الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والعشرون: النصيحة
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن شعائر الإسلام العظيمة، ومن مقامات الدين العالية الرفيعة: النصيحة، قال تعالى:{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِين (20)} [القصص].
روى مسلم في صحيحه من حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ يا رسول اللَّه؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»
(1)
.
قال النووي: هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام، وأما ما قاله جماعات من العلماء: إنه أحد أرباع الإسلام - أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام -، فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده
(2)
.
قال ابن حجر: قوله: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي: معظم الدين النصيحة، كما قيل:«الحَجُّ عَرَفَةُ» ؛
(1)
ص: 54 برقم 55.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 37).
ويحتمل أن يحمل على ظاهره، لأن كل عمل لم يرد به عامله إلاخلاص، فليس من الدين.
قوله: النصيحة للَّه: هي وصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرًا وباطنًا، والرغبة في محابه: بفعل طاعته، والرهبة من مساخطه: بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه.
والنصيحة لكتاب اللَّه: تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه.
والنصيحة لرسوله: تعظيمه ونصره حيًّا وميتًا، وإحياء سنته بتعلُّمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله ومحبته ومحبة اتباعه.
والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم؛ ومن أعظم نصيحتهم: وقفهم عن الظلم بالتي هي أحسن، ومن جملة أئمة المسلمين: أئمة الاجتهاد؛ وتقع النصيحة لهم ببث علومهم وتعليمهم ما ينفعهم، وكشف وجوه الأذى عنهم، وأنه يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه
(1)
.
والنصيحة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: النصيحة للمسلمين عمومًا وفيها أحاديث كثيرة؛ روى مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: «بايعت
(1)
فتح الباري (1/ 138).
النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»
(1)
.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ»
(2)
.
القسم الثاني: النصيحة لولاة الأمر. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، وَرَضِيَ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ رَضِيَ لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَنْصَحُوا لِوُلَاةِ الأَمْرِ» الحديث
(3)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيِّ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ»
(4)
.
وأما نصح الولاة لرعاياهم؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ استَرعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصحِهِ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»
(5)
.
(1)
ص: 35 برقم 57، وصحيح مسلم ص: 54 برقم 56.
(2)
ص: 893 برقم 2162.
(3)
(14/ 78 - 79) برقم 8334؛ وأصله في صحيح مسلم دون قوله: «وأن تنصحوا لولاة الأمر» ص: 712 برقم 1715. وقال محققوه: إسناده على شرط مسلم.
(4)
(27/ 301) برقم 16738، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.
(5)
ص: 1364 برقم 7150، وصحيح مسلم ص: 81 برقم 142.
وقد ذكر اللَّه في كتابه عن الرسل السابقين: أنهم كانوا ينصحون لأقوامهم، فذكر اللَّه عن نبي اللَّه نوح عليه السلام أنه قال لقومه:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62].
وقال تعالى عن نبي اللَّه هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين (68)} [الأعراف].
ونبينا محمد بن عبد اللَّه إمام الناصحين: بلَّغ الرسالة ونصح الأمَّة؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ - وذكر صفة حجه - وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «وَأَنْتُمْ تُسأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ » قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ
(1)
.
وقد عذر اللَّه من تخلَّف عن الجهاد لعذر إذا كان ناصحًا للَّه ورسوله، قال تعالى:{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيم (91)} [التوبة].
وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًّا، حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه، والنصيحة سرًّا تشمل ولاة الأمر، والعلماء، وعامة الناس.
قال الشافعي رحمه الله:
تَعَمدني بنُصحِكَ في انفرادِي
…
وَجَنِّبِني النَّصيِحَةَ في الجَماعَه
(1)
جزء من حديث ص: 483 - 485.
فإنَّ النُّصْحَ بين الناسِ نَوعٌ
…
من التَوبِيخِ لا أرْضَى اسْتِماعَه
وإنْ خَاَلفْتَني وَعَصيْت قَولِي
…
فلا تجْزَعْ إذا لم تُعْطَ طَاَعهْ
ومن فوائد النصيحة:
أولاً: أنها من أعظم أسباب الثبات على الدين: لأن الذي ينصح يريد أن يطبِّق ما نصح به، ولا يخالف فعله قوله، قال تعالى عن نبي اللَّه شعيب:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
ثانيًا: دليل حب الآخرين وبغض الشر لهم، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
(1)
.
ثالثًا: صلاح المجتمع، إذ تشاع فيه الفضيلة وتستر فيه الرذيلة.
رابعًا: القضاء على كثير من المنكرات، فكم من منكر زال بسبب نصيحة صادقة.
خامسًا: تنفيذ أمر اللَّه ورسوله الذي هو غاية سعادة العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب].
سادسًا: أنها من أعظم أسباب الهداية، فكم من كافر أسلم بسبب نصيحة! وكم من عاص مرتكب لكبائر الذنوب تاب واستقام
(1)
ص: 26 برقم 13 وصحيح مسلم ص: 50 برقم 45.
حاله بسبب نصيحة! روى مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»
(1)
.
سابعًا: براءة الذمة، فقد تكون الذمة مشغولة، فإذا نصح العبد فقد أدى ما عليه، قال تعالى:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]. وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلَاغُ الْمُبِين (18)} [العنكبوت].
وذكر ابن حزم أمرين يتعلقان بالنصيحة:
الأول: النصيحة مرتبتان: الأولى: فرض وديانة، والثانية تنبيه وتذكير؛ فواجب على المرء ترداد النصح رضي المنصوح أو سخط، تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ.
الثاني: لا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه فأنت ظالم لا ناصح
(2)
؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرِضَت عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»
(3)
.
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
ص: 980 برقم 2406.
(2)
الأخلاق والسير ص: 51 - 52.
(3)
ص: 117 برقم 220.