الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الرابع: (القسم الأول من كتاب العبادات)
*
فصل: في أصول مأخذهم
…
فصل في أصول مأخذهم أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها
قال شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
هذه أربع قواعد، من قواعد الدين، التي تدور الأحكام عليها، وهي: من أعظم ما أنعم الله به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، حيث جعل دينهم ديناً كاملاً وافياً، أكمل وأكثر علماً من جميع الأديان؛ ومع ذلك، جمعه لهم في لفظ قليل، وهذا مما ينبغي التفطن له، قبل معرفة القواعد الأربع، وهو أن تعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر ما خصه الله به على الرسل، يريد منا أن نعرف منة الله علينا، ونشكرها. قال لما ذكر الخصائص:" وأُعطيت جوامع الكلم " 1، قال إمام الحجاز، محمد بن شهاب الزهري: معناه: أن يجمع الله له المسائل الكثيرة، في الألفاظ القليلة.
القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .
1 البخاري: الجهاد والسير (2977)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (523)، والنسائي: الجهاد (3087، 3089) ، وأحمد (2/264، 2/268، 2/314) .
القاعدة الثانية: أن كل شيء سكت عنه الشارع، فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه، أو يوجبه، أو يستحبه، أو يكرهه، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [سورة المائدة آية: 101] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها ".
القاعدة الثالثة: أن ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج، قال الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران آية: 7] . والواجب على المسلم: اتباع المحكم؛ فإن عرف معنى المتشابه، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] .
القاعدة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات " 1؛ فمن لم يفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل، فقد ضل وأضل.
فهذه أربع قواعد، ثلاث ذكرها الله في كتابه، والرابعة ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم رحمك الله، أن أربع هذه الكلمات، مع اختصارها، يدور عليها الدين، سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير، أو في علم الأصول، أو في علم أعمال
1 البخاري: الإيمان (52)، ومسلم: المساقاة (1599)، والترمذي: البيوع (1205)، والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710)، وأبو داود: البيوع (3329)، وابن ماجة: الفتن (3984) ، وأحمد (4/269، 4/270)، والدارمي: البيوع (2531) .
القلوب الذي يسمى: علم السلوك، أو في علم الحديث، أو في علم الحلال والحرام والأحكام، الذي يسمى: علم الفقه، أو في علم الوعد والوعيد، أو في غير ذلك من أنواع علوم الدين. أنا أمثل لك مثلاً، تعرف به صحة ما قلته، وتحتذى عليه إن فهمته، وأمثله لك في فن من فنون الدين، وهو علم الفقه، وأجعله كله في باب واحد منه، وهو الباب الأول. قلت: يأتي في باب 1 الطهارة إن شاء الله تعالى.
وقال أيضاً: ومن أعظم ما منّ الله به عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته: إعطاء جوامع الكلم: فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة، تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر؛ وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خصه الله بالحكمة الجامعة؛ ومن فهم هذه المسألة فهماً جيداً فهم قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . وهذه الكلمة أيضاً من جوامع الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة، فعُلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما أوصانا به في قوله:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "2.
1 أي: في باب المياه، من كتاب الطهارة صفحة:135.
2 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
وتفهم أيضاً: معنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . فإذا كان الله سبحانه قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي: إلى كتاب الله، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي: إلى سنته، علمنا قطعا: أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه، وجد فيهما ما يفصل النّزاع.
وقال أيضاً: إذا اختلف كلام أحمد، وكلام الأصحاب، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله وإلى رسوله، لا إلى كلام أحمد، ولا إلى كلام الأصحاب، ولا إلى الراجح من ذلك؛ بل قد يكون الراجح والمرجح من الروايتين والقولين خطأ قطعاً، وقد يكون صواباً؛ وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل، فالأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل الصواب يصدق بعضه بعضاً، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: إما يستدل بحديث لم يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهوماً مخطئاً؛ وبالجملة: فمتى رأيت الاختلاف، فرده إلى الله والرسول؛ فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين لك، واحتجت إلى العمل، فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه.
وأما قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة؛ فإن أراد القائل مسائل الخلاف، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة؛ فما زال الصحابة
ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائناً من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم. وإذا كان الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه، وينكر عليه.
وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس؛ فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم; وهذا كله داخل في قوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36] . وأما قول من قال: اتفاق العلماء حجة، فليس المراد الأئمة الأربعة، بل إجماع الأمة كلهم، وهم علماء الأمة.
وأما قولهم: اختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، كما قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 118-119] . ولما سمع عمرُ ابنَ مسعود، وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر، وقال:"اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "; لكن قد روي عن بعض التابعين، أنه قال: ما أحسب اختلاف
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، ومراده شيء آخر غير ما نحن فيه؛ ومع هذا، فهو قول مستدرك، لأن الصحابة ذكروا اختلافهم عقوبة وفتنة.
وقال أيضاً: قد تبين لكم في غير موضع، أن دين الإسلام حق بين باطلين، وهدى بين ضلالتين؛ وهذه المسائل 1 وأشباهها مما يقع الخلاف فيه بين السلف والخلف من غير نكير من بعضهم على بعض؛ فإذا رأيتم من يعمل ببعض هذه الأقوال المذكورة بالمنع، مع كونه قد اتقى الله ما استطاع، لم يحل لأحد الإنكار عليه، اللهم إلا أن يتبين الحق، فلا يحل لأحد أن يتركه لقول أحد من الناس.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في بعض المسائل من غير نكير، ما لم يتبين النص؛ فينبغي للمؤمن أن يجعل همه وقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم، ويوقرهم ولو أخطؤوا، لكن لا يتخذهم أرباباً من دون الله؛ هذا طريق المنعم عليهم، وأما إطراح كلامهم، وعدم توقيرهم، فهو طريق المغضوب عليهم. واتخاذهم أرباباً من دون الله، وإذا قيل:
1 أي: إخراج العروض زكاة، والمضاربة بها. وكذا المغشوش، وتأتي إن شاء الله تعالى.
قال الله، قال رسول الله، قال: هم أعلم منا، فهذا هو طريق الضالين. ومِن أهم ما على العبد وأنفع ما يكون له: معرفة قواعد الدين على التفصيل؛ فإن أكثر الناس يفهم القواعد ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل.
وقال أيضاً: اختلفوا في الكتاب، وهل يجب تعلمه واتباعه على المتأخرين لإمكانه؟ أم لا يجوز للمتأخرين، لعدم إمكانه؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله تعالى:{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} الآية [سورة طه آية: 99-100]، وقوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124]، وقوله:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] .
وسئل: عن قول الشيخ تقي الدين: ولتكن همته فهم مقاصد الرسول، في أمره ونهيه، ما صورته؟
فأجاب: مراده ما شاع وذاع: أن الفقه عندهم هو: الاشتغال بكتاب فلان وفلان; فمراده التحذير من ذلك. وقال أيضاً: كذلك غيركم، إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا الأئمة؛ فهؤلاء الحنابلة، من أقل الناس بدعة، وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعرف ذلك من عرفه.
وقال أيضاً: ذكر الشيخ تقي الدين، رحمه الله، قواعد:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سن أمرين، وأراد أحد يأخذ بأحدهما ويترك الآخر، أنه لا ينكر عليه، كالقراءات الثابتة، ومثل الذين اختلفوا في آية، فقال أحدهما: ألم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال:" كل منكما محسن "؛ فأنكر الاختلاف، وصوب الجميع في الآية.
الثانية: إذا أم رجل قوماً، وهم يرون القنوت، أو يرون الجهر بالبسملة، وهو يرى غير ذلك، والأفضل ما رأى؛ فموافقتهم أحسن، ويصير المفضول، هو الفاضل.
وقال ابنا الشيخ: الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، رحمهم الله: عقيدة الشيخ، رحمه الله، التي يدين الله بها هي عقيدتنا، وديننا الذي ندين الله به، وهي عقيدة سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو: اتباع ما دل عليه الدليل، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرض أقوال العلماء على ذلك؛ فما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وأفتينا به، وما خالف ذلك، رددناه على قائله.
وهذا هو الأصل الذي أوصانا به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59]، أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وأن
الرد إلى الرسول هو: الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة؛ وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه، فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا مستحباً، بل واجباً عليه إذا تبين له الدليل، ولا يكون بذلك مخالفاً لإمامه الذي اتبعه؛ فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي لأصحابه: إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ: إذا صح الحديث عندكم فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد، رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان؛ والله يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال لبعض أصحابه: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، وتعلموا كما تعلمنا. وكلام الأئمة في هذا كثير جداً، ومبسوط في غير هذا الموضع.
وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب، فنرجو
أنه يجوز له العمل به، لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم؛ ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله، حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة; وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً؛ والذي ننكره هو التعصب للمذاهب، وترك اتباع الدليل.
وقالا أيضاً: اعلم أن مسائل الخلاف بين الأئمة، لا إنكار فيها، إذا لم يتبين الدليل القاطع; والصحابة، رضي الله عنهم، قد اختلفوا في أشياء من مسائل الفروع، ولم ينكر بعضهم على بعض؛ وكذلك العلماء بعدهم، وأن كلاً منهم قد قال بما عنده من العلم.
وقالا أيضاً، لما سئلا عن العمل بصريح الحديث: الذي ينبغي لطالب العلم: أن يبحث عن كلام أهل العلم في المسألة التي دل عليها الحديث، وهل هو معمول به عندهم، أم هو منسوخ؟ أم قد عارضه ما هو أقوى منه؟ فإذا فعل ذلك، وعرف مذاهب العلماء في المسألة، وتبين له أن الحديث محكم صحيح، وجب عليه العمل به؛ هذا إذا كان الإنسان من أهل المعرفة بالحديث، وكلام العلماء، وكان قد سبقه إليه من أهل العلم من يقتدى به، ولو خالف مذهبه الذي ينتسب إليه؛ وإذا كان الرجل ليس له معرفة بالحديث، وكلام العلماء، وترجيح الأقوال، فإنما وظيفته تقليد أهل العلم،
قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] .
وقال أيضاً الشيخ: عبد الله ابن الشيخ: ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم؛ بل لا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد منا يدعيها، إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة، غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به، وتركنا المذهب.
وعندنا: أن الإمام ابن القيم، وشيخه: إماما حق، من أهل السنة، وكتبهم من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا صلى الله عليه وسلم.
[الرد إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف]
وقال أيضاً الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار.
إلى: عبد الله بن عبد الله الصنعاني، سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار على من أشرك وابتدع؛ والصلاة والسلام على محمد، الذي قامت به على الخلق الحجة، وبين وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.
أما بعد: فقد وصل جوابكم، وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم على ما نحن عليه من الدين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرسول الأمجد، سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة، ثم التابعين لهم
بإحسان، فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا؛ لكن كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته: العمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31]، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 2] .
وكل يدّعي وصلاً لليلى
…
وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنحن: أقمنا الفرائض، والشرائع، والحدود، والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علَم الجهاد على أهل الشرك والعناد، فلله الحمد والمنة.
وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريد أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه، فنعم ما قلتم، وإن تريدوا بقولكم ذلك التقليد له فيما رآه وقال، من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة، كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة، من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين، واطرحوا الاحتجاج من الكتاب والسنة، وسدوا بابهما، إلى آخره. انتهى ملخص كلامكم.
فالجواب عليه من وجوه، وبالله التوفيق:
الوجه الأول: إن في رسالتنا التي عندكم ما رد هذا التوهم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1، رواه البخاري ومسلم؛ فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله، فما وافق منها قُبل، وما خالف رُد على قائله وفاعله كائناً من كان
…
إلخ. فتضمن هذا الكلام: أنه لا يقدم رأي أحد على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعجب: كيف نبا فهمكم عنها؟!
الوجه الثاني: قد صرح العلماء، أن النصوص الصحيحة الصريحة، التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع، لا مذاهب فيها؛ وإنما المذاهب فيما فهمه العلماء من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد، ونحو ذلك.
الوجه الثالث: قد ذكر العلماء، أن لفظة:"المذهب" لها معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح: فالمذهب في اللغة: مفعل، ويصح للمصدر، والمكان، والزمان، بمعنى الذهاب، وهو المرور، أو محله أو زمانه. واصطلاحاً: ما ترجح عند المجتهد في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقداً، أو مذهباً. وعند بعضهم: ما قاله مجتهد بدليل، ومات قائلاً به. وعند بعضهم: أنه المشهور في مذهبه، كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومس الذكر ونحوه عند أحمد؛ ولا يكاد يطلق إلا على ما فيه خلاف. وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء:
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجة: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240، 6/270) .
ما ذهب إليه إمام من الأئمة المجتهدين. ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، وهو ما قوي دليله; وقيل: ما كثر قائله. فقد تلخص من كلامهم: أن المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليل، أو قول جمهور، أو ما ترجح عنده، ونحو ذلك، وأن المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف، التي ليس فيها نص صريح، ولا إجماع؛ فأين هذا من توهمكم أن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى وقال، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع؛ فنعوذ بالله من ذلك، والله المستعان.
الوجه الرابع: قال ابن القيم في: إعلام الموقعين - لما ذكر المفتين بمدينة السلام - وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق، أحمد بن حنبل، الذي ملأ الأرض علماً وحديثاً وسنة - إلى أن قال - وكانت فتواه مبنية على خمسة أصول، أحدها: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه، كائناً من كان.
ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد، ولم يلتفت إلى ما خالفها - إلى أن قال - الأصل الثاني من فتوى الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعْدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع؛ بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئاً
يدفعه، ونحو هذا - إلى أن قال - الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة، تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم.
فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال، حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول - إلى أن قال - الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل، والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في رواته متهم، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس؛ وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة.
فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نص، ولا قول الصحابة، ولا أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس، وهو: القياس، فاستعمله للضرورة; وقال الشافعي: إنما يعار إليه عند الضرورة. وقال الإمام أحمد - في رواية أبي الحارث -: ما تصنع بالرأي والقياس، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟!
وقد يتوقف في الفتوى، لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها; وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم، فيقول: لا أدري.
انتهى كلام ابن القيم ملخصاً؛ فهذا ما أشرنا إليه من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.
