الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والثلاثون: حكم الأسهم المختلطة
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ:«إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا» فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يَاتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَانُكَ تُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلا يُكَلِّمُكَ؟ قَالَ: وَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ! فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ
(1)
، وَقَالَ:«أَينَ هَذَا السَّائِلُ؟ » - وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ - فَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَاتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ
(2)
، إِلا آكِلَةَ الْخَضِرِ
(3)
، فَإِنَّهَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا
(4)
، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ
(5)
، وَبَالَتْ،
(1)
أي العرق الكثير.
(2)
إذا قاربه ودنا منه.
(3)
ضروب من النبات وليس من أحرار البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول.
(4)
وهما جانبا البطن.
(5)
إذا ألقى البعير رجيعه سهلاً رقيقًا.
ثُمَّ رَتَعَتْ؛ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ: لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ، وَالْيَتِيمَ، وَابْنَ السَّبِيلِ (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنَّهُ مَنْ يَاخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ كَالَّذِي يَاكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
قال الحافظ ابن رجب: فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بِشَرَهٍ وجوع نفس من حيث لاحَتْ له، لا بقليل يقنع ولا بكثير يشبع، ولا يحلل ولا يحرم، بل الحلال عنده: ما حل بيده وقدر عليه، والحرام عنده: ما منع منه وعجز عنه، فهذا هو المتخوض في مال اللَّه ورسوله فيما شاءت نفسه، وليس له إلا النار يوم القيامة؛ وفي هذا تنبيه على أن من تخوَّض من الدنيا في الأموال المحرَّم أكلها: كمال الربا، ومال الأيتام، والمال المغصوب، والسرقة، والغش في البيوع، وغير ذلك، فكل هذه الأموال وما أشبهها: يتوسع بها أهلها في الدنيا، ويتلذذون بها، ويتوصلون بها إلى لذات الدنيا وشهواتها؛ ثم ينقلب ذلك بعد موتهم، فتصير جمرًا من جمر جهنم في بطونهم، فما تفي لذتها بتبعتها، قال الشاعر:
تَفْنَى اللَّذاذَةُ ممَّن نَالَ لَذَّتَهَا
…
مِنَ الحَرامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ والعَارُ
تَبقَى عَواقِبُ سُوءٍ من مَغَبَّتِها
…
لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِن بَعْدِها النارُ
فلهذا شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم من يأخذ الدنيا بغير حقها ويضعها في غير حقها: بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله،
(1)
صحيح مسلم ص: 403 برقم 1052، وصحيح البخاري ص: 1234 برقم 6427.
فإما أن يقتلها وإما أن يقارب قتلها، فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقها ووضعها في غير وجهها، فقد يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه، ومن مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاح حاله، فيستحق النار بعمله
(1)
. اهـ.
ومما يلاحظ في هذه الأيام: انكباب كثير من الناس على المساهمات المشبوهة والمحرمة، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث - الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ: أَمِن حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟ ! »
(2)
.
وروى الترمذي في سننه من حديث كعب بن عياض رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»
(3)
؛ وهذه الشركات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: الشركات ذات الأعمال المباحة، وليس من أنشطتها الاستثمار المحرَّم، بل تعمل بالصناعة والتجارة: سواء تجارة العقار أو الزراعة أو النقل، ولا تتعامل بمحرَّم؛ فلا تقتَرِض ولا تُقرِض بالربا، ولا تُودِع أرباحها في بنوك تُعطي لها فوائد ربوية، ولا تستثمر أرباحها في محرَّم، فهذه الأصل فيها الجواز.
ثانيًا: الشركات ذات الأعمال المحرَّمة: كالبنوك الربوية، أو
(1)
لطائف المعارف ص: 531.
(2)
ص: 393 برقم 2083.
(3)
ص: 385 برقم 2336، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
صناعة الخمور، أو آلات الطرب، أو التجارة بالخنزير، بحيث يكون أصل إنشائِها محرَّمًا، فهذا النوع لا يتنازع مسلم في حرمته؛ جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي: بأنه لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات، غرضها الأساسي محرَّم: كالتعامل بالربا، أو إنتاج محرَّمات، أو متاجرة بها
(1)
.
الثالث: الشركات ذات الأعمال المشروعة، وأنشئت من أجل الاستثمار في الأشياء المباحة: كصناعة الحديد والورق والزيت، والنقل وتجارة الأراضي وغيرها، إلا أنها تتعامل بالحرام أحيانًا: كالإيداع في البنوك وأخذ الفائدة منها، أو أن تجعل من ضمن رأس مالها الاقتراض بالربا أو الإقراض، فتضم هذه الأرباح إلى أرباح مساهميها، وهذه الشركات هي التي اشتهرت بين الناس بالأسهم المختلطة، أي اختلط فيها الحلال والحرام، وفيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول بالجواز وفق ضوابط معينة، ومنهم من يقول بالتحريم: وهو قول غالب العلماء.
فقد سئلت اللجنة الدائمة عن أسهم الشركات المختلطة، والتي أساس عملها الصناعة أو الخدمات أو التجارة أو غيرها، ولكنها تقع في مخالفات شرعية: كأن تضع فوائض أموالها في البنوك، أو تقترض من البنوك، أو غير ذلك من المخالفات؛ فأجابت اللجنة بالتحريم: لعموم الأدلة من الكتاب والسنة بتحريم الربا، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ
(1)
في دورته الرابعة المنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأت في 20/ 8 / 1415 هـ.
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وغير ذلك من الأدلة
(1)
.
وعلى المسلم أن يتورع وأن يبتعد عن الشبهات؛ روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ: كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ»
(2)
.
وروى الترمذي في سننه من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»
(3)
.
وروى البخاري في صحيحه أن عبدًا يقال له مدعم، كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهد في غزوة خيبر، أصابه سهم طائش، فقال الصحابة: هنيئًا له الشهادة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»
(4)
.
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة (13/ 408) رقم (8715).
(2)
ص: 388 برقم 2051، وصحيح مسلم ص: 651 برقم 1599 - واللفظ له -.
(3)
قطعة من حديث ص: 121 برقم 614، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (1/ 189) برقم 501.
(4)
قطعة من حديث ص: 1279 برقم 6707.
وهذه الشملة عباءة قيمتها دراهم معدودة، ومع ذلك لم يسلم صاحبها من عقوبة أكل المال الحرام
(1)
.
اللَّهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
وسبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(1)
انظر: الأسهم المختلطة/ للشيخ صالح التميمي حفظه اللَّه.