الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الحادية عشرة: النهي عن السخرية بالناس واحتقارهم
الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من الصفات الذميمة التي ذمها اللَّه ورسوله: السخرية بالناس واحتقارهم، قال تعالى:{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة (1)} [الهمزة]، والويل: كلمة تهديد ووعيد لمن كانت هذه صفاته، قال المعلمي رحمه الله: الهمز هو السخرية من الناس بالإشارة؛ كتحريك اليد قرب الرأس: إشارة إلى الوصف بالجنون، أو الإشارة بالعين: رمزًا للاستخفاف أو نحو ذلك.
واللمز: هو السخرية من الناس بالقول، كتسمية الشخص باسم يدل على عاهة فيه أو مرض، أو اتهامه بخليقة سيئة، أو التعريض بذلك. اهـ
(1)
.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11].
(1)
مكارم الأخلاق في القرآن الكريم ليحيى المعلمي، ص: 333، نقلاً عن كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (10/ 4604).
قال الطبري رحمه الله: «إن اللَّه عمَّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض بجميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك»
(1)
؛ وقال أيضًا في قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} : «أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن اللَّه تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمَّ اللَّه بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين: أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها»
(2)
.
روى أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - قال غير مسدد: تعني قصيرة - فقال: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» قالت: وحكيت له إنسانًا فقال: «مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا»
(3)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث المَعرُور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني سابَبتُ رجلاً فعيَّرته بأمِّه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ،
(1)
تفسير الطبري (11/ 390).
(2)
تفسير الطبري (11/ 293).
(3)
ص: 529، برقم 4875، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/ 923) برقم 4080.
فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَاكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»
(1)
؛ والسخرية بالناس من سمات الكفار والمنافقين، وقد نُهينا عن التشبه بهم، قال تعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (79)} [التوبة].
قال ابن كثير رحمه الله: «هذه أيضًا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى المتصدقون لا يسلمون منهم؛ إن جاء أحدهم بمال كثير قالوا: مُراءٍ، وإن جاء بقليل قالوا: إن اللَّه لغني عن صدقة هذا»
(2)
. اهـ.
والسخرية تميت القلب وتورثه الغفلة، حتى إذا كان يوم القيامة ندم الساخر وتحسَّر على فعله، قال تعالى:{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين (56)} [الزمر].
والسخرية من الناس عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة، في الدنيا: قد يُبتَلَى الساخر بمثل ما سخر به، وفي الآخرة: عذاب اللَّه، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِين (31)} [المطففين].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
(1)
ص: 29، برقم 30.
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 247).
اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58)} [الأحزاب].
والساخر بعيد عن ربه قريب من الشيطان، قال تعالى عن الكفار:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِين (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُون (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُون (111)} [المؤمنون].
(1)
.
ومما تقدَّم، يتبيَّن لنا: أن السخرية بالناس ذنب عظيم، منافٍ للدِّين والمروءة والأدب.
ومن صور هذا الاستهزاء في وقتنا المعاصر:
السخرية بالعلماء والمشايخ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغيرهم من أهل الصلاح والخير، ولمزهم بالألقاب السيئة، وتأليف القصص المكذوبة التي تسمَّى النكت عليهم؛ وقد نص بعض أهل العلم: على أن الساخر من العلماء أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، إذا كان يسخر منهم لدينهم لا لذاتهم، فإن هذا من الكفر المخرج من دائرة الإسلام، قال تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة].
(1)
تفسير القرطبي (15/ 95).
ومنها: السخرية بالعمال المقيمين في هذه البلاد، أو الفقراء وضعفة الناس، واحتقارهم: لأن هذا من الجنسية أو البلد الفلاني؛ روى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: مر رجل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ » قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال:«مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ » قالوا: حري إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يُستمع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا»
(1)
؛ وما يدري هذا الساخر: لعل الذي سخر منه خير وأتقى للَّه منه! قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
قال محمود الغزنوي:
فلا تَحْقِرَنَّ خَلقاً مِن الناسِ عَلَّهُ
…
وَلِيُّ إِلَهِ العالمينَ وَمَا تَدْرِي
فذو القَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ خَافٍ عَنِ الوَرَى
…
كَمَاَ خَفِيَتْ عَنْ عِلْمِهِمْ ليلةُ القدرِ
ومنها السخرية بالجيران والأصدقاء والأقارب، وقد يكون الحامل على هذه السخرية والاحتقار: هو الحسد، فقد يبرز بعض الناس عند أقاربه أو أصدقائه: بتجارة أو علم أو دراسة، فيسخرون منه، ويلمزونه في المجالس، ليسقطوه من أعين الناس؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ
(1)
ص: 1009، برقم 5091.
عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ! إِخْوَانًا؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»
(1)
.
والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
ص: 1035 برقم 2564.