وأما ما ذكرتم: من ذم من قلد الإمام أحمد وغيره، وأطلقتم الذم، فليس الأمر على إطلاقكم؛ فإن تريدوا بذم التقليد تقليد من أعرض عما أنزل الله، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن قلد بعد ظهور الحجة له، ومن قلد من ليس بأهل أن يؤخذ بقوله، ومن قلد واحداً من الناس فيما قال دون غيره، فنعم المسلك سلكتم.
وإن تريدوا بذلك الإطلاق: منع الناس، لا ينقل بعضهم عن بعض، ولا يفتي أحد لأحد إلا مجتهد، فقد قال تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، قال علي بن عقيل، صاحب الفنون، ورؤوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه الآية; وأمر الله بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي العلم، وهم العلماء، أو العلماء والأمراء; وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة:" ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال "1.
وأيضاً، فأين تدرك هذه في هذه الأزمنة التي قل العلم في أهلها، وقل فيه المجتهدون؛ وقد صرح العلماء أن تقليد الإنسان لنفسه جائز وربما كان واجباً، وكذا المفتي للضرورة، وعدم المجتهد يجوز أن يفتي بالتقليد.
1 أبو داود: الطهارة (336) .
قال ابن القيم، في أول الجزء الثاني من إعلام الموقعين: ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب; فأما الأول فهو ثلاثة أنواع: الأول: الإعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء; الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يؤخذ بقوله; الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، على خلاف قول المقلد.
وقد ذم الله هذه الأنواع الثلاثة من التقليد، في غير موضع من كتابه، ثم ذكر آيات في ذم التقليد - إلى أن قال - وهذا القدر من التقليد، هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه، وتحريمه; وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله، وخفي عليه بعضه، وقلد فيه من هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ، إن شاء الله تعالى.
وقال أيضاً في الجزء الأول من إعلام الموقعين: قلت: وهذه المسألة، فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد: أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم؛ والفتوى بغير علم حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء، إذا
كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره؛ فهذا قول ابن بطة، وغيره من أصحابنا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة، وعدم المجتهد؛ وهو أصح الأقوال، وعليه العمل.
قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه، قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد، يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار، يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل، استند إلى بعض سواري المسجد أن يفتي الناس بها. انتهى كلام ابن القيم ملخصاً.
وقال في الإقناع وشرحه، في شروط القاضي: وأن يكون مجتهداً إجماعاً، ذكره ابن حزم; وأنهم أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا مفت، تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، لأنه فاقد الاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه، إذا لم يوجد غيره للضرورة، كما قال في الإفصاح: إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، فإن الحق لا يخرج عنهم، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز إلا تولية مجتهد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه، قبل استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب.
وقال الإمام موفق الدين، أبو محمد، عبد الله بن أحمد المقدسي، في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في
الفروع، كالأئمة الأربعة، ليست بمذمومة؛ فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة.
واختار في الإفصاح والرعاية: أو مقلداً; قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا انقطعت أحكام الناس، وكذا المفتي; قال ابن بشار: ما أعيب على من يحفظ لأحمد خمس مسائل يفتي بها، ونقل عبد الله: يفتي غير مجتهد؛ ذكره القاضي، وحمله أبو العباس ابن تيمية: على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع، وشرحه.
وقال في الإنصاف: قال الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية، في شروط القاضي: ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى للعدم أعدل المقلدين، وأعرفهما للتقليد؛ قال في الفروع: وهو كما قال. انتهى كلام الإنصاف، ملخصاً.
وأما ما ذكرتم عن الأئمة، وقول أبي حنيفة: إذا قلت قولاً، وفي كتاب الله، وسنة رسول الله، ما يخالف قولي، فاعملوا به، واتركوا قولي; وقول الشافعي: إذا صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، واعملوا بالحديث; وكذا ما ذكرتم عن الأئمة الأربعة: أنهم صرحوا بعرض أقوالهم، على الكتاب والسنة، فما خالف منها رد؛ وقد تقدم في أصول أحمد أنه إذا صح الحديث لم يقدم عليه قول أحد؛ فهذا قد تقرر عندنا ولله الحمد والمنة.
وأما قولكم: إن مرادنا بقولنا: لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة ولو أشركوا وابتدعوا، فنعوذ بالله من ذلك؛ بل نترك الباطل، ونقبل الحق ممن جاء به، فإن كل أحد يُؤخذ من قوله ويترك، إلا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
وأما قولكم: والمختار: أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم، فينظر في صحة الحديث أولاً، فإذا صح، نظرنا في معناه ثانياً، فإذا تبين، فهو الحجة. انتهى كلامكم.
فهل أنتم مجتهدون؟ أم تأخذون عن أقوال المفسرين، وشراح الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة؟ فإن كان الثاني: فأخبرونا عن أكثر من تأخذون عنه، وترضون قوله من علماء أهل السنة؟ وفقنا الله وإياكم من العمل ما يرضيه، وجنبنا وإياكم العمل بمناهيه، وسامحنا وإياكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا مقبولة لديه، والله أعلم.
وقال أيضاً الشيخ: عبيد الله بن الشيخ، رحمهما الله تعالى:
وأما قولكم: إن أهل هذا الدين، بلغنا أنهم يعتمدون على مذاهب الأئمة الأربعة، وأنكروا علم أهل البيت، وأقوالهم ومذاهبهم؛ فالذي نحن عليه: اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على تفسير الأئمة لكتاب الله وسنة
رسوله، لأنهم أعلم بكتاب الله منا. فإذا اختلفوا في مسائل الفروع، عرضنا أقوالهم، ورددناها إلى كتاب الله وسنة رسوله: فما كان أقرب إلى ذلك اتبعناه، كما أمرنا الله بذلك في قوله:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ؛ والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فالرد إليه في حياته، وبعد موته إلى ما صح من سنته، كما فسره بذلك المفسرون من السلف والخلف.
وقال أيضاً: هو، والشيخ إبراهيم، وحسين، وعلي، وحمد بن ناصر:
وأما قولكم: هل يجب على المكلف التقليد، في المسائل المختلف فيها، فهذا يحتاج إلى تفصيل وبسط، ليس هذا موضعه، لكن الواجب على المكلف: أن يتقي الله ما استطاع، كما قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16]، وقال تعالى:{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَاّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 233] ؛ فإن كان المكلف فيه أهلية لمعرفة دلائل المسائل، من الكتاب والسنة، وجب عليه ذلك، باتفاق العلماء، وإن لم يكن فيه أهلية، كحال العوام الذين لا معرفة لهم بأدلة الكتاب والسنة، فهؤلاء يجب عليهم التقليد، وسؤال أهل العلم فقط، كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ؛ وهذا في غير أصول الدين.
وأما الأصول، فلا يجوز التقليد فيها بالإجماع، بل يجب على كل مكلف معرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعث به من التوحيد، وما أخبر به عن الله من البعث بعد الموت، والجنة والنار، ومثل وجوب الفرائض، من الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، ونحو هذا؛ فلا يجوز التقليد في هذا، والمقلد فيه ممن يعذب في البرزخ، كما ثبت ذلك في الأحاديث منها قوله:" وأما المنافق والمرتاب، فيقول: هاه، هاه، لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "1.
وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: ما قولكم، نور الله قلوبكم لفك المعضلات، ووفقكم للأعمال الصالحات، هل يلزم المبتدئين المتعلمين، الترقي إلى معرفة الدليل الناص على كل مسألة؟ ومعرفة طرقه، وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث، إنه صحيح أو حسن؟ أو يكفيهم العلم بالفقهيات المجردة عن الدليل ويغنيهم؟ هذا فيمن طلب العلم، وتأهل له، فما الحال في العوام، هل يجزئهم مجرد التقليد؟
وأيضاً: حكى بعض المتأخرين الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؛
1 البخاري: العلم (86)، ومسلم: الكسوف (905)، ومالك: النداء للصلاة (447) .
فأفيدونا واحتسبوا فإن الحاجة ماسة إلى هذه المباحث. فإن تفضلتم بطول الجواب، وذكر الدليل، ومن قال به، فهو المطلوب.
فأجاب: لا ريب أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف آية: 3]، وقال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، ولم يوجب الله على هذه الأمة طاعة أحد بعينه، في كل ما يأمر به، وينهى عنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتفق العلماء، على أنه: ليس أحد معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون: فقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه. وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب؛ فانظروا في قولي، فكل ما خالف الكتاب والسنة، فاتركوه.
وقال ابن القاسم: كان مالك يكثر أن يقول: إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط; وإذا رأيت الحجة على الطريق فهي قولي. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني، ولا تقلدوا
مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا؛ وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال. وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا.
وقال ابن عبد البر: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله؛ ولهذا جعل الفقهاء من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، فلا يصح أن يتولاه المقلد؛ هذا الذي عليه جمهور العلماء؛ قال في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك.
وقال الموفق في المغنى: يشترط في القاضي ثلاثة شروط: أحدها: الكمال; وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة; والثاني: العدالة؛ والثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد؛ وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً، فيحكم بالتقليد، لأن الغرض فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين.
ولنا: قوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49] ، ولم يقل بالتقليد، وقال:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [سورة النساء آية: 105]، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وروى بريدة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار " 1، رواه ابن ماجة. والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى. انتهى.
وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب المشهور، وعليه معظم الأصحاب; قال ابن حزم: يشترط كونه مجتهداً إجماعاً، وقال: أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت، تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله، وقال في الإفصاح: الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم; واختار في الترغيب: ومجتهداً في مذهب إمامه للضرورة، واختار في الإفصاح والرعاية: ومقلداً.
قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا تعطلت أحكام الناس؛ وقيل في المقلد: يفتي ضرورة. وذكر القاضي: أن ابن شاقلا اعترض عليه بقول الإمام أحمد: لا يكون فقيهاً حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث، فقال إن كنت لا أحفظه فإني أفتي بقول من يحفظ أكثر منه; قال القاضي: لا يقتضي هذا إن كان يقلد أحمد، لمنعه الفتيا بلا علم; قال بعض الأصحاب: ظاهره تقليده، إلا أن يحمل على أخذ طرق
1 أبو داود: الأقضية (3573)، وابن ماجة: الأحكام (2315) .
العلم عنه; وقال ابن بشار - من الأصحاب -: لا أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها، قال القاضي: هذا منه مبالغة في فضله، وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة. انتهى ملخصاً.
وذكر ابن القيم في مسألة التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام؛ ولا خلاف بين الناس: أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية.
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء، إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره؛ وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا.
الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد؛ وهذا أصح الأقوال، وعليه العمل. انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله.
فتبين بما ذكرناه: أن المقلد ليس بعالم، وأن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة للضرورة؛ ولكن قد دعت الحاجة
والضرورة إليه من زمان طويل، لا سيما في هذا الوقت، وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع:
أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، فهذا لا يجوز؛ وقد اتفق السلف والأئمة على ذمه وتحريمه. قال الشافعي، رحمه الله: أجمع المسلمون على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، فهذا مذموم أيضاً لأنه عمل على جهل، وإفتاء بغير علم، مع قدرته وتمكنه من معرفة الدليل المرشد، والله تعالى قد أوجب على عباده أن يتقوه بحسب استطاعتهم، فقال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم "1. فالواجب على كل عبد: أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله؛ ولم يكلف الله عباده ما لا يطيقونه، بل الواجب على العبد ما يستطيعه من معرفة الحق، فإذا بذل جهده في معرفة الحق، فهو معذور فيما خفي عليه.
النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو: تقليد أهل العلم
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، وابن ماجة: المقدمة (2) ، وأحمد (2/258 ،2/428) .
عند العجز عن معرفة الدليل; وأهل هذا النوع، نوعان أيضاً: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء: لهم التقليد بغير خلاف; بل حكى غير واحد: إجماع العلماء على ذلك.
النوع الثاني: من كان محصلاً لبعض العلوم، وقد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتب متأخري الأصحاب كالإقناع والمنتهى، في مذهب الحنابلة، أو المنهاج ونحوه في مذهب الشافعية أو مختصر خليل ونحوه في مذهب المالكية أو الكنْز ونحوه في مذهب الحنفية، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضاً، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] .
ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة، وذلك لقوله تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1؛ ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء، ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء يبادرون إلى إجابة سؤالهم، من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن
1 أبو داود: الطهارة (336) .
ذلك من غير نكير، فكان إجماعاً على جواز اتباع العامي العلماء المجتهدين.
ويلزم هذا العامي: أن يقلد الأعلم عنده، كما يلزمه في مسألة القبلة; فإذا اجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة، فاختلفا في الجهة، اتبع المقلد أوثقهما عنده; ولا يجوز له أن يتبع الرخص، بل يحرم ذلك عليه، ويفسق به; قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، ولا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه، قال الشيخ تقي الدين: في الأخذ برخص المذهب وعزائمه، طاعة لغير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع؛ وتوقف أيضاً في جوازه.
وبالجملة: فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب، فَرْضُه التقليد؛ فإذا وقعت له حادثة، استفتى من عرفه عالماً عدلاً، أو رآه منتصباً للإفتاء والتدريس; واعتبر الشيخ تقي الدين، وابن الصلاح الاستفاضة بأنه أهل للفتيا، ورجحه النووي في الروضة، ونقله عن أصحابه.
وقال الشيخ تقي الدين: لا يجوز أن يستفتي إلا من يفتي بعلم وعدل; فعلى هذا لا يكتفى بمجرد انتسابه إلى العلم، ولو بمنصب تدريس أو غيره، لا سيما في هذا الزمان، الذي غلب فيه الجهل، وقل فيه طلب العلم،
وتصدى فيه جهلة الطلبة للقضاء والفتيا; فتجد بعضهم يقضي ويفتي، وهو لا يحسن عبارة الكتاب، ولا يعلم صورة المسألة; بل لو طولب بإحضار تلك المسألة، وهي في الكتاب، لم يهتد إلى موضعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
شعرا:
لقد هزلتْ حتى بدا من هزالها
…
كلاها وحتى استامها كل مفلسِ
قال في شرح مختصر التحرير: ويلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بعلم، أو جهل حاله، من الفتيا; قال ربيعة: بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق; ولا تصح الفتيا من مستور الحال; وما يجيب به المقلد من حكم، فإخبار عن مذهب إمامه، لا فتيا، قاله أبو الخطاب، وابن عقيل، والموفق، ويعمل بخبره إن كان عدلاً، لأنه ناقل كالراوي.
