الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب شروط الصلاة
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
شروط الصلاة تسعة: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية.
الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر؛ والكافر عمله مردود ولو عمل أي عمل، والدليل: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17]، وقوله تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] .
الثاني: العقل، وضده الجنون؛ والمجنون مرفوع عنه القلم حتى يفيق، والدليل: الحديث: " رُفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ ".
الثالث: التمييز، وضده الصغر، وحدّه سبع سنين؛ ثم يؤمر بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم:" مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع "1.
1 أبو داود: الصلاة (495) ، وأحمد (2/180، 2/187) .
وقال: الشرط السابع: دخول الوقت، والدليل من السنة: حديث جبريل عليه السلام، أنه أم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت، وفي آخره، ثم قال: يا محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين، والدليل: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [سورة النساء آية: 103]، أي: مفروضاً في الأوقات. ودليل الأوقات: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء آية: 78] .
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عن أوقات الصلوات الخمس؟
فأجاب: وقت صلاة الصبح: إذا طلع الفجر المعترض الأبيض، وآخره: عند طلوع الشمس. والظهر: إذا زالت الشمس، وآخر وقتها: إذا صار ظل كل شيء مثله من غير ظل الزوال. ووقت صلاة العصر: من خروج وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله مرتين. والمغرب: إذا غربت الشمس. والعشاء: إذا غاب الشفق، وآخره: ثلث الليل.
وأجاب أيضاً: وأما الصلاة فوقت النهار لا أعرف ضبطه بالأقدام، لأن الأقدام تختلف اختلافاً كثيراً مع تغير الفصول. والموجود في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أن وقت الظهر: إذا زالت الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. ووقت العصر: بعد ذلك إلى
أن يصير ظل كل شيء مثليه؛ ويعرف ذلك في جميع الأيام بأن ينصب عوداً في مكان مستو، فما دام ظل العود ينقص فالشمس لم تزل حتى يزيد، فإذا زاد فقد زال الظل.
سئل بعضهم: عن المواقيت، وحديث جبريل، وكلام أهل العلم فيهما، فإن الحاجة داعية إلى ذلك؟
فأجاب: الأصل في المواقيت، الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: قال الله سبحانه وتعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [سورة الروم آية: 17-18] ، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: أراد بـ: {حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء، و {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الصبح، {وَعَشِيّاً} صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر.
وأما السنة: عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " جاءه جبريل، فقال له: قم فصلّه، فصلى الظهر حين زالت الشمس. ثم جاءه العصر فقال: قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله. ثم جاءه المغرب فقال: قم فصلّه، فصلى المغرب حين وجبت الشمس. ثم جاءه العشاء فقال: قم فصلّه، فصلى العشاء حين غاب الشفق. ثم جاءه الفجر فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر حين برق الفجر، أو قال سطع الفجر.
ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم فصلّه، فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله. ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلّه، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه. ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً لم يزل عنه. ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال ثلث الليل فصلى العشاء. ثم جاءه: حين أسفر جداً، فقال: قم فصلّه، فصلى الفجر. ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت " 1، رواه أحمد والنسائي، والترمذي بنحوه، وقال البخاري: هو أصح شيء في المواقيت.
فتأمل أيها المسترشد: ما في هذا الحديث من البيان لمواقيت الصلاة، فإنه صرح لكل صلاة ثلاثة أحوال: أول، وأوسط، وآخر. فالأول للفضيلة، والأوسط هو المختار، والآخر للجواز، إلا المغرب فإن وقته واحد. فأما أول وقت الظهر: فإنه في أول زوال الشمس إلى جهة المغرب، ويمتد وقتها إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. فإذا زال الظل عن ذلك ولو قدر عرض إصبع، دخل وقت العصر، وامتد إلى غروب الشمس. وهكذا سائر الأوقات بين الوقتين حاجز، إلا الفجر والظهر؛ لكن مما ينبغي معرفة الظل، الذي به دخول الوقت، أنه ظل الزوال الزائد على الظل الذي قبله، فإن الله سبحانه وتعالى جعل في السماء بروجاً، كما قال تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [سورة البروج آية: 1] ، وقد ذكرها أهل التفسير أنها اثنا عشر
1 أحمد (3/330) .
برجاً، والشمس تنْزل في كل برج أياماً معلومة عند أهل المعرفة.
الحمل تنزله 31 يوماً، والثور تنْزله 31 يوماً، والجوزاء 31 يوماً، والسرطان 31 يوماً، والأسد 31 يوماً، والسنبلة 31 يوماً، والميزان 31 يوماً، والعقرب 31 يوماً، والقوس 29 يوماً، والجدي 29 يوماً، والدلو 30 يوماً، والحوت 30 يوماً، وفي كل برج للظل حكم غير حكم الأول.
فالظل الذي قبل الزوال يزيد وينقص بحسب منْزلة الشمس في هذه البروج؛ فإذا كانت الشمس في برج السرطان - وهو أول بروج فصل الصيف - فينتهي علوها الشاخص لا ظل له، ولو يزيد ظله عرض إصبع دخل وقت الظهر.
وإذا كانت الشمس في برج الجدي - وهو أول بروج فصل الشتاء - فالظل حينئذ ثمانية أقدام، وإذا زاد ولو شيئاً يسيراً دخل وقت الظهر، والشمس في منتهى الانحطاط.
والحاصل: أن أول وقت الظهر: زوال الشمس، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثله، غير الظل الذي قبل الزوال. وأول وقت العصر: إذا زاد الظل عن مثله ولو شيئاً يسيراً غير الظل الذي قبل الزوال؛ وإنما يعرف هذا من له اعتناء بأقوال العلماء المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه.
قال صاحب تحفة الحبيب: إذا أردت معرفة الزوال، فاعتبرها بقامتك، أو شاخص تقيمه في أرض مستوية، وعلم على رأس الظل، فما زال الظل ينقص من الخط، فهو قبل الزوال، وإن أخذ الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت. قال العلماء: وقامة كل إنسان ستة أقدام ونصف، والله أعلم.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: تجب معرفة أوقات الصلاة، لأنها من شروطها؛ قال في الإفصاح: اختلفوا في وقت وجوب الصلاة: فقال مالك، والشافعي، وأحمد: تجب بأول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وأنه لا يجوز أن يصلي قبل الزوال. انتهى. وقال الموفق في الكافي: الأولى: الظهر، لما روى أبو برزة قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، يعني تزول " 1، متفق عليه. وأول وقتها: إذا زالت الشمس، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثله، بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أمني جبرئيل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين " 2، رواه أبو داود والترمذي وحسنه؛ ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد تناهي قصره.
1 البخاري: مواقيت الصلاة (547)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (647)، والنسائي: المواقيت (530)، وابن ماجة: الصلاة (674)، والدارمي: الصلاة (1300) .
2 الترمذي: الصلاة (149)، وأبو داود: الصلاة (393) ، وأحمد (1/333) .
وقال الشارح - يعني صاحب الشرح الكبير على المقنع -: والظهر هي الأولى، ووقتها: من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، بعد الذي زالت عليه الشمس؛ ومعنى زوال الشمس: ميلها عن وسط السماء، وإنما يعرف ذلك بطول الظل بعد تناهي قصره، لأن الشمس حين تطلع يكون الظل طويلاً، وكلما ارتفعت الشمس قصر الظل، فإذا مالت عن كبد السماء شرع في الطول، فذلك علامة زوال الشمس؛ فمن أراد معرفة ذلك فليقدر ظل شيء، ثم ليصبر قليلاً ثم يقدر ثانيا، فإن نقص لم يتحقق، وإن زاد فقد زالت الشمس، وكذلك إن لم ينقص، لأن الظل لا يقف فيكون قد نقص. وتعجيلها في غير شدة الحر والغيم أفضل، بغير خلاف علمناه؛ ويستحب تأخيرها في شدة الحر، قال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر، وأن يكون في البلاد الحارة، ومساجد الجماعات. فأما صلاة الجمعة فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخرها، بل كان يعجلها. ثم العصر وهي الوسطى، وأول وقتها: من خروج وقت الظهر، وآخره: إذا صار ظل كل شيء مثليه سوى ظل الزوال. انتهى. وهو قول مالك، والشافعي; وعنه: ما لم تصفر الشمس.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية فقد صلاها لوقتها، وتعجيلها أفضل بكل حال. انتهى. وقال في الكافي: تعجيلها أفضل بكل حال، لقول
أبي برزة في حديثه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية "، متفق عليه 1.
وقد نظم بعض العلماء معرفة وقت الظهر والعصر، فقال:
أيا سائلي عن زائد الظل والقصر
…
وظل زوال هاك وصفاً على العصرِ
فخذ أنت عوداً ذا اعتدال وطوله
…
كشبر وإن زاد القياس على الشبرِ
ومن بعد فانصبه بأرض سوية
…
لتعلم كون الظل في دائم الدهرِ
فما زال في نقص فزده بنقصه
…
إلى أن تراه واقفاً زائد القدر
فأول وقت للزوال زيادة
…
وحين زوال الشمس من أول الظهر
وكن عارفاً للظل كم قد مضى له
…
لتعلم تحقيق الصواب من القدر
وصف سبعة الأقدام فوق الذي مضى
…
فذلك حقاً أول الوقت للعصر
وقال في الإقناع: طول ظل كل إنسان سبعة أقدام بقدم نفسه تقريباً، إلا ثلث قدم. انتهى. فقد عرفت، رحمك الله، مما مر أن أول وقت الظهر: الزوال بالإجماع، وأن الزوال يعرف بطول الظل بعد تناهي قصره، وأن آخره: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وأن تعجيلها أفضل بكل حال إلا ما استثني، وأن أول وقت العصر: من حين خروج وقت الظهر، وأن تعجيلها أفضل بكل حال.
1 البخاري: مواقيت الصلاة (547، 599)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (647)، والنسائي: المواقيت (530) ، وأحمد (4/420، 4/425)، والدارمي: الصلاة (1300) .
