المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صلاة الجماعة - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٤

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌باب صلاة الجماعة

فأجاب: يسن لمن دخل المسجد أن لا يجلس حتى يركع ركعتين، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " 1، فإن جلس قبل الصلاة سن له أن يقوم فيصلي، لما روى جابر رضي الله عنه قال:" جاء سليك الغطفاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال: يا سليك، قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما " 2، رواه مسلم؛ فقد علمت أنها لا تسقط بالجلوس.

1 البخاري: الجمعة (1167)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (714)، والترمذي: الصلاة (316)، والنسائي: المساجد (730)، وأبو داود: الصلاة (467)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1013) ، وأحمد (5/295، 5/303، 5/305، 5/311)، والدارمي: الصلاة (1393) .

2 مسلم: الجمعة (875)، وأبو داود: الصلاة (1116)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1112، 1114) ، وأحمد (3/297) .

ص: 381

‌باب صلاة الجماعة

سئل بعضهم: عن وجوبها؟

فأجاب: اختلف العلماء في وجوبها، وهل هي شرط لصحة الصلاة، أو ليست بواجبة، ولا شرط لصحة الصلاة، بل سنة مؤكدة؟

والمشهور عن أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أنها واجبة على الرجال المكلفين، حضراً أو سفراً، واستدلوا على ذلك بما ثبت في الصحيحين: أن رجالاً كانوا يتخلفون عن صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فَهَمَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوتهم بالنار، وإنما منعه من ذلك ما فيها من النساء والذرية، حتى قال:"ولقد هممت أن آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار "1.

1 البخاري: الخصومات (2420)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651)، والنسائي: الإمامة (848)، وأبو داود: الصلاة (548)، وابن ماجة: المساجد والجماعات (791) .

ص: 381

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق "، ولدلائل أخر. انتهى.

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، لما ذكر ولاية المسلمين لمكة: ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأئمة الأربعة، رضوان الله عليهم.

وعن القراءة خلف الإمام في الجهرية قال بعضهم: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده. أما بعد: فقول القائل: إن الكلام الذي نقله شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في مختصره، عن الإمام أحمد، رحمه الله، حيث يقول: قال أحمد: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام، يقول إن الإمام إذا جهر بالقراءة، لا تجزي من خلفه إذا لم يقرأ، قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا لرجل صلى خلف الإمام، قرأ إمامه ولم يقرأ: صلاته باطلة. انتهى.

ص: 382

فقال: إن هذا لا يشبه كلام العلماء، والإمام أحمد يتحاشى منه

إلخ.

فنقول: هذا من باب سوء الظن بأهل العلم، وفي الحديث: أكبر الكبائر سوء الظن بالمسلمين، أتراهم يروون هذا عن أحمد، وهو مما يتحاشى منه، أو أن الشيخ، رحمه الله، ينقل هذا في مختصره، وهو لا يشبه كلام العلماء، هذا مما تنكره عقول أهل الإسلام؛ لكن صاحب هذا القول لا يظن به إساءة الظن بأهل العلم، فلعل هذا القول صدر عن غفلة منه، والله أعلم.

وأيضاً، فلو سلم لهذا القائل قوله، لتعذر النقل من كتب العلماء، فصارت هذه الكتب التي ألفوها في قديم الزمان وحديثه، في فقه وغيره، وتداولوها جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، لا فائدة فيها، ومعلوم: أن هذا باطل قطعاً، فإن هذه الأقوال المنسوبة إلى قائلها من العلماء، لا تعرف إلا من كتب أهل العلم؛ لكن يقال: ما وجد في بعضها من خطإ فمردود على قائله، مع إحسان الظن به، والله أعلم.

فأما قوله: إن هذا القول مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " 1، فيقال: بل هذا القول موافق لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ

1 البخاري: الأذان (756)، ومسلم: الصلاة (394)، والترمذي: الصلاة (311)، والنسائي: الافتتاح (910، 911، 920)، وأبو داود: الصلاة (822، 823، 824)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، وأحمد (5/313، 5/314، 5/316، 5/321، 5/322)، والدارمي: الصلاة (1242) .

