الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخلاف أسبابه وآدابه إعداد
د. عائض القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد. . .
فيقول سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} هود (118-119) .
قال بعض العلماء: أي للاختلاف خلقهم.
والصحيح أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق للعبادة؛ لأن الله -تعالى- يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات (56) . فخلقهم سبحانه للعبادة لا للاختلاف، لكن من سنته سبحانه وتعالى في الكون أنه ميز بين كل شيء، فميز بين الأطعمة والأمزجة والألوان والأفكار.
فجعل الحلو والحامض، وجعل الظلمة والنور، وجعل الليل والنهار، وجعل الحار والبارد.
وجعل سبحانه وتعالى من آياته التي تثبت تدبيره للكون سبحانه وتعالى وخلقه له، وبديع صنعه فيه: اختلاف الألسنة والألوان، فقال سبحانه:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} الروم (22) فتبارك الله أحسن الخالقين، وسبحان الذي يُغير ولا يتغير.
وكما أن الخلاف يقع في الكون بأكمله ، فهو لا شك واقع في المجتمع الصغير بدءا بالأسرة ، ثم القرية ، ثم المدينة ، ثم الشعب ، ثم الأمة ، ثم المعمورة.
فلا بد أن يقف الإنسان بتعقل أمام سنة الله سبحانه وتعالى في الاختلاف.
وقد اخترت الحديث عن هذا الموضوع (الاختلاف) لأنه قد كثر في عالم الشباب، وانتشر مع التنابز والفرقة والخوض في الأعراض والنيل من الفضلاء. فكان لا بد لعلماء الإسلام ودعاته أن يتصدوا لهذه الظاهرة المتفشية.
ولقد تأملت الخلاف بأنواعه واستعرضته أمام خاطري فرأيت أن سبب الخلاف العام هو وجود الخطأ، فهو (أي الخطأ) بوابة الخلاف الرئيسة حتى وإن كان هناك - حقيقة - أبواب رئيسة أخرى تكبر بوابة الخطأ قد تكون هي سبب الخلاف الحاصل؛ مثل: بوابة الحسد أو البغض أو غير ذلك من الأسباب، ولكن يظل الخطأ هو السبب المتفق عليه سواء كان ذلك حقيقة أو تلبيسا لإخفاء حقيقة لا يحب المخالف أن يظهرها، فيفرغ ما بداخله بحجة أن فلانا أخطأ أو انحرف عن الطريق، والله وحده هو الذي يعلم السرائر، ولكن يجب أن نذكر أنفسنا بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كان هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1) ، والأجر والحساب عند الله علام الغيوب.
(1) أخرجه البخاري (1) ، ومسلم (1907) ،وأخرجه أبو داود (2201) والترمذي (1647) والنسائي1 / 59-60. انظر كتاب الجمع بين الصحيحين للموصلي رقم (2857) .
فأقول: ما دام أن الخطأ والوقوع فيه هو البوابة الأم لوقوع الخلاف، لذلك كان لازما على من أراد أن يتكلم عن ردة الفعل أن يدرس ويسأل عن الفعل أصله. وهنا نقول بأن الخلاف ردة فعل لفعل أو لسبب الوقوع في الخطأ. إذا لا بد أن نقدم بين يدي هذا الموضوع (الخلاف أسبابه وآدابه) كلمةً عن الخطأ تمهيدا فقط، حتى لا يطغى على موضوع الكتاب.
إن الخطأ أمر متوقع ومأخوذ في الحسبان في إمكانية حدوثه بكل أشكاله وصوره ودرجاته من بني آدم إلا من عصمه الله تعالى، وقد جاءت السنة المطهرة بتحقيق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (1) .
(1) أخرجه الترمذي (كتاب صفة القيام رقم 2499) وقال: حديث غريب. تحقيق كمال الحوت، وابن ماجة (كتاب الزهد رقم 4251) تحقيق خليل مأمون شيحا، وأحمد (3 / 198) .
وهذا الحديث لو شرحناه شرحا وافيا لكان كافيا لتوضيح الخطأ من حيث واقعية حدوثه، ومن حيث إنه الضابط العظيم الذي يربط بإذن الله المرجئة والجبرية وأشباههم أو حتى من كان على غير ملة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«خير الخطائين التوابون» حتى لا يفهم أن حتمية الخطأ على ابن آدم ذريعة للوقوع في مخالفات شرعية على مختلف أشكالها أو على الأقل الاستمرارية في ممارسة الأخطاء، وحتى لا يفهم الحديث خطأ فإن الحديث الشريف لا يعني تساهل الإنسان بالوقوع في الأخطاء بحجة أنه خطّاء، فلم يفهم الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم هذا الفهم الغريب، بل كانوا يسعون في الأرض إصلاحاً وطاعةً لرب العباد، وإذا أخطؤوا تابوا، ولكن من رحمة الله - تعالى - على الإنسان أنه إذا أخطأ رجع وتاب، فإن خير الخطائين التوابون، وبالتالي فإن حصول الخطأ من الناس وارد؛ فهم ليسوا بمعصومين وإنما المعصوم هم الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام.