الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الرابعة والثلاثون: شرح اسم الله تعالى اللطيف
الحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في الكتاب العظيم: اللطيف، قال تعالى:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير (103)} [الأنعام]. وقال يوسف عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم (100)} [يوسف].
وقال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير (14)} [الملك]. قال الخطابي: اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم من مصالحهم من حيث لا يحتسبون، كقوله سبحانه:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز (19)} [الشورى].
وقال الشوكاني في قوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ} : «إن اللَّه لطيف لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي»
(1)
.
وجمع الشيخ عبد الرحمن بن سعدي بين التعريفين فقال:
(1)
فتح القدير (4/ 239).
«اللطيف الذي لطف علمه وخبره حتى أدرك السرائر والضمائر، الخبايا [والخفايا][والغيوب]، وهو الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
ومن معاني اللطيف: أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة والمقامات النبيلة»
(1)
.
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: إن اللَّه سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء، وإن دقَّ وصغر أو خفي، وكان في مكان سحيق، قال تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} (59)[الأنعام].
وقال تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} [لقمان].
فاللَّه لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة: وهي الحبة الصغيرة التي لا وزن لها، فإنها - ولو كانت في صخرة في باطن الأرض أو في السماوات -، فإن اللَّه يأتي بها وهو اللطيف الخبير.
(1)
تيسير الكريم الرحمن ص: 838.
فهذا علمه سبحانه في الجمادات وحركاتها وسكناتها، أما علمه سبحانه في الطيور والحيوانات وسائر الخلائق، فإن اللَّه تعالى قال:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون (38)} [الأنعام]. وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (6)} [هود].
فإذا كان هذا علمه بالجمادات والطيور والحيوانات، فكيف بالمكلَّفين من الجن والإنس الذين لم يخلقوا إلا للعبادة؟ قال تعالى عنهم:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور (19)} [غافر]. وقال سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (61)} [يونس].
وقال تعالى لنبيه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (220)} [الشعراء].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث جبريل: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
.
ثانيًا: أن العبد إذا علم أن ربه متصف بدقَّة العلم وإحاطته بكل
(1)
ص: 33 برقم 50، وصحيح مسلم ص: 37 برقم 9.
صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، واللَّه تعالى يجازي العباد على أعمالهم؛ فالمحسن لا يضيع من إحسانه مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة، قال تعالى:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} [الزلزلة].
وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف]. وقال سبحانه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه]. وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء].
ثالثًا: إن اللَّه تعالى من لطفه بعباده يضاعف أجور المؤمنين، ويعفو ويتجاوز عن ذنوب من شاء من عباده، قال تعالى:{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ؛ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ
أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (18)} [هود]»
(1)
.
رابعًا: إن اللَّه لطيف بعباده يريد لهم الخير واليُسر، ويقيِّض لهم أسباب الصلاح والبر؛ ومن لطفه بعباده: أنه يسوق إليهم أرزاقهم، وما يحتاجونه في معاشهم، قال تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19].
وقال سبحانه: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق].
ومن لطفه سبحانه بخلقه: خلق الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث: ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة؛ وهو في بطن أمه يتقلب في هذه الأطوار: نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم تكسى العظام لحمًا، قال تعالى:{ثُمَّ أَنشَانَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون].
ومن لطفه بخلقه: لطفه بأنبيائه المرسلين؛ فمن ذلك: لطفه بيوسف عليه السلام، حين أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، وجمع بينه وبين أبويه، بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته.
ومن ذلك: لطفه بنبيه موسى عليه السلام، حين أرسله إلى فرعون، وألقته أمه في البحر، ووصل إلى قصر فرعون، وقذف اللَّه في قلب زوجة فرعون الرحمة لهذا الطفل، وطلبت من فرعون استبقاءه؛ فنجا من القتل، ثم منع من الرضاعة، ليرجع إلى أمه فيحصل على حنانها،
(1)
ص: 460 برقم 2441، وصحيح مسلم ص: 1108 برقم 2768.
قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون (12)} [القصص]. ثم تربَّى في قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره.
ومن لطفه بعبده: أن قيَّض له كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها، مما يتنافس فيه أهل الدنيا، تقطع عبده عن طاعته، أو تحمله على الغفلة عنه أو على معصيته، صرفها عنه، وقدَر عليه رزقه، ولهذا قال هنا:{يَرْزُقُ مَن يَشَاء} [الشورى: 19] بحسب اقتضاء حكمته ولطفه {وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز (19)} [الشورى].
ومن لطفه بعباده المؤمنين: أنه أمرهم بالعبادات الاجتماعية التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض
(1)
(2)
.
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي ص: 723.
(2)
النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى للنجدي (1/ 259 - 265).