ولعامي تقليد مفضول من المجتهدين، عند الأكثر من أصحابنا، منهم القاضي، وأبو الخطاب، وصاحب الروضة; وقاله الحنفية، والمالكية، وأكثر الشافعية، وقيل: يصح إن اعتقده فاضلاً، أو مساوياً، لا إن اعتقده مفضولاً، لأنه ليس من القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل، وابن سريج، والقفال، والسمعاني: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح، ومعناه: قول الخرقي، والموفق في المقنع; ولأحمد: روايتان.
ويلزمه إن بان له الأرجح تقليده في الأصح، زاد بعض
أصحابنا وبعض الشافعية: في الأظهر، ويقدم الأعلم على الأورع، ويخير في تقليد أحد مستورين عند أكثر أصحابنا; قال في الرعاية: ولا يكفيه من تسكن نفسه إليه، بل لا بد من سكون النفس والطمأنينة به، ويحرم عليه تتبع الرخص، ويفسق به.
وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم، والآخر بخلافه، يخير في الأخذ بأيهما شاء، على الصحيح؛ اختاره القاضي، والمجد، وأبو الخطاب; وذكر أنه ظاهر كلام أحمد; وقيل: يأخذ بقول الأفضل منهما علماً وديناً، وهذا اختيار الموفق في الروضة.
ويحرم تساهل مفت، وتقليد معروف به، لأن الفتيا أمر خطر، فينبغي أن يتبع السلف الصالح في ذلك، فقد كانوا يهابون الفتيا كثيراً؛ وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: إذا هاب الرجل شيئاً لا ينبغي أن يحمل على أن يقول به.
قال بعض الشافعية: من اكتفى في فتياه بقول أو وجه في المسألة، من غير نظر في الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع; وذكر عن أبي الوليد الباجي أنه ذكر عن بعض أصحابهم، أنه كان يقول: الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التي توافقه، قال أبو الوليد: وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع. انتهى كلامه في شرح المختصر ملخصاً.
وهذا الذي ذكره أبو الوليد: ذكر مثله الشيخ تقي الدين، وصاحب الإنصاف، وغيرهما; قال في الاختيارات: وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، أو بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً; وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان.
ويجب تولية الأمثل فالأمثل; وعلى هذا يدل كلام أحمد، وغيره، فيولى مع عدم العدل أنفع الفاسقين، وأقلهما شراً، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد. فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه، ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. انتهى.
وقول السائل، وفقه الله: هل يلزم المبتدئين المتعلمين، الترقي إلى معرفة الدليل، الناص على كل مسألة؟
جوابه: يعلم مما تقدم، وهو أن عليه أن يتقي الله بحسب استطاعته، فيلزمه من ذلك ما يمكنه، ويسقط عنه ما يعجز عنه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] ؛ فلا يهجم على التقليد، ويخلد إلى أرضه، مع قدرته على معرفة الدليل، لا سيما إذا كان قاضياً أو مفتياً، وله ملكة قوية يقوى بها على الاستدلال ومعرفة الراجح.
فإن الرجل النبيه، الذي له فهم، وفيه ذكاء، إذا سمع
اختلاف العلماء، وأدلتهم في الكتب التي يذكر فيها أقوال العلماء وأدلتهم، كالمغنى، والشرح، والتمهيد لابن عبد البر، ونحو هذه الكتب، يحصل عنده في الغالب ما يعرف به رجحان أحد القولين؛ فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب ولم يعلم له ناسخاً، ولا معارضاً، فخالف مذهبه واتبع الإمام الذي قد أخذ بالدليل، كان مصيباً في ذلك; بل هذا الواجب عليه، ولم يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.
قال في الاختيارات: من كان متبعاً لإمام، فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن; وقال أبو العباس في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع.
وقال أيضاً: أكثر من يميز في العلم من المتوسطين، إذا نطر، وتأمل أدلة الفريقين، بقصد حسن، ونظر تام، ترجح عنده أحدهما؛ لكن قد لا يثق بنظره، بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه; والواجب على مثل هذا: موافقته للقول الذي ترجح عنده، بلا دعوى منه للاجتهاد، كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة، إذا ترجح عنده أحدهما قلده؛ والدليل
الخاص الذي يرجح به قول على قول، أولى بالاتباع من دليل عام، على أن أحدهما أعلم أو أدين، لأن الحق واحد ولا بد، ويجب أن ينصب على الحكم دليلاً. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين في بعض أجوبته: قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " 1، ولازم ذلك: أن من لم يفقهه في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضاً; والفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية; فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً; لكن من الناس من قد يعجز عن الأدلة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، ويلزمه ما يقدر عليه.
وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال; والاجتهاد: ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزؤ والانقسام، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة، دون فن وباب ومسألة.
وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه; فمن نظر في مسألة تنازع فيها العلماء، ورأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً، بعد نظر مثله، فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل
1 البخاري: العلم (71)، ومسلم: الزكاة (1037)، وابن ماجة: المقدمة (221) ، وأحمد (4/93، 4/95، 4/98)، ومالك: الجامع (1667)، والدارمي: المقدمة (224، 226) .
على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره باشتغاله على مذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، وحينئذ فيكون موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل؛ فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنَزّلنا هذا التنزل، لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تاماً في هذه المسألة، لضعف آلة الاجتهاد في حقه.
أما إذا قدر على الاجتهاد التام، الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النصوص، فهذا يجب عليه اتباع النصوص; وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله ورسوله، بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، وأنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن آية: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " 1؛ والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحا، ً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده؛ وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم: الحج (1337)، وابن ماجة: المقدمة (2) ، وأحمد (2/258، 2/428) .
من الحق، هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي ترجحت حجته.
وأما الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة، واتباع هوى، فهذا مذموم. وإذا كان الإمام المقلد قد سمع الحديث وتركه، لا سيما إن كان قد رواه أيضاً، فمثل هذا لا يكون عذراً في ترك النص، فقد بينا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحو عشرين عذراً للأئمة، في ترك العمل ببعض الحديث، وبينا أنهم يعذرون في الترك لتلك الأعذار.
وأما نحن فلسنا معذورين في تركنا لهذا القول؛ فمن ترك الحديث، لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس، أو عمل بعض أهل الأمصار، وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً في حقه.
فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها عنها أمر لا ينضبط طرفاه، لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار من أهل المدينة المنورة النبوية، الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو له معارض راجح، وقد بلغ مَن بَعدَه أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل عمل به طائفة منهم،
أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض.
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم، أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد عارضه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة؛ فكما أن الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النّزاع، إذا تنازعوا في شيء رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، فكذلك موارد النّزاع بين الأئمة.
وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود، في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول مَن هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره، لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية، لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" هذه وهذه سواء "1.
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في التمتع، فقال له:"إن أبا بكر وعمر يقولان، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! "; وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها، فعارضوه بقول عمر، فبين أن عمر يرد ما يقولونه، فألحوا عليه، فقال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع، أم أمر عمر؟ " مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر، وابن عباس.
1 البخاري: الديات (6896)، والترمذي: الديات (1392)، والنسائي: القسامة (4847)، وأبو داود: الديات (4558)، وابن ماجة: الديات (2652) ، وأحمد (1/227، 1/339، 1/345) .
ولو فتح هذا الباب، لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، يشبه ما عاب الله به النصارى في قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] . انتهى كلام الشيخ، رحمه الله تعالى.
وأما سؤال السائل: عن الترقي إلى معرفة طرق الحديث وصحته؟ أم تقليد المخرجين للحديث، في أنه صحيح أو حسن، يكفيهم؟
فجوابه: أن ذلك يكفيهم، قال في شرح مختصر التحرير: ويشترط في المجتهد: أن يكون عالماً بصحة الحديث، وضعفه، سنداً ومتناً، ولو كان علمه بذلك تقليداً، كنقله من كتاب صحيح من كتب الحديث المنسوبة إلى الأئمة، كمالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، ونحوهم، لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم، كما يؤخذ بقول المقومين في القيم. انتهى.
وقال في مسودة ابن تيمية: العامي الذي ليس معه آلة الاجتهاد في الفروع يجوز له التقليد فيها، عند الشافعية والجمهور؛ وقال أبو الخطاب: يجوز له الرجوع إلى أهل الحديث في الخبر، وكون سنده صحيحاً أو فاسداً، ولا يلزمه أن يتعلم ذلك بالإجماع. انتهى.
وقال عبد الرحيم ابن الحسين العراقي في ألفيته:
وأخذ متن من كتاب لعملْ
…
أو احتجاج حيث ساغ قد جعلْ
عرضاً له على أصول يشترطْ
…
وقال يحيى النووي أصل فقطْ
ثم قال المؤلف في شرحه: أي وأخذ الحديث من كتاب، من الكتب المعتمدة لعمل به، أو احتجاج به، إن كان ممن يسوغ له العمل بالحديث والاحتجاج به، جعل ابن الصلاح شرطه: أن يكون ذلك الكتاب، مقابلاً بمقابلة ثقة، على أصول صحيحة متعددة، مروية روايات متنوعة; قال النووي: فإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه.
وقال ابن الصلاح في قسيم الحسن، حين ذكر أن نسخ الترمذي تختلف في قوله: حسن، أو حسن صحيح، ونحو ذلك: فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه; فقوله: ينبغي، قد يشير إلى عدم اشتراط ذلك، وإنما هو مستحب؛ وهو كذلك. انتهى كلام العراقي.
وقال أبو الحسن البكري الشافعي، في كتابه:"كنْز المحتاج على المنهاج" لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً إلا إذا فوضت إليه واقعة خاصة: فيكفي الاجتهاد في تلك الواقعة، بناء على تجزؤ الاجتهاد، وهو الأصح - إلى أن قال:
وقد يحصل الاجتهاد في باب دون باب آخر؛ ولا حاجة لتتبع الأحاديث، بل يكفي أصل مصحح، اعتني فيه بجميع أحاديث الأحكام، كسنن أبي داود، ولا أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه عند الحاجة، ولا إلى البحث عن رواة حديث أجمع السلف على قبوله، أو تواترت عدالة رواته ويقظتهم; وما عداه يكتفى في رواته بتعديل إمام مشهور، عرفت صحة مذهبه جرحاً وتعديلاً، ولا إلى ضبط جميع مواضع الإجماع والاختلاف; بل يكفي معرفته بعدم مخالفة قوله الإجماع، لموافقته بتقدم عليه، أو غلبة ظن بتولدها في عصره، وكذا في معرفة الناسخ والمنسوخ. انتهى.
وقال في شرح الروض، للقاضي زكريا، لما ذكر أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، قال: والمجتهد: من علم ما يتعلق بالأحكام، من الكتاب والسنة، وعرف منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والنص والظاهر، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وعدالة الرواة وجرحهم، وأقاويل الصحابة فمن بعدهم - إلى أن قال:
ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وأن يكون له في كتب الحديث أصل صحيح، يجمع أحاديث الأحكام، أي غالبها، كسنن أبي داود، فيعرف كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل به، ويكتفى في البحث
عن الأحاديث بما قبله منها السلف، وتواترت أهلية رواته، من العدل والضبط، وما عداه يكتفى في أهلية رواته بتأهل إمام مشهور، عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل. ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق، الذي يفتي في جميع أبواب الشرع. ويجوز أن يتبعض الاجتهاد، بأن يكون العالم مجتهداً في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه. انتهى كلام القاضي.
فتبين بما ذكرناه من المنقول: جواز الاعتماد على نقل الأحاديث من الكتب الصحيحة، وكذا التقليد لأهل الجرح والتعديل، في تصحيح الحديث أو تضعيفه; والله سبحانه أعلم.
وأما قول السائل - وفقه الله لفهم المسائل -: حكى بعض المتأخرين: الإجماع على تقليد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، رحمهم الله.
فنقول: هذا الإجماع حكاه غير واحد من المتأخرين، وكلهم نسبوه إلى الوزير أبي المظفر، يحيى بن هبيرة، صاحب "الإفصاح عن معاني الصحاح"؛ فإنه ذكر نحواً من هذه العبارة، وليس مراده أن الإجماع منعقد على وجوب تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة، وأن الاجتهاد بعد استقرار هذه المذاهب لا يجوز; فإن كلامه يأبى ذلك.
وإنما أراد الرد على من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً، وأن المقلد لا ينفذ قضاؤه، كما هو مذهب كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين; وحمل كلام من اشترط في القاضي أن يكون مجتهداً على ما كانت عليه الحال قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة، وأما بعد استقرار هذه المذاهب فتجوز تولية المقلد لأهلها، وينفذ قضاؤه.
وليس في كلامه ما يدل على أنه يجب التقليد لهؤلاء الأئمة، بحيث أن يلزم الرجل أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة، ولا يخرج عن مذهب من قلده، كما قد يتوهم; بل كلامه يخالف ذلك، ولا يوافقه.
وعبارته في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال يجوز ذلك؛ قال الوزير: والصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار هذه المذاهب الأربعة التي أجمعت الأمة أن كل واحد منها يجوز العمل به، لأنه مستند إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالقاضي الآن، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا يسعى في طلب الأحاديث، وابتغاء طرقها، ولا عرف من لغة الناطق بالشريعة صلى الله عليه وسلم ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد، فإن ذلك مما قد فرغ منه،
ودأب له فيه سواه، وانتهى له الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين، إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، ودونت العلوم وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق، فإذا عمل القاضي في أقضيته بما يأخذ عنهم، أو عن الواحد منهم، فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قول قاله.
وعلى ذلك، فإنه إذا خرج من خلافهم، متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه، كان آخذاً بالحزم، وعاملاً بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف، وتوخى ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، مع جواز علمه أن يعمل بقول الواحد.
