الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكلُّفًا»
(1)
.
وكذلك مَن بعدهم مِن المشهورين مثل: سعيد بن المسيّب، والحسن البصري، وعامر بن عبد القيس، وأُوَيس القَرَني، وأبو مسلم الخولاني، ومُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، ومن بعد هؤلاء ممن جمع الناسُ أخبارَهم في كتب الزهد؛ مثل كتاب «الزهد» للإمام أحمد وغيره ممن صنف أخبار الزُّهَّاد على الأسماء، مثل «حِلْية الأولياء» لأبي نعيم، و «صفوة الصفوة» لابن الجوزي. وكتاب «الزهد» لعبد الله بن المبارك ممن صنف أخبار الزهد على الأبواب، كهنَّاد بن السَّرِي، وأَسَد بن موسى وغيرهما.
قوله: «ثم يمدُّه الله بنور العقل الأصلي
في أنوار اليقين، فيشهد موجودًا لا حدَّ له ولا غاية، بالإضافة إلى هذا العبد، وتضمَحِلّ جميعُ الكائنات فيه، فتارةً يشهدها فيه كما يشهد الينابيب
(2)
في الهواء بواسطة الشمس، فإذا انحرف نور الشمس عن الكُوَّة لا يشهد للينابيب أثرًا. فالشمس التي يُبْصِر بها هو «العقل الضروري» بعد المادة بنور اليقين.
فإذا اضمحلَّ هذا النور ذهبت الكائنات كلها وبقي هذا الموجود، فتارةً يفنى وتارة يبقى، حتى إذا أُرِيد به الكمال نُودي منه نداءً خفيًّا لا صوتَ له، فيُمَد بالفهم عنهم، إلا أن الذي يشهده غير الله، ليس من الله في شيء، فهناك ينتبه من سكرته، فيقول: أي ربِّ أغثني فإني هالك، فيعلم يقينًا أنَّ هذا البحر لا ينجيه منه إلا الله، فحينئذٍ يقال له: إن هذا الموجود هو العقل الذي قال فيه
(1)
أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1810)، وعزاه ابن القيم في «الأعلام»:(4/ 607) للإمام أحمد. وأخرجه ابن عبد البر (1807) من قول الحسن البصري.
(2)
كذا، وانظر ما سبق (ص 159).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خَلَقَ الله العَقلَ» ، وفي خبر آخر: «قال له: أقبل، فأقبل
…
» الحديث، فأُعْطي هذا العبد الذل والانقياد لنور هذا الموجود، إذ لا يقدر على حَدِّه وغايته فعَجَز عن معرفته، فقيل له: هيهات لا تعرفه بغيره، فأمدَّه الله جل وعلا بنور أسمائه، فقطع ذلك كلمح البصر أو كما شاء الله، نرفع درجاتٍ من نشاء»
(1)
.
فيقال: هذا مبنيٌّ على أصول الفلاسفة المخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى، وقد توجد طائفة [م 59] من كلامهم في كتب أبي حامد وأمثاله ممن يصنفون ويَخْلِطون ذلك بما هو من أصول الفلاسفة. فإنَّ هذا العقل الذي يَدَّعونه ويَصِفونه مناقض لدين الرسل.
أما العقل الأدنى إلينا الذي يسمُّونه العقل الفعَّال، ويقولون: كل ما تحت فلك القمر من فيضه. ويقولون: إن الكتب الإلهية إنما نزلت على قلوب الأنبياء منه، وأن الكلام الذي حصل لموسى كان منه.
ثم تارة يقولون: هو جبريل الذي {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، وتارة يجعلون جبريل ما يتشكَّل في نفوس الأنبياء من الخيال، كالخيال الذي يحصل للنائم.
ولهذا يدَّعي مَن يدَّعي منهم أن الأولياء والفلاسفة أفضل من الأنبياء، حتى قال ابن عربي: إن الرسل جميعهم إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، فقال: «ليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء. وما يراه
(1)
من قوله: «ثم يمده
…
» إلى هنا من كلام الشاذلي، انظر ما سبق (ص 159 - 112).
أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم. حتى إن الرسل لا يرونه إلا من مشكاة الولي خاتم الأولياء.
وإن كان خاتم الأولياء تابعًا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل، فإن الرسالة والنبوة ــ أعني نبوة التشريع ورسالته ــ منقطعان، وأما الولاية فلا تنقطع أبدًا. فالأنبياء مِن كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأنبياء، فكيف بمن دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعًا لما جاء به خاتم الأنبياء من التشريع؛ فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يُناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجهٍ يكون أَنْزَل كما أنه من وجهٍ يكون أعْلى.
وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما مُثِّلت له النبوة بالحائط رأى نفسَه تنطبع في موضع لبنة، وأما خاتم الأولياء فيرى نفسه تنطبع في موضع لبنتين، فإنه موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما سمعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السِّرِّ ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابدَّ أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول
(1)
.
وهذا يقوله مَن يقوله بناءً على أصله الفاسد، وهو الفلسفة التي أخرجها في قالب التصوف والكشف، فإن المَلَك عندهم هو الخيال الذي يتشكَّل في نفس النبي وغيره، فتلك [م 60] الخيالات هي ملائكة الله عندهم، والخيال
(1)
هنا ينتهي كلام ابن عربي من كتابه «فصوص الحكم» (ص 27 - 29) مختصرًا. وللمصنف رحمه الله كتب ورسائل كثيرة في هتك مذاهب الحلولية الاتحادية، والرد على ابن عربي في «فصوص الحكم» وغيره، كما في المجلد الثاني من «مجموع الفتاوى» و (18/ 367 - 374)، و «بغية المرتاد» وغيرها.
المطابق يستمدّ من العقل، والولي والفيلسوف عندهم يأخذ من العقل الممد للخيال، فلهذا صار النبي الذي يأخذ من المَلَك أنقص عندهم من الولي الذي يأخذ من فوق المَلَك.
وهؤلاء يجعلون خاصة النبوة هي التخييل، كما يقول ذلك الفارابيُّ
(1)
وغيره، وابنُ سينا وأتباعُه، وإن كانوا أقرب الفلاسفة إلى الإسلام، فهم وأمثالهم من الملاحدة كالسهروردي المقتول وغيره يجعلون النبوة لها ثلاث خواص: قوة العلم بِسُرعة ــ ويسمونها القوة القدسية ــ، وقوة التأثير في العالم، وقوة التخييل، وهو أن يرى ويسمع في نفسه ما يمثّل له من المعاني العقلية. وكل ما يراه ويسمعه الأنبياء إنما هو في أنفسهم عندهم لا في الخارج.
وقد وقع في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها
(2)
ومَن تَبِعَه كلامُ هؤلاء بعبارات أخرى، يظنُّ مَن لم يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة الفلسفة أن هذا كلام خواص أولياء الله العارفين، وإنما هو كلام الفلاسفة الملحدين، الذين هم في الإيمان بأصل النبوّة أبعد عن الإيمان من اليهود والنصارى، لكنهم يقرُّون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره
(3)
.
(1)
هو: محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، التركي أبو نصر الفارابي الفيلسوف المنطقي، له تصانيف كثيرة (ت 339). انظر «إخبار العلماء»:(2/ 223) للقفطي، و «طبقات الأطباء»:(3/ 328)، و «السير»:(15/ 416). وقد قال عنه المصنف في «الرد على المنطقيين» (ص 41): «وهو أعظم الفلاسفة كلامًا في المنطق وتفاريعه» .
(2)
هو الغزالي كما سبق (ص 61).
(3)
في رأس (ق 60 ب) تعليق نحو سطرين لكنه بخط دقيق غير واضح.