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن الشفق هل هو الحمرة الساطعة؟
فأجاب: وما ذكرت من حال غلط بعض الناس في معرفة الشفق، فعلى ما ذكرت، يسمعون أن الشفق الحمرة، ويظنونه حمرة ساطعة؛ وإنما هو بياض تخالطه حمرة، ثم تذهب ويبقى بياض خالص، والذي بينهما زمن قليل؛ ولهذا قال في المغني: يستدل بغيبة البياض على مغيب الحمرة، فيعتبر غيبة البياض، لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن صلاة النساء بعد الزوال قبل الأذان؟
فأجاب: وأما صلاة النساء بعد الزوال قبل الأذان، فدخول الوقت شرط في صحة الصلاة، فإذا حصل شرطها صحت لا سيما في حق النساء، لأنهن لا تجب عليهن الجماعة. وأما قولك عن بعض العامة: ما لهن صلاة إلا بعد فراغ الرجال من صلاتهم، فلا أصل لذلك.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا رأت الدم في آخر الوقت؟
فأجاب: تجب عليها الصلاة إذا طهرت، وإذا رأت الطهر قبل غروب الشمس فعليها أن تغتسل وتصلي إذا أمكنها
قبل الغروب، وتصلي الظهر والعصر. وكذلك إذا رأت الطهر قبل طلوع الفجر فتغتسل وتصلي المغرب والعشاء، وإذا رأت الطهر قبل طلوع الشمس فتغتسل وتصلي الفجر.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن قضاء الفوائت بالتيمم
…
إلخ؟
فأجاب: أما المجدور الذي عليه صلوات فائتة، هل يقضيها إذا قدر بالتيمم؟ فالأمر كذلك يلزمه القضاء بالتيمم، والقضاء واجب على الفور، ويتيمم، ويقضي الفوائت ولا يؤخرها حتى يقدر على الماء، لأن الواجب لا يؤخر عن وقته. وأما قولك: هل يصلي كل وقت مع وقته؟ فليس الأمر كذلك، بل ذكروا أنه يجب عليه القضاء متتابعاً إلا أن يضر به ذلك بحيث لا يقدر، فيقضيها بحسب الاستطاعة، في وقتين، أو ثلاثة، أو يومين، أو ثلاثة؛ وعبارتهم: ومن فاتته صلوات لزمه قضاؤها على الفور مرتباً، ما لم يتضرر بذلك في بدنه، أو يشتغل به عن معيشة هو محتاج إليها.
وأجاب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: وأما قضاء الفوائت، فالمشهور وجوب القضاء على الفور مرتباً، قَلَّتِ الفوائت أو كثرت. وإذا صلى الحاضرة قبل الفائتة، فإن كان ناسياً للفائتة سقط الترتيب، ويصلي الفائتة ولا يقضي الحاضرة، لأن الترتيب يسقط بالنسيان. انتهى.
وسئل الشيخ حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عمن صلى محدثاً، أو صلى صلاة فاسدة ثم صلى بعدها صلوات صحيحة قبل أن يقضي تلك الصلاة الفاسدة، ما حكم الترتيب؟
فأجاب: هذه المسألة فيها تفصيل: فإن كان لم يذكر الصلاة الفاسدة إلا بعد فراغه من الصلاة فليس عليه ترتيب، لأن الترتيب يسقط بالنسيان، قَلَّتِ الصلوات أو كثرت، لقوله عليه السلام:" عفي لأمتي الخطأ والنسيان "1. وإن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، كما لو ذكر أن عليه صلاة الظهر وقد شرع في صلاة العصر، فإنه يتم العصر؛ ثم هل يجب عليه إعادة العصر، فيه قولان للعلماء، والأحوط: الإعادة كما هو المشهور عن أحمد، لأنه عليه السلام عام الأحزاب " صلى المغرب، فلما فرغ قال: هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ قالوا: يا رسول الله ما صليتها، فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر، ثم صلى بعدها المغرب " 2، رواه أحمد.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن صلى ناسياً حدثه
…
إلخ؟
فأجاب: من صلى صلاة ناسياً حدثه بالصلوات الخمس، ولم يذكر إلا بعد ما صلى الظهر، فإنه يعيد الفجر فقط؛ قال في الفروع لما ذكر أن الترتيب يسقط بالنسيان على
1 ابن ماجة: الطلاق (2045) .
2 أحمد (4/106) .
الأصح، قال: وقال أبو المعالي وغيره: تبين بطلان الصلاة الماضية كالنسيان، ولما ذكر أيضاً أن المذهب عدم سقوط الترتيب بالجهل بالوجوب، قال: فلو صلى الظهر، ثم الفجر جاهلاً، ثم العصر في وقتها، صحت عصره لاعتقاده ألا صلاة عليه، كمن صلاها ثم تبين له أنه صلى الظهر بلا وضوء أعاد الظهر، والله أعلم.
وجدت بخط الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله، وعليه ختمه ما نصه: ذكر ابن عقيل فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة روايتين: إحداهما: يسقط الترتيب، لأنه اجتمع واجبان لا بد من تفويت أحدهما، فكان مخيراً فيهما. والثانية: لا يسقط؛ قال شيخنا: وهذه الرواية أحسن وأصح، إن شاء الله تعالى.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن القضاء وقت النهي؟
فأجاب: من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك، ولو في وقت النهي، للحديث.
فصل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط السادس: ستر العورة، أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو يقدر؛ وَحَدُّ عورة الرجل: من السرة إلى الركبة، والأَمَة كذلك، والحرة كلها عورة إلا وجهها، والدليل قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 31]، أي: عند كل صلاة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن يصلي مكشوف الرأس
…
إلخ؟
فأجاب: الذي يصلي وهو مكشوف الرأس، فلا أرى عليه بأساً؛ وستر الرأس في الصلاة ليس بواجب، لأن الرأس ليس بعورة في حق الرجل، وإنما هو عورة في حق المرأة. فإذا عرفت أن الذي يصلي ورأسه مكشوف أن صلاته جائزة، فالذي يصلي وعلى رأسه قلنسوة أولى وأحرى.
وسئل: عن المجدور هل يصلي في سلبه؟
فأجاب: المجدور إذا كان في أسلابه نجاسة لزمه أن يصلي في غيرها، فإن عجز عن غيرها بحيث أنه لم يكن له
إلا سلب واحد، ولا يقدر على غيره والذي عليه لا يقدر على أن يحفظه عن النجاسة، فإنه يصلي فيه ولا يصلي عرياناً. ولكن كثيرا من الناس يتساهل في هذا: فتجد من يقدر أن ينْزع سلبه ويصلي في غيره لا يفعل ذلك، وهذا أمر كبير؛ بل تجد من الناس من يقدر على الوضوء والغسل من الجنابة، ولا يغتسل ولا يتوضأ، ويعدل إلى التيمم بلا مشقة. ومنهم من يصلي قاعداً مع قدرته على القيام. وكل هذه أمور خطرة على العوام؛ فينبغي لطالب العلم أن يفطنهم لما يجب عليهم من هذا، ويبين لهم حالة العذر التي تباح فيها الرخصة.
وأجاب أيضاً: إن كانت النجاسة في ثيابه، وقدر على خلعها ويلبس ثياباً طاهرة، وجب عليه ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1، فإن لم يقدر على خلعها صلى فيها، ولا إعادة عليه في أصح القولين.
وأجاب بعضهم: وأما مسألة من حضرته الصلاة وليس عنده إلا ثوب نجس أو ثوب حرير، فقال في الشرح: ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة. قال الشافعي: يصلي عرياناً؛ والمفتى به الأول.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما إذا صلى إنسان في ثوب نجس، لكونه لا يجد غيره، أو على بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها، فهذا يصلي على حسب حاله؛ وهل يجب عليه
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، وابن ماجة: المقدمة (2) ، وأحمد (2/258، 2/428) .
إعادة أم لا؟ فقد حكوا فيمن لم يجد إلا ثوباً نجساً، وصلى فيه، هل عليه إعادة؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء، هما روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنه يعيد.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن المرأة إذا بلغت هل تصلي بغير خمار؟
فأجاب: من بلغت - يعني حاضت - فلا تجزيها الصلاة إلا بخمار.
سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عمن صلى وعلى رأسه عمامة حرير؟
فأجاب: المشهور في مذهب الحنابلة صحة الصلاة - بخلاف ما إذا ستر عورته بحرير فإنها لا تصح -، وقال بعض أهل العلم بعدم الصحة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل تصح الصلاة في النعل؟
فأجاب: وأما الصلاة في النعل فجائزة إذا لم يكن فيها نجاسة.
فصل
قال الشيخ حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي، أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر، رحمهم الله: علامة القزية مغفول عنها مدة طويلة، وسبب الغفلة عدم استحضارنا أنها حرير، وأنها مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تبين لنا أنها حرير، ونبيكم صلى الله عليه وسلم أخبر أن لبس الحرير حرام على الرجال، وأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ولم يرخص إلا في موضع أصبعين أو ثلاث، أو أربع؛ هذا ثابت في أحاديث صحيحة ليس لها معارض.
ففي الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة " 1، رواه البخاري ومسلم. وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها " 2، قال الترمذي: حديث صحيح، وفي البخاري عن حذيفة قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه " 3، وفي الصحيحين أيضاً عن عمر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
1 البخاري: اللباس (5832)، ومسلم: اللباس والزينة (2073)، وابن ماجة: اللباس (3588) ، وأحمد (3/101، 3/281) .
2 الترمذي: اللباس (1720)، والنسائي: الزينة (5148) ، وأحمد (4/392) .
3 البخاري: اللباس (5837) ، وأحمد (5/398، 5/400، 5/408)، والدارمي: الأشربة (2130) .
لبس الحرير إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما " 1، وفي صحيح مسلم عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين" أو ثلاث أو أربع 2.
فهذه أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن لبس الحرير، إلا في هذا القدر اليسير، وهو موضع إصبعين، وفي الحديث الذي عند مسلم:" أو ثلاث أو أربع "، وما زاد على ذلك فلا يباح 3. ويكون عندكم معلوماً: أنا طالعنا كتب الحديث وشروحها، وكلام السلف والأئمة، فوجدنا كلامهم على ما ذكرنا.
ونص الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، على أن علم الحرير لا تجوز الزيادة فيه على أربع أصابع مضمومة، وأما: ما زاد على أربع الأصابع فلا يباح؛ وكذلك سناجيف الجوخة، وسناجيف القباء وأمثاله، والكلاه والطربوش، كل هذا حكمه حكم العلم، لا تجوز الزيادة فيه على أربع أصابع، فمن زاد على هذا القدر الذي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أساء وتعدى وظلم.
ويكون عندكم معلوما أيضاً: أن علامة القطنية مثل القزية ما يزاد فيها على قدر أربع أصابع، لأن الحكم عند أكثر أهل العلم على ما ظهر من الحرير؛ فإن كان الظاهر الحرير والسدى قطن، فهو عندهم مثل الحرير الخالص، لأنهم يعتبرون الظهور ولا يعتبرون الوزن، ومن اعتبر الوزن فقد خالف ظواهر الأدلة. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى
1 البخاري: اللباس (5829)، ومسلم: اللباس والزينة (2069)، وأبو داود: اللباس (4042) ، وأحمد (1/15، 1/43، 1/50، 1/51) .
2 مسلم: اللباس والزينة (2069)، والنسائي: الزينة (5313) ، وأحمد (1/51) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2069)، والنسائي: الزينة (5313) ، وأحمد (1/51) .