إلا أنني أكره له أن يكون ذلك، من حيث إنه قد قرأ مذهب واحد منهم، أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء، فقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب، حتى إنه إذا حضر عنده خصمان، وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم، نحو التوكيل بغير رضى الخصم، وكان الحاكم "حنفياً"، وقد علم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل، وأن أبا حنيفه يمنعه، فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة، إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة، بمجرد أنه قاله فقيه، هو في الجملة من فقهاء الأتباع له، ومن غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله، ولا أداه اجتهاده
إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه، فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه، وأنه ليس من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] .
وكذلك إن كان القاضي "مالكياً" فاختصم إليه اثنان في سؤر الكلب، فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته، فعدل إلى مذهبه؛ وكذلك إن كان القاضي "شافعياً" فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً، فقال أحدهما: هذا منعني بيع شاة مذكاة، فقال الآخر: إنما منعته من بيع الميتة، فقضى عليه بمذهبه، وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه.
وكذلك: إن كان القاضي "حنبليا" فاختصم إليه اثنان، فقال أحدهما: لي عليه مال، فقال الآخر: كان له علي مال فقضيته، فقضى عليه بالبراءة من إقراره، مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه; فإن هذا وأمثاله، مما توخي اتباع الأكثرين فيه، أقرب عندي إلى الإخلاص، وأرجح في العمل؛ وبمقتضى هذا، فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة، وأنهم قد سدوا ثغراً من ثغور الإسلام، سده فرض كفاية.
ولو أهملت هذا القول ولم أذكره، ومشيت على الطريق التي يمشي عليها الفقهاء، الذين يذكر كل منهم في كتاب إن
صنفه، أو كلام إن قاله، أنه لا يصح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء، ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة، والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به، ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية.
وهذا غير صحيح; بل الصحيح في المسألة: أن ولايات الحكام جائزة وأن حكوماتهم اليوم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعاً. انتهى كلام ابن هبيرة، رحمه الله تعالى. فقد تضمن هذا الكلام: أن تولية المقلد جائزة، إذا تعذرت تولية المجتهد، لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام، وأن هذا كالإحالة، وكأنه تعطيل للأحكام، وسد لباب الحكم، فينفذ قضاء المقلد للحاجة، لئلا تتعطل الأحكام؛ وهكذا قال غير واحد من المتأخرين، الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، يذكر هذا، ثم يذكر القول الثاني: أنه يجوز تولية المقلد للضرورة، كما ذكره متأخرو الحنابلة، والمالكية، والشافعية.
وتضمن أيضاً كلام ابن هبيرة، أن إجماع الأئمة الأربعة حجة، وأن الحق لا يخرج عن أقوالهم؛ فلا يخرج
القاضي عما أجمعوا عليه; فإن اختلفوا، فالأولى أن يتبع ما عليه الأكثر; وصرح بأنه يكره له أن يقضي بما انفرد به الواحد منهم عما عليه الثلاثة، لكونه مذهب شيخه أو أهل بلده، وذكر أنه يخاف على هذا أن يكون متبعاً لهواه.
وتضمن كلامه أيضاً: أن الإجماع انعقد على تقليد كل واحد من المذاهب الأربعة دون من عداهم من الأئمة، لأن مذاهبهم مدونة، قد حررت، ونقحها أتباعهم، بخلاف أقوال غيرهم من الأئمة؛ فلأجل هذا جاز تقليدهم. فليس في كلامه إلا حكاية الإجماع على جواز تقليدهم، لا على وجوبه؛ بل صرح بأن القاضي لا ينبغي له الاقتصار على مذهب واحد منهم، لا يفتي إلا به.
بل ذكر أن الأولى للقاضي أن يتوخى مواطن الاتفاق إن وجده، وإلا توخى ما عليه الأكثر، فيعمل بما قاله الجمهور، لا بما قاله الواحد منهم مخالفاً الأكثر.
فقضية كلامه: أن المقلد لا يخرج عن أقوال الأئمة الأربعة، بل يجتهد في أقوالهم، ويتوخى ما عليه أكثرهم، إلا أن يكون للواحد منهم دليل، فيأخذ بقول من كان الدليل معه، فيكون من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] ، وهذا من جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم، من أن المقلد إذا كان نبيهاً، وله ملكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم، تبين له
الراجح من المرجوح، وحينئذ فيعمل بما ترجح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد.
فإذا كان الرجل شافعياً أو حنبلياً، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلاً صحيحاً قد استدل به مالك، فعمل بالدليل، كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويسلم له الدليل بلا معارض؛ وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيد؛ فهو يتبع الدليل، ويقلد الإمام الذي قد أخذ به.
وأما الأخذ بالدليل، من غير نظر إلى كلام العلماء، فهو وظيفة المجتهد المطلق؛ وأما المقلد الذي لم تجتمع فيه الشروط، ففرضه التقليد وسؤال أهل العلم؛ قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، أفيجوز أن يعمل بما شاء؟ ويتخير ما أحب منها، فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا; لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. انتهى كلامه.
وأما إذا وجد الحديث قد عمل به بعض الأئمة المجتهدين ولم يعلم عند غيره حجة يدفع بها الحديث، فعمل به، كان قد عمل بالحديث وقلد هذا الإمام المجتهد في
تصحيحه وعدم ما يعارضه، فيكون متبعاً للدليل، غير خارج عن التقليد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: طالب العلم يمكنه معرفة الراجح من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح، مثل كتاب "التعليق" للقاضي أبي يعلى، و"الانتصار" لأبي الخطاب، و "عمد الأدلة" لابن عقيل، و"تعليق القاضي" يعقوب البرزبيني، وأبي الحسن الزاغوني; ومما يعرف منه ذلك: كتاب "المغني" للشيخ أبي محمد، وكتاب "شرح الهداية" لجدنا أبي البركات.
ومن كان خبيراً بأصول أحمد ونصوصه، عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، ومن كان له بصر بالأدلة الشرعية، عرف الراجح في الشرع؛ وأحمد، رحمه الله، أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، رحمهم الله، ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصاً كما يوجد لغيره; ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه ما يوافق القول القوي، وأكثر مفاريده التي لا يختلف فيها مذهبه، يكون قوله فيها راجحاً. انتهى كلامه، رحمه الله.
وهو موافق لما ذكره صاحب الإفصاح من أن القاضي عليه أن يتوخى إصابة الحق، فيتوخى مواطن الاتفاق، فيعمل
بما اتفقوا عليه، فإن لم يكن الحكم متفقاً عليه، نظر فيما عليه الجمهور، إذا لم يكن مع مخالفهم دليل; فليس الناظر في كتب الخلاف، ومعرفة الأدلة بخارج عن التقليد; وليس في كلام صاحب الإفصاح ما يقتضي التمذهب بمذهب لا يخرج عنه؛ بل كلامه صريح في ضد ذلك.
وهذه الشبهة ألقاها الشيطان على كثير ممن يدعي العلم، وصال بها أكثرهم، فظنوا أن النظر في الأدلة أمر صعب لا يقدر عليه إلا المجتهد المطلق، وأن من نظر في الدليل، وخالف إمامه لمخالفة قوله لذلك الدليل، فقد خرج عن التقليد، ونسب نفسه إلى الاجتهاد المطلق.
واستقرت هذه الشبهة في قلوب كثير، حتى آل الأمر بهم إلى أن {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، وزعموا أن هذا هو الواجب عليهم، وأن من انتسب إلى مذهب إمام، فعليه أن يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص كتاب أو سنة؛ فصار إمام المذهب عند أهل مذهبه كالنبي في أمته، لا يجوز الخروج عن قوله، ولا تجوز مخالفته.
فلو رأى واحداً من المقلدين قد خالف مذهبه، وقلد إماماً آخر في مسألة لأجل الدليل الذي استدل به، قالوا: هذا قد نسب نفسه إلى الاجتهاد، ونزل نفسه منْزلة الأئمة
المجتهدين، وإن كان لم يخرج عن التقليد، وإنما قلد إماماً دون إمام آخر، لأجل الدليل، وعمل بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] .
فالمتعصبون للمذاهب إذا وجدوا دليلاً ردوه إلى نص إمامهم، فإن وافق الدليل نص الإمام قبلوه، وإن خالفه ردوه واتبعوا نص الإمام، واحتالوا في رد الأحاديث بكل حيلة يهتدون إليها.
فإذا قيل لهم: هذا حديث رسول الله، قالوا: أنت أعلم بالحديث من الإمام الفلاني؟! أمثال ذلك: إذا حكمنا بطهارة بول ما يؤكل لحمه، وحكم الشافعي بنجاسته، وقلنا له: قد دل على طهارته حديث العرنيين، وهو حديث صحيح.
وكذلك حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم، فقال هذا المنجس لأبوال مأكول اللحم: أنت أعلم بهذه الأحاديث من الإمام الشافعي؟ فقد سمعها ولم يأخذ بها; فنقول له: قد خالف الشافعي في هذه المسألة من هو مثله، أو هو أعلم منه، كمالك والإمام أحمد، رحمهما الله، وغيرهما من كبار الأئمة، فنجعل هؤلاء الأئمة بإزاء الشافعي ونقول: إمام بإمام، وتسلم لنا الأحاديث، ونرد الأمر إلى الله والرسول عند
تنازع هؤلاء الأئمة، ونتبع الإمام الذي أخذ بالنص، ونعمل بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، فنمتثل ما أمر الله به؛ وهذا هو الواجب علينا.
ولسنا في هذا العمل خارجين عن التقليد، بل خرجنا من تقليد إمام، إلى تقليد إمام آخر، لأجل الحجة التي أدلى بها من غير معارض لها ولا ناسخ؛ فالانتقال من مذهب إلى مذهب آخر، لأمر ديني، بأن تبين له رجحان قول على قول، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الدليل، مثاب على فعله، بل واجب على كل أحد، إذا تبين له حكم الله ورسوله، في أمر، أن لا يعدل عنه، ولا يتبع أحداً في مخالفة حكم الله ورسوله؛ فإن الله فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل حال، كما تقدم ذكره.
وقد ذكرنا أن الشافعي، رحمه الله، قال: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس؛ وأما الانتقال من مذهب إلى مذهب، لمجرد الهوى، أو لغرض دنيوي، فهذا لا يجوز، وصاحبه يكون متبعاً لهواه.
وقد نص الإمام أحمد، رحمه الله، على أنه: ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً، أو محرماً، ثم يعتقده غير واجب أو محرم، بمجرد هواه، وذلك مثل: أن يكون طالباً للشفعة بالجوار، فيعتقدها أنها حق، ويقول: مذهب أبي حنيفة في
هذه المسألة أرجح من مذهب الجمهور، ثم إذا طلبت منه الشفعة بالجوار، اعتقد أنها ليست ثابتة، وقال: مذهب الجمهور في هذه المسألة أرجح.
ومثل من يعتقد: إذا كان أخاً مع جد، أن الإخوة تقاسم الجد، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة، فإذا كان جد، مع أخ، اعتقد أن الجد يسقط الإخوة كما هو مذهب أبي حنيقة؛ فهذا ونحوه لا يجوز، وصاحبه مذموم، بل يجب عليه أن يعتقد الحق فيما له وعليه، ولا يتبع هواه، ولا يتبع الرخص؛ فمتبع الرخص مذموم، والمتعصب للمذهب مذموم، وكلاهما متبع هواه.
والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر، فالآخر; وكلما تأخر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه; فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدمين هجراً ورغبة عنه، حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم، فهي مهجورة.
فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في الإقناع، والمنتهى، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين، فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، رحمه الله، مع أن كثيراً من
المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من عرفه، وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة عندهم؛ بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين.
ف "المغني" و "الشرح" و "الإنصاف" و "الفروع" ونحو هذه الكتب، التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة، أو خلاف الأصحاب، لا ينظرون فيها؛ فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد.
وكذلك متأخرو الشافعية، هم في الحقيقة أتباع ابن حجر الهيتمي صاحب "التحفة" وأضرابه من شراح المنهاج؛ فما خالف ذلك من نصوص الشافعي، لا يعبؤون به شيئاً.
وكذلك متأخرو المالكية، هم في الحقيقة: أتباع خليل، فلا يعبؤون بما خالف مختصر خليل شيئاً، ولو وجدوا حديثاً ثابتاً في الصحيحين، لم يعملوا به إذا خالف المذهب، وقالوا: الإمام الفلاني أعلم منا بهذا الحديث، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ؛ وكل أهل مذهب اعتمدوا على كتب متأخريهم، فلا يرجعون إلا إليها، ولا يعتمدون إلا عليها.
وأما كتب الحديث، كالأمهات الست، وغيرها من كتب
الحديث، وشروحها، وكتب الفقه الكبار، التي يذكر فيها خلاف الأئمة وأقوال الصحابة والتابعين، فهي عندهم مهجورة، بل هي في الخزانة مسطورة، للتبرك بها لا للعمل.
ويعتذرون بأنهم قاصرون عن معرفتها، فالأخذ بها وظيفة المجتهدين، والاجتهاد قد انطوى بساطه من أزمنة متطاولة، ولم يبق إلا التقليد، والمقلد يأخذ بقول إمامه، ولا ينظر إلى دليله وتعليله.
ولم يميزوا بين المجتهد المطلق، الذي قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، فهو يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد ولا تقييد، وبين المجتهد في مذهب إمامه أو في مذاهب الأئمة الأربعة، من غير خروج عنها؛ فهو ملتزم لمذهب إمام من الأئمة، وينظر في كتب الخلاف، ويمعن النظر في الأدلة، فإذا رأى الدليل بخلاف مذهبه، قلد الإمام الذي قد أخذ بالدليل؛ فهو اجتهاد مشوب بالتقليد.
فينظر إلى ما اتفقوا عليه ويأخذ به، فإن اختلفوا نظر في الأدلة؛ فإن وجد مع أحدهم دليلاً أخذ بقوله، فإن لم يجد في المسألة دليلاً من الجانبين، أخذ بما عليه الجمهور،
فإن لم يجد ذلك، بل قوي الخلاف عنده من الجانبين، التزم قول إمامه، إذا لم يترجح عنده خلافه.
فأكثر المقلدين لا يميزون بين المجتهد المستقل من غيره، وجعلوهما نوعاً واحداً; وهذا غلط واضح; فإن من كان قاصراً في العلم، لا يستقل بأخذ الأحكام من الأدلة، بل يسأل أهل العلم، كما نص عليه الإمام أحمد، رحمه الله، في رواية ابنه عبد الله؛ وقد ذكرناه فيما تقدم.