وقد يقولون: إن النبوَّة مكتسبة، وإنها لم تنقطع، وربما جعلوا الفلاسفة المشهورين من اليونان أهل مَقْدونية كسقراط وأفلاطون وأرسطو ونحوهم أنبياء! وقد يظنون أن ذا القرنين المذكور في القرآن هو الإسكندر الذي كان في زمن أرسطو، وهذا من جهلهم بالسمعيات والعقليات، فإن الإسكندر الذي كان في زمن أرسطو هو الذي تؤرِّخ له اليهود والنصارى، ويُقال له: ابن فيلبس المَقْدوني
(1)
كان قبل المسيح بنحو ثلثمائة سنة وهو زمن أرسطو، وكان مُشْركًا هو وقومه أهل شركٍ وسحرٍ، ولهم كتب في الشرك والسحر قد عُرِّبت يعرفها من يعرفها، وهذا الإسكندر لم يذهب إلى بلاد الترك، وإنما انتهى إلى خراسان، فضلًا عن أن يبني السَّدّ.
وذو القرنين المذكور في القرآن كان قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربها، وبنى السدَّ كما أخبر الله تعالى
(2)
، والسدُّ من أقصى بلاد المشرق والشمال
(1)
وهو الإسكَنْدَر بن الفيلسوف ــ ويقال: فِليبس ــ المقدوني، قال المصنف «نسبةً إلى مقدونية، وهي جزيرة هؤلاء الفلاسفة اليونانيين الذين يسمون المشائين، وهي اليوم خراب أو غمرها الماء، وهو الذي يؤرخ له النصارى واليهود التاريخ الرومي، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فيظن من يعظِّم هؤلاء الفلاسفة أنه كان وزيرًا لذي القرنين المذكور في القرآن ليعظُم بذلك قدره، وهذا جهل فإن ذا القرنين كان قبل هذا بمدة طويلة جدًّا، وذو القرنين بنى سد يأجوج ومأجوج، وهذا المقدوني ذهب إلى بلاد فارس ولم يصل إلى بلاد الصين فضلًا عن السد» اهـ. من «الفتاوى» : (17/ 332). وانظر «البداية والنهاية» : (2/ 541 - 542)، و «لسان العرب»:(4/ 367)، و «قصد السبيل»:(1/ 186)، و «تاج العروس»:(6/ 568).
(2)
في أواخر سورة الكهف.
في مهبِّ الصَّبا
(1)
، وكان متقدمًا على ذلك.
[م 61] ولهم إسكندر آخر يقال له: الأفروديوسي
(2)
، هو من أتباع أرسطو هو وبُرقلس وثامسطيوس
(3)
ونحوهم ممن اتبع أرسطو وشَرَح تعاليمَه وقال بِقِدَم هذه الأفلاك.
فإنه يقال: أوَّل من أظهر هذا القول من هؤلاء الفلاسفة أرسطو. وأمَّا الذين قبله كأفلاطون وسقراط
(4)
ونحوهما فكانوا يقولون بحدوث الأفلاك، ولكن يقولون بأنه حادث عن مادة، وهل المادة قديمة العين أو قديمة النوع؟ لهم في ذلك كلام وأقوالٌ ليس هذا موضعها
(5)
.
ولهذا توجد مقالات أئمة الفلاسفة الكبار الذين كانوا من الصابئة الحنفاء لا تخرج عن أقوال الأنبياء؛ فإن الصابئة في الأصل كانوا على هدى، كما كانت اليهود والنصارى. ولهذا ذكر الله أن في هذه الطوائف سُعداء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
(1)
قال ابن الأعرابي: مهبّ الصَّبا: من مطلع الثُّريا إلى بنات نَعْش. «لسان العرب» : (14/ 449).
(2)
كذا وفي مصادر ترجمته: «الأفروديسي» ، انظر «إخبار العلماء»:(1/ 72 - 73) للقفطي، و «طبقات الأطباء»:(1/ 105).
(3)
ترجمتهما في «إخبار العلماء» : (1/ 119)، (1/ 150) تِباعًا.