عن حلة السيراء، ونهى عن القسي " 1 وهو ثياب مضلعة بالحرير فنهى عنها، ولم يعتبر الوزن بل جعل الحكم للظهور. فالذي نوصيكم به: تقوى الله تعالى وطاعته، وطاعة رسوله فيما أمر به، وفيما نهى عنه؛ قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7]، ولا يعارض بقول أحد من الناس أو فعله. ومن أشد ما يكون خطراً على الإنسان مثل أن يقول: علامة القطنية متقدم حدوثها ولبسها فلان ولبسها فلان؛ وهذا أمر عظيم وخطره خطر كبير، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 15] .
والواجب على من سمع حكم الرسول صلى الله عليه وسلم: المبادرة إلى طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه زجر؛ فلا يحل أن يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام أحد ولا فعله، وكل أحد ولو كان من أعلم الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس، رضي الله عنهما، للذي عارض الحديث بقول أبي بكر وعمر:"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر ". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، أتدري ما
1 مسلم: اللباس والزينة (2078)، والترمذي: الصلاة (264) واللباس (1725، 1737، 1786)، والنسائي: التطبيق (1040، 1042) والزينة (5169، 5170، 5172، 5173 5183، 5270، 5271)، وأبو داود: اللباس (4044) ، وأحمد (1/119)، ومالك: النداء للصلاة (177) .
الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فالواجب على الإنسان: حفظ لسانه عما يهلكه وهو لا يدري، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوى بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب "1. وأما من كان عنده علم عن الله، أو عن رسوله في هذه المسألة، أو في غيرها، فيعرضه علينا ونقبله، ونرجع إلى الحق؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ونسأل الله العظيم: أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم.
ثم كتب الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى الإخوان: هذا كتاب آل الشيخ، تشرفون على ما فيه من الأدلة التي لا تنكر في مسألة العلامة التي تجعل في العبي وغيرها من الحرير، فيكون عندكم معلوماً أن إخوانكم من أهل الدرعية، عملوا على ما في الورقة، فأنتم اعملوا على مثل ما عملوا؛ ومن وجد دليلاً يخالف ما فيها، فالحق مقبول متبوع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وأجاب أيضاً: الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: أما لبس الحرير فذكر العلماء: أنه يباح لبسه وقت الملاقاة للعدو، كما يباح للتبختر في المشي عند ملاقاة العدو، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يتبختر بين
1 سنن ابن ماجة: كتاب الفتن (3970) .
الصفين، فقال:"إن هذه المشية يبغضها الله، إلا في هذا الموضع "1.
وسئل: عن علامة القطنية؟
فأجاب: وما سألت عنه من علامة القطنية، فإذا غطيت بخرقة أو صوف وخيطت عليها من داخل العباءة ومن ظاهرها، فلا بأس، لأنها تصير حشواً.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى: الأحاديث النبوية والآثار السلفية قد تواترت بتحريم الحرير على ذكور الأمة، فمنها ما أخرجه: الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أحل الذهب والحرير لإناث أمتي? وحرم على ذكورها "2. ولأبي داود والنسائي وابن ماجة، عن علي رضي الله عنه قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي " 3، زاد ابن ماجة: "حل لإناثهم ". وللبخاري ومسلم والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة "4. ولأحمد والنسائي، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله " 5. وللبخاري ومسلم وأهل السنن، عن عمر بن الخطاب
1 صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3463) وكتاب المغازي (4418) وكتاب تفسير القرآن (4644، 4661)، وصحيح مسلم: كتاب التوبة (2769)، وسنن الترمذي: كتاب الجنائز (966، 1018) وكتاب صفة جهنم (2583) وكتاب الأدب (2787، 2791) وكتاب تفسير القرآن (3256) وكتاب الدعوات (3507، 3574) وكتاب المناقب (3803)، وسنن النسائي: كتاب الطلاق (3475) وكتاب البيوع (4587)، وسنن أبي داود: كتاب الملاحم (4325) ، ومسند أحمد (3/292، 3/456، 4/280) .
2 الترمذي: اللباس (1720)، والنسائي: الزينة (5148) .
3 النسائي: الزينة (5144)، وأبو داود: اللباس (4057)، وابن ماجة: اللباس (3595) .
4 البخاري: الأطعمة (5426)، ومسلم: اللباس والزينة (2067)، والترمذي: الأشربة (1878)، والنسائي: الزينة (5301)، وأبو داود: الأشربة (3723) ، وأحمد (5/385، 5/390)، والدارمي: الأشربة (2130) .
5 أحمد (5/267) .
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له " 1، زاد البخاري وابن ماجة والنسائي في رواية:" في الآخرة "، والخلاق: النصيب، وقيل: الحظ، أي: لا نصيب له ولا حظ له في الآخرة. وللإمام أحمد والنسائي، عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب وسائر النمور "2. وللدارمي والطيالسي عن أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بدأ هذا الأمر بنبوة ورحمة، وكائن خلافة ورحمة، وكائن ملكاً عضوضاً، وكائن عتواً وجبرية وفساداً في الأمة، يستحلون الفروج والخمور والحرير، ويرزقون مع ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل "، قال الحافظ السخاوي، رحمه الله: حديث حسن. فهذه الأحاديث، منها ما هو صريح في التحريم، ومنها ما هو ظاهر فيه؛ وما لم أذكره من الأحاديث أضعاف ما ذكرت.
وقد أجمع العلماء، رحمهم الله: على تحريم الحرير على الرجال سلفاً وخلفاً، وذكر عن ابن الزبير رضي الله عنه تحريمه على الرجال والنساء، وحكى غير واحد من العلماء بعد ابن الزبير رضي الله عنه الإجماع على تحريمه على الرجال دون النساء. قال أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على تحريم الحرير، يعني على الرجال. وسيأتي في حديث عمر، ما يبين تحريمه إلا ما استثني؛ وأَحْسَنَ من
1 البخاري: الأدب (6081)، ومسلم: اللباس والزينة (2068)، وابن ماجة: اللباس (3591) ، وأحمد (2/20)، ومالك: الجامع (1705) .
2 النسائي: الفرع والعتيرة (4254) .
قال من العلماء، رحمهم الله: إذا لم تفد هذه الأحاديث التحريم، فما في الدنيا محرم.
وخرج الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه " أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس أو ديباج - قبل أن ينهى عن الحرير - فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها " 1، وهذا الحديث صريح بأن الحرير قد أبيح أولاً ثم نهي عنه. وأخرج الإمام أحمد من حديث مبارك بن فضالة بن عبيد، عن الحسن البصري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة " 2؛ قال الحسن، رحمه الله:"فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم، فيجعلون الحرير في ثيابهم وبيوتهم ". والأحاديث الواردة في تحريم الحرير والوعيد فيه أكثر من أن يتسع لها هذا المختصر، وكفى بهذه الأحاديث زاجراً لمن نهى النفس عن الهوى.
قال في شرح المنتقى: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، بالظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها؛ ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، وسواء وجد ذلك القدر مجتمعاً
1 أحمد (3/234) .
2 أحمد (2/329) .
كما في القطعة الخالصة، أو مفرقاً كما في الثوب المشوب. انتهى. وهذا الذي ذكره هو التحقيق، وعليه تجتمع الأحاديث الصحيحة الصريحة؛ فيجب الانقياد لها والتسليم، وتقديمها على كل رأي، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] . وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] .
وهذا السراج المنير الذي بعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لما شرع لأمته اجتناب الحرير وحرمه على ذكورها، بين لنا مقدار ما يحل منه فيما صح عنه؛ فروى البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة، قال: سمعت أبا عثمان النهدي يقول: أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام " 1، قال: فيما علمنا، إنه يعني الأعلام، ورواه من طريق الزهري عن عاصم.
قال الحافظ، رحمه الله: ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيح، إلا ذكر الأصبعين، لكن وقع عند أبي داود في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن الحرير، إلا هكذا
1 البخاري: اللباس (5828)، ومسلم: اللباس والزينة (2069)، والنسائي: الزينة (5312)، وأبو داود: اللباس (4042) ، وأحمد (1/15، 1/43) .
وهكذا: أصبعين أو ثلاثاً أو أربعاً " 1. ولمسلم من طريق سويد بن غفلة - بضم المعجمة والفاء - أن عمر رضي الله عنه خطب فقال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع " 2. وهذا الذي دلت عليه الأحاديث هو المقرر في كتب الأحكام لأئمة الإسلام، ولم يوجد عنهم ما يخالفه; ومن ظن أن في كتبهم ما يناقض ذلك، فقد ظن بهم سوءاً، ونسبهم إلى الجهل، وإنما أُتِيَ من قِبل سوء فهمه وقلة علمه، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [سورة الأنعام آية: 119-120] .
وأنا أذكر طرفاً من كلام الفقهاء في مذهب الإمام أحمد: قال في الإنصاف: ويباح علَم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دونها، يعني مضمومة؛ هذا المذهب ونص عليه، وجزم به في المغني والشرح.
وقال في المبدع: ويباح علَم الحرير إذا كان أربع أصابع فما دونها، وفي شرح العمدة: وتعتبر الأصابع عرضاً لا طولاً؛ قلت: القياس بالطول يدخل في المباح ما ليس منه، فلهذا نصوا على أن القياس بعرض الأصابع لا بطولها. وفي جمع الجوامع: ولبنة الجيب، وسجف الفراء، كالعلَم في الإباحة والقدر، وفي حاشية المنتهى على قول المتن: "لا فوق أربع أصابع، يعني: أن ما
1 أبو داود: اللباس (4042) ، وأحمد (1/50، 1/51) .
2 مسلم: اللباس والزينة (2069)، والترمذي: اللباس (1721) .
ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب، إنما يباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إذا كانت أكثر. قلت: ومثل هذا في الفروع، والكافي وغيرهما من كتب الأصحاب، لا اختلاف بينهم في ذلك.
واعلم: أن موضع الأربع الأصابع، هو ما يتسع لوضعها فيه بغير زيادة ولا نقصان طولاً وعرضاً، فلو زاد الحرير عما توضع عليه الأصابع الأربع، يصلح أن يكون موضعاً لغيرها من الأصابع، فيقال: موضع خمس، أو ست مثلاً، وهكذا كل ما زاد؛ وتخصيص بعض من لا علم عنده، العرض بالحكم، دون الطول، تحكم بلا دليل ولا مستند أصلاً، فلو طولب بالدليل فليس إلى وجوده من سبيل، على أن هذه المحارم التي كثر فيها الحرير، الزيادة فيها على المباح متحققة طولا ًوعرضاً.
فصل
ويزيد هذا بياناً، ما خرجه البخاري وأبو داود والنسائي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"أنه رأى حلة سيراء تباع فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذا من لا خلاق له "1. ولمسلم عن علي رضي الله عنه قال: "أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فبعث بها إلي فلبستها، فعرفت
1 البخاري: الجمعة (886)، ومسلم: اللباس والزينة (2068)، والنسائي: الزينة (5295)، وأبو داود: الصلاة (1076)، وابن ماجة: اللباس (3591) ، وأحمد (2/103)، ومالك: الجامع (1705) .