وأما الاجتهاد المقيد بمذاهب الأئمة، وتوخي الحق بما دل عليه الدليل، وبما عليه الجمهور، فهذا هو الذي لا ينبغي العدول عنه، وهو الذي ذكره صاحب الإفصاح. وأما لزوم التمذهب بمذهب بعينه بحيث لا يخرج عنه، وإن خالف نص الكتاب أو السنة، فهذا مذموم غير ممدوح؛ وقد ذمه صاحب الإفصاح كما تقدم ذكره، بل قد ذمه الأئمة، رضي الله عنهم.
قال الشافعي، قدس الله روحه: طالب العلم بلا حجة، كحاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه، وهو لا يدري.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه؛ وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب، لقول إبراهيم النخعي، أنه
يستتاب، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!
قال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً، يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم; قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية، كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يستتابون.
وقال أبو عمر بن عبد البر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا. فإن قال: قلدت، لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها; والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني.
قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من الكتاب، أو حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء، فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم، دون بعض؛ فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض، وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.
فإن قال: قلدته لأني أعلمه على صواب، قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل؛ وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة، رضي الله عنهم؛ فكفى بقول مثل هذا قبحاً; فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة، قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.
وقد ذكر ابن معين عن عيسى بن دينار عن القاسم عن مالك، قال: ليس كلما قال الرجل قولاً - وإن كان له فضل - يتبع عليه، لقوله عز وجل:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [سورة الزمر آية: 18] . فإن قال: قصري وقلة علمي تحملني على التقليد، قيل له: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام الشريعة عالماً يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به، فمعذور، لأنه قد أتى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله، لإجماع
المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة، لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.
ولكن من كانت هذه حاله، هل يجوز له الفتوى في شرائع دين الله؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج، وإراقة الدماء، واسترقاق الرقاب، وإزالة الأملاك، يصيرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن صاحبه يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؛ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى، لحفظه الفروع، لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بذلك جهلاً ورداً للقرآن، قال الله عز وجل:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء آية: 36]، وقال تعالى:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 28] .
وقد أجمع العلماء: على أن ما لم يتبين ولم يستيقن، فليس بعلم; وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً؛ ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنه:"من أفتى بفتيا، وهو يعمى عنها، كان إثمها عليه "، موقوفاً ومرفوعاً، قال: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث " 1، قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد. انتهى كلام أبي عمر، رحمه الله تعالى.
فتأمل ما في هذا الكلام من الرد على من يقول
1 البخاري: النكاح (5144)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2563)، والترمذي: البر والصلة (1988) ، وأحمد (2/287، 2/312، 2/342، 2/517)، ومالك: الجامع (1684) .
بلزوم التمذهب بمذهب من هذه المذاهب الأربعة، لا يخرج عن ذلك المذهب، ولو وجد دليلاً يخالفه، لأن الإمام صاحب المذهب أعلم بمعناه، ويجعل هذا عذراً له في رد الحديث، أو ترك العمل به إذا خالف المذهب.
وتأمل قوله: لا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد؛ ومراده إذا كان المقلد قادراً على الاستدلال، وأما العاجز عنه، فهو كالأعمى يقلد في جهة القبلة، فهو معذور إذا كان عاجزا.
وقد حكى الإمام أبو محمد ابن حزم الإجماع على أنه لا يجوز التزام مذهب بعينه، لا يخرج عنه، فقال: أجمعوا على أنه لا يجوز لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. انتهى. فحكاية الإجماع من هذين الإمامين، أعني أبا عمر بن عبد البر، وأبا محمد ابن حزم كاف في إبطال قول المتعصبين للمذهب؛ والله سبحانه وتعالى أعلم، ونسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فيمن ترك العمل بالحديث الصحيح، إذا خالف المذهب: هذا من محدثات الأمور، التي ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا
تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3]، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] .
وهذا أصل عظيم من أصول الدين; قال العلماء، رحمهم الله: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول الذي يقوله هؤلاء، يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل النصوص; والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة، فيه شبه بمن قال الله فيهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31]، وقوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] .
وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم؛ فالأئمة، رحمهم الله، اجتهدوا، ونصحوا; قال الشافعي، رحمه الله: إذا صح الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط؛ فهو مذهبي.
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، فيمن اعتمد على كتب المتأخرين، من غير التفات إلى ما خالفها، من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف، والعلماء المتقدمين؟ ورأى أن
ما حوته هو الذي شرعه الله لرسوله، وأوجب أن يعبد به؟ وإن قيل له في ذلك، قال: قد اختار هذه الكتب من هو أعلم منا، وأبصر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وما يقال في مثل هذا؟ وما يخاف عليه منه؟
فأجاب: لا ريب، أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله، قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال آية: 20]، وقال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ، ولم يوجب الله سبحانه على الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله; وقال الشافعي، رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. انتهى. وقال ابن هبيرة في الإفصاح: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يولى القضا من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يجوز ذلك.
وقال الشيخ أبو محمد في المغني: يشترط في
القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد; وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية; وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً فيحكم بالتقليد، لأن الغرض منه فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد، جاز، كما يحكم بقول المقومين.
ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49لا]، ولم يقل بالتقليد; وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] . وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار " 1، رواه ابن ماجة. قال: والعامي يقضي على جهل، ولأن الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى.
وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب - إلى أن قال - واختار في الترغيب: ومجتهد في مذهب إمامه للضرورة; واختار في الإفصاح والرعاية: ومقلداً. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس. انتهى.
وذكر ابن القيم - في مسألة التقليد في الفتيا - ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز الفتوى في التقليد، لأنه ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم؛ وهذا قول أكثر
1 أبو داود: الأقضية (3573)، وابن ماجة: الأحكام (2315) .
الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية.
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء، إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره; وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا.
والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة والضرورة، ولكن قد دعت الحاجة والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت.
وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل، فهذا لا يجوز، كما قال الشافعي، رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، بأن يكون متأهلاً لذلك، فهذا مذموم أيضاً، لقدرته وتمكنه من معرفة الدليل.
النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو نوعان: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالحديث والفقه، وليس لهم نظر في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير خلاف؛ فإذا وقعت له حادثة استفتى من علمه عالماً عدلاً، ورآه منتصباً للإفتاء والتدريس؛ واشترط الشيخ تقي الدين مع ذلك الاستفاضة بأنه أهل للفتيا. النوع الثاني: من كان متأهلًا لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من
المذاهب، وتبصر في بعض كتب متأخري الأصحاب، كالإقناع، والمنتهى عند الحنابلة، لكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء، فهذا له التقليد أيضاً؛ إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية: 286] .
ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة، وذلك لقول الله تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال " 1؛ ولكن هذا لا ينبغي له التسرع إلى إفتاء غيره، فإن دعت الحاجة إلى فتواه، فهو إخبار عن مذهب إمامه الذي ينتسب إليه، لا فتيا؛ قاله جماعة من الأصحاب; وعليه أن يتقي الله ما استطاع، فإن كان له فهم قوي وإدراك، بحيث إذا نظر المسائل الخلافية، ورأى أدلة كل من المختلفين، وكان فيه ذكاء وفطنة، يدرك بها الراجح من المرجوح فيما يراه، عمل بما ترجح عنده؛ فإذا كان طالب العلم متمذهباً بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض أئمة المذاهب، ولم يعلم له معارضاً، فخالف مذهبه وتبع ذلك الإمام الذي أخذ بالدليل، كان مصيباً؛ بل هذا هو الواجب عليه، ولا يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام، فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض.
1 أبو داود: الطهارة (336) .
قال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: من كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل، لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن; وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص على ذلك. انتهى.
وعلى كل حال، فلا ينبغي التسرع والجسرة بقول: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب؛ قال الله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] ؛ فمن عرف أحوال السلف، وهيبتهم الإفتاء، مع علمهم وفضلهم، أفاده ذلك اتهام فهمه، وعدم التسرع إلى الفتوى، لأنه يخبر عن الله تعالى، والمقلد: إنما يحكي عن غيره، فالأولى إذا دعت الضرورة إلى فتواه، أن يقول: ذكر أصحاب المذهب الفلاني، أو ذكر في الكتاب الفلاني: كذا، وكذا.
وأما قول القائل: قد اختار هذه الكتب وما حوته، من هو أعلم منا، فيقال: حق، هم أعلم منا، لكن لا يلزم من ذلك تقليدهم في كل ما وضعوه; فإذا قال كل أهل مذهب هذه المقالة، في كتب من تقدمهم، فالمصيب عند الله واحد، فمن هو الذي يجب اتباعه؟! فإذا اختلفت المذاهب في حكم مسألة، فالمصيب منهم واحد، والمجتهد المخطئ إذا كان أهلاً مأجور على اجتهاده، ولا يجوز له تقليده إذا بان له خطؤه، مع كونه أعلم ممن بعده، والله
سبحانه إنما أمر بالرد عند التنازع، إلى كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن قال: إن ما أودع في بعض الكتب المصنفة، هو الذي يجب اتباعه، فهو مخطئ يخاف عليه العقوبة في قلبه; ولازم هذه المقالة: أنه إذا وجد عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ما يخالف بعض ما فيها، أن الذي في هذه الكتب هو الواجب الاتباع، دون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل كثير منهم يصرحون بذلك ويلتزمونه، مع أنه مخالف للكتاب، والسنة; فهو مخالف لقول الأئمة الأربعة الذين صنفت هذه الكتب على مذاهبهم، لأنهم نهوا عن تقليدهم.
قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه; وصرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب; وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط; وقال الإمام أحمد: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا، وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا.
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آية: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد
بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ويقال أيضاً لمن قال: وضع هذه الكتب من هو أعلم منا، إذا كان ممن ينتسب إلى الحنابلة، فوضع كتب الشافعية، والمالكيه، والحنفية من هو أعلم منك، فما الذي أوجب اتباع بعضها دون بعض؟! فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قصور أفهامنا وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه؛ فلو تبين لي في بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة، اتبعت السنة; وهذا هو الواجب علي، لكني قليل التمييز، لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده.
وقائل ذلك يرجى له السلامة; وهذا كله في غير أصول الدين، فأما أصول الدين، من التوحيد، ومعرفة الرسالة، وسائر الأصول، فلا يجوز فيها التقليد عند جميع العلماء; فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[رد الشيخ عبد اللطيف قول ابن منصور اختلاف الأمة رحمة]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، في رده على عثمان بن منصور مدحه الاختلاف، وزعمه أنه رحمة، وإيجابه صوم يوم الشك:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له; وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فقد وقفت على كلام، كتبه بعض من يدعي العلم، في مسألة اختلاف الأمة، يزعم أنه رحمة، ويشنع على من ذمه; وقال: الرحمة في الجماعة والاتفاق؛ فرأيت له من الكلام في هذه المباحث، ما يوجب للمؤمن المعافى مما ابتلي به هذا، أن يكثر من حمد الله وشكره، ومن سؤال العافية; وأي بلية أعظم من القول على الله بلا علم؟!
وخلوّ الذهن من العلم، وعدم الشعور بشيء منه أخف ضرراً، وأقل خطراً مما ابتلي به هذا الرجل، من تحريف الكلم، والخروج عما عليه أهل العلم، وما يعرفه أهل هذه الصناعة من العدل والإنصاف، ومصاحبة التقوى، فيما يعانونه من الأحكام والفتوى; ومن نظر في كلام هذا من
أهل العلم والبصيرة، وتأمل أبحاثه واستدلاله في الإفتاء وتسطيره، عرف أنه أجنبي من هذه الصناعة، معدم من تلك التجارة والبضاعة.
وقد يتزيا بالهدى غير أهله
…
ويستصحب الإنسان من لا يلائمهْ
لكنه، عافاه الله، يخرج عما عليه أهل التحقيق والعلم، ويظن أنه من ذوي الإصابة والفهم، ويتجاسر على تجهيل مشائخ الإسلام، ويعرض عند ذكرهم بقبيح المنطق والكلام؛ وهذا أعدل شاهد ودليل على أنه لم يتأهل للتوقيع عن الله ورسوله، والتسجيل; وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً. انتهى.
وإنما يلجأ إلى مثل هذا ناقص العلم والدين، إذا أفلس من الأدلة والبراهين، وقد نبهنا هنا على بعض ما في رسالته، مما يتعلق بالعلم وأبحاثه، وأعرضنا عما فيه من الغيبة والبهت، وفضول الكلام، الذي لا يصدر عن العقلاء من العوام.
فصل
فأما مدحه الاختلاف وزعمه أنه رحمة، فالعبارة فيها عموم لا يخفى، وهي متناولة مدح جميع أهل الشقاق والأهواء، الذين تواترت النصوص النبوية بذمهم وعيبهم، ودلت عليه الآيات القرآنية، كقوله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4]، وقوله:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53]، والزبر: الكتب، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية [سورة الأنعام آية: 159]، وقال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} الآية [سورة هود آية: 118-119] .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]، وقال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105]، وقال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} الآية [سورة البقرة آية: 213] ، ونحو هذه الآيات التي فيها إطلاق ذم الاختلاف، وعيب أهله، وخروجهم عما جاءت به الرسل.
وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة " 1، وحديث العرباض بن سارية قال:" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فأقبل علينا، ووعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً مجدعاً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال:" إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب " 2، أخرجه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى كأنما في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب، فقال: أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم ".
وقال ابن سيرين: كانوا يقولون: "ما دام على الأثر، فهو
1 ابن ماجة: الفتن (3992) .