(4)
ترجمتهما في «إخبار العلماء» : (1/ 269 - 277)، (1/ 27 - 40) تِباعًا، و «طبقات الأطباء»:(1/ 68 - 78)، (1/ 78 - 84).
(5)
انظر كلام المصنف على سقراط وموافقته لبعض دين الأنبياء في «الجواب الصحيح» : (6/ 499)، و «الفتاوى»:(4/ 136)، (17/ 351).
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، فدلَّ هذا على أن هذه الملل الأربعة
(1)
كان فيها مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحًا، وأنهم سعداء في الآخرة، ثم لمَّا بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان مَن كفر به منهم ومِن غيرهم شقيًّا معذَّبًا.
بخلاف المجوس والمشركين؛ فإن الله ذكرهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، فهنا ذكر الملل الستّ ليبين أنه يفصل بينهم يوم القيامة، ولم يُثنِ عليهم، فلم يثن سبحانه على أحدٍ من المجوس والمشركين، كما أثنى على بعض الصابئين واليهود والنصارى، وهذا مما استدلَّ به جمهور العلماء على أن المجوس ليسوا أهل كتاب، فلا تُباح ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، إذ لو كانوا أهلَ كتابٍ لكان فيهم من يُثني الله عليه، كما كان في اليهود والنصارى.
والمقصود هنا أن الصابئين فيهم مَن يُحْمَد وفيهم مَن يُذَم، فالمحمود مِن الصابئين لم يخالفوا الأنبياء، والفلاسفة المحمودون إذا لم يكونوا مِن اليهود والنصارى والمسلمين هم مِن هؤلاء الصابئين.
بخلاف الفلاسفة المذمومين، فإنهم مشركون سَحَرة كأرسطو وأتباعه وأمثالهم، فإنهم أهل شرك وسحرٍ، ولهذا ليس في كتب أرسطو ذكر الأنبياء بحرفٍ واحدٍ [م 62] ولا في كتب العلم الإلهي إلا ما ذكره في «أثولوجيا»
(2)
(1)
كذا في (م)، ولها وجه في العربية.
(2)
طبع عام 1314 بهامش كتاب «قبسات في الحكمة» ، انظر «معجم المطبوعات»:(1/ 425). وقد نقل منه المصنف وردّ عليه في مواضع مِن كتبه كما في «الجواب الصحيح» : (5/ 29 - 32)، و «الرد على المنطقيين» (ص 395).
وهو علم ما بعد الطبيعة، وهو كلامٌ قليل الفائدة، كثير الخطأ، قد بُسِط الكلامُ عليه في غير هذا الموضع.
بخلاف كلام أرسطوا في الطبيعيات، مثل كتاب «السماع الطبيعي» ، وكتاب «السماء والعالم» ، و «الآثار العلوية» ، و «المولدات» ونحو ذلك، فهذا فيه صواب كثير وفيه أيضًا خطأ.
وكلامه في المنطق بعضُه صواب، لكن فيه تطويل لا يُحتاج إليه، وبعضه خطأ. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
(1)
.
والمقصود هنا أن ما يُثبته هؤلاء من العقول العشرة مما يُعْلَم بالاضطرار أنهم مخالفون
(2)
لدين المرسلين: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم صلى الله عليهم أجمعين، كقولهم: إنَّ العقل الأول أبدع كلّ ما سوى الله، وأنه وما سواه لازمة معلولة لذات الله أزلًا وأبدًا، فإن هذا وهذا شرٌّ من قولِ الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ الله، وأن المسيحَ ابنُ الله، والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا، فإن أولئك يقولون: إن الله خالق كل ما سواه، ويثبتون نوعًا من التولُّد.
وأما هؤلاء فيقولون: العقول والنفوس وكلّ ما سواه متولِّد عنه لازمٌ
(1)
توسع المصنف في الكلام على أرسطو وغيره من الفلاسفة المشائين في «الرد على المنطقيين» (ص 143 وما بعدها)، و «الصفدية» ، والتاسع من «الفتاوى» .
(2)
(م): «مخالفين» .
لذاته أزلًا وأبدًا {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100].
وهؤلاء يجعلون العقول كالذكور، والنفوس كالإناث، وهم متنازعون في النفوس الفلكية هل هي أعراض أو جواهر، فجمهورهم يقول: هي أعراض، ولكن ابن سينا وطائفة قالوا: هي جواهر كنفوس الآدميين.
وهؤلاء المتأخرون كابن سينا وأتباعه خَلَطوا الفلسفة بما أخذوه من كلام المتكلمين الجهمية من المعتزلة وغيرهم، وسلكوا في إثبات الأول طريقة الوجود، وقالوا: الوجود إما واجب وإما ممكن، ولا بدَّ للممكن من واجب، أخذوا ذلك من قول هؤلاء المتكلمين: إن الموجود إما قديم وإما مُحْدَث، ولا بُد للمحدَث من قديم.
وإلا فأئمتهم كأرسطو وأتباعه لم يثبتوا الأول إلا بالحركة الفلكية فقالوا: هي حركة شَوْقية
(1)
إرادية، فلابدَّ لها من مراد تُحِبّ التشبُّه به، وهو يُحركها حركة المعشوق لعاشقه.
وهذا الكلام ليس فيه إثبات أن واجب الوجود علة فاعلة لما سواه، وإنما فيه أنه عِلة غائية بمعنى [م 63] التشبُّه به، ولهذا قالوا: الفلسفة هي التشبُّه بالإله على قدر الطاقة
(2)
.
والمتقدِّمون لم يُسَمُّوه واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود، وإنما
(1)
(م): «ثنتوقيه» ! وهو تصحيف، والصحيح ما أثبت، انظر «الصفدية»:(1/ 85)، (2/ 19، 204)، و «منهاج السنة»:(1/ 411)، (8/ 17).
(2)
انظر ما سبق (ص 61، 145).
سموه: العِلَّة الأولى والمبدأ، والممكن عندهم لا يقال إلا للمحدَث الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه، فأما ما كان دائمَ الوجود كالفلك عندهم فلا يسمُّونه ممكنًا، وإنما هذا اصطلاح ابن سينا وأتباعه
(1)
.
ثم إنَّ كثيرًا من متأخري المتفلسفة ومَن خَلَط بالفلسفة كلامه، مِن المتكلمين والمتصوِّفة كالسَّهْروردي المقتول والرازي والآمدي يوافقونه على هذا، ويسلكون في إثبات واجب الوجود هذه الطريقة، وربما جعلوها أشرف الطرق، وأن غيرها يحتاج إليها، والأمر بالعكس كما قد بُسِط في غير هذا الموضع.
وأبو البركات
(2)
صاحب «المعتبر» ، وابن رشد الحفيد وأمثالهما يوافقونه تارة ويخالفونه أخرى، وهما أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأصحاب رسائل حيِّ بن يقظان
(3)
وغيرهم نَسَجوا على هذا المنوال لكن بعبارات أخرى.
وابن سبعين بعدهم سلك مسلَكَهم، وانتهى هو وابن عربي الطائي وأمثالهما إلى القول بِوَحْدة الوجود، وهؤلاء يعكسون دين الإسلام، فكل مَن كان أقرب إلى الرسول كان عندهم أنقص، فأنقص المراتب عندهم مرتبة
(1)
انظر «درء التعارض» : (8/ 175 - وما بعدها).
(2)
هو: أبو البركات هبة الله بن علي بن مَلَكا البلدي، كان يهوديًّا ثم أسلم في أواخر عمره، الطبيب الفيلسوف، صاحب المعتبر في المنطق والحكمة (ت بعد 550)، انظر «إخبار العلماء»:(2/ 460 - 463)، و «طبقات الأطباء»:(2/ 296 - 300)، و «السير»:(20/ 419).
(3)
تقدم التعريف بها (ص 110).
أهل الشريعة أصحاب الأمر والنهي، ثم مرتبة المتكلم على طريقة الجهمية أو المعتزلة ومَن تلقى عنهما، ثم مرتبة الفيلسوف، ثم مرتبة الصوفي المتفلسف ــ ليس هو الصوفي التابع للكتاب والسنة ــ ثم مرتبة المُحَقّق صاحب القول بوحدة الوجود.
وقد بسطنا القول على هؤلاء وعلى هؤلاء وأمثالهم من المتفلسفة والاتحادية والمتكلمة والمتصوفة الذين دخلوا معهم
(1)
. والمقصود هنا التنبيه على ما دخل في كلام صاحب الحِزْب وأمثاله مِن كلامهم.
وهؤلاء قد يسمون العقلَ القلمَ، ويسمون النفسَ الفلكية اللوحَ، ويدَّعون أن ذلك هو اللوح المحفوظ في كلام الله ورسوله، ولهذا يدَّعي أحدهم أنه اطلع على اللوح المحفوظ، وأنه أخذ مريديه من اللوح المحفوظ.
وفي كلام صاحب «الحزب» وغيره من ذلك
(2)
. وأخذوا ذلك من كلام
(1)
تكلم عليهم المصنف في عدد مِن كتبه، انظر «الرد على المنطقيين» ، و «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد» ، و «الصفدية» .
(2)
من عبارات الشاذلي قوله: «والله لقد تسألوني عن المسألة لا يكون عندي لها جواب، فأرى الجوابَ مسطرًا في الدواة والحصير والحائط» . وقال أيضًا في حق تلميذه المرسي: «يا زكي ــ يخاطب أحد تلاميذه ــ عليك بأبي العباس ــ المرسي ــ فوالله ما مِن وليٍّ لله كان أو هو كائن إلا وقد أطلعه الله عليه» ! ! «لطائف المنن» (ص 76، 91) لابن عطاء الله. وقد صرح المصنف في «الرد على المنطقيين» (ص 474 - 475) أن الشاذلي ممن يتبع هذه الطريقة.
أبي حامد الغزالي في «ميزان العمل» و «جواهر القرآن» و «المضنون به على غير أهله» ، وغير ذلك
(1)
. فإنه يجعل اللوحَ عبارة عن النفس، ويجعل الفَلَك عبارة عن العقل الأول، كما يجعل المُلك والمَلَكوت والجبروت عبارة عن الجسم والنفس والعقل. وصاحب «الحزب» دخل في هذا الباب، كما دخل فيه ابن عربي وغيره
(2)
.
ولهذا قال عن العقل: «ثم يُمده الله بنور العقل الأصلي فيشهد موجودًا لا حدَّ له ولا غاية بالإضافة إلى هذا العبد وتضمحل جميع الكائنات فيه»
(3)
. وهذا باطل فليس جميع الكائنات [م 64] في هذا العقل، ولا حقيقة لهذا العقل، بل ولا هي في مَلَك من الملائكة.
وكذلك قوله: «فتارة يفنى وتارة يبقى حتى إذا أُريد به الكمال نودي منه نداءً خفيًّا بلا صوت معه»
(4)
. كلام باطل من جنس قول الذين قالوا: إن موسى نُودي من العقل الفعَّال نداءً لا صوت معه، ولهذا كان بعض هؤلاء يدَّعي أنه أفضل من موسى.
وصاحبُ «مشكاة الأنوار»
(5)
ذكر ما يناسب قول هؤلاء، وأنَّ العبد قد يُنادى كما نُودي موسى، وأنه إذا خلع النعلين اللتين هما الدنيا والآخرة حصل له من جنس ما حصل لموسى. ومن هنا دخل صاحب «خَلْع النعلين»
(1)
وكذا في «الإحياء» : (3/ 20 - 23).
(2)
انظر ما سبق (ص 87).
(3)
سبق النص بتمامه (ص 159).
(4)
سبق النص بتمامه (ص 159) لكن آخره «لا صوت له» .
(5)
بنحوه في «مشكاة الأنوار ــ ضمن رسائل الغزالي» : (4/ 21 - 22).
ابن قَسِي
(1)
، ودخل في أمور مِن الخيالات الباطلة، وشرح ابن عربي كلامَه
(2)
، فتارةً يعظِّمه وتارة يبالغ في ذمه والدق عليه، وكلامه ما كان فيه من حق أخذه من كلام الأنبياء وادَّعاه كشفًا لنفسه، وما كان فيه من خيال باطل فهو مِن نفسه.
وأما قوله: «إن الذي تشهده غير الله، ليس من الله في شيء»
(3)
. فهكذا يقول المتفلسفة: إن العقل غير واجب الوجود، ولكنَّ أهل الوحدة كابن عربي وابن سبعين الذين يقولون:«الوجود واحد» لهم هنا اضطرابات؛ فتارة يفرقون بين الوجود والثبوت كابن عربي، وتارةً يفرقون بين الإطلاق والتعيين كالقُوْنَوي، وتارةً يجعلون الواجب والممكن كالمادة والصورة، وكلامُ ابن سبعين يُشْبه هذا، ولهذا يقول: فهو في الماء ماء وفي النار نار، وفي الحُلْو حُلْو، وفي المُرِّ مُرّ.
وصاحبُ «الحزب» قد يقال: إنه ليس هو من القائلين بالوحدة والحلول
(1)
تحرفت في (م): «ابن قتيبي» وعليها علامة التضبيب إشارة إلى الشك في الكلمة. وهو: أحمد بن الحسين أبو القاسم بن قَسِي ــ بفتح القاف، وتخفيف السين ــ الأندلسي الصوفي الفيلسوف. قال الذهبي: كان سيئ الاعتقاد، فلسفي التصوف، له في «خلع النعلين» أوابد ومصائب. اهـ. (ت نحو 550). انظر «تاريخ الإسلام»:(وفيات 551 - 560، ص 337 - 338)، و «لسان الميزان»:(1/ 579 - 581)، و «الأعلام»:(1/ 116) للزركلي.
وكتابه «خلع النعلين في الوصول إلى حضرة الجمعين» في التصوف مطبوع.
(2)
في كتاب «شرح خلع النعلين» ، والكتاب له عدة نسخ خطية، انظر «مؤلفات ابن عربي» (ص 391 - 392) لعثمان يحيى.
(3)
سبق (ص 159).
العام، لكن في كلامه نوعٌ من الحلول الخاص، وقد يقال: إنه من أهل الحلول العام
(1)
، ولهذا قال بعد هذا:«فيقال له: إن هذا الموجود هو العقل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله العقل» ، وفي خبرٍ آخر: «قال له: أقبل فأقبل
…
» الحديث»
(2)
.
فيقال: هذا الحديث كذبٌ موضوعٌ على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حِبَّان، وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما
(3)
،
ولكن هؤلاء ينقلونه من كتب أبي حامد وأمثاله ممن ينقل هذا
(1)
سيأتي هنا (ص 222) شرح معنى الحلول العام والخاص، وقد قال المصنف في «درء التعارض»:(6/ 151 - 152): «الحلولية على وجهين:
أحدهما: أهل الحلول الخاص، كالنصارى والغالية من هذه الأمة، الذين يقولون بالحلول، إما في عليٍّ وإما في غيره.
الثاني: القائلون بالحلول العام، الذين يقولون في جميع المخلوقات نحوًا مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام أو ما هو شر منه».
(2)
سبق (ص 160).
(3)
هذا الحديث سُئل عنه المصنف فأجاب بتوسع في أول كتابه «بغية المرتاد» (ص 169 - 179) قال: «الحديث باللفظ المذكور قد رواه مَن صنَّف في فضل العقل كداود بن المحبّر ونحوه. واتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي (روضة العقلاء: 16)، وأبو الحسن الدارقطني (نقله في «تاريخ بغداد» : 8/ 360)، والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي (الموضوعات: 1/ 