ص: 383

الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [سورة الأعراف آية: 204] ؛ قال أحمد: أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا قرأ " يعني: الإمام، "فأنصتوا "، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، إلا وراء الإمام " 1، ولقوله:" من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة " 2، وموافق أيضاً للآثار المروية عن الصحابة والتابعين، التي ذكرها الإمام صديق، رحمه الله، في شرح البلوغ، فمعناها يوافق ما تقدم؛ وإن كان في بعض أسانيد هذه الأحاديث والآثار مقال، فبعضها يقوى بعضاً، والله أعلم.

ويوافق هذا القول أيضاً: تقريره صلى الله عليه وسلم أبا بكرة، حيث لم يأمره بإعادة تلك الركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، مع أن في بعض روايات الحديث: " خشيت أن تفوتني ركعة معك

" الحديث.

ومعلوم: أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل قطعاً، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز شرعاً، فلو كانت ركعته غير صحيحة، لأمره بإعادتها، كما أمر الأعرابي الذي لم يطمئن في صلاته بإعادتها، ولم يعذره بجهله، لتمكنه من العلم بمعرفة صلاته، وكذلك الذي رآه يصلي خلف الصف منفرداً، أمره أن يعيد صلاته، اللهم إلا أن يكون قد ثبت بنقل صحيح، أن أبا بكرة أمر بإعادة صلاته، فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.

1 مسلم: الصلاة (395)، والترمذي: تفسير القرآن (2953)، والنسائي: الافتتاح (909)، وأبو داود: الصلاة (821)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (838) ، وأحمد (2/290)، ومالك: النداء للصلاة (189) .

2 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) ، وأحمد (3/339) .

ص: 384

ويوافق هذا القول أيضاً عمل أئمة المسلمين، كما حكى ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في بعض كتبه بالاتفاق; ويوافق هذا القول أيضاً عمومات أحاديث قد احتج بها الفقهاء، وفهموا منها صحة ركعة المأموم، إذا ركع مع إمامه قبل أن يرفع صلبه، كحديث أبي هريرة المرفوع، الذي صححه الأئمة، وفيه:" ومن أدرك ركعة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة "; وفي الحديث الآخر: " من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ".

فإذا علمت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، قد رأوا من لم يدرك مع الإمام إلا الركوع فسكتوا عنه، فلم يأمروه بإعادة ركعته، مع أن هذه المسألة من أشهر مسائل الدين، ووقوعها يتكرر بين أظهر المسلمين، فكيف لا يسع هذا القائل ما وسع من قبله؟! سبحان الله ما أعظم شأنه!

وأما قوله: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " 1، فالمراد بذلك الإمام، والمنفرد، والمأموم أيضاً إذا أمكنه؛ هذا هو الراجح من قولي العلماء، لأن في هذا القول جمعاً بين الأخبار؛ والجمع مطلوب إذا أمكن عند العلماء، كما نبه على ذلك المجد، رحمه الله، في المنتقى.

فيقال: حديث عبادة، وما كان في معناه، مع وجود التمكن من قراءة الفاتحة، وحديث أبي بكرة، وما كان في

1 البخاري: الأذان (756)، ومسلم: الصلاة (394)، والترمذي: الصلاة (311)، والنسائي: الافتتاح (910، 911، 920)، وأبو داود: الصلاة (822، 823، 824)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، وأحمد (5/313، 5/314، 5/316، 5/321، 5/322)، والدارمي: الصلاة (1242) .

ص: 385

معناه، مع عدمه; وهذا أحوط، لئلا يترك العمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير سبب يوجب ترك العمل به، إما نسخاً أو غيره من الأسباب، والله أعلم.

وأما قوله: إن أبا هريرة وأبا سعيد من أهل الإسلام، وأحمد، رحمه الله، يقول: ما سمعت أحداً من أهل الإسلام يقول

إلخ؟

فلعله لم يبلغه قول أبي هريرة وأبي سعيد، وهو، رحمه الله: إنما يحكي عن نفسه، لقوله: ما سمعت

إلخ، فلا محذور في ذلك، ولا اعتراض بحمد الله.

وأما قوله: إن حديث أبي بكرة محتمل، وإذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال، فيقال: ليس حديث أبي بكرة بمحتمل، ولكنه أيضاً صريح في المسألة، مقيد لما أطلق من أدلة وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.

وأيضاً، فلو قدرنا فيه احتمالاً، فقد رفعته تلك الأحاديث، والآثار التي تقدمت الإشارة إليها، مع عمل أئمة المسلمين بذلك; فبطل الاحتمال، وبقي الاستدلال، والحمد لله ذي الجلال.