2 صحيح البخاري: كتاب الإيمان (22) وكتاب الوكالة (2316) وكتاب الخصومات (2410) وكتاب الجزية (3158) وكتاب أحاديث الأنبياء (3473، 3476) وكتاب المغازي (4015) وكتاب تفسير القرآن (4498) وكتاب فضائل القرآن (5062) وكتاب الدعوات (6329) وكتاب الرقاق (6425 ،6560) وكتاب الفرائض (6787) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7288، 7320) وكتاب التوحيد (7509، 7510)، وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب (2578)، وسنن الترمذي: كتاب البر والصلة (1998، 1999) وكتاب القدر (2133) وكتاب الفتن (2180) وكتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2491) وكتاب صفة جهنم (2598) وكتاب العلم (2679)، وسنن النسائي: كتاب مناسك الحج (3057)، وسنن أبي داود: كتاب الزكاة (1698) وكتاب اللباس (4091) وكتاب الأدب (4893)، وسنن ابن ماجة: كتاب المناسك (3029) ، ومسند أحمد (1/178، 1/419، 1/421، 1/452، 2/159، 2/191، 2/195، 3/323)، وموطأ مالك: كتاب الجامع (1656)، وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (479) .
على الطريق "، وعن جابر بن عبد الله: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من خطبته قال: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها " 1، وزاد في طريق آخر: " وكل بدعة ضلالة " 2، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم؛ وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار "، وعنه: "إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستُحْدِثون ويحدث لكم؛ فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدى الأول ".
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: "أنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال علي لعبيدة السلماني:"اقضوا ما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف". جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد، وألزمهم القراءة به، عن رأي واتفاق من الصحابة، خشية الاختلاف في القرآن.
فهذه الآيات الكريمات، وهذه الأحاديث النبويات دلت على ذم الاختلاف، وعيبه، وتحريمه، والتشديد فيه، والوعيد عليه بالنار، وبلغت من الشهرة، والتواتر، وقبول أهل العلم لها، واحتجاجهم بها، ما يورث العلم الضروري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها وصدرت عنه؛ وإن زعم هذا المفتي أنه
1 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578) ، وأحمد (3/310، 3/319، 3/371)، والدارمي: المقدمة (206) .
2 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578)، وابن ماجة: المقدمة (45) ، وأحمد (3/310)، والدارمي: المقدمة (206) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84، 3/89، 3/94) .
أراد خصوص أهل السنة والفتوى، فهو لا يعرف لما خرج من بين شفتيه حقيقة، ولا معنى; فإن عبارته صريحة في العموم، والحكم به في مقام البحث والإفتاء مسطور معلوم.
وأهل العلم يبحثون مع المتكلم، ويحكمون بما دل عليه كلامه، من النص والعموم الظاهر، ولا بحث فيما انطوت عليه الضمائر، وأخفته السرائر؛ بل ذلك أمره إلى الله، كما يعرفه ذوو العلم والبصائر; وفي الحديث:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " 1؛ وهذا الوجه كاف في إبطال عبارته وردها، لأنه أطلق مدح ما أطلق الله ورسوله ذمه وعيبه، وفي هذا من الخروج عما دلت عليه النصوص، ما لا يخفى على أهل العلم والفتوى.
ويقال أيضاً: لو سلمنا أنه أراد خلاف أهل العلم والفتوى، لا أهل البدع والأهواء، فهو ضال مخطئ في فتواه، لأن ما تقدم من النصوص عام لكل اختلاف وقع في الأصول والفروع؛ والفقيه يعرف بفقهه وفطنته، ما قرره أهل العلم الأصوليون وغيرهم، من اعتبار العمومات القرآنية، والألفاظ النبوية؛ وبعضهم جزم أن العموم نص في الحكم، لكنهم يتكلمون ويبحثون في المخصصات.
وقد أجمعوا على أن لا تخصيص لكتاب الله وسنة رسوله بقول أحد، كائناً من كان، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وعندهم من الأحكام الثابتة في الأصول والفروع بعمومات النصوص، ما
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/300، 3/332، 3/394) .
لا يمكن حصره؛ والفقيه يعرف ذلك في كتب أصول الدين، وكتب فروعه، من كتاب الطهارة إلى آخر العتق والإقرار.
وقد أجمعوا على أنه لا تخصيص بالحديث الضعيف، وأنه لا يصلح أن يكون مخصصاً، ولا ينهض لذلك، لأنه نوع نسخ، والناسخ يشترط فيه المساواة في الحجة والقوة والدلالة؛ بل قال بعض العلماء لا يثبت به حكم شرعي، والقياس أولى منه، لكن أحمد يقول: الحديث الضعيف خير من القياس؛ والضعيف عندهم ما قصرت رتبته عن الصحيح والحسن.
وأما ما احتج به هذا من أن النووي ذكر عن الخطابي قوله: جاء الحديث، أو روى "أن اختلاف أمتي رحمة "، فهذا ليس بحجة بالإجماع؛ فإن على من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أن يصحح ما نسب وما ادعى، ويثبته بطريق تثبت به الأحكام، وإلا فمجرد الدعوى لا يفيد ولا يجدي; ولو فتح هذا الباب وأعطي الناس بدعواهم، لذهبت أحكام هذه الشريعة، وادعى كل مخالف ما ينصر دعواه، وفي الحديث:" من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "1.
والخطابي قال: قد روي، ولم يتعرض لتصحيح ولا تضعيف، والنووي عزاه إلى الخطابي وخرج من عهدته؛ فأخذه وتلقيه بالقبول، ومصادمة النصوص له والحالة هذه، طريقة أحمق متهوك، لا يعقل شيئاً في هذا الباب، والأولى به أن يساس بسياسة الدواب.
1 البخاري: العلم (110)، ومسلم: مقدمة (3) ، وأحمد (2/410، 2/469) .
وقد تكلم الديبع والسيوطي، على هذا الحديث بما يكفي ويشفي، وكشفوا عن وجه الصواب، وكذا السخاوي في المقاصد الحسنة والديبع في تمييز الطيب من الخبيث فيما يجري على ألسنة العوام من الحديث; بل صرح جمع من صيارفة الفن، بأنه لا أصل له؛ وأبو سليمان الخطابي لم يدع الصحة، لكنه جرى على ألسنة قوم عزب عنهم ضبط الحقائق، بل أورد الديبع في مختصر المقاصد، ما حاصله: خرج عبد الله بن أحمد، من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، بإسناد لا بأس به:"الجماعة رحمة، والفرقة عذاب " 1، أورده مستشهداً به على رد الأول؛ فاعرف هذا، ولا تلتفت إلى من لا عناية له ولا دراية بهذه الصنعة.
وقال شيخنا، رحمه الله، - في أثناء كلام له -: وأما قولهم: واختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 118-119] . لما سمع عمر أن ابن مسعود وأُبَيّاً اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر وقال:"اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفا، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت "؛ لكن قد روي عن بعض التابعين أنه قال: "ما أحسب اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "،ومراده غير ما نحن فيه، ومع هذا فهو قول مستدرك، لأن الصحابة بأنفسهم ذكروا أن اختلافهم عقوبة وفتنة.
1 أحمد (4/278) .
وأما قوله في حديث: " أصحابي كالنجوم ": وروى البيهقي من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، فقد أسقط منه السند؛ وانظر ما النكتة في ذلك، هل هو الجهل أو التدليس؟ ثم قد عارض البيهقي من هو أجل منه باتفاق الأمة، ونص على أنه موضوع كما سيأتي، فأي مزية رجحت حكاية البيهقي وروايته، على غيره ممن هو أجل منه من أئمة النقد والتصحيح. ثم البيهقي بتنبيهه على ضعفه خرج من عهدته وأدى ما عليه، وهو يعلم أن الحديث الضعيف لا تقوم به حجة، ولا تثبت به أحكام شرعية عند المحققين.
وأما أنت فتعرضت لهدم الأصول به، ومخالفة أهل العلم; فإن من أكبر أصولهم وقواعدهم: رد مسائل النّزل إلى الكتاب والسنة، وأن لا يحكم بأنها أهدى إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] ، والشرط يفيد انتفاء العمل إذا انتفى الجواب، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] .
ونص أهل الأصول، وأهل الحديث، على أن قول الصحابي ليس بحجة إذا خالفه من هو مثله؛ والبيهقي وغيره إذا ذكروا الحديث وسكتوا عنه، لا يحكم عليه بالصحة عندهم، ولا بأنه حجة، إلا إذا بينوا ذلك وصححوه، فكيف إذا جزموا بضعفه؛ وهذا الحديث، قد نص الحافظ أبو بكر
البزار، ويوسف بن عبد الله النمري، وابن قيم الجوزية، وأبو محمد ابن حزم، وغيرهم، على أنه موضوع، وسيأتيك كلامهم.
قال ابن القيم، رحمه الله: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، جوابه من وجوه: أحدها: أن الحديث هذا قد روي من طريق الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها؛ قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد، أن أبا عبد الله بن مفرح حدثهم: حدثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزار: وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يوجب تقليد من ورث الجد مع الأخوة ومن أسقط الأخوة به معاً، وتقليد من قال: الحرام يمين ومن قال: هو طلاق، وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه، وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه، وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين ومن قال بوضع الحمل، وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه، وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه، وتقليد من أوجب الغسل من
الإكسال وتقليد من أسقطه، وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم، وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره، وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة ومن لم يره ثلاثاً، وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه، وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منه، وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره، وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره، وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه; وأضعاف أضعاف ذلك، مما اختلف فيه الصحابة.
فإن سوغت هذا، فلا تحتج بقول على قول، ومذهب على مذهب، بل اجعل الرجل مخيراً في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم، واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوغوه، فأنتم أول مبطل لهذا الدليل، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه؛ وهذا مما لا انفكاك لكم عنه; الرابع: أن الاقتداء بهم اتباع القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما، فالاقتداء بهم يحرم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل، كما كان عليه القوم، رضي الله عنهم. انتهى.
وقال: أبو محمد ابن حزم في أثناء كلام له: وحدثت طائفة يكثرون الاعتراض بما روي مسنداً: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وهذا خبر لو صح لكان مبطلاً لكل ما ينصره الحنفيون، والمالكيون، والشافعيون، لأنهم في كل مسألة من مسائل اختلافهم ينصرون قوله، ويبطلون خلافه من أقوال الصحابة، رضي الله عنهم؛ فعلى هذا يبطلون الهدى، وإبطال الهدى ضلال.
ولكن إن حدث من يقول بهذا الخبر ويطرده، ويصوب كل قول روي عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، وإن ضاده غيره عن آخر منهم، فليعلم أولاً أنه خبر مكذوب، موضوع، باطل، لم يصح قط؛ وساق بالسند المتقدم إلى البزار، سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة، يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنما مثل أصحابي كمثل النجوم، بأيها اقتدوا اهتدوا "، وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه.
قلت: قف على قول البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده بين أصحابه، تعرف موافقته لما قررناه قبل.
ثم قال ابن حزم: قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث، ليس بشيء، وقال البخاري هو متروك؛ ورواه أيضاً: حمزة الجزري، وحمزة هذا ساقط هالك متروك؛ قال أبو محمد: بل هو مما يقطع على أنه كذب موضوع، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، اختلفوا، فحرم واحد منهم، وحلل آخر منهم ذلك الشيء الذي حرمه صاحبه، وأوجب بعضهم، وأبطل غيره منهم ما أوجب صاحبه.
فلو كان هذا الخبر صحيحاً، لكانت أحكام الله تعالى متضادة في الدين، مختلفة، حراماً وحلالاً، معاذ الله تعالى، فقد كذب بقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] ، فصح أن الاختلاف ليس إلا من عند غير الله.
وأيضاً، فإنه لا يقدر أحد على اعتقاد تصحيح المتضادات معاً، ولا على القول والعمل بالمختلفات معاً; ونوه بعض فساقهم هاهنا فقال: وجدنا المرأة حلالاً لبعلها حراماً على غيره، وحراماً على بعلها حلالاً لغيره، فما ينكر؛ مثل هذا فتيا فقيه لعمرو، وفتيا فقيه آخر لزيد بمثلها، فقلنا: ينكر ذلك في حكم الله الذي: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] ، وإنما أنكر أشد النكير من حكم من دونه برأيه بغير نص.
ثم قال أبو محمد: وأيضاً، فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم فتاوى قوم من الصحابة، كأبي السنابل بن بعكك في المتوفى عنها زوجها، وقد قال بعد ذلك بقول أبي السنابل ابن عباس وغيره، وأبطل قول من قال: حبط عمل عامر بن الأكوع; وقد أجمعت الأمة على أنه قد كان من بعض الصحابة، رضي الله عنهم، أشياء مغفورة لهم: فقد رجم ماعز والغامدية، وهما والله من أهل الجنة. وقال مسطح ما قال، وهو بدري مقطوع له بالجنة، ولو أن امرأ يقول بذلك اليوم لكان كافراً؛ وقد جلد قدامة بن مظعون في الخمر، وهو بدري من أهل الجنة، أفيحل الأخذ بقول من اقتدى بشيء من هذه الأمور بهؤلاء المتقدمين فهو مهتد؟ حاشا لله، بل يكون من قال ذلك في بعضه كافراً، وفي بعضه فاسقاً، بخلاف الفضلاء المغفور لهم بعض ذلك، أو كله، الذين فازوا، ولو تصدق من بعدهم بمثل جبل أحد من ذهب، لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أحدهم.
وفي صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة، أو خمس، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، وقلت: من أغضبك يا رسول الله؟ أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون؟ ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته، ثم أحل كما أحلوا " 1، قال أبو
1 مسلم: الحج (1211) .
محمد، رحمه الله: فنعوذ بالله من شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان من أولئك ففاضل مغفور له؛ ومن كان يتهم ويخطئ فلا يجوز أن يؤخذ من قوله وعمله، إلا من شهد له بالصحة، من لا يتهم في الشريعة، ولا يخطئ ولا يجوز فيها، وهو القرآن والسنة.
وأيضاً، فإن من حرم من الصحابة شيئاً فقد خطأ من حلله، ومن حلله فقد خطأ من حرمه، ومن أوجب منهم شيئاً فقد خطأ من لم يوجبه، ومن لم يوجبه فقد خطأ من أوجبه؛ هذا موجود نصاً حتى إن ابن عباس، رضي الله عنهما دعا إلى المباهلة باللعنة عند الحجر الأسود لمن خالفه. فلو كان ما قالوه في الفتيا، أو فيما يتعلق بها صواباً، وقد خطأ بعضهم بعضاً، لكان كلهم مخطئاً، لأن المخطئ لصاحبه منهم مصيب عند هذا؛ وأطال الكلام، رحمه الله، وفيما ذكرناه عنه كفاية.