الغضب في وجهه، وقال: إني لم أعطكها لتلبسها " 1، فأمرني فأطرتها بين نسائي؛ قال أبو داود: السيراء: المضلع بالقز، وقال في النهاية: السيراء بكسر السين، وفتح الياء، ومد: نوع من البرود يخالطه حرير، كالسيور. وفي شرح البخاري للعيني، عن الأصمعي والخليل وآخرين: أنها ثياب فيها خطوط من حرير أو قز. انتهى.
قلت: وأنت ترى هذه المحارم مضلعة بالحرير الخالص، لأن السدى كله حرير، واللحمة مضلعة بحرير، فهي أشد من السيراء؛ فإن ضلوع الحرير في السيراء إنما هو في اللحمة الظاهرة فقط، وهذا ظاهر من تفسير العلماء للسيراء، وفيها أمر زائد على ما في السيراء أيضاً، وهو ما يترك من السدى للأهداب، فإنه ذراع في ذراعين من كلا جانبيها من الحرير الخالص.
وقد عرفت من الأحاديث الصحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبح من الحرير إلا موضع أربع أصابع فما دون، قال الحافظ في شرح البخاري: وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فالزائد عليه حرام عند أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، لقوة الدليل قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] .
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2614) والنفقات (5366) واللباس (5840)، ومسلم: اللباس والزينة (2071)، والنسائي: الزينة (5298)، وأبو داود: اللباس (4043) ، وأحمد (1/90، 1/92، 1/118، 1/153) .
فصل
وقد تقدم أن الحكم يتناول الخالص، والمشوب المنسوج بغيره، على الصحيح من أقوال العلماء، رحمهم الله، وعند بعضهم: أن المشوب المختلط بغير المنسوج، يعتبر بالقلة والكثرة، كما هو مذكور في كتب الفقه في مذهب أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي، ولهم طريقان: أحدهما: أن الاعتبار بالوزن، وهذا هو المشهور عند الشافعية، والأول ذكره صاحب التحفة عن القفال وجمع من متقدميهم، وذكره الزيلعي في شرح الكنْز عن بعض الحنفية، وهو المشهور عند متأخري الحنابلة.
فإن استوى فوجهان، اختلف الترجيح عند بعضهم، قال ابن عقيل: الأشبه أن يحرم لعموم الخبر، قال: وهو الأشبه بكلام أحمد، رحمه الله، ولأن النصف كثير، وليس تغليب التحليل بأولى من التحريم. قلت: وهذان الطريقان ضعيفان عند المحققين، كما تقدم بيانه عن شارح المنتقى، من أنه لا يباح من الحرير إلا مقدار أربع أصابع، سواء وجد ذلك مجتمعاً أو مفرقاً، ونسب هذا القول إلى شيخ الإسلام ابن دقيق العيد.
قلت: ومثله للشيخ أحمد بن تيمية، رحمه الله، فإنه قال: وحديث القسي والسيراء، يستدل به على تحريم ما
ظهر فيه الحرير، لأن فيه خطوط حرير، وسيور الأبدان تنسج مع غيرها من الكتان والقطن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن العادة أنه أقل. انتهى.
وقال الحافظ في الفتح: واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب لتفسير القسي بأنه: ما خالط غير الحرير فيه الحرير؛ ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد، وأبي داود والنسائي، بسند صحيح على شرط الشيخين، من طريق عبيدة عن ابن عمرة وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1؛ فعلى هذا، يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير. انتهى. وحديث النهي عن القسي، أخرجه مسلم أيضاً عن علي رضي الله عنه.
قال الخطابي، رحمه الله، القسي: ثياب يؤتى بها من مصر، فيها حرير، وإنما حرمت هذه على الرجال دون النساء. انتهى. فانظر كيف جزم هؤلاء الأئمة بتحريم ما خالطه الحرير على الرجال، من غير اعتبار كثرة ولا قلة تمسكاً بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناهيك بهؤلاء علماً وتحقيقاً؛ فلا تعدل عن سبيلهم.
1 النسائي: التطبيق (1040) .
وقد ذكر ابن حزم وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال:" اجتنبوا من الثياب ما خالطه الحرير "، وممن قال به من التابعين: الحسن رضي الله عنه وابن سيرين، رحمه الله.
وقد يورد بعض أهل الوقت: أنه كان عند بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة بحرير، وذكرت أنه كان يلبسها.
فأقول: قد أجاب الحافظ ابن حبان، رحمه الله، عن مثل ذلك، بأنه لو جمع ما في القباء الذي لبسه النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز أربع أصابع، هذا معنى كلامه، وهو مشهور عنه؛ والظاهر: أن المكفوف بالحرير، الخيوط التي يخاط بها حاشية الجبة ونحوها، وهذا هو المعروف في عرف الخياطين، وغيرهم.
فلا تمسك له بهذا الحديث لما قد عرفت، على أنه معارض بما أخرج البزار والطبراني، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:" رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة " 1، قال الحافظ المنذري: رواته كلهم ثقات. وأخرج أبو داود بسند صحيح، عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا أركب الأرجواني، ولا ألبس المعصفر، ولا القميص المكفوف بالحرير " 2، قال- يعني قتادة -: فأومأ الحسن إلى جيب قميصه. انتهى.
1 سنن أبي داود: كتاب العلم (3658) ، ومسند أحمد (2/263، 2/305، 2/344) .
2 أبو داود: اللباس (4048) ، وأحمد (4/442) .
فأخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا يلبس المكفوف بالحرير، فيجب تصديقه فيما أخبر به عن ربه، وعن نفسه، لا يمتري في شيء من أخباره مؤمن قط، فما تركه ونهى عنه، يجب تركه طاعة لله ورسوله، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] .
فصل
وأما الخز، فذهب الإمام أحمد وأكثر الفقهاء، إلى إباحة لبسه، وذكر في الشرح: أنه قول ابن عمر، وأنس، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة. قال المجد في شرحه: الخز: ما سدي بالإبريسم، وألحم بوبر، أو صوف ونحوه، لغلبة اللحمة على الحرير. انتهى.
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز لبس الخز، قال: ولا يصح في ثوب سداه حرير خبر أصلاً، لأن الرواية فيه عن ابن عباس انفرد به حصين، وهو ضعيف. انتهى.
ومن الدليل لذلك، ما خرجه الإمام أحمد عن علي بن زيد، قال: قدمت المدينة فدخلت على سالم بن عبد الله وعلي جبة خز، فقال لي سالم: ما تصنع بهذه الثياب؟ سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يلبس الحرير من لا خلاق له "1.
قال في شرح المنتقى: ولا متمسك للقائلين بحل المشوب إذا كان الحرير مغلوباً، إلا قول ابن عباس فيما أعلم; فانظر أيها المنصف، هل يصلح كونه جسراً تذاد عنه الأحاديث الواردة في تحريم مطلق الحرير ومقيده؟ وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم، مع أن في إسناده ما يوجب سقوط الاستدلال به، على فرض تجرده عن المعارضات. انتهى.
قلت: والمعارضات لحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، هذا كثيرة، صحيحة من رواية الأكابر من الصحابة، رضي الله عنهم، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين شاهدوا أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا معه المشاهد كلها. ومن المعلوم: أن ابن عباس، رضي الله عنهما، من صغار الصحابة، وقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع مع ضعفه أهله لصغر سنه، وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلة، وأكثر رواياته الأحاديث عن الصحابة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وكان رضي الله عنه إذا اختلف هو وغيره في مسألة سألوا عنها أكابر الصحابة، وكان هو وغيره يحيلون المستفتي على عائشة وغيرها، مع ما أعطاه الله من الفهم العظيم وحفظ ما رواه. وسيأتي بقية الجواب عن حديثه هذا، الذي تقدمت الإشارة إليه في كلام شارح المنتقى، بعون الله تعالى.
1 البخاري: الأدب (6081)، ومسلم: اللباس والزينة (2068)، وابن ماجة: اللباس (3591) ، وأحمد (2/20)، ومالك: الجامع (1705) .
وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وهو ضعيف، أن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:" إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير "1.
فأما العلم من الحرير، وسدى الثوب فلا بأس بهما، وأجيب عن هذا الحديث: بأنه معارض بما هو صحيح ثابت، وهذا ضعيف كما عرفت؛ والذي تقرر عند العلماء من أهل الحديث والفقهاء: أن الصحيح يقضي على الضعيف، ولا يعارض به أصلاً.
الوجه الثاني: أن المعارض له من الأحاديث الصحيحة بلغت حد التواتر كثرة، فلا يعارض ما صح وتواتر من الكثير عن الصحابة، بحديث واحد ضعيف.
الوجه الثالث: أن لفظة "إنما" لا تفيد الحصر الحقيقي عند أكثر النحاة.
الوجه الرابع: أنه لا قائل بمفهومه، فإن الثوب من الحرير إذا كان فيه قليل من غيره، لا يكون مصمتاً، فإذا لم يكن مصمتاً أبيح، ولو كان الغالب حريراً؛ وهذا لا قائل به، وقد انعقد الإجماع على خلافه، فلا يكون حجة لمن اعتبر في حل الثوب المشوب بالحرير، كونه مغلوباً بغيره بالطهور، أو بالوزن؛ فتدبره، فإن الدليل أعم من المدعى.
الوجه الخامس: قوله فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به، فمفهوم هذه الجملة: أن ما عدا المذكور فيه بأس، فعارض مفهوم آخر الحديث مفهوم أوله.
1 أبو داود: اللباس (4055) ، وأحمد (1/313) .
وقد عرفت أن العلم المباح أربع أصابع فما دون، فيحمل المطلق على المقيد، وأما السدى، فتقدم الخلاف فيه، ودليل المنع فيه؛ وقد ذهب إلى المنع جمع، منهم ابن حزم الظاهري من الفقهاء، ومن الصحابة ابن عمر رضي الله عنهما، ومن التابعين سالم بن عبد الله.
وأنت ترى هذه المحارم سداها كله حرير، وفي اللحمة من الحرير نحو الربع حرير خالص، كالسيور وأعظم، مع ما يظهر من السدى للأهداب من الجانبين نحو النصف، فإن قدرته بالأجزاء صار الحرير تسعة أجزاء، والقطن ثلاثة، ومن المعلوم أن التسعة أكثر من الثلاثة وزناً، وأما من جهة الظهور فيظهر فيها خمسة أجزاء كلها حرير خالص، والخمسة أكثر من الثلاثة ظهوراً.
وقد اعتبرت ما في تلك المحارم الحادثة، التي عمت بها البلوى في هذه الأزمان، فوجدت الأهداب من الجانبين، وهي من خالص الحرير، ذراعين عرضاً وذراعاً طولاً من كل جانب، فبسطت أربع أصابع عليها، فبلغت مائتين وثمانين أصبعاً. ثم اعتبرت خطوط الحرير الأصفر الذي في اللحمة وما تحته، فصارت بذلك حريراً خالصاً في جانبيها، وهو قريب من ثلث اللحمة، يبلغ ستة وتسعين أصبعاً. فجميع ما فيها من الحرير الخالص، ثلاثمائة وستة وسبعون أصبعاً؛ وهذا حرام باتفاق المذاهب الأربعة وغيرها.
