الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الخامسة عشرة: العُجب
الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من عظائم الأمور وكبائر الذنوب التي تهلك صاحبها، وتفسد عليه أعماله: تلك الخصلة الذميمة: العُجب
(1)
؛ قال الراغب الأصفهاني: العجب ظن الإنسان في نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها، قال بعضهم: هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المنعِم عز وجل.
قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين (25)} [التوبة]، وقال تعالى عن قارون:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُون (78)} [القصص].
(1)
الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص:306.
فلما أعجب بما عنده نسي أن هذا فضل اللَّه عليه، وأن الذي أعطاه قادر على أن يأخذه فيعود فقيرًا كما كان، فكانت عاقبته ما ذكره اللَّه:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)} [الكهف].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ
(1)
، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ
(2)
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
وروى البزار من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ، لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ: الْعُجْبَ»
(4)
.
وروى البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ»
(5)
.
ورُوِيَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «الهلاك في شيئين: العُجب والقنوط»
(6)
.
قال ابن قدامة رحمه الله: واعلم أن العُجب يدعو إلى الكِبر لأنه أحد أسبابه فيتولد من العُجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة وهذا مع
(1)
هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين.
(2)
المراد أنه ينزل في الأرض مضطربًا متدافعًا.
(3)
ص: 1132، برقم 5789، وصحيح مسلم ص: 866، برقم 2088.
(4)
كشف الأستار (4/ 244) برقم 3633، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (3/ 545 - 546): رواه البزار بإسناد جيد.
(5)
(1/ 59) برقم 80، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1802.
(6)
مختصر منهاج القاصدين: ص: 298، 299.
الخَلْق؛ فأما مع الخالق: فإن العُجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنه يَمُنُّ على اللَّه تعالى بفعلها وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها؛ وإنما يتفقد آفات الأعمال من خاف ردَّها دون من رضيها وأُعجب بها، والعُجب إنما يكون بوصف كمال من علم أو عمل؛ فإن انضاف إلى ذلك أن يرى حقًّا له عند اللَّه إدلالاً، فالعُجب يحصل باستعظام ما عُجب به، والإدلال يوجب توقع الجزاء، مثل أن يتوقع إجابة دعائه وينكر ردَّه
(1)
. اهـ.
وَعِلَّةُ العُجب: الجهل المحض، وعلاجه: المعرفة المضادة لذلك الجهل، أي معرفة بأن ذلك الذي أثار إعجابه نعمة من اللَّه عليه من غير حق سبق له، ومن غير وسيلة يُدلي بها، ومن ثم ينبغي أن يكون إعجابه بجود اللَّه وكرمه وفضله؛ وإذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً ولم يُعجب به، لأن اللَّه هو الذي وفقه إليه، وإذا قيس بالنعم لم يَفِ بمعشار عُشرها، هذا إذا سلم من شائبة وسلم من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يُغلِّب الحذر من رده، ويخاف العقاب على التقصير فيه: هذا في علاج العُجب إجمالاً؛ أما علاج حالاته تفصيلاً: فإن ذلك يختلف باختلاف ما يحدث به العُجب، فإن كان ناشئًا عن حالة البدن وما يتمتع به صاحبه من الجمال والقوة ونحوهما، فعلاجه التفكر في أقذار باطنه، وفي أول أمره وآخره، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة، كيف تمرغت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع!
وإن كان العُجب بكثرة الأموال والأولاد والخدم والأقارب
(1)
مختصر منهاج القاصدين: ص: 298، 299.
والأنصار، فعلاجه أن يعلم ضعفه وضعفهم، وأَنَّ للمال آفات كثيرة وأنه غادٍ ورائح ولا أصل له.
ومر بالحسن البصري شاب عليه بزة له حسنة، فدعاه فقال له:«ابن آدم مُعجب بشبابه، محب لشمائله، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لاقيت عملك، ويحك داوِ قلبك فإن مراد اللَّه من العباد صلاح قلوبهم» ؛ وقال مسروق: «كفى بالمرء علمًا أن يخشى اللَّه، وكفى بالمرء جهلاً أن يُعجب بعلمه»
(1)
.
قيل للحسن البصري: من شر الناس؟ قال: من يرى أنه أفضلهم، وقال بعضهم: الكاذب في نهاية البعد من الفضل والمرائي أسوأ حالاً منه لأنه يكذب بفعله وقوله، والمعجب أسوأ حالاً منهما فإنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه، والمعجب عمي عن مساوئ نفسه ورآها محاسن وسُر بها، وقد قال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لا أطالبه بغيرها: إذا عجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه
(2)
.
والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
بتصرف واختصار من كتاب نضرة النعيم (11/ 5357 - 5358).
(2)
الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص: 306 - 307.