وأما دعوى هذا المفتي: أن عثمان بن سعيد الدارمي ذكره في كتاب الرد على الجهمية، فأول الحديث وما فيه من الرد على الجهمية شاهد له، وقصده منه وجوب متابعة الإجما؛، ومثل هذا يذكر في المتابعات والشواهد، ويتسامحون فيه لأن الاعتماد على غيره، وأما قول:"أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، فالجملة ليست من مراد الدارمي، ولا فيها ما يقصده من الرد، فإن الحجة في قول
الصحابي إذا لم يخالفه غيره؛ وينبغي النظر في كلام الدارمي وسياقه حتى يظهر مراده; ثم الاحتجاج بالحديث نوع، والحكم عليه بالصحة نوع آخر، يعرف من فن المصطلح، ولا ينبغي أن يتكلم في هذا من لا يدري اصطلاحهم.
وأما قوله: إن عمر بن عبد العزيز، قال:"ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة "، فالاحتجاج بهذا على مدح الخلاف، وتصويب المختلفين، من أعجب الأشياء عند من استصحب أصول الكتاب والسنة، وعرف ما في الاختلاف والافتراق من المفاسد؛ وأهل العلم لهم من الأعذار إذا اجتهدوا، ما لا يخفى على طالب العلم، وقد ذكر شيخ الإسلام في كتابه رفع الملام ما فيه كفاية لمن وفقه الله.
وإنما الشأن فيمن مدح الاختلاف، وجعله من الدين الذي أمر الله به ورسوله، وقول عمر يريد به، رحمه الله: أن اختلافهم من أدلة الرخصة في الاجتهاد، وطلب الحق من مظانه ومعدنه؛ فمن أتى بعدهم ورزق فهماً في كتاب الله وسنة رسوله، فلا عليه أن يأخذ بذلك، ويدع التقليد، لأن الصحابة مضوا على ذلك وسنوه لمن بعدهم، ويشهد له قول علي رضي الله عنه لمن سأله، هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: "لا، والذي برأ النسمة، وفلق الحبة؛ ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهماً يؤتيه الله
من يشاء "، وكان في الصحيفة: العقل، وفك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
والمقصود: أن الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أجلّ النعم وأشرفها، وهو مراد عمر؛ ويشهد لهذا قول عمر نفسه:"لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وإنما يعرف هذه النعمة ويشكرها، أهل العلم بالله ودينه وشرعه، الذين يستنبطون الأحكام، ويستخرجونها من نصوص الكتاب والسنة. وفي المثل السائر: كم ترك الأول للآخر، ومائدة الله مبسوطة لعباده المؤمنين، ليست ممنوعة ولا محظورة، ولا يزال يهب من العلوم والفهوم، ما لم يخطر على بال كثير من أهل الدعاوي والرسوم، قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 83] ، فهو سبحانه يرفع درجة عبده بالفهم والعلم، ومصدر ذلك عن حكمته وعلمه.
اللهم إنا نتوسل إليك بما توسل به عبادك الصالحون، وأولياؤك المقربون، أن تجعل لنا من الفهم عنك، وعن رسولك ما نبلغ به منازل الصديقين، ونحشر به في زمرة العلماء العاملين، ونكتب به في ديوان السلف الصالحين. وما أحسن ما قيل:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد
…
وإن مرادي صحة وفراغُ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً
…
يكون به لي في الجنان بلاغُ
وبنحوه ما قلناه في كلام عمر، يقال في قول القاسم بن محمد، إن صح عنه؛ وأما قول الليث بن سعد: أهل العلم أهل توسعة، فليس معناه أنهم يأخذون بكل قول، من غير نظر للتحقيق والتأصيل، بل المراد: أنهم يراعون قاعدة اليسر، ورفع الحرج، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ، فيسقط الوجوب للعجز؛ وقد يسقط بالجهل والنسيان، بل وبالمشقة في بعض الصور، ويباح المحظور لمقتضٍ راجح. وليس المقصود أنهم يأخذون بالرخص، ويتبعون مسائل الخلاف؛ قال بعضهم: من تتبع الرخص تزندق. وقد أنكر الليث، رحمه الله، على الإمام مالك مسائل معروفة، ورسالته إليه حكاها العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين.
ثم المقرر في كتب الأصول والفقه: أن لا حجة في مسائل النّزاع، إلا بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس قد قيل فيه ما قيل; هذا هو المقرر عند أهل العلم سلفاً وخلفاً، ثم جاء في هذه الأوقات من يحتج بكل قول رآه، ويمكن كل أحد أن يورد مثل هذه الأقوال، فإن كانت حجة في محل النزاع، تعذر إقامة الدليل والبرهان على كل مخالف ومنازع.
وأما قوله: قال: شرف الدين البوصيري، فذكر هذا اللقب هنا ظاهر في مراغمة عباد الله الموحدين المؤمنين، الذين أنكروا قوله في منظومته المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك.................
الأبيات
وقد عرف وعهد هذا وأمثاله عن الرجل، ونقل عنه ما هو أبلغ وأشد من هذا، وإلى الله تصير الأمور، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر،:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . ونسأل الله أن يمن علينا وعلى هذا الرجل بتوبة نصوح، تمحو ما كان قبل ذلك.
وقد رأيت لهذا فيما كتبه على كتاب التوحيد، نقلاً عن تفسير قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] : وأن العبادة هي: موافقة القدر والقضاء وجريانهما على العبد، وأن ابن عباس قال: كفر الكافر تسبيح؛ فنعوذ بالله من الخذلان. ثم أي حجة في قول البوصيري، لو كان هذا يعقل، وقد مضت القرون المفضلة والتي بعدها إلى القرن السادس، ولم يعرف هذا عندهم، بل يختارون للقضاء غالباً، من له معرفة بالكتاب والسنة، وأقوال الأئمة، ومعرفة لغة العرب وعلوم الآلة.
وأما جعل أربعة قضاة من أتباع الأئمة الأربعة، فهذا محدث؛ ونص أحمد على أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً، عارفاً بالكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين؛ فما مدحه البوصيري من نصب المقلدين خلاف ما عليه أهل العلم، من اشتراط الاجتهاد في القاضي. وسيأتيك عن هذا ما نقل عن الإمام أحمد وغيره، أنه لا يفتي إلا العالم بأقوال العلماء؛ وهذا مدح المقلدين، وجعل مدح البوصيري
حجة على ذلك، وزعم أنهم هم أركان الشريعة وطبائعها، فناقض أول الورقة آخرها، شعراً:
حجج تهافت كالزجاج تخالها
…
حقاً وكل كاسر مكسورُ
وأما احتجاجه بقول النووي: العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب؛ قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه.
فيقال في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي، بل تصرفت فيها، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة، لأنه عليك، مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض؛ قال النووي - بعد ما تقدم -: لكن إن أريد به على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق؛ فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة، أو وقوع في خلاف آخر، ثم ذكر كلام الماوردي فيمن تولى الحسبة، وذكر الخلاف في حمله الناس على مذهب غيره، ثم قال: ولذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي، أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصاً، أو إجماعاً أو قياساً جلياً، والله أعلم؛ هذا كلام النووي.
فقد استبان لك أن مراده: إذا لم يظهر دليل، ولم
يترجح جانب الإنكار، بكتاب أو سنة، أو إجماع أو قياس جلي؛ والأمانة في نقل العلم مشترطة، والخيانة فيه أعظم من الخيانة في المال ونحوه، ثم هو احتجاج بما لا يجدي، ولا يثبت به حكم شرعي، فإن الأحكام تؤخذ عن الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
وأما أقوال الآحاد من العلماء، فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي، وما زال أهل العلم يردون على من هو أجل منه؛ قال مالك: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس:"أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء، ". وقال عمر رضي الله عنه: "أيها الناس، ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وثقلت عليهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا: لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيراً "؛ وهذا ظاهر.
وإن كان قوله هو أو مثله حجة عند هذا المفتي، عارضناه بمن هو أجل منه، وأعلم بشهادة أهل العلم، فإن أقوال أهل العلم تذكر وتورد في المعارضات والالتباس، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله؛ وقد ثبت عن الصحابة ومن بعدهم من الأئمة، من الإنكار في مسائل الخلاف والتعزير على ذلك ما يعز حصره، فإن القوم قصدوا
تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والوقوف مع سنته، ولم يلتفتوا إلى خلاف أحد؛ بل أنكروا على من خالف السنة، كائناً من كان، كما أنكروا على من منع التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر، وعلى من أباح وطء المرتدة بملك اليمين، وعلى من حرق الغالية، مع أن القائلين بهذه الأقوال هم أفضل الأمة وخيرها، ولا يدانيهم من بعدهم في علم ولا غيره.
وهذه العبارة فاسدة من جهة قوله: كل مجتهد مصيب؛ وقد رد هذا غير واحد من المحققين، وفي كتب الأصول من بيان فساده ما لا يخفى على طالب العلم؛ وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في بعض كتبه، فإن أراد قائل هذا، رفع الإثم والحرج عمن اجتهد، وأن هذا معنى الإصابة، فهذا له وجه، لكن ليس الكلام في كون المجتهد مصيباً للحكم الشرعي، أو مخطئاً له، فقول النووي: هذا هو المختار عند المحققين أو أكثرهم، خلاف التحقيق؛ بل المحققون على خلاف ما قال.
ومن هذا الباب، نقل هذا المفتي عن صاحب كتاب الحجة على تارك المحجة، ونقله عن البيهقي، والحسن الحلبي، والقاضي حسين، وإمام الحرمين، فهؤلاء ليسوا بحجة، وليسوا من أصحاب الوجوه في مذاهبهم؛ فسرد هذا العدد لا يجدي شيئاً، وكون هؤلاء ذكروا أن اختلاف الأمة رحمة، لا يفيد صحته، وقد تقدم ذكر الحديث، ومجرد روايته ليس بحجة، والحجة في تصحيحه، وهؤلاء ليسوا من
أئمة النقد والتصحيح، كالبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمسانيد الثمانية، وكيحيى بن سعيد، ويحيى بن معين، وابن المديني، وأبي حاتم، وأمثالهم.
وقد انتقد على الجويني في مسائل الصفات وغيرها من أصول الدين، ما يعرفه أهل العلم بأقوال الناس ومذاهبهم، فإن كان قوله هو وأمثاله حجة، لزم ترك ما عليه الإمام أحمد، وما عليه السلف والأئمة، في كثير من مسائل توحيد الصفات؛ بل قد انتقدوا على البيهقي ما يعرفه أهل المعرفة بهذا الشأن. وبالجملة، كل ما ذكر هذا من أدلته، لا يفيده شيئاً عند النقد، وإنما هو مجرد بهرج وحكاية; وأما قوله في حديث: "أصحابي كالنجوم
…
إلخ ": إن البيهقي قد أسنده في المدخل، فهذا تكرير منه، وإلا فهو بعينه ما تقدم.
وأما قوله: قد صنف أحد أعيان الشافعية كتابا سماه: "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة"، فالاستدلال بهذا عجيب جداً، وصاحب هذا الكتاب رجل من أهل حلب متأخر، ليس من أعيان الشافعية، واسمه: محمد بن عبد الرحمن بن الحسين، قاضي صفد، وإنما قصد المفتي البهرجة والترويج، في نسبة هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن المصنف قصد بهذه التسمية نفس الاطلاع على الاختلاف، والفرق بينهما ظاهر.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] ، أن العلماء يذكرون الخلاف، فهو يشير بهذا إلى أن الآية تدل على جواز الأخذ بكل قول من أقوال العلماء، وأن هذا هو رفع الحرج، ومن نسب هذا إلى كتاب الله، وجعله دالاً عليه، فقد قال على الله ما لا يعلمه، وخالف ما أجمع عليه المفسرون وأهل العلم في هذه الآية; وحكاية هذا عنه تكفي في رده، وأنه ممن يقول على الله وكتابه ورسوله بغير علم ولا برهان. وأما تشنيعه بعد ذلك على خصمه، ونسبته إلى الجهل، فهذا عليه لا له؛ وباب الدعوى واسع، أوسع من المشرق إلى المغرب، يسلكه كل أحد، عاقلاً أو سفيهاً، محقاً أو مبطلاً، عالماً أو جاهلاً.
وأما قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} الآية [سورة الأنبياء آية: 78] ، فهذه الآية حجة عليه؛ فإن الله خص سليمان بالإفهام، فبطل قوله: كل مجتهد مصيب، لأن هذه من حجج أهل العلم على أن المصيب واحد، وهي أيضاً حجة في ترك التقليد، وحجة في نقض حكم الحاكم إذا لم يوافق، وهذا أبلغ من مجرد الإنكار؛ وقد ترجم النسائي بهذا، فقال: باب نقض حكم الحاكم إذا لم يطابق; وهذا هو معنى قول الحسن: لولا هذه الآية ما اجترأ أحد منا على الفتيا؛ وقد استدل هذا بقول الحسن على أن الاختلاف رحمة، وهو يدل على خلافه.
وأما قول الإمام أحمد: الذي يفتي الناس يتقلد أمراً عظيماً
…
إلخ، فهذا المفتي ينقل من أقوال العلماء ما هو عليه لا له، وما يهدم أصله ويرد قوله، وهو لا يشعر؛ وهذا من نصر الله للحق، وإظهاره على لسان من يجادل فيه ويماحل. فقول الإمام أحمد يرد على من قال: الاختلاف رحمة، لا يتجه إلا على القول بأن الاختلاف نقمة لا رحمة، فحينئذ يخاف على المفتي، ويتقلد أمراً عظيماً؛ هذا وجه التعظيم والتحذير في كلام أحمد، ويشهد له قوله: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدمه، وإلا فلا يفتي; يريد أن العلم بأقوال العلماء سبب للإصابة، ومعرفة الحق في نفس الأمر، وليس المقصود أنه يأخذ بكل قول ويفتي به، فيكون اختلافهم رحمة كما زعمه هذا. وكذلك فيه رد لقول من قال: كل مجتهد مصيب، لأنه إذا اجتهد فلا محذور عليه، فلا يتجه قوله: يتقلد أمراً عظيماً، يدل عليه قوله بعده: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ; وكلام الإمام من جنس واحد في ذم الخطإ والاختلاف، ولو كان الاختلاف ممدوحاً ورحمة لم يكن لهذا الخوف معنى.