فانتبه لنفسك، واتبع نبيك المعصوم، الذي أرسله الله:{مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 45-46]، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] . وقد عرفت حكمه صلى الله عليه وسلم في ماهية الحرير، وأنه نهى عنه إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع، وكن من عبادة الأهواء على حذر، ومن أنذر فقد أعذر، ولقد أحسن من قال:
وعبادة الأهواء في تطويحها
…
بالدين مثل عبادة الأوثانِ
والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأجاب أيضاً: اعلم أن الأحاديث قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الحرير وتحريمه، على ذكور هذه الأمة؛ فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة "1. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " 2. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة، عن علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ
1 البخاري: الأطعمة (5426)، ومسلم: اللباس والزينة (2067)، والترمذي: الأشربة (1878)، والنسائي: الزينة (5301)، وأبو داود: الأشربة (3723) ، وأحمد (5/385، 5/390)، والدارمي: الأشربة (2130) .
2 الترمذي: اللباس (1720)، والنسائي: الزينة (5148) .
حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال:"إن هذين حرام على ذكور أمتي "1.
وأحاديث هذا الباب يتعذر استقصاؤها، فنبهت ببعضها على نوعها. وقد حكى الإجماع على تحريم الحرير على الذكور، غير واحد من الأئمة، إلا ما استثناه الشارع، كما في حديث عمر، وهو عند البخاري ومسلم وأهل السنن، عن أبي عثمان النهدي، أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير، إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام " 2، قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام. ولأبي داود في الحديث: " نهى عن الحرير، إلا هكذا وهكذا: أصبعين أو ثلاث أو أربع "3.
وبهذا الحديث: احتج أهل العلم على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع؛ قال في الفروع: ويباح منه العلَم إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، نص عليه، وجزم به في المغنى والشرح. وقال في الإنصاف: ويباح علَم الحرير في الثوب إذا كان أربع
1 النسائي: الزينة (5144)، وأبو داود: اللباس (4057)، وابن ماجة: اللباس (3595) .
2 البخاري: اللباس (5828)، ومسلم: اللباس والزينة (2069)، والنسائي: الزينة (5312) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2069)، والترمذي: اللباس (1721) .
أصابع فما دون. وقال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب وسجف الفراء، كالعلَم في الإباحة والقدر. وفي حاشية المنتهى على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع، يعني: أن ما ذكر من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب، أنها تباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها. انتهى.
وهذا الذي ذكره هؤلاء كغيرهم من الفقهاء، إنما هو فيما إذا كان الحرير منفرداً متميزاً، سواء كان منسوجاً في الثوب كالعلم، أو مجعولاً فيه بعد النسج، كلبنة الثوب، والسجف، وسواء كان مفرقاً، أو مجموعاً، وكذا إذا كان مشوباً بغيره، على الصحيح المعتمد عند جمع من أكابر الأئمة المحققين، كما صرح به شارح المنتقى، ونقله عن تقي الدين بن دقيق العيد. قال الشارح: وقد عرفت مما سلف من الأحاديث الواردة في تحريم الحرير بدون تقييد، والظاهر منها تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة، أو مختلطة بغيرها، ولا يخرج من التحريم إلا ما استثناه الشارع، من مقدار الأربع الأصابع من الحرير الخالص، سواء وجد ذلك القدر مجتمعاً، كما في القطعة الخالصة، أو متفرقاً كما في الثوب المشوب. وقد نقل الحافظ في الفتح، عن العلامة ابن دقيق العيد: إنما يجوز من المخلوط ما كان مجموع الحرير فيه أربع أصابع، لو كانت منفردة، بالنسبة إلى جميع الثوب. انتهى.
قلت: وقد قرر هذا الحافظ في فتح الباري بأدلته، فقال: واستدل بالنهي عن لبس القسي، على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب، لتفسير القسي بأنه ما خالط غير
الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسي في حديث البراء، ووقع كذلك في حديث علي عند أحمد، وأبي داود والنسائي، بسند صحيح على شرط الشيخين، من حديث عبيدة عن ابن عمر، وعن علي رضي الله عنه قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير " 1؛ فعلى هذا يحرم الذي يخالطه الحرير. انتهى. فهذا حافظ الدنيا في عصره: صرح بتحريم لبس ما خالطه الحرير، وهذا مقتضى الدليل.
وقال البخاري في صحيحه: قال عاصم عن أبي بردة: "قلنا لعلي: ما القسية؟ قال ثياب أتتنا من الشام أو مصر، مضلعة، فيها حرير، وفيها أمثال الأترج". وقال جرير عن يزيد: ثياب مضلعة، يجاء بها من مصر، فيها الحرير، ثم ساق بسنده حديث البراء بن عازب، قال:" نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسي " 2، وفي رواية له:" ونهانا عن لبس الحرير، والديباج، والقسي والاستبرق، ومياثر الحمر "3. انتهى.
وقال النسائي: القسى ثياب من كتان، مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر- قريب من تنيس- يقال لها "القس" بفتح القاف انتهى، وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير، قال في جمع الجوامع، قال: شيخ الإسلام: وقد
1 النسائي: التطبيق (1040) .
2 البخاري: اللباس (5838)، ومسلم: اللباس والزينة (2066)، والنسائي: الجنائز (1939) والزينة (5309) ، وأحمد (4/299) .
3 البخاري: اللباس (5849)، والنسائي: الجنائز (1939) والزينة (5309) ، وأحمد (4/287، 4/299) .
اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير، وليست بحرير مصمت انتهى. وأخرج البخاري، وأبو داود، والنسائي عن عمر رضي الله عنه " أنه رأى حلة سيراء تباع فقال يا رسول الله: لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة؟ فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة " 1، قال: أبو داود والنسائي، السيراء: المضلع بالقز. وقال في النهاية: السيراء: بكسر السين وفتح الياء والمد: نوع من البرود، يخالطه حرير، كالسيور، وأخرجه الأئمة من حديث علي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: حديث السيراء، والقسي، يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط أو سيور، لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن عادته أنه أقل. انتهى. وقال: والمنصوص عن أحمد، وقدماء الأصحاب، إباحة الخز، دون الملحم وغيره. انتهى من جمع الجوامع.
ومما يدل لما قرره هؤلاء الأئمة الحفاظ، ما أخرجه البزار والطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة، بضم الميم وفتح الجيم، بعدها ياء
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2619)، ومسلم: اللباس والزينة (2068)، والنسائي: الجمعة (1382) وصلاة العيدين (1560) والزينة (5295)، وأبو داود: اللباس (4040)، وابن ماجة: اللباس (3591) ، وأحمد (2/20، 2/103)، ومالك: الجامع (1705) .
مثناة تحت مفتوحة، ثم باء موحدة، أي: لها جيب من حرير، وهو الطوق. انتهى. وبهذا تبين لك أن هذه المحارم المسماة بـ"أخضر قز" ونحوها، لا يجوز استعمالها للذكور مطلقاً، لما فيها من الحرير الخالص، الزائد على أربع أصابع بأضعاف كثيرة؛ وتسميتها بهذا الاسم، من باب الإضافة البيانية، وتعريفها بأخضر قز، من الإضافة البيانية، والقز من الحرير، فلا يجوز استعمال ما ظهر فيه الحرير، إذا زاد على القدر المستثنى في حديث عمر، وتقدم تقريره. اللهم اجعلنا ممن يقبل هداك، ويتبع رضاك.
ولقد أحسن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، حيث يقول:"لا عذر لأحد بعد السنة، في ضلالة ركبها، يحسب أنه على هدى ".
وقال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون: من أعظم منافع الإسلام، وآكد قواعد الأديان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح؛ فهذا أشق ما تحمله المكلف، لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة. وهو إحياء السنن، وإماتة البدع - إلى أن قال - لو سكت المحقون، ونطق المبطلون، لتعود النشء على ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا؛ فمتى رام المتدين إحياء سنة، أنكرها الناس، فظنوها بدعة، وقد رأينا ذلك.
وفي جمع الجوامع: وكل ما حرم من الثياب وغيرها، حرم بيعه وخياطته وأجرته، نص عليه، كبيع عصير لمن يتخذه خمراً. قال: ويحرم بيع الحرير، والمنسوج بالذهب والفضة للرجل؛ قطع به جماعة من أصحابنا، والمراد به إذا كان يلبسه، وكذا خياطته، وأخذ أجرتها. وذكر ابن أبي المجد: ما حرم استعماله من حرير ومصور وغيرهما، حرم بيعه وشراؤه وعمله، وأخذ أجرته، لإعانته على الإثم. انتهى. وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعرفون بأنه منكر، لم يكن ذلك مانعاً من إبلاغ الرسالة، وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ، ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد، وقول كثير من أهل العلم. انتهى.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: نظرت في هذه الرسالة، لوحيد دهره، وفريد عصره، شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فرأيت صحة ما ضمنها من تحريم "المحرمة" المسماة "بأخضر قز"، وفقنا الله وإياه للصواب. انتهى.
وأجاب أيضاً: الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وأما "المحرمة" التي أخضرها حرير، فلا شك في أنها حرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير، فقال:"إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة "1.
وقال: " من لبسه في الدنيا
1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2619)، ومسلم: اللباس والزينة (2068)، والنسائي: الجمعة (1382)، وأبو داود: الصلاة (1076)، وابن ماجة: اللباس (3591) ، وأحمد (2/103)، ومالك: الجامع (1705) .
لم يلبسه في الآخرة " 1. وفي الصحيح أنه أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في يساره، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي " 2. وفي حديث عمر: " نهى عن الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة " 3، وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى، فما زاد على الأربع الأصابع حرام، سواء كان مفرقاً أو مجتمعاً، كما عليه جماهير العلماء؛ وهو ظاهر الأحاديث، وفيها ما يدل على المنع منه، وإن لم يكن مجموعاً. فاجتنب هذه "المحرمة" فإنها محرمة، فإن كان عندك منها شيء، فلا تبعها على مسلم، بعها في غير بلاد المسلمين.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن المركب من حرير وغيره؟
فأجاب: وأما قول الأصحاب فيما لا يجوز لبسه من الحرير المركب من حرير وغيره: إن الممنوع منه ما كان الحرير أكثر ظهوراً، يتناول ما سدي بغير الحرير وألحم بحرير وغيره; وظاهر كلامهم: تناوله لغير تلك الصورة.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن لبس السواد للرجال؟ فأجاب: أما لبس السواد إذا كان من عادة أهل البلاد، فلا بأس به، إلا أن يكون حريراً فلا يجوز.
1 البخاري: اللباس (5834) .
