الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثلاثون: الإيمان بالكرام الكاتبين
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد ذكر الطحاوي رحمه الله أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار]. وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»
(1)
.
قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد: 11]. قال ابن كثير: أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب
(1)
ص: 124 برقم 555، وصحيح مسلم ص: 249 برقم 632.
ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحدًا من ورائه وآخر من قُدَّامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان
(1)
.
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ» ، قالوا: وإياك يا رسول اللَّه؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلا يَامُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» غير أن في حديث سفيان: «وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وقَرِينُهُ مِنَ المَلَائِكَةِ»
(2)
.
وقد اختلف في معنى «أَسلَمَ» ؟ فقيل: المعنى استسلم وانقاد وذل، وقيل: المعنى أسلم من الإسلام، قال النووي: وهذا هو الظاهر، قال القاضي: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه اهـ
(3)
فإن الجن فيهن المؤمن والكافر، والشياطين هم كفارهم، فمن آمن منهم لم يُسَمَّ شيطانًا. والذي ثبت بالنصوص: أن الملائكة تكتب القول والفعل والنية لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم قوله تعالى:{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار]. قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 114 - 115).
(2)
ص: 1132 برقم 2814.
(3)
شرح صحيح مسلم (6/ 158).
كُنتُمْ تَعْمَلُون (29)} [الجاثية]. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ! ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً (وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ)، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ. فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ»
(1)
.
وروى الطبراني في المعجم الكبير من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لَيَرْفَعُ القَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ العَبدِ المُسلِمِ المُخطِئِ، فَإِن نَدِمَ وَاستَغفَرَ اللَّهَ مِنهَا وَإِلَّا كُتِبَت وَاحِدَةٌ»
(2)
.
قال الشاعر:
واذْكرْ مُناقَشَةَ الحِسَابِ فإنَّهُ
لَابُدَّ يُحْصِي مَا جَنَيْتَ ويُكْتَبُ
لم يَنْسَهُ الملَكَانِ حِينَ نَسِيتَهُ
بَلْ أَثْبتَاهُ وأَنْتَ لاهٍ تلعبُ
من آثار الإيمان بالملائكة الكرام الكاتبين:
أولاً: مراقبة اللَّه في السر والعلن، وأن يحاسب المرء نفسه
(1)
صحيح مسلم ص: 77 برقم 129، وقد خرج البخاري الشطر الأول منه ص: 31 برقم 42.
(2)
(8/ 217 - 218) برقم 7765، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 422) برقم 2097.
على كل فعل أو قول: صغيرًا كان أو كبيرًا؛ قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق]. وقال تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِين (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار].
ثانيًا: الحياء من هؤلاء الملائكة الكاتبين: أن يروا المؤمن على معصية اللَّه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في فضل عثمان رضي الله عنه:«أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟ ! »
(1)
.
ثالثًا: الاجتهاد في الأعمال الصالحة، فإن الملائكة يرفعون إلى اللَّه أعمال بني آدم، قال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. روى البخاري في صحيحه من حديث رِفاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَاسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَالَ: رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:«مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ » قَالَ: أَنَا، قَالَ:«رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ؟ ! »
(2)
.
رابعًا: حب هؤلاء الملائكة المكلفين بأعمال العباد، قال تعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون (27)} [الأنبياء]. وقال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (6)} [التحريم].
(1)
صحيح مسلم ص: 977 برقم 2401.
(2)
ص: 798 برقم 799.
خامسًا: عدم إيذاء هؤلاء الملائكة. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ البَقْلَةِ، الثُّومِ (وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ)، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»
(1)
.
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
ص: 224 برقم 564 واللفظ له، وصحيح البخاري ص: 174 برقم 855.