه، ولولا تفاوت مراتب العبادات والطاعات لما تباينت درجات المؤمنين في الجنة، فطاقات الناس مختلفة وقدراتهم متباينة وكل ميسر لما خلق له.
أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (170) أن أناسا لقوا عبد الله بن عمر بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه، فقال: متى قدمت؟ قال: كذا وكذا، قال: أبإذن قدمت؟ قال الحسن (راوي الحديث) : (فلا أدري كيف ردّ عليه) فقال: يا أمير المؤمنين إن أناسا لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى، أمر أن يعمل بها ولا يعملون بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي، قال: فجمعتهم له
…
فأخذ أدناهم رجلا فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. فهل أحصيته (أي عملت به كله) في نفسك؟ قال: اللهم لا (ولو قال نعم لخصمه) قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن تكون لنا سيئات. قال: وتلا قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
(170) تفسير الطبري (5/29) .
وندخلكم مدخلا كريما) (النساء: 31) ثم قال: هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم. أي: لنكل بهم ليجعلهم عبرة وموعظة لغيرهم.
وفي هذا درس بليغ يوضح فيه سيدنا عمر رضي الله عنه أن الصورة المثلى التي رسمها القرآن العظيم للمسلم هي صورة أنموذجية ينبغي أن يحاول المسلم تحقيقها، ولكن حين يقصر عنها فعليه أن رحمة الله واسعة، وأنه حين تجتنب الكبائر فإن المسلم على خير كثير إن شاء الله، ولكن عليه أن يطمح دوما إلى الصورة المثلى ولا يعجب بالأدنى فيقف عند حدوده.
5 ولعل مما يساعد على التقليل من أسباب الاختلاف في الوقت الحاضر، ويبعث على التحلي بآدابه: معرفة أسباب اختلاف الفقهاء من السلف رضوان الله عليهم، وفهم تلك الأسباب ومدى موضوعيتها، ليكون ذلك من بواعث التمسك بـ «أدب الاختلاف» .
فإنهم حين اختلفوا، إنما اختلفوا لأسباب موضوعية، وكانوا جميعا مجتهدين، وكان كل واحد منهمك فقي طلب الحق كناشد ضالة لا فرق لديه بين أن تظهر تلك الضالة على يديه أو على يدي سواه.
6 ولعل من الأمور المفيدة في حمل المسلمين على التمسك بآداب الاختلاف معرفة المخاطر الهائلة، والتحديات الخطيرة، والخطط الماكرة التي يعدها أعداء الإسلام للقضاء على الطليعة
المؤمنة التي تحمل لواء هذه الدعوة، وليس في حساب الأعداء أبدا أن تفلت من يدها، إن استطاعت، فئة دون أخرى، فالمهم هو القضاء على العاملين للإسلام على اختلاف مذاهبهم وتباين وجهات نظرهم، وهذا يجعل إثارة أي اختلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه، أو تجاوز آدابه خيانة عظمى لأهداف الأمة، وجريمة كبرى في حقها لا يمكن تبريرها أو الاعتذار عنها بحال.
7 وقبل هذا وبعده لا مناص من التزام تقوى الله في السر والعلن وابتغاء رضاه في حالتي الوفاق والخلاف، مع الحرص على فقه دين الله والتجرد عن الهوى والبعد عن نزغات الشيطان، ومعرفة سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، وقد آن الأوان لتثوب الى رشدها، وتستنير بكتاب ربها، وتعض على سنة نبيها صلى الله عليه وسلم بالناجذ، ولعل الله يكتب إنقاذ الأمة على ايدي هذا الجيل من أبنائه البررة، إذا صدقت النية مع الله، واتخذت من السبل ما هو كفيل بقيادة الركب نحو شاطئ الأمان، بعد أن طال ليل التيه والضلال، ولا يبخلن الصالحون من الأمة بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق، نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا ويزيدنا علما، ويجمع على الحق كلمتنا، ويلهمنا الرشد والسداد في أمورنا كلها، ويقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألاّ يجعلنا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا، إنه أهل ذلك سبحانه، والقادر عليه .. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.