2 النسائي: الزينة (5144)، وأبو داود: اللباس (4057)، وابن ماجة: اللباس (3595) .
3 مسلم: اللباس والزينة (2069) ، وأحمد (1/51) .
سئل الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: عن العمامة، هل هي سنة؟ وما الفرق بينها وبين العقال؟
فأجاب: العمامة المسؤول عنها من المباحات، التي أباحها الله ورسوله، وإنما يستحب منها: ما قصد به موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئة لبسه، كلبسها مع ارخاء الذؤابة، دون لبسها على هيئة العصابة، فإنها حينئذ: لا فرق بينها وبين العقال المعروف؛ ولهذا نص العلماء، رحمهم الله، من أصحابنا وغيرهم، على أنه يشترط لجواز المسح عليها، أن تكون محنكة، أو ذات ذؤابة، وأما العصابة فلا يجوز المسح عليها عندهم.
وقصد موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله، من لبس، وأكل، وشرب وغير ذلك: سنة، ولكن لا يقصر على العمامة فقط، وهذا كقول العلماء: سنة الأكل كذا، سنة الشرب كذا، سنة اللبس كذا، ثم يذكرون ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار الصحيحة.
وأما جعل هذه العصائب التي تشبه العقال سنة، فلا يظهر لي، بل هو مباح، من جملة اللباس المباح، ومن قال: إنها مسنونة، فقد أخطأ، وأفتى بجهل; فلا ينبغي الأخذ عنه، وتلقي ما يمليه من جهالاته وترهاته؟ كذلك جعل لبسها مطلقاً، على أي وجه كان، دليلاً وعلامة على الدخول في
الإسلام، ويوالي على ذلك، ويعادي عليه، أو يجعل ضابطاً، يحب على فعله، ويبغض على تركه، فهذا أمر لا يجوز اعتقاده، ولا نسبته إلى الشريعة المطهرة؛ هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
وكتب تحته الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم، رحمه الله، ما نصه: ما أجاب به الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، هو الحق والصواب، الذي ندين الله به ونعتقده، وهو: أن العمامة لا تكون عمامة، ويطلق عليها هذا الاسم، إلا إذا كانت ذات ذؤابة، أو محنكة، وأن تكون على قلنسوة ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنها في الأصل لباس معتاد، مما اعتاده العرب، كالإزار، والسراويل، والأردية، ليست من العبادات المشروعة؛ ومن نسب هذه العصائب الخالية مما ذكرنا، إلى السنة المطهرة، فقد أخطأ.
وكتب أيضاً: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ما نصه: ليعلم الواقف على هذا: أن ما كتبه صاحبنا، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، في شأن العمامة، أنه هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا التباس، لأن العمائم من قسيم
العادات المباحة، التي كانت العرب تلبسها، وليست من السنن المشروعة التي شرعت في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها هو وأصحابه، كما كان العرب يلبسونها؛ فمن لبسها على قلنسوة، وجعلها محنكة، أو جعل لها ذؤابة وأرخاها، فقد أصاب السنة، ومن لبسها على هذه الكيفية، فلا ينكر عليه، ومن تركها فلا ينكر عليه.
وأما جعل هذه العصائب من السنن المشروعة، فهو خطأ وابتداع شرع لم يشرعه الله ولا رسوله، واعتقاد أن لبس هذه العصائب، سيما، وشعاراً للمتدينين، خطأ أيضاً; فالواجب على من أراد طلب الحق، واتباع الهدى، أن يتحرى العدل في أقواله، وأفعاله، وأعماله، ويحذر من التعصب للهوى، بغير حجة ولا برهان.
وكتب أيضا: ً الشيخ سليمان بن سحمان: قد تأملت ما كتبه المشائخ - وفقهم الله - في شأن هذه العصائب، التي أحدثها من أحدثها، فإذا هو الحق والصواب، الذي لا شك فيه ولا ارتياب، لأن هذه العصائب التي زعم من أحدثها أنها سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وشرعها، لم تكن هي العمائم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر العرب يلبسونها في الجاهلية والإسلام، لأن تلك كانت ساترة لجميع الرأس، وكانت
محنكة، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إرخاء الذؤابة بين الكتفين.
إذا فهمت هذا، فاعلم: أنه ليس المقصود بلبس هذه العصائب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ولو كان المقصود الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لجعلوها ساترة لجميع الرأس، على قلنسوة، وجعلوها محنكة، أو ذات ذؤابة، ولبسوا الرداء والإزار، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه، وأصحابه، ولكن المقصود الأعظم عند من أحدثها: إحداث شعار في الإسلام، وزي يتميز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه، على زعمهم؛ وإذا كان العلماء، قد تكلموا في كراهية هذه العمائم، التي هي ساترة لجميع الرأس، لأنها غير محنكة، فكيف بهذه العصائب التي لا مشابهة بينها وبين العمائم إلا بالاسم.
قال: شيخ الإسلام، في اقتضاء الصراط المستقيم: قال الميموني: رأيت أبا عبد الله، عمامته، تحت ذقنه، ويكره غير ذلك، وقال: العرب أعمتها تحت أذقانها; وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد: يكره ألا تكون العمامة تحت الحنك كراهية شديدة، وقال: إنما يتعمم بمثل ذلك: اليهود، والنصارى، والمجوس.
وأما كونها زياً وشعاراً، فقال شيخ الإسلام، في كتاب الفرقان: وليس لأولياء الله المتقين، شيء يتميزون به في
الظاهر، من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحاً، ولا يحلق شعراً، أو يقصره، أو يضفره، إذا كان كلاهما مباحاً، كما قيل: كم صديق في قباء، وكم زنديق في عباء
…
إلى آخر كلامه، رحمه الله.
والمقصود: أن هذه العصائب، بل العمائم المعروفة المعهودة، من الأمور المباحات، والعادات الطبيعية، لا من العبادات الدينية الشرعية.
وقد كتبت في شأن هذه العصائب، ما هو معلوم مشهور، كما هو مذكور في: إرشاد الطالب إلى أهم المطالب، وفي رسالة مفردة أيضاً؛ فمن أراد الوقوف عليها، فليراجعها هناك.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن التزعفر للرجال؟
فأجاب: وأما التزعفر، فقد ورد ما يدل على جوازه، فلا ينكر والحالة هذه.
سئل الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: عن لبس الخناجر المحلاة بالذهب، هل هو مباح أو محرم؟
فأجاب: الحمد لله، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي الرجال عن لبس الذهب في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها " 1، رواه الإمام أحمد، رحمه الله، والترمذي،
1 الترمذي: اللباس (1720)، والنسائي: الزينة (5148) .
والنسائي، وصححه بعض أئمة الحديث؛ وبه استدل العلماء على تحريم الذهب على الرجال، ولم يرخص إلا في اليسير منه، كقبيعة السيف، وهي التي في طرف القبضة، ونحو المسمار في السيف، على حسب ما ورد من الرخصة في ذلك، فقد روي " أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من ذهب، وورد أنها كانت من فضة "1.
قال في الإقناع وشرحه: ويباح له - أي الذكر - من الذهب قبيعة السيف، "لأن عمر رضي الله عنه كان له سيف فيه سبائك من ذهب"وعثمان ابن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب "، ذكرهما أحمد.
وذكر ابن عقيل: " أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية مثاقيل " 2، وخطأه في المبدع عن الإمام، قال: فيحتمل أنها كانت ذهباً وفضة، فقد رواه الترمذي كذلك. انتهى كلام صاحب الإقناع.
وقال أبو محمد في المغني: فقد روي عن أحمد في الرخصة في السيف، قال الأثرم: قال أحمد: روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب، ثم ذكر ما روي عن عمر، وذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال - وروي عن أحمد رواية أخرى تدل على تحريم ذلك.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يخاف عليه أن يسقط،
1 الترمذي: الجهاد (1691)، وأبو داود: الجهاد (2583)، والدارمي: السير (2457) .
2 النسائي: الزينة (5375)، وأبو داود: الجهاد (2584) .
فيجعل فيه مسمار من ذهب، قال: إنما رخص في الأسنان، وذلك إنما هو للضرورة. انتهى.
وحاصل ما ذكر عن الإمام أحمد، رحمه الله: أن في إباحة الذهب للرجل روايتين:
إحداهما: إباحة اليسير منه.
الثانية: المنع مطلقاً. وقد عرف مما ذكرنا من الدليل ومن كلام العلماء، رحمهم الله: أن لبس الخناجر المحلاة بالذهب الكثير، وتحلية السيف بذلك واستعمالها ممنوع، لا يليق بالمتشرع، الطالب للحق المتبع للسنة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
الشرط الخامس: إزالة النجاسة من ثلاث: من البدن، والثوب، والبقعة؛ والدليل: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر آية: 4] .
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: عمن صلى وفي ثوبه نجاسة نسيها، هل يعيد؟
فأجاب: إذا صلى الرجل، وفي سلبه نجاسة نسيها، ولا علم إلا بعد فراغه من الصلاة، فليس عليه إعادة.
وسئل أيضاً: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عما إذا أصاب ثوب المسافر نجاسة فلم يجد الماء؟
فأجاب: يصلي فيه، وإن وجد الماء غسله، ويزيلها بما استطاع، فإن كان عليه ثوب آخر، صلى في الطاهر وترك النجس. وأجاب أيضاً: المريض الذي في بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها، يصلي على حسب استطاعته، ولا يعيد.
وأجاب الشيخ سعيد بن حجي: إذا صلى من في بدنه أو ثوبه نجاسة، نسيها أو جهلها، ولم يعلم بها إلا بعد انقضاء صلاته، فهذه المسألة فيها عن أحمد روايتان: إحداهما: لا تفسد صلاته، وهو قول ابن عمر وعطاء، لحديث النعلين، وفيه: يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه - إلى أن قال - " إن جبرئيل أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً " 1، رواه أبو داود، ولو بطلت لاستأنفها. والثانية: يعيد، وهو مذهب الشافعي، فإن علم بها في أثناء الصلاة، وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير، كخلع النعال، والعمامة، ونحوهما، أزالهما، وبنى على ما مضى من صلاته، وإلا بطلت.
وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله: عدم صحة صلاته، هي الصحيح من المذهب، لأن اجتناب النجاسات شرط للصلاة، فلم تسقط بالنسيان ولا بالجهل، كطهارة الحدث. وعن الإمام أحمد: أنها تصح إذا نسي أو جهل؛ قال في الإنصاف: وهي الصحيحة عند أكثر
1 أبو داود: الصلاة (650) ، وأحمد (3/20)، والدارمي: الصلاة (1378) .
المتأخرين، اختارها المصنف، والمجد، والشيخ تقي الدين، لكن قال الشيخ: الروايتان في الجاهل، أما الناسي فليس عن الإمام نص فيه. قال في الإنصاف: والصحيح: أن الخلاف جار في الجاهل والناسي، قاله المجد، وحكى الخلاف فيها أكثر المتأخرين؛ وأما المأموم فصلاته صحيحة.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: أما الذي صلى بنجاسة، ناسياً أو جاهلاً بها، ولم يعلم إلا بعد سلامه، فالقول بصحة صلاته قوي، والإعادة أحوط.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يحتلم، ثم يغتسل ويصلي ويجد بللاً من ذكره؟
فأجاب: إن وجد البلل في الصلاة، فيتوضأ ويصلي، وليس عليه غسل، وإن وجده بعد فراغه من الصلاة، فلا إعادة عليه.
وسئل: عن رشاش البول، يذكره الرجل بعد الصلاة؟
فأجاب: لا إعاة عليه.
فصل
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن الصلاة في مسجد فيه قبر؟
فأجاب: إن كان مبنياً قبل أن يجعل فيه قبر، فينبش القبر، ويبعد عن المسجد; فإن كان المسجد لم يبن إلا لأجل القبر، فالمسجد يهدم، ولا يصلى فيه، لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور؛ ولا تصح الصلاة فيه، ولا تجوز الصلاة عند القبور، ولا عليها، لأنه عليه السلام نهى عن الصلاة في المقبرة. وأجاب أيضاً: المسجد الذي بني على القبور، يجب هدمه، ولا تجوز الصلاة فيه.
وأما القبر الذي وضع في المسجد بعد بنائه، فينقل من المسجد.
وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: مسجد الطائف، الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس، رضي الله عنهما، الصلاة في المسجد، إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع، يخرج القبر عن مسمى المسجد، فلا تكره الصلاة فيه; وأما القبر، إذا هدمت القبة التي عليه، فيترك على حاله، ولا ينبش، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا احتيح إلى أرض مسجداً
…
إلخ؟
فأجاب: إذا احتاج أهل بلد إلى أرض إنسان يجعلونها مسجداً، فطلبوا من صاحب المال أن يبيعها، أو يوقفها، فأبى، فالظاهر: أنه لا يجبر.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد، رحمهم الله: عن ضابط معاطن الإبل؟
فأجاب: ضابط معاطن الإبل هي التي تقيم فيها، وتأوي إليها، قاله أحمد، وقيل: مكان اجتماعها إذا صدرت عن المنهل، زاد بعضهم: وما تقف فيه لميراد الماء; قال في المغني والشرح: والأول أجود، لأنه جعله في مقابلة مراح الغنم، لا نزولها في سيرها، قاله في المبدع.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله: عن الصلاة في المنْزل الذي توقد فيه النار للطبخ، أو للقهوة، أو أسطحتهما؟
فأجاب: أما الصلاة في ذلك، فلا علمت فيه بأساً، لكن لا يستقبل النار، وكذلك في سطحهما، لا بأس بذلك.
سئل الشيخ سعيد بن حجي: هل يجوز زخرفة المساجد بالنقوش، والجص، وفرش الحصر بها، وتخليقها بالطيب، أم لا؟
فأجاب: أصل بناء المساجد، بناؤه صلى الله عليه وسلم ثم بناء عمر، ثم بناء عثمان، رضي الله عنهم؛ قال في الهدى، لما ذكر اتخاذ المسجد: ثم بنوه باللبن، وجعل صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وجعل له ثلاثة أبواب، وعمده الجذوع، وسقفه بالجريد، وقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: لا; عريش كعريش موسى. انتهى.
وقال في المنتقى: باب الاقتصاد في بناء المساجد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أمرت بتشييد المساجد " 1، قال ابن عباس:"لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنصارى "، رواه أبو داود. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " 2، رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال البخاري: قال أبو سعيد: "كان سقف المسجد من جريد النخل، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أَكِنَّ الناس عن المطر، وإياك أن تُحَمِّر أو تُصَفِّر فتفتن الناس ". انتهى. الزخرفة: التزيين، والضمير في:"لتزخرفنها" للمساجد. وعن ابن عمر قال: "كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه بالجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه على عهده صلى الله عليه وسلم ثم غيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبني جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسققه ساجاً "، أخرجه البخاري وأبو داود، والقصة: الجص بلغة أهل الحجاز. انتهى من تيسير الأصول.
1 أبو داود: الصلاة (448) .
2 أبو داود: الصلاة (449)، وابن ماجة: المساجد والجماعات (739) ، وأحمد (3/134، 3/145، 3/152، 3/230، 3/283)، والدارمي: الصلاة (1408) .
وقال في الإقناع: وتحرم زخرفته بذهب أو فضة، وتجب إزالته، ويكره بنقش وصبغ وكتابة، وغير ذلك مما يلهي المصلي. وفي الغنية: لا بأس بتجصيصه. انتهى. أي: يباح تجصيص حيطانه، وهو تبييضها به، وصححه الحارثي، ولم يره أحمد بن حنبل، وقال: هو زينة الدنيا. انتهى.
إذا تقرر هذا، فليعلم السائل: أن من أراد بناء مسجد، فليبنه على الاقتصاد، وأن الزخرفة مكروهة، وأن من بنى بها لا ينكر عليه لقصة عثمان.
وأما فرش الحصر فيها، فقال في المنتقى: باب الصلاة على الفرش والبسط وغيرهما من الفرش، عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بساط " 1، رواه أحمد وابن ماجة. وعن المغيرة بن شعبة قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير، والفروة المدبوغة " 2، رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد أنه " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه " 3، رواه مسلم. وعن ميمونة، قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة " 4، رواه الجماعة. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين: وأما الصلاة على السجادة، واتخاذ السجادة ديناً وطريقة، بحيث لا يصلي إلا عليها في المساجد وغيرها، فبدعة مكروهة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة، لم يكونوا يتخذون هذه السجادة، بل يصلون حيث تناهت الصلاة؛ وتقييد الصلاة بها، تعبد أهل الكتاب في الكنائس، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجداً
1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1030) ، وأحمد (1/232) .
2 أبو داود: الصلاة (659) ، وأحمد (4/254) .
3 مسلم: الصلاة (519)، والترمذي: الصلاة (332)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1029) ، وأحمد (3/52) .
4 البخاري: الصلاة (381)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (513)، والنسائي: المساجد (738)، وأبو داود: الصلاة (656)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1028) ، وأحمد (6/330، 6/335)، والدارمي: الصلاة (1373) .
وطهوراً؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " 1- إلى أن قال- وقد " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة " 2، وهي شيء ينسج من الخوص، فيسجد عليه يتقي به حر الأرض وأذاها؛ فإنه لم يكن مسجده مفروشاً، إنما كانوا يصلون على التراب والرمل والحصى، فهذا من جنس الأرض، لأن الصلاة على الحصر ونحوها لدفع الأذى، والله سبحانه جعله لدفع الأذى، فهذا حسن، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا بأس بالصلاة على ما كان من جنس الأرض كالحصير ونحوه.
وأما الصلاة على المتخذ من الصوف والشعر ونحو ذلك، كالبسط والطنافس، وعلى الحشايا المبطنة، فرخص فيه أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وروى ذلك عن جماعة من الصحابة، وفيه أحاديث مرفوعة، وكرهه مالك. انتهى. فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على هذه الأشياء المذكورة، وأن أكثر العلماء رخص فيها، فمن أنكر فرش المساجد بذلك كلف الدليل، والله أعلم.
وأما تخليقها بالطيب، فقالت عائشة:" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب " 3، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجة.
وقال في الإقناع: ويسن كنسه يوم الخميس، وإخراج كناسته، وتنظيفه، وتطييبه فيه، وتجميره في الجمع، ويستحب شعل القناديل فيه كل ليلة.
1 الترمذي: السير (1553) ، وأحمد (5/248) .
2 البخاري: الصلاة (381)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (513)، والنسائي: المساجد (738)، وأبو داود: الصلاة (656)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1028) ، وأحمد (6/330، 6/331، 6/335، 6/336)، والدارمي: الصلاة (1373) .
3 الترمذي: الجمعة (594)، وأبو داود: الصلاة (455)، وابن ماجة: المساجد والجماعات (759) .
انتهى. قوله: في الدور جمع دار، والمراد هنا: المحلات، أي أمر أن يبنى في كل محلة مسجد، وهو محمول على اتخاذ بيت للصلاة، كالمسجد يصلي فيه أهل البيت. انتهى. فدل هذا على استحباب تطييبها، وتنظيفها، والله أعلم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: وأما ما زخرف به المسجد، من التحمير والتصفير، فيطمس بالآجر الأبيض، وكذلك الصور والكتابة التي في الحيطان.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عمن أنكر دخول المسجد بالنعال؟
فأجاب: إنكار دخول المسجد بالنعال، إنما نشأ عن الجهل بالسنة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في نعليه، وكذلك الصحابة، رضي الله عنهم. ثم إنه صلى الله عليه وسلم في بعض الصلوات خلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم سألهم عن ذلك، فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أتاني جبرائيل، فأخبرني أن فيهما أذى " 1، فدل الحديث على جواز دخول المسجد بالنعال والصلاة فيها، ما لم يعلم أنها نجسة، فإذا لم يعلم أنه وطأ بها نجاسة، فالأصل الطهارة، وهذا بحمد الله ظاهر.
وسئل الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، رحمهم الله
1 أبو داود: الصلاة (650) ، وأحمد (3/20)، والدارمي: الصلاة (1378) .
تعالى: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " خالفوا اليهود، صلوا في نعالكم " 1، ما الحكمة في ذلك؟
فأجاب: الحكمة: مخالفة اليهود في الأعمال الظاهرة، لأن موافقتهم في الأعمال الظاهرة، تفضي إلى موالاتهم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن فرش المساجد من صوف وغيره؟
فأجاب: أما فرش المساجد فيجوز أن يتخذ فيها فرش من جميع الفرش الطاهرة، من الصوف وغيره.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن التقدم للمسجد، والقيلولة فيه
…
إلخ؟
فأجاب: أما مسألة التقدم للمسجد في مثل الظهر، والقيلولة فيه، فإن كان الإنسان قصد المسجد لانتظار الصلاة المفروضة، فصلى ما تيسر من النوافل، ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن، أو يذكر الله، وهذا قصده، ولكن في نيته إن حدث عليه نعاس نام في المسجد، لم يقصد القيلولة فيه عادة، فهذا حسن إن شاء الله تعالى.
وأما إن كان نيته أنه قصد المسجد ليضع عصاه في الصف، ويصلي ما تيسر، ثم ينام، أعني أنه قصد النوم فيه، وعزم عليه، فهذا مكروه، أعني: اتخاذ المسجد مقيلاً؛ فالأفضل في حق هذا أن يقيل في بيته، فإذا قضى حاجته من
1 أبو داود: الصلاة (652) .
النوم، تطهر وقصد المسجد. وأما جلوسه في سطح المسجد، بين العشائين لأجل البراد ونحوه، فلا بأس بذلك.
سئل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف: عن الجمع بين حديث النهي عن الاستلقاء في المسجد، وحديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد
…
إلخ؟
فأجاب: حديث النهي محمول على حالة لا يأمن معها انكشاف العورة، وأما إذا أمن انكشافها فلا بأس؛ وعليه يحمل حديث عبد الله بن زيد، قال: في الإقناع: ولا بأس بالاستلقاء لمن له سراويل، وكذا لو احتبى بحيث يأمن كشف عورته. انتهى.
وقال الحافظ في الفتح، بعد أن ذكر قول من ادعى نسخ النهي ورده، وبعد أن ذكر أن الجمع بين الحديثين بمثل ما تقدم أولى من ادعاء النسخ: والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا عند مجتمع الناس. انتهى.
فتبين أن للجمع بينهما طريقين:
أحدهما: أن فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز، وأن النهي للتنْزيه، كما ذكر الحافظ.
والثاني: حمل النهي على حالة لا تؤمن معها انكشاف العورة، والله أعلم.
فصل
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط الثامن: استقبال القبلة، والدليل قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [سورة البقرة آية: 144] .
وسئل بعضهم: عما ذكر في الهدى، لما ذكر نسخ القبلة، قال ابن سعد: أنبأنا هاشم بن القاسم، أنبانا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال:"ما خالف نبي قط في قبلة قط، ولا إسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة "، مع قوله:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [سورة البقرة آية: 148] .
فأجاب: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لم يختلفوا في الدين، بل دينهم واحد كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعلات " 1، فأما القبلة فلم يكن يخالف بعضهم بعضاً فيها، بل كلهم يميلون إلى قبلة إبراهيم عليه السلام. فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمر حين قدم المدينة أن يصلي قبل صخرة بيت المقدس، تألفاً لقلوب اليهود، ليكون أقرب إلى تصديقهم إياه، فصلى ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، والكعبة على حالها بالنسبة إلى أنها قبلة
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3442)، ومسلم: الفضائل (2365)، وأبو داود: السنة (4675) ، وأحمد (2/406) .
أبيه من قبله، واستقباله بيت المقدس للحاجة العارضة لا ينافيها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فإنها قبلته وقبلة أبيه إبراهيم.
وأما من خالف من الأنبياء، فحصلت موافقته بالميل إلى قبلة إبراهيم وتفضيلها، فإنها الأصل في الاستقبال للأفضلية؛ فموافقته في القلب حاصلة على كل حال، وفي الجهة في بعض الأحيان، ففي الميل والأفضلية حصل عدم الاختلاف، كما لم يختلفوا في أصل الدين قط، وهذا - والله أعلم - مراد محمد بن كعب القرظي؛ فمن ذلك يعلم معنى قوله:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي: لكل أهل ملة من الملل قبلة، والوجهة اسم للمتوجه إليه، {هُوَ مُوَلِّيهَا} ، ووليت عنه إذا أدبرت عنه، والمعنى: لكل ملة من الملل جهة يستقبلونها بأمر الله.
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: عن حكم الصلاة في الطيارة، من جهة استقبال القبلة؟
فأجاب: راكب الطيارة لا يخلو، من أن يكون قادراً على شروط الصلاة وأركانها وواجباتها، أو لا؛ فإن كان قادراً على ذلك، صحت صلاته، إذا أتى بها كذلك مطلقاً؛ وإن لم يقدر على الإتيان بها على هذا الوجه، فلا يخلو من أن يمكن النُزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر، أو لا؛ فإن أمكنه النُزول بها إلى الأرض مع انتفاء الضرر، لزمته الصلاة في الأرض، ولم تصح صلاته في الطيارة؛
فإن لم يمكنه ذلك، أو كان في ذلك ضرر، أو وجد شيء من الأعذار التي تصح معها الصلاة على الراحلة، فإنه يصلي حينئذ في الطيارة على حسب حاله، ويفعل ما يقدر عليه، ويسقط عنه ما لا يقدر عليه؛ فإن أمكنه استقبال القبلة لزمه ذلك، ويستدير إلى القبلة إذا استدارت. وهذا التفصيل في صلاة المكتوبة، وأما النافلة فحكمها معلوم، والتفصيل فيها غير هذا التفصيل، والله أعلم.
فصل
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الشرط التاسع: النية، ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة؛ والدليل: الحديث: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "1.
وسئل ابنه: الشيخ عبد الله: عمن قال: إن التلفظ بالنية سنة؟
فأجاب: قول من قال: إن التلفظ بالنية سنة عند الصلاة، خطأ وجهالة، والقائل ذلك مخطئ؛ فإن السنة هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن القيم: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه تلفظ بالنية، ولا استحبها أحد من
1 البخاري: بدء الوحي (1)، والترمذي: فضائل الجهاد (1647)، والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794)، وأبو داود: الطلاق (2201)، وابن ماجة: الزهد (4227) ، وأحمد (1/25، 1/43) .
الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. انتهى. وإنما استحبها بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وغيره، فرد عليهم المحققون من أهل مذهبه وغيرهم؛ وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي للمسلم أن يتبع غلطات العلماء، بل يعرض أقوالهم على الهدى النبوي، فما وافق ذلك قبله، وما خالفه رده على قائله، كائناً من كان.
وسئل: عن تعيين الإمام
…
إلخ؟
فأجاب: أما تعيين الإمام، فإذا عين إماماً وقصده أنه لا يصلي خلف غيره، فهذا إذا بان أنه غيره لم تصح صلاته، لأنه نوى أن لا يصلي خلفه.
وأما إذا عين إماماً، ونيته أن يصلي خلف من يصلي بالجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام، كما هو الواقع في المساجد التي أئمتها راتبون، فهذا إذا بان له أنه غير الإمام الراتب، صحت صلاته، لأن قصده الصلاة مع الجماعة، وليس له قصد في تعيين الإمام.
وسئل: إذا نوى كل منهما أنه إمام صاحبه؟
فأجاب: إذا نوى كل منهما أنه إمام صاحبه، فهذه على روايتين:
الأولى: عدم الصحة.
والثانية: أنها صحيحة، ويصليان فرادى.
وسئل: عما إذا نوى كل منهما أنه مأموم؟
فأجاب: إذا نوى كل منهما أنه مأموم، فهي كالتي قبلها على روايتين.
وسئل بعضهم: عن مسبوق ائتم بمثله، هل ينويان حالة دخولهما مع الإمام أنه يأتم أحدهما لصاحبه بعد المفارقة؟ أو تكفي بعد السلام، لأنه وقت ائتمامه به؟
فأجاب: هذه المسألة فيها وجهان لأصحاب أحمد، وبعضهم حكى فيها روايتين؛ قال في الإنصاف: وإن سبق اثنان ببعض الصلاة، فأتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما، فعلى وجهين. وحكى بعضهم الخلاف روايتين، منهم ابن تميم:
إحداهما: يجوز ذلك، وهو المذهب؛ قال المصنف، والشارح، وصاحب الفروع، وغيرهم - لما حكوا الخلاف -: هذا بناء على الاستخلاف، وتقدم جواز الاستخلاف على الصحيح من المذهب، وجزم بالجواز هنا في الوجيز، والإفادات، والمنور، وغيرهم، وصححه في التصحيح والنظم.
والوجه الثاني: لا يجوز، قال المجد في شرحه هذا منصوص أحمد، في رواية صالح. وعنه: لا يجوز هنا، وإن جوزنا الاستخلاف، اختاره المجد في شرحه، فرق بينها وبين مسألة الاستخلاف. والذي يترجح عندنا هو الوجه الأول، سواء نويا ذلك في حال دخولهما مع الإمام، أو لا، والله أعلم.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عمن أحرم منفرداً وحضر جماعة
…
إلخ؟
فأجاب: إذا أحرم منفرداً، وحضر جماعة فدخل معهم، فالظاهر عدم الصحة في أصح الروايتين.
وسئل الشيخ حمد بن عتيق: عن رجل ينوي صلاة فرض وحده، فكبر وجاء آخر فدخل معه
…
إلخ؟
فأجاب: هذا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وإن صلى شيئاً من صلاته؟ فقال: وإن صلى شيئاً من صلاته.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا انفرد مأموم لعذر؟
فأجاب: إذا انفرد مأموم لعذر، فالظاهر الصحة، لحديث معاذ.
سئل الشيخ حمد بن عتيق: عن الرجل يصلي الفريضة، ثم يصلي بقوم هي لهم فريضة، وله نافلة؟
فأجاب: لا بأس به، وفيه حديث معاذ، فقال له السائل: إن كان إماماً في صلاته الأولى؟ فقال: إن كان إماماً في الأولى.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: عن صحة ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها؟ والمتنفل بالمفترض؟ ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر؟
فأجاب: الراجح عندنا صحة إئتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، وكذلك الراجح: صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، وعكسه، وكذلك من يصلي الظهر بمن يصلي العصر.
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: عمن ذكر حدثه في الصلاة، هل يستخلف؟
فأجاب: إذا ذكر حدثه في الصلاة، فلا يستخلف.
سئل ابنه: الشيخ عبد الله: إذا سبق الإمام الحدث واستخلف، هل تصح؟
فأجاب: إذا سبق الإمام الحدث ثم استخلف، فالظاهر أنها صحيحة.
وأجاب بعضهم: وأما إذا دخل الإمام في الصلاة طاهراً فأحدث في نفس الصلاة، يعني غلبه الحدث، فإنه يستخلف من يتم بهم صلاتهم قبل أن يغلبه أو يسبقه الحدث، ويبتدئ الخليفة من موقف الإمام في القراءة وفي أفعال الصلاة؛ فإن لم يكن وراءه من يصلح للإمامة، وقال: أتموا صلاتكم، فأتم كل واحد صلاته وحده، جاز.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول من قال من الفقهاء: إن صلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة إمامه، فمرادهم كما لو أحدث في صلاته فبطلت، فتبطل صلاة المأموم إذا
علم حدث إمامه، مع أن كثيراً من العلماء لا يرون بطلان صلاة المأموم إذا بطلت صلاة إمامه؛ وهو رواية عن أحمد، وفاقاً لمالك والشافعي.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله: الاستخلاف قبل حدث الإمام، وأما إذا سبق الحدث، سواء كان في الصلاة أو حدثه قبل الدخول فيها، فلا يصح استخلافه، وصلاة المأمومين في هذه الصورة فاسدة، والله أعلم.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: أما الإمام إذا سبقه الحدث وهو في الصلاة، فقد اختلف العلماء فيها: فمنهم من رأى جواز الاستخلاف والبناء على صلاة الإمام مطلقاً. ومنهم من فرق بين الخارج من السبيلين وغيرهما، وحمل أثر عمر على ذلك. ومنهم من فرق بين ما إذا خرج الحدث، وبين ما إذا لم يخرج، ولم يفرق بين الخارج من السبيلين وغيرهما. والذي أرى: أنه إن كان الخارج من السبيلين فلا استخلاف، وإن كان الخارج من غيرهما، جاز له الاستخلاف، لقصة عمر رضي الله عنه.