الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثامنة: فتنة المال
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من نعم اللَّه العظيمة على عباده: نعمة المال، قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
وقال تعالى ممتنًّا على نبيِّه بهذه النعمة: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى]، وقال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب (14)} [آل عمران].
قال عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: «اللَّهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللَّهم إني أسألك أن أنفقه في حقه»
(1)
.
والمال إما أن يستخدم في الخير أو الشر، قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم (15)} [التغابن]، وهو من الفتن العظيمة التي يُبتلى بها المؤمن، والقليل من الناس من يصبر عليها؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عياض بن
(1)
ص: 1236 كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«هذا المال خضرة حلوة» .
حمار رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ»
(1)
، وقال الإمام أحمد بن حنبل:«ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر» .
والعبد يُسأل عن ماله يوم القيامة ماذا عمل فيه؟ روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ»
(2)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ»
(3)
.
وقد جُبِلَت النفوس على حب المال، قال تعالى:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر]، روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ»
(4)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ
(1)
(29/ 215) برقم 17471، وقال محققوه: حديث صحيح.
(2)
ص: 396، برقم 2416، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
ص: 1030 برقم 5196، وصحيح مسلم ص: 1095 برقم 2736.
(4)
ص: 1236 برقم 6436، وصحيح مسلم ص: 402 برقم 1049.
وَطُولُ الْعُمُرِ»
(1)
.
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته من فتنة المال، فروى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»
(2)
.
والذي يتأمل في أحوال الناس في هذه الأيام، وانكبابهم على كسب هذا المال بأي وسيلة كانت: سواء كان في مساهمات مشبوهة، أو معاملات فيها مخالفات شرعية: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها، ليتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لَيَاتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ: أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ? »
(3)
.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته إلى القناعة وعيشة الكفاف.
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ»
(4)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة
(1)
ص: 1233 برقم 6421، وصحيح مسلم ص: 402 برقم 1047.
(2)
ص: 762 برقم 4015، وصحيح مسلم ص: 1188، برقم 2961.
(3)
ص: 393، برقم 2083.
(4)
ص: 404، برقم 1054.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»
(1)
والعرض هو متاع الدنيا، ومعنى الحديث الغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة، لأن من كان طالباً للزيادة لم يستغن بما عنده فليس له غنى.
قال الشاعر:
النفسُ تَجْزَعُ أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً
…
والفَقْرُ خَيْرٌ مِن غِنًى يُطغِيهَا
وَغِنَى النُّفُوسِ هُوَ الكفافُ فإنْ أَبَتْ
…
فَجَمِيعُ ما فِي الأرضِ لا يَكْفِيهَا
وقد ذمَّ اللَّه ورسوله عبد المال: الذي إذا أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، قال تعالى:{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون (58)} [التوبة].
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»
(2)
.
وهذا المال إن لم يستخدمه صاحبه في طاعة اللَّه وينفقه في سبيله، كان وبالاً وحسرة عليه، قال تعالى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون (55)} [التوبة].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ
(1)
صحيح البخاري ص: 1238، برقم 6446؛ وصحيح مسلم ص: 402، برقم 1051.
(2)
ص: 1235، برقم 6435.
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون (36)} [الأنفال].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ»
(1)
.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ: بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُ مِئَةِ عَامٍ»
(2)
.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن البركة إنما تحل في هذا المال، إذا أخذه صاحبه بطيب نفس من غير شَرَهٍ ولا إلحاح، فروى البخاري ومسلم من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَاكُلُ وَلَا يَشْبَعُ»
(3)
.
وقد أخبر عز وجل أن المال عرض زائل ومتاع مفارَق، قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُور (20)} [الحديد].
(1)
(39/ 36)، برقم 23625؛ وقال محققوه: إسناده جيد.
(2)
(14/ 208)، برقم 8521؛ وقال محققوه: إسناده حسن.
(3)
ص: 287 برقم 1472، وصحيح مسلم ص: 398 برقم 1035.
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ»
(1)
.
وبعض الناس يغلط، ويظن أن من رزق مالًا كثيرًا، فإنه قد وُفِّق: وهو دليل على محبة اللَّه له! والأمر ليس كذلك، فإن الدنيا يعطيها اللَّه من يحب ومن لا يحب؛ وقد ذكر اللَّه هذا عن الإنسان، وأخبر أن الأمر ليس كما ظن، قال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَاّ يَشْعُرُون (56)} [المؤمنون].
والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
ص: 1248 برقم 651، وصحيح مسلم ص: 1188 برقم 2960.