الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثامنة والثلاثون: الرفقة الصالحة
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن الإنسان جُبِل على حب مخالطة الآخرين، وأن يتخذ له جليسًا يعينه على مصالحه في دنياه وأُخراه، والناس متفاوتون في دينهم وأخلاقهم؛ فمنهم الخيِّر الفاضل الذي يُنتفع بصحبته وصداقته، ومنهم السيِّاء الذي يتضرَّر بصداقته ومعاشرته.
ومصاحبة الصالحين خير وبركة في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{الأَخِلَاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِين (67)} [الزخرف].
ومصاحبة جلساء السوء حسرة وندامة يوم القيامة، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29)} [الفرقان].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ: كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً؛ وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا
أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً»
(1)
.
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»
(2)
.
قوله: «عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ» : أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته فلينظر أي: يتأمل ويتدبر من يخالل، فمن رضي دينه وخلقه خَالَلَهُ ومن لا تجنَّبَهُ فإن الطباع سراقة
(3)
.
قال الشاعر:
عَنِ المرْءِ لَا تْسأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
فَكُلُّ قَرِينٍ بالمُقَارَنِ يَقْتَدِي
والإنسان مجبول على التأثر بصاحبه وجليسه، والأرواح جنود مجندة؛ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»
(4)
.
وتألفها هو ما خلقها اللَّه عليه من السعادة أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار،
(1)
ص: 1091 برقم 5534، وصحيح مسلم ص: 1055 برقم 2628.
(2)
ص: 390 برقم 2378، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 633) برقم 927.
(3)
عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 123).
(4)
ص: 636 برقم 3336 تعليقًا، وصحيح مسلم ص: 1057 برقم 2638 عن أبي هريرة.
والأشرار إلى الأشرار
(1)
.
ومن ثمرات مجالسة الصالحين:
أولاً: الإعانة على الطاعات والبعد عن المعاصي والذنوب، قال تعالى:{وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر (3)} [العصر].
ثانيًا: المسارعة إلى الخيرات والتنافس في الطاعات، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران].
وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون (26)} [المطففين].
ثالثًا: بركة المجالسة، فإن من جالسهم تشمله بركة مجالستهم، ويعمه الخير الحاصل لهم، وإن لم يكن عمله بالغًا مبلغهم، كما دل على ذلك: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ للَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ»
(1)
عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 124).
(1)
.
وكم من شخص اهتدى، وأصبح من المحافظين على الصلاة، وترك مجالسة السوء، وتوجَّه إلى الدعوة؟ ! كل ذلك: بفضل اللَّه، ثم الرفقة الصالحة.
روى الترمذي في سننه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَاكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»
(2)
.
قال الخطابي: إنما جاء هذا في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك أن اللَّه سبحانه قال:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان] ومعلوم أن أسراءهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء، وإنما حذر عليه السلام من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب
(3)
.
ومن الآثار المترتبة على مجالسة أهل السوء، وهي كثيرة:
(1)
ص: 1230 برقم 6408، وصحيح مسلم ص: 1230 برقم 2689.
(2)
ص: 392 - 393، برقم 2395.
(3)
عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/ 123).
أولاً: أنه يصرف صاحبه وجليسه من الطاعة إلى المعصية، ويزيِّن له عمل السوء؛ روى البخاري ومسلم من حديث سعيد ابن المسيب عن أبيه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا عَمِّ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» ؛ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم (113)} [التوبة]، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين (56)} [القصص]
(1)
.
ثانيًا: أن غالب مجالس أهل الفسق لا يذكر اللَّه تعالى فيها، بل يُعصى جلَّ وعلا، فتكون حسرة وندامة على أصحابها يوم القيامة. روى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا
(1)
صحيح البخاري (3/ 62، 63) برقم (3884)، وصحيح مسلم (1/ 54) برقم (24) - واللفظ له -.
كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً
(1)
؛ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ»
(2)
.
قال الشافعي:
إذا لَمْ أَجِدْ خِلًّا تَقِيًّا فَوِحْدتي
…
ألذُّ وأشهى من غَوِيٍّ أُعَاشِرهُ
وَأَجْلِسُ وَحْدِي للعِبَادَةِ آمِناً
…
أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ جَلِيسٍ أُحَاذِرُه
ثالثًا: أن الجليس السوء يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرَّمات، ويخفِّف وقع المعصية في قلبه، ويهوِّن عليه التقصير في الطاعة، قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه:«ودَّت الزانية لو زنى النساء كلهن» .
وجليس السوء ينصرف عن صاحبه عند أدنى خلاف أو فوات مصلحة، بل وتحصل البغضاء بعد ذلك، قال عبداللَّه بن المعتز: إخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة.
لذا أنصح إخواني بإلحاق أبنائهم بحلقات تحفيظ القرآن الكريم، فهي رفقة صالحة، وعندهم برامج مفيدة: يقضي فيها الشاب وقته، وتُبعده عن جلساء السوء. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
أي حسرة وندامة.
(2)
ص: 535 برقم 3380، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.