الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الخامسة والثلاثون: إن من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} : أي من كان يقصد بعمل الآخرة عرض الدنيا وزينتها من مال، وولد، ومنصب، وغيرها، كما قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أي نعطه من الدنيا ما أراد إذا شئنا استدراجًا ومعاملة له بما قصد، كما في قوله تعالى:{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18].
قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون} : أي لا ينقصون.
قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ} : بيان لعاقبتهم حيث ذكر أنهم يعطون في الدنيا ما أرادوا وما طلبوا، وأما في الآخرة فإنهم يحرمون من الثواب لأنهم لم يريدوا الآخرة، وهي إنما تحصل لمن أرادها كما قال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)} [الإسراء].
قوله تعالى: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} أي: في الآخرة حبط ما صنعوه في الدنيا؛ {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} أي: أعمالهم في الدنيا باطلة، لأنهم لا يريدون وجه اللَّه.
قال قتادة رحمه الله: من كانت الدنيا همه وطلبه ونيته، جازاه اللَّه بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يُعطَى بها جزاء؛ وأما المؤمن فيُجازى بحسناته في الدنيا، ويُثاب عليها في الآخرة
(1)
.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ، لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ، لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ
(1)
المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير، ص:632.
جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»
(1)
،
ولما بلغ هذا الحديث معاوية بكى بكاءً شديدًا، فلما أفاق قال: صدق اللَّه ورسوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون (16)} [هود]
(2)
.
فهؤلاء الثلاثة أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فإن قال قائل: ما الفرق بين إرادة الإنسان بعمله الدنيا والرياء؟ فالجواب: أنهما يجتمعان في العمل لغير وجه اللَّه وفي أنهما شرك خفي، ويفترقان أن الرياء يراد به الجاه والشهرة، وأما طلب الدنيا فيراد به الطمع والعَرَض العاجل، كمن يجاهد من أجل المال فقط؛ والذي يعمل من أجل الطمع والعَرَض العاجل، أعقل من الذي يعمل للرياء، لأن الذي يعمل للرياء لا يحصل له شيء، وأما الذي يعمل من أجل الدنيا، فقد يحصل له طمع في الدنيا ومنفعة.
ولما سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب «عن قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون (15)} ، ذكر أنها تشمل أنواعًا:
النوع الأول: المشرك والكافر الذي يعمل أعمالاً صالحة في هذه الدنيا: من إطعام الطعام، وإكرام الجار، وبر الوالدين، والصدقات
(1)
صحيح مسلم ص: 791 برقم (1905) ..
(2)
صحيح ابن حبان (2/ 138) برقم 408.
والتبرعات، ووجوه الإحسان، ولا يؤجر عليها في الآخرة، لأنها لم تُبنَ على التوحيد، فهو داخل في قوله:{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون (15)} ؛ فالكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يجازَى بها في الدنيا، وأما في الآخرة فليس له جزاء عليها عند اللَّه، لأنها لم تُبنَ على التوحيد والإخلاص للَّه عز وجل.
النوع الثاني: المؤمن الذي يعمل أعمالاً من أعمال الآخرة، لكنه لا يريد بها وجه اللَّه، وإنما يريد بها طمع الدنيا: كالذي يحج ويعتمر عن غيره، يريد أخذ العوض والمال؛ وكالذي يتعلَّم ويطلب العلم الشرعي، من أجل أن يحصل على وظيفة، فهذا عمله باطل في الدنيا، وحابط في الآخرة: وهو شرك أصغر.
النوع الثالث: مؤمن عمل العمل الصالح مخلصًا للَّه عز وجل، لا يريد به مالاً أو متاعًا من متاع الدنيا ولا وظيفة، لكن يريد أن يجازيه اللَّه به، بأن يشفيه اللَّه من المرض، ويدفع عنه العين ويدفع عنه الأعداء؛ فإذا كان هذا قصده، فهذا قصد سيِّاء، ويكون عمله هذا داخلاً في قوله:{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون (15)} . والمفروض في المسلم: أن يرجو ثواب الآخرة، يرجو أعلى مما في الدنيا، وتكون همته عالية، وإذا أراد الآخرة أعانه اللَّه على أمور الدنيا، ويسَّرها له {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق].
النوع الرابع: وهو أكبر من الذي قبله، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية: أنها نزلت فيه؛ وهو أن يعمل أعمالاً صالحة، ونيته رياء
الناس! لا طلب ثواب الآخرة.
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس، والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه اللَّه، طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصدًا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه للَّه، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما؛ وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلَّص وأهل النار الخلَّص، ويسكت عن صاحب الشائبتين: وهو هذا وأمثاله»
(1)
.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - وهو يتحدث عن النوع الثاني الذي سبق ذكره -: وهو الذي يعمل أعمالاً صالحة لا يريد إلا الدنيا: كالذي يتعلم من أجل الوظيفة، أو يعتمر لغيره من أجل المال فقط؛ وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها: فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا القصد، ولم يكن له إرادة لوجه اللَّه والدار الآخرة، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن، فإن المؤمن - وإن كان ضعيف الإيمان - لا بد أن يريد اللَّه والدار الآخرة؛ وأما من عمل العمل لوجه اللَّه ولأجل الدنيا، والقصدان متساويان أو متقاربان، فهذا - وإن كان مؤمنًا -: فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص، وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص.
وأما من عمل للَّه وحده وأخلص في عمله إخلاصًا تامًّا، لكنه
(1)
كتاب الاستنباط/ للشيخ محمد عبد الوهاب ص: 120 - 123، نقلاً عن كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد/ للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ص: 437 - 441 بتصرف.
يأخذ على عمله جُعلاً معلومًا يستعين على العمل والدين: كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير، وكالمجاهد الذي يرتب على جهاده غنيمة أو رزقًا، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد، والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها؛ فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده: لكونه لم يرد بعمله الدنيا، وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له مُعينًا على قيام الدين، ولهذا جعل اللَّه في الأموال الشرعية - كالزكوات وأموال الفيء وغيرها - جزءًا كبيرًا: لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة
(1)
.
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
القول السديد ص: 187 - 189.