وهذا المفتي دائماً يضع كلام أهل العلم في غير موضعه، ويزيل بهجته وطلاوته; وأعجب من هذا: أنه حكى عبارة الفروع، وهي قوله: وليس لحاكم أو غيره أن يبتدي الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ، وإلزامهم برأيه اتفاقاً، فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف؛
فقف على هذا وانظر هذه العبارة، وطابق بينها وبين ما يدعيه هذا من مدح الاختلاف وأنه رحمة، وانظر ما بينهما من التباين والتخالف؛ من ذلك أنه منع الحكام كالمفاتي ونحوهم من إلزام بمذاهبهم السائغة، وفي هذا أن قوله الذي منع من الإلزام به ليس برحمة، بل ولا يحكم عليه بأنه صواب، وإلا فما المانع من إلزام الناس بالرحمة والصواب؟ وفيه أن المنهي عنه الإلزام بترك ما يسوغ، ومن خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو قياساً جلياً، فقوله غير سائغ، فيلزم بترك ما لا يسوغ ويتعين عليه ذلك، وعند هذا المفتي: أن كل الاختلاف رحمة فلا إنكار فيه.
وقوله: فلو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف، يقال للمفتي أنقذه الله من أوحاله: متى كان التفرق والاختلاف عندك مذموماً، حتى تورد هذه العبارة؟! فإن مذهبك إلى أن التفرق والاختلاف رحمة، وهذا نص في ذمه وأنه ليس برحمة، ولذلك نهى عنه؛ فينبغي للرجل إن فاته العلم أن يتعقل ما يقول، أو يدع الناس من شره.
وكذلك ما نقله أبو الحارث عن الإمام أحمد من أنه لا يجوز الاختيار، إلا لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، يقال في جوابه: فأين اختلاف العلماء الذي هو رحمة؟ أما أفادت الرحمة جواز الاختيار؟ هذا أقل أحوال الرحمة، فكيف حصر الإمام أحمد الجواز لعالم بالكتاب والسنة مميز فيهما، والاختلاف الذي هو رحمة قد شاع وذاع، وملأ البقاع؟! قد
ضيق الإمام أحمد على زعمك واسعاً يا أخا العرب; ويعجبني قول ربيعة بن عبد الرحمن: إن بعض من يفتي ببلدنا أحق بالحبس من اللصوص، وإذا فشا الجهل وعهد لم تنكره قلوب الأكثرين؛ فسبحان من منع وحجب من شاء من عباده أن يصيب الحق أو يعرفه، في كل قولة أوردها، أو نكتة بحثها.
وأما قوله: وما ذكرناه هو الذي أوجب قول العلماء، لا إنكار في مسائل الاختلاف، فبهذا صح أن اختلاف الصحابة رحمة، وكذلك الأئمة، لأن اختلافهم تابع لاختلاف الصحابة. انتهى. فهذا الكلام كلام واه ساقط، هجنته تكفي عن جوابه، ولا يقوله من شم رائحة العلم وعرف شيئاً مما هنالك. فأما زعمه أن العلماء قالوا: لا إنكار في مسائل الاختلاف، فالحكاية غير صحيحة، والمعنى فاسد: أما عدم الصحة، فالمعروف عن بعضهم قوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولم يقل مسائل الاختلاف؛ فالنقل غير صحيح، وفي عبارته أنه أضاف القول بذلك إلى العلماء، وهذا مفرد مضاف، فيعم جميع العلماء، والجمهور على إنكار هذا، فكيف ينسب إليهم؟ سبحان الله ما أحسن الحياء!
ثم اعلم: أن المحققين منعوا من قول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأوردوا عن الصحابة فمن بعدهم من الأئمة وعلماء الأمة من الإنكار ما لم يمكن حصره؛ قال شيخ الإسلام أبو العباس، رحمه الله: قولهم: مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها، ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى
القول بالحكم، أو العمل. أما الأول، فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعاً قديماً، وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه منكر بمعنى ضعفه، عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء; وأما العمل، إذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضاً، بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً، أو مقلداً. انتهى.
وقال في الفروع: وفي كلام الإمام أحمد وبعض الأصحاب، ما يدل على أنه إن ضعف الخلاف أنكر فيها، وإلا فلا; وللشافعية أيضاً خلاف، ولهم وجهان في الإنكار على من كشف عن فخذيه؛ قال ابن هبيرة في قول حذيفة، وقد رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده:"ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم "، فيه: أن إنكار المنكر في مثل هذا يغلظ له لفظ الإنكار؛ قال في حاشية الإقناع:، قال الشيخ في قولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي: المسائل التي ليس فيها دليل بحسب العمل به، وجوباً ظاهراً، مثل حديث لا معارض له من جنسه
…
إلى آخر عبارته.
وقول هذا المفتي: فبهذا صح أن اختلاف الصحابة،
رضي الله عنهم، رحمة، وكذا الأمة
…
إلخ، فالمقدمة باطلة، والتأصيل فاسد، والتفريع عليه أبطل وأفسد، وجميع ما تقدم لا يدل على هذه الدعوى; وقولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لم يعرف هذا غوره ومغزاه، وأن المراد منه: أن لا يقال على الله وعلى رسوله وعلى كتابه إلا الحق، قال تعالى:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [سورة الأعراف آية: 169] ؛ وإذا لم يكن للمنكر مستند سوى رأيه واجتهاده، فلا يسوغ له الإنكار، لأنه لا يجب على غيره المصير إليه والأخذ به، بخلاف الكتاب والسنة والإجماع؛ هذا مرادهم، وهذا لا ينتج ولا يصحح أن اختلاف الصحابة والأمة رحمة.
وقوله: وكذا الأمة، يدخل فيه كل خلاف في الأصول والفروع، حتى من أفتى بجهل، وقال على الله ما لا يعلم؛ كل هذا رحمة على رأي هذا المفتي، وقد قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] ، فجعل القول عليه تعالى بغير علم في الدرجة العليا، فإن في الآية الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فهو أكبر من الشرك؛ وهذا يقول: وكذا اختلاف الأمة.
وأيضاً، فهذه العبارة تأتي على جميع ما نقل عن الإمام
أحمد، وعن النووي وغيره، بالهدم والإبطال، كما تقدمت الإشارة إليه؛ فكيف ينقل عن أحمد أنه لا يفتي إلا العالم، وقد صوب كل مفت، وجعل خلافه رحمة؟
وأما قوله: فبهذا يتضح خطأ هذا المتكلم الجاهل
…
إلى آخر العبارة، بما فيها من التعريف بمن نقل خصمه كلامهم، فهذا الرجل مولع بمسبة أهل العلم، وعيبهم وتجهيلهم؛ ومن عادة أهل البدع إذا أفلسوا من الحجة، وضاقت عليهم السبل، تروحوا إلى عيب أهل السنة وذمهم، ومدح أنفسهم؛ والواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الآية [سورة المائدة آية: 8] . وهذا الرجل يحمل خشبته منذ سنين، ولا يجد من يصلبه، وأهل السنة والحديث في كل مكان وزمان، هم محنة أهل الأرض، يمتاز أهل السنة والجماعة بمحبتهم، والثناء عليهم، ويعرف أهل البدع والاختلاف، بعيبهم وشنايتهم، وما أحسن ما قيل في إمام السنة، شعراً:
أضحى ابن حنبل محنة مأمومة
…
وبحب أحمد يعرف المتنسكُ
وإذا رأيت لأحمد متنقّصاً
…
فاعلم بأن ستوره ستهتّكُ
وما ذكره عن المناوي: أن شرط الإنكار أن يكون مجمعاً عليه، فمنقوض بما صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتابعين وتابعيهم، في كل مصر وعصر، وما تقدم عن النووي وغيره، يرد هذا ويبطله، وأدلة إبطاله أكثر من أن تحصر. ونحيل طالب العلم، شريف النفس والهمة، على ما نجده من كلام أهل العلم والدين، وهو قريب المأخذ، سهل التناول؛ وفي النفس من هذا شيء، فإن صح، فالجواب ما تقدم من كلام النووي وغيره، من أن المخالف للكتاب والسنة ينكر عليه، وهل كلام النووي على هذا يتعين إحساناً للظن به؟
ثم إطلاق هذا، وأخذه على عمومه، فيه من تعطيل ما أمر الله به ورسوله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما لا يخفى؛ بل هو سد لهذا الباب، وهدم لهذا الأصل، بل إطلاق هذا فيه تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم، وفيه تخطئة الإمام، لأنه أنكر كثيراً من مسائل الخلاف التي لم يجمع عليها، بل أنكر بعض الأقوال التي قال بها من قال من الصحابة؛ ومن لم يعرف معنى الكلام، وما يترتب عليه من الأحكام، فالسكوت حسبه. ثم ذكر عن ابن حجر، وابن فرج الأندلسي، من هذا النوع ما لا يفيد شيئاً، ثم زعم أن أصحاب الإمام أحمد نصوا على أنه لا إنكار في مسائل الاختلاف، وتقدم ما فيه، وأن بعضهم قال: مسائل الاجتهاد، لا مسائل الخلاف، وفرق بين العبارتين، وما أحسن ما قيل شعراً:
وليس كل خلاف جاء معتبراً
…
إلا خلاف له حظ من النظرِ
ثم استدل بقول صاحب الفروع: وتصح الصلاة خلف من خالف في فروع، ولا أدري ما وجه الاستدلال إن كان يظن أن الصلاة خلف المخالف تقتضي مدح الخلاف، وتصويب من ذهب إليه، فهذا الظن لا يصدر من سليم العقل، فضلاً عن طالب العلم. وما ذكره عن حمزة الجزري، تقدم ما فيه، مع أن المراد إذا لم يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً، وهذا مراد من أطلق؛ وعبارة هذا الرجل ودعواه، أعم من هذا، فالدليل أخص من المدعى، ولا ينهض للاستدلال إلا عكس هذا، بأن يكون الدليل أعم من المدعى.
وقول عمر بن عبد العزيز تقدم جوابه، لكن هذا المفتي زاد هنا بقوله: ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحدهم أخذ بالسنة، فإن هذا من لبس هذا الرجل لا من كلام عمر، فإنه أجل من أن يقول هذا، ولم ينقله أحد فيما علمنا، والمحفوظ عنه قوله: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا؛ والمفتي عافاه الله وجد كتباً، وهجم على ما فيها من غير نظر وأهلية للتحقيق والتأصيل، ولهذا ينقل أقوالاً متضادة يرد بعضها بعضاً؛ وقد رغب عمر عن كثير من الأقوال أن يأخذ بها، لرجحان الدليل، كما يعرفه من عرف شيئا من سيرته وعلمه. 1
1 انتهى ما يناسب هذا الرد في هذا المقام، ويأتي باقيه إن شاء الله تعالى في الجزء الخامس من كتاب الصيام صفحة 287.
وقال أيضاً الشيخ: عبد اللطيف، في جواب له: والواجب على المكلفين في كل زمان ومكان: الأخذ بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره؛ ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح، والصدر الأول، فإن لم يدر شيئاً من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ؛ فإن كان المكلف أنزل قدراً، وأقل علماً، وأنقص فهماً من أن يعرف شيئاً من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصاً من عُرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع، فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جداً.
وقال الشيخ: عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، بعد كلام له: ولو كان هنا عناية بما استقر عليه الحال، في زمن الدعوة الإسلامية، وعلمائنا ومشايخنا، رحمهم الله، لكان بهم قدوة ولنا فيهم أسوة، خصوصاً بعدما فهموا من تقريرات شيخهم محمد، رحمه الله، وقوله في رسائله أكثر ما في الإقناع والمنتهى، مخالف لنص أحمد، فضلاً عن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعرف ذلك من عرفه.
وقال الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف، رحمهما
الله: واختيار بعض المتأخرين لا يقضي بأولويته، ولا رجحانه؛ ولو ذهب المخالف إلى الأخذ بكل ما صححوه، وإلزام الناس بجميع ما رجحوه لأوقعهم في شباك، وأفضى بهم إلى مفاوز الهلاك؛ وهذا على سبيل التنبيه، والإشارة تكفي اللبيب.
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى: ونعتقد أن الله أكمل لنا الدين، وأتم نعمته على العالمين، ببعثة محمد الرسول الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلاة الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين؛ قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]- إلى أن قال- وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائناً من كان؛ بل نتلقاها بالقبول والتسليم، لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من أن نقدم عليها قول أحد؛ فهذا الذي نعتقده وندين الله به.
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمهم الله تعالى:
نور الشريعة يهدي قلب ملتمسٍ
…
للحق من ساطع للأنوار مقتبسِ
والجهل والصدف عن نهج الهدى كفلا
…
لا شك للشخص بالخذلان والفلسِ
وبالشقا والردى والبعد عن سبل
…
تفضي إلى جنة المأوى بملتمسِ
فخذ بنص من التنزيل أو سنن
…
جاءت عن المصطفى الهادي بلا لبسِ
وسنة الخلفاء الراشدين فهم
…
أكرِمْ بم لمريد الحق من قبسِ
فإن خير الأمور السالفات على
…
نهج الهدى والهدى يبدو لمقتبِسِ
والشر في بدع في الدين منكرة
…
تحلو لدى كل أعمى القلب منتكسِ
فاصغ للحق واردد ما سواه على
…
أربابه من أخي نطق وذي خرسِ
وقال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: فالواجب على من نصح نفسه، وأراد نجاتها، وكان من أهل العلم: أن ينظر القول الذي يدل عليه الكتاب والسنة من الأقوال المتنازع فيها، اتباعاً لقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد في كل حال; وأقوال أهل الإجماع، والمفتين، والحكام وغيرهم، إنما اتبعت لكونها تدل على طاعة الله ورسوله، وإلا فلا تجب طاعة مخلوق لم يأمر الله بطاعته؛ وطاعة الرسول طاعة لله. وهذا حقيقة التوحيد الذي يكون كله لله؛ وإذا عرف أن القول قد قاله بعض أهل العلم، ومعه دلالة الكتاب والسنة، كان هو الراجح؛ وإن كان قد قال غيره ممن هو أكبر من قائل ذلك القول، فإن ذلك القول هو الذي ظهر أن فيه طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
سئل بعضهم: هل إجماع الصحابة حجة، أم لا؟
فأجاب: إجماعهم حجة قاطعة، يجب الأخذ بها بإجماع أهل العلم؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