الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والأربعون: أمراض القلوب
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإنه ينبغي للمؤمن أن يعتني بسلامة قلبه وصحته من الأمراض، فإن القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، وهذا القلب هو محل نظر اللَّه عز وجل لعبده، والجوارح تبع لصلاح القلب وفساده.
قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة: 10]. وقال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50]. وقال سبحانه: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
(1)
.
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ: أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
(2)
.
(1)
ص: 1035 برقم 2564.
(2)
ص: 651 برقم 1599، وصحيح البخاري ص: 34 برقم 52.
فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة اللَّه ومحبة ما يحبه اللَّه وخشية اللَّه وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه اللَّه، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والشبهات بحسب اتباع هوى القلب؛ ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره يتابعونه في كل شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحًا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند اللَّه إلا القلب السليم، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون (88) إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «أَسأَلُكَ قَلبًا سَلِيمًا»
(1)
. فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة اللَّه وما يحبه اللَّه، وخشية اللَّه وخشية ما يباعد منه
(2)
.
والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قلب سليم، وقلب ميت، وقلب مريض.
(1)
جزء من حديث في مسند الإمام أحمد (28/ 338) برقم 17114، وقال محققوه: حديث حسن بطرقه.
(2)
جامع العلوم والحكم/ لابن رجب، ص: 94 - 95.
فالقلب السليم، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون (88) إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم (89)} [الشعراء]. قال ابن القيم رحمه الله: «هو الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، ومن كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن اللَّه»
(1)
.
القلب الثاني: القلب الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، وهذا هو قلب الكافر، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون (179)} [الأعراف].
القلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، فله مادتان تمده: هذه مرة وتمده هذه مرة أخرى، وهو لما غلبه عليه: وهو قلب المنافق وصاحب الهوى، قال تعالى عن الأصناف التالية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا
(1)
بدائع التفسير (3/ 327).
بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (54)} [الحج].
ومن علامات مرض القلوب: إيثار الدنيا على الآخرة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»
(1)
.
ومنها: القلق والخوف، قال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
ومنها: هوان القبائح عليه والرغبة في المعاصي، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَاد (205)} [البقرة]. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُون (23)} [الجاثية].
ومنها: الشعور بقسوة القلب. قال بعض السلف: ما ضرب اللَّه عبدًا بعقوبة، أعظم من قسوة القلب، قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين (22)} [الزمر].
وقال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ
(1)
ص: 116 برقم 118.
قَسْوَةً} [البقرة: 74]. وعلاج هذه الأمراض - أعني أمراض القلوب -: التوبة الصادقة والتمسك بكتاب اللَّه وسنة رسوله، ففيهما الشفاء والنور؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون (24)} [الأنفال]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين (57)} [يونس].
وهذه القلوب بيد اللَّه يقلبها كيف يشاء، فينبغي للمؤمن أن يسأل ربه أن يثبته على الإيمان والطاعة.
فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم سلمة رضي الله عنها: تحدِّث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» قالت: قلت يا رسول اللَّه، أوَ إن القلوب لتتقلب؟ ! قال:«نَعَمْ، مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلَّا أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَزَاغَهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّنَا أَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً، إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ»
(1)
.
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
(44/ 201) برقم 26576، وقال محققوه: بعضه صحيح بشواهده.