الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثالثة والأربعون: قصة نبي الله يونس عليه السلام
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فلقد قص اللَّه علينا في كتابه العزيز، قصص الأنبياء والمرسلين لنأخذ منها الدروس والعبر، ولتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية إيمان المؤمنين، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وغير ذلك من الدروس والحكم، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون (111)} [يوسف]. وقال أيضًا: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين (120)} [هود]. ومن هؤلاء الرسل: نبي اللَّه يونس عليه السلام، وقد ذكر اللَّه قصته في عدد من الآيات، قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين (98)} [يونس].
ذكر أهل التفسير أن اللَّه بعث يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى اللَّه عز وجل فكذبوه، وأصروا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم فركب سفينة في البحر، فلجَّت واضطربت وماجت بهم، وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون؛ فتشاوروا فيما بينهم على أن يقترعوا فمن وقعت عليه القرعة القوه من السفينة ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي اللَّه يونس فلم يسمحوا به، فلما عادوها ثانية فوقعت عليه أيضًا، فشمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه فأبوا عليه ذلك، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضًا لما يريده اللَّه به من الأمر العظيم، وبعث اللَّه عز وجل حوتًا عظيمًا من البحر فالتقمه، وأمره اللَّه تعالى أن لا يأكل له لحمًا ولا يهشم له عظمًا فليس له برزق، فأخذه فطاف به البحر، ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت، فإذا هو حي فخر للَّه ساجدًا وقال: يا رب اتخذت لك مسجدًا، لم يعبدك أحد في مثله، فأمر اللَّه الحوت فقذفه في أرض خالية من كل أحد ومن الأشجار والظلال، وهو مريض بسبب حبسه في بطن الحوت، حتى صار مثل الفرخ الممعوط
من البيضة؛ وأنبت اللَّه عليه شجرة تظله بظلالها الظليل وهي باردة، ثم لطف به فأرسله إلى مئة ألف من الناس أو يزيدون، فدعاهم إلى اللَّه فآمنوا، فصاروا في موازين أعماله، فمنعهم اللَّه بأن صرف عنهم العذاب بعدما انعقدت أسبابه.
من الدروس والعبر المستفادة من هذه القصة العظيمة:
أولاً: أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا، قال تعالى:{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين (88)} [الأنبياء].
قال المفسرون: الظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت.
قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح]. قال الشاعر:
ولَرُبَّ نَازِلةٍ يضيقُ بها الفتى ذرعًا
…
وعندَ اللَّه مِنْهَا المخرجُ
ضاقتْ فَلَمَّا استَحْكَمَت حَلَقَاتُها
…
فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لا تُفْرَجُ
ثانيًا: أن تقوى اللَّه نجاة للعبد في الدنيا والآخرة {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِين (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون (144)} [الصافات]. وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق].
وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} [مريم].
ثالثًا: استجابة اللَّه لدعاء المؤمن؛ فإن يونس لما دعا ربه والتجأ إليه، كشف اللَّه عنه هذه الغمة، قال تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين (88)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
روى الترمذي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ، إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»
(1)
.
رابعًا: لطف اللَّه تعالى بعبده؛ فإن يونس - لما قذفه الحوت على الشاطئ وهو مريض - أنبت اللَّه له شجرة اليقطين، قال بعضهم: هي القرع ورقها في غاية النعومة وكثير وظليل، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيئًا ومطبوخًا وبقشره وبزره أيضًا.
خامسًا: قدرة اللَّه تعالى المطلقة، قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)} [يس]. وهو سبحانه الذي أمر الحوت أن لا يأكل له لحمًا، ولا يهشم له عظمًا.
سادسًا: أن المؤمن قد يعاقب على ذنبه في الدنيا، قال تعالى:
(1)
ص: 552 برقم 3505، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (3/ 168) برقم 2785.
{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]. وقال أيضًا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير (30)} [الشورى].
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.