وأيضاً: فلو سلطت الاحتمالات والتأويلات على نصوص الكتاب والسنة، بطل الاحتجاج بها؛ والتأويل لا يقبل إلا بشرطين، أحدهما: أن يكون ذلك اللفظ محتملاً له.

ص: 386

والثاني: أن يوجد دليل آخر من أدلة الشرع يصححه؛ فافهم هذين الشرطين، تسلم بها من شبهات كثيرة في هذا الباب وغيره، والله أعلم.

وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة: " زادك الله حرصاً ولا تعد " 1، فهو حديث فيه احتمال ونهي، وحديث عبادة وأبي هريرة منطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم.

فنقول: أما الاحتمال فقد تقدم الجواب عنه، فصار في حكم المنطوق المقيد للعموم، وأما النهي: فليس عائداً إلى الدخول مع الإمام في الركوع، فإن هذه المسألة تحتاج إلى دليل آخر، وإنما هو عائد إلى الإسراع في المجيء إلى الصلاة، كما هو المشهور عند شراح الحديث، لأن فيه مخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال:" ائتوها وعليكم السكينة " 2 الحديث.

ولهذا ورد في بعض الروايات: أن أبا بكرة ركع دون الصف ثم مشى إليه، وفي بعضها أنه صلى الله عليه وسلم سمع صوت نَفَسِه، فلذلك نهاه صلى الله عليه وسلم عن هذا الإسراع الذي يذهب الخشوع؛ وهذا كله مما يقوي الاحتجاج بالحديث على هذه المسألة، فإن أبا بكرة وغيره من الصحابة، لو لم يكن متقرراً عندهم أن مدرك الركوع مع الإمام، مدرك للركعة، لم يوجد هذا الإسراع منهم، إذ لو قد علموا أن الركعة قد فاتتهم، بفوات قراءة الفاتحة، لم يسرعوا هذا الإسرا، الذي نهاهم صلى الله عليه وسلم عنه؛ وهذا أمر معلوم بالحس.

1 البخاري: الأذان (783)، والنسائي: الإمامة (871)، وأبو داود: الصلاة (683، 684) ، وأحمد (5/39، 5/42، 5/45، 5/50) .

2 البخاري: الأذان (636) والجمعة (908)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (602)، والترمذي: الصلاة (327)، والنسائي: الإمامة (861)، وأبو داود: الصلاة (572، 573)، وابن ماجة: المساجد والجماعات (775) ، وأحمد (2/237، 2/238، 2/239، 2/270، 2/282، 2/318، 2/382، 2/386، 2/387، 2/427، 2/452، 2/460، 2/472، 2/489، 2/529، 2/532، 3/243)، ومالك: النداء للصلاة (152)، والدارمي: الصلاة (1282) .

ص: 387

وأما قول البخاري، رحمه الله: فلا يجوز لأحد أن يعود إلى ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم. فنقول: الأمر كذلك، والنهي باق على حاله؛ فلا يجوز لأحد أن يأتي إلى الصلاة على هذه العجلة التي نهى عنها صلى الله عليه وسلم. وأما حكم الركعة، فقد تقدم بيانه، والله أعلم.

وأما قوله: دع عنك التقليد واتباع آراء الرجال.

فنقول: جزاك الله خيراً، لكن يا أخي فرق بين التقليد المذموم، الذي ذمه الله ورسوله، وبين الاقتداء الذي لا يعرف الحق إلا به؛ فالأول: داخل في معنى قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، والثاني: داخل في معنى قوله تعالى إخباراً عن عباده الصالحين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [سورة الفرقان آية: 74] ، أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا؛ وذلك أن الله سبحانه قد جعل العلماء واسطة بين الرسل وأممهم في تبليغ العلم، كما جعل الرسل واسطة بينه وبين عباده، في بيان ما أحل لهم وحرم عليهم، فالرسل بلغت ذلك إلى أممهم، والعلماء بلغت ذلك إلى من بعدهم.

فهل كان لنا معرفة بالأحاديث والآثار إلا من جهتهم، وهل كان لنا معرفة بمعاني كلام الله وكلام رسوله عليه السلام إلا من جهة العلماء؛ فالحمد لله الذي جعل العلماء في هذه

ص: 388

الأمة كأنبياء بني إسرائيل، كلما هلك نبي خَلَفَه نبي، كذلك كلما هلك عالم خلفه عالم؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء، والمراد بذلك العلماء العاملين بعلمهم، جعلنا الله وإياكم منهم، إنه على كل شيء قدير.

إذا فهمت ذلك، فاعلم أن التقليد المذموم هو أن يقلد رجل شخصاً بعينه، في تحريم أو تحليل أو تأويل، بلا دليل، أو تقلد لأية نكتة نفسه لإحسان ظن بتفهم.

وأما إن كان الرجل مقتدياً بمن يحتج لقوله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبأقوال العلماء الربانيين، فليس بمقلد، بل هو متبع لتلك الأدلة الشرعية، مجتهد فيما اختاره، فلا ينسب إلى التقليد المذموم؛ وعليه يحمل قوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وهم العالمون بالكتاب والسنة.

ولما اختار الإمام الشوكاني، رحمه الله، في نيل الأوطار: أن من لم يدرك الفاتحة مع الإمام لا تصح ركعته، لم ينسب من خالفه في هذه المسألة إلى التقليد واتباع الهوى، لعلمه أن المخالف له، قد تمسك بأدلة شرعية، وتبعه صديق، رحمه الله، في شرح البلوغ على ذلك؛ وهذا شأن العارفين.

وبعض إخواننا في هذا الزمان، إذا خالفه بعض إخوانه في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، نسبه إلى التقليد، أو ذكر له

ص: 389

كلام بعض الفقهاء، تغير وجهه وقال: هؤلاء المقلدة، وأهل الرأي المتمذهبة.

والفقهاء، رحمة الله عليهم، أهل شرح لأحاديث الأحكام، كغيرهم من شراح الحديث، والخطأ الذي يوجد في كلام بعضهم أيسر وأهون من الخطإ الذي يوجد في كلام غيرهم؛ فإن خطأ هؤلاء في المسائل الفرعية الاجتهادية، وأولئك خطؤهم في المسائل الأصولية واليقينية، وهم مع ذلك لا يوجبون تقليد أنفسهم، ولا تقليد إمامهم الذي ينتحلون مذهبه، بل ولا يسوغونه إذا قام الدليل؛ وإنما يسوغون الأخذ بقول ذلك الإمام مع عدمه، وقد يرجحون قوله على قول غيره من العلماء، لكونه أعلم وأتقى، ودليله أصح وأقوى، كما يترجح عند الرجل أحد القولين من أقوال العلماء، ولا يوجبون إلا ما أوجبه الله في كتابه، أو ثبت عن نبيه صلى الله عليه وسلم.

قال في المنتهى لموسى بن أحمد الحجاوي، وشرحه لمنصور بن يونس، رحمه الله: ولا يجوز أن يقلد القضاء رجل على أن يحكم بمذهب بعينه، لقوله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص آية: 26] ، والحق لا يتعين في مذهب إمام بعينه، فقد يظهر له الحق في غير هذا المذهب.

قال الشيخ تقي الدين: ومن أوجب تقليد إمام بعينه،

ص: 390

يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن قال: ينبغي، كان جاهلاً ضالاً. قال: ومن كان متبعاً لإمام، فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأتقى، فقد أحسن، ولم يقدح في عدالته بلا نزاع.

وقال أيضاً، في غير هذا الموضع: ولا يجوز التقليد في معرفة الله والتوحيد والرسالة، لأن الله سبحانه أمر بالتدبر والتفكر والنظر، وذم التقليد في ذلك، لقوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، وقال أيضاً في غير هذا الموضع: ومن شروط القاضي أن يكون مجتهداً، ذكره ابن حزم إجماعاً، لقوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء آية: 105] ، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه للضروة، بأن لا يوجد مجتهد مطلق، وهو من يعرف الحق بدليله.

ثم قال: والمجتهد من يعرف من الكتاب والسنة الحقيقة، أي: اللفظ المستعمل في وضع أول، والمجاز: أي اللفظ المستعمل في غير وضع أول، لعلاقة، والمحكم، وهو: المتضح في المعنى، والمتشابه مقابله، إما لاشتراك، أو ظهور تشبيه، والعام، وهو: ما اشتمل على مسميات، باعتبار أمور اشتركت فيه مطلقاً، والخاص مقابله، والمطلق: ما دل على شائع في جنسه، والمقيد ما دل على معين، والناسخ والمنسوخ، وسقيم السنة من صحيحها، ومتواترها،

ص: 391

وهو: ما نقله جمع لا يتصور تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من شروط الاجتهاد، التي ذكرت في هذا الكتاب وشرحه.

وإنما ذكرت بعض كلامهما في هذا الموضع، ليعلم أن الفقهاء المنتسبين إلى هذه المذاهب الأربعة في الفروع، لم يختاروا هذه المذاهب وغيرها من أقوال العلماء عند عدم الدليل، إلا عن اجتهاد، لا مجرد رأي وتقليد، كما ظنه من لم يحقق النظر في مصنفاتهم، ومع ذلك فليسوا بمعصومين من الخطإ؛ بل يجوز عليهم الخطأ، كما يجوز عليهم الصواب، وأحكام البشرية لا بد من جريانها على ابن آدم، والمعصوم من عصمه الله.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كتاباً في اختلاف العلماء، سماه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.

وبالجملة، فالواجب في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم: الرجوع إلى الأدلة الشرعية التي اشتهر العمل بها بين علماء الأمة الإسلامية، كما ورد في الحديث عن خير البرية صلى الله عليه وسلم كل صباح وعشية:"العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة؛ وما سوى ذلك فهو فضل "، وقوله:"أو سنة قائمة " أي: اشتهر العمل بها بين علماء الأمة، مأخوذ من قولهم: سوق قائم، إذا كان بيعه وشراؤه ظاهر.

ص: 392

وأما تعلق القلب بهذه المسائل الخفية، المخالفة لتلك المسائل الجلية، وطلب المخارج لها بالدلائل المحتملة، والتأويلات المرجوحة، فليس في ذلك إلا تضييع الزمان، وتشتيت الأذهان، والاستشهاد بين الأقران؛ وربما أوجبت العداوة بين الإخوان، ونقل عوام المسلمين من اليقين إلى الحيرة والهيمان. وقد جاءت هذه الشريعة المطهرة، بتحصيل المصالح بحسب الإمكان وتكميلها، ودفع المفاسد بحسب الإمكان وتقليلها. وقد فتح لك الباب، إن كنت من ذوي الألباب، وإلا فسل التوفيق من الملك الوهاب. ومن وقف على هذا الكلام، في هذا المقام، عرف المقصود منه، إن كان من ذوي الأفهام، وإلا فليقل خيراً، أو ليرجع بسلام. وهذا آخر الجواب، والله الموفق للصواب.

واعلم: أني لم أتعرض لهذا الجواب، حتى سألني ذلك بعض الإخوان، لعلمي أني لست من أهل هذا الشأن، ولا ممن يصلح للسباق في ذلك الميدان، فأجبته بحسب الطاقة والإمكان، وهذا غاية اجتهادي، وعلى الله اعتمادي، وهو أعلم بمرادي، والحمد لله أولاً وآخراً، باطناً وظاهراً، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

ص: 393

وسئل بعضهم: هل يجب أن يقرأ المأموم لنفسه؟

فأجاب: هذه المسألة اختلف العلماء فيها: فأوجب طائفة من العلماء قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد، واستدلوا بالحديث. وكرهها آخرون للمأموم في السر والجهر. وتوسط آخرون فأوجبوها على الإمام والمنفرد في كل ركعة، واستحبوها للمأموم في صلاة السرية، وكرهوها للمأموم في الجهرية إذا سمع الإمام; واستدلوا لذلك بقوله عز وجل:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 204]، قال أحمد: هذه الآية في الصلاة، وبما روي في الحديث:"من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة " 1؛ وهذا الذي عليه العمل عندنا ونختاره. وإذا قرأ المأموم مع الإمام فإن صلاته لا تفسد، ولا أعلم أحداً قال بفسادها بذلك؛ بل كرهها من كرهها من العلماء للأدلة المتقدمة، ولدلائل آخر ليس هذا موضع بسطها، ولم يبطل الصلاة بذلك أحد.

وسئل بعضهم: ما قولكم بقراءة أواخر السور في صلاة الفريضة، تجوز أم لا؟

فأجاب: الحمد لله ذي الجود والكرم، علم الإنسان ما لم يعلم؛ فنقول: أما القراءة في الصلاة، فرضاً كانت أو نفلاً، ببعض السور وأواخرها، جائز؛ والصلاة صحيحة بالنص والإجماع:

1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) ، وأحمد (3/339) .

ص: 394

أما نص الكتاب: قال تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [سورة المزمل آية: 20]، وأما نص السنة: قوله صلى الله عليه وسلم للمسيء: "إن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وهلله وكبره " 1، رواه أبو داود ولم يعين له صلى الله عليه وسلم سورة كاملة. وأما قراءة السورة كاملة، فأفضل من بعض السورة، ولم يكن من هديه الراتب صلى الله عليه وسلم القراءة ببعض السورة.

وأما إذا كان لحادث أو عارض، فيجوز إجماعاً، وقد فعله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 136] ، وفي الآخرة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [سورةآل عمران آية: 64] "، رواه أحمد، ومسلم.

وعن رجل من جهينة، أنه " سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح:{إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الركعتين كلتيهما "; وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه " قرأ سورة المؤمنين، حتى بلغ ذكر موسى وهارون فأخذته سعلة، فركع " 2، فاستدل بهذا أهل العلم، على أن القراءة ببعض السورة، أولها، وأوسطها، وآخرها جائز إجماعاً، والقراءة بسورة كاملة أفضل؛ فإذا فهم المسترشد الجائز، دل الناس على الأفضل بطريق التعلم والرفق، لا بطريق العنف والتشيين، والله أعلم.

1 الترمذي: الصلاة (302)، والنسائي: التطبيق (1053، 1136) والسهو (1313، 1314)، وأبو داود: الصلاة (856) ، وأحمد (4/340)، والدارمي: الصلاة (1329) .

2 مسلم: الصلاة (455)، والنسائي: الافتتاح (1007)، وأبو داود: الصلاة (649) ، وأحمد (3/411) .

ص: 395

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما الله: هل تدرك الركعة بإدراك الركوع

إلخ؟

فأجاب: لا يقع إشكال لديكم في صحة صلاة من أدرك الركوع مع الإمام، وفاتته القراءة، أنه مدرك تلك الركعة؛ وهو الذي عليه العمل عندنا، وعليه الفتوى.

وأجاب الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف: المسألة قد كفانا شأنها من سلف من أهل العلم والدين، وحسبنا السير على منهاجهم واقتفاء آثارهم، وترك ما يوجب التفرق والاختلاف؛ ومن تتبع مسائل الخلاف، فإن هذا مذموم في الدين على لسان سيد المرسلين. والذي سلك شيخنا حمد 1 من القول بإدراك الركعة بإدراك الركوع، هو المذهب الراجح، والمسلك الواضح، كما هو معلوم عند أهل الخبرة بالدليل، ومن هو من أهل الترجيح والتعليل، ولا يروج مثل هذا الخلاف الشاذ إلا على من لا علم لديه، ولا أصل يرجع إليه عند الاختلاف.

والقول بخلاف ما ذكرنا، وإليه أشرنا، وإن كان قد قال به قائل، فالقائل به لم يسلك مسلك الإلزام، كما فعله هذا الجاهل من إلزام العوام، وإنما أداه إلى القول به اجتهاده بحسب ما يفهمه من الأدلة السمعية، وهم في ذلك

1 يشير إلى الفتوى التي بعد هذه، للشيخ حمد بن عبد العزيز.

ص: 396

مجتهدون، وعلى اجتهادهم مأجورون، واختيار بعض المتأخرين له، لا يقتضي أولويته ولا رجحانه؛ ولو ذهب هذا المخالف إلى الأخذ بكل ما صححوه، وإلزام الناس بجميع ما رجحوه لأوقعهم في شباك، وأفضى بهم إلى مفاوز الهلاك؛ وهذا على سبيل التنبيه، والإشارة تكفي اللبيب.

وأجاب الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله: إذا أدرك المأموم الإمام راكعاً، فدخل معه واطمأن في الركوع قبل أن يرفع، فهو مدرك للركعة؛ وهذا هو المروي عن السلف الصالح، وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وأتباعهم؛ فلا يعرف عن السلف خلاف في ذلك. وقد حكى الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فقال: والمسبوق إذا لم يتسع قيامه لقراءة الفاتحة، فإنه يركع مع إمامه ولا يتم الفاتحة باتفاق الأئمة، وأما إذا كان متسعاً ولم يقرأها، فهذا تجوز صلاته عند الجماهير. وعند الشافعي عليه أن يقرأها، وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة. انتهى.

فتبين: أن سقوط قراءة الفاتحة عن المسبوق، مسألة اتفاق كما قدمناه؛ والحجة في ذلك ما رواه البخاري عن أبي بكرة فذكره، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة " 1، وترجم عليه ابن خزيمة، وهكذا ترجم مجد الدين في المنتقى، فقال: باب المسبوق يدخل مع الإمام، ولا يعتد بركعة لم يدرك ركوعها. انتهى.

1 البخاري: مواقيت الصلاة (580)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (607)، والنسائي: المواقيت (553، 554، 555، 556)، وأبو داود: الصلاة (893)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) ، وأحمد (2/241، 2/265، 2/280)، ومالك: وقوت الصلاة (15)، والدارمي: الصلاة (1220) .

ص: 397

وذكر الآثار - إلى أن قال - وقد نص شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، قال: ومن أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة؛ وتدرك بإدراك الركوع مع الإمام، وتجزي تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، لفعل زيد بن ثابت وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، وإتيانه بها أفضل، خروجاً من خلاف من أوجبه.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن مسبوق دخل مع الإمام بعد رفعه من الركوع ولم يتابعه، في السجود

إلخ؟

فأجاب: الذي يدخل مع الإمام بعد رفع من الركوع، فإنه يجب عليه متابعته؛ لكن أرجو أن ذلك يغتفر في حق الجاهل. انتهى.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: الذي رفع قبل إمامه، فإن كان لم يرجع ليتابع إمامه، أعاد الصلاة.

سئل ابنه: الشيخ عبد الله، رحمهما الله تعالى: عن محل التشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب مع الإمام؟

فأجاب: هذا فيه اختلاف بين العلماء، والمشهور أنه يتشهد عقيب الركعة الأولى من القضاء، ولا يسردهما؛ فلو سردهما إنسان لم يضيق عليه، لأجل اختلاف العلماء، وليس

ص: 398

مع المخالف دليل واضح على المنع فيما يظهر لي.

وأجاب الشيخ حمد بن ناصر: الذي يفوته ركعتان من المغرب، فهو إذا قام يقضي صلى ركعة وجلس وتشهد، ثم قام وصلى الركعة الثالثة؛ هذا الذي عليه العمل.

وسئل بعضهم: عن مسبوق دخل مع الإمام، ولم يعلم هل هو في أول الصلاة فيستفتح ويقرأ بسورة، أم في آخرها فيسكت؟

فأجاب: أهل العلم اختلفوا في ذلك على قولين، هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: أن ما يدركه مع الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها; قال في الشرح الكبير: هذا هو المشهور في المذهب، يروى ذلك عن ابن عمر، ومجاهد، وابن سيرين، ومالك، والثوري، وحكي عن الشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" وما فاتكم فاقضوا " 1، متفق عليه؛ فالمقضي هو الفائت؛ فعلى هذا ينبغي أن يستفتح ويستعيذ، ويقرأ السورة.

القول الثاني: أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته، والمقضي آخرها، وهو الرواية الثانية عن أحمد؛ قال في الشرح: وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وإسحاق، وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك، واختاره ابن المنذر، لقوله عليه السلام: "وما فاتكم

1 البخاري: الأذان (635)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) ، وأحمد (5/306)، والدارمي: الصلاة (1283) .

ص: 399

فأتموا " 1.

فعلى هذه الرواية: لا يستفتح. فأما الاستعاذة، فإن قلنا: تسن في كل ركعة، استعاذ، وإلا فلا. وأما السورة بعد الفاتحة، فيقرؤها على كل حال؛ قال شيخنا: لا أعلم خلافاً بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة، وهذا مما يقوي الراوية الأولى. انتهى.

وقال في الفروع: وقيل: يقرأ السورة مطلقاً، ذكر الشيخ أنه لا يعلم فيه خلافاً بين الأئمة الأربعة، وذكره ابن أبي موسى المنصوص عليه، ذكره الآجري عن أحمد، وبنى قراءتها على الخلاف، وذكره ابن هبيرة وفاقاً، وجزم به جماعة، واختاره صاحب المحرر، وذكر أن أصول الأئمة تقتضي ذلك، وصرح به منهم جماعة وأنه ظاهر رواية الأثرم، ويخرج على الروايتين: الجهر، والقنوت، وتكبير العيد، وصلاة الجنازة; وعلى الأولى - يعني الرواية الأولى المشهورة - أن ما يدركه المسبوق مع الإمام آخر صلاته، إن أدرك من رباعية أو مغرب ركعة، تشهد عقب قضاء أخرى، وفاقاً لأبي حنيفة، ومالك في إحدى الروايتين له، كالرواية الثانية. انتهى.

وفي القواعد الفقهية، لما ذكر ما ينبني على الروايتين من الفوائد: الفائدة الرابعة: مقدار القراءة، وللأصحاب في ذلك طريقان: أحدهما: أنه إذا أدرك ركعتين من الرباعية، فإنه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كلا الروايتين؛ قال ابن أبي موسى: لا يختلف قوله في ذلك. والطريق الثاني:

1 البخاري: الأذان (635)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) ، وأحمد (5/306)، والدارمي: الصلاة (1283) .

ص: 400

بناؤه على الروايتين؛ فإن قلنا ما يقضيه أول صلاته فكذلك، وإلا اقتصر فيه على الفاتحة، وهي طريقة القاضي ومن بعده، ذكره ابن أبي موسى تخريجاً، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، وأومى إليه في رواية حرب، وأنكر صاحب المحرر الرواية الأولى، وقال: لا يتوجه إلا على رأي من يرى قراءة السورة في كل ركعة، أو على رأي مَن يرى قراءة السورة في الأخريين إذا نسيها في الأوليين. انتهى ملخصاً، والله أعلم.

والذي يترجح عندنا: أن ما أدركه المسبوق أول صلاته، لأن رواية من روى:"فأتموا " أكثر وأصح عند كثير من أهل الحديث، مع أن رواية:"فاقضوا " لا تخالف رواية: "فأتموا "، لأن القضاء يرد في اللغة بمعنى التمام، كما قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [سورة الجمعة آية: 10]، وقال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [سورة البقرة آية: 200] ، قال في الفتح، في قوله صلى الله عليه وسلم:" وما فاتكم فأتموا " 1 أي: أكملوا؛ هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواه ابن عيينة بلفظ:"فاقضوا "، وحكم عليه مسلم بالوهم في هذه اللفظة، مع أنه أخرج إسناده في صحيحه لكنه لم يسق لفظه.

قال: والحاصل: أن أكثر الروايات ورد بلفظ: "فأتموا "، وأقلها بلفظ:"فاقضوا "، وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحداً

1 البخاري: الأذان (635)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) ، وأحمد (5/306)، والدارمي: الصلاة (1283) .

ص: 401

واختلفوا في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك، لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالباً، لكن يطلق على الأداء أيضاً، ويرد بمعنى الفراغ، كقوله تعالى:: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} الآية [سورة الجمعة آية: 10] ، ويرد لمعان آخر، فيحمل قوله هنا:"فاقضوا " على معنى الأداء، والفراغ، فلا يغاير قوله:"فأتموا "، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية:"فاقضوا " على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته، حتى استحب الجهر في الركعتين الأخيرتين، وقراءة السورة، وترك القنوت، بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخراً له، لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصاً; فظهر لك: أن هذا القول هو الراجح، والله أعلم.

سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: عن المسبوق إذا كان في التشهد الأخير مع الإمام، هل يقتصر على التشهد الأول، أم لا؟

فأجاب: إذا جلس المسبوق في التشهد الأخير، فالمشهور أنه يكرر التشهد الأول، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ نص عليه أحمد فيمن أدرك مع الإمام ركعة، قال: يكرر التشهد الأول، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدعو بشيء مما يدعى به في التشهد الذي يسلم عقبه، وليس هذا كذلك.

ص: 402

وأجاب الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: الذى يترجح عندي: متابعة الإمام في التشهد.

سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عمن يجلس خلف إمامه بقدر الفاتحة؟

فأجاب: من جلس في أول قيام إمامه في الركعة الثانية أو الرابعة إلى قريب فراغ إمامه من الفاتحة ونحوه، فالذي أرى بطلان صلاته، والله أعلم.

سئل الشيخ عبد الله بن حمد الحجازي: عن المسبوق إذا قام قبل فراغ إمامه من السلام، هل تصح صلاته؟

فأجاب: إن كان قبل الفراغ من التسليمة الأولى فهي باطلة، وتكون الصلاة نفلاً، وإن كان قبل الفراغ من التسليمة الثانية، فعلى القول بوجوبها تكون نفلاً أيضاً؛ فينبغي للمسبوق ترك القيام قبل التسلمية الثانية، خروجاً من الخلاف.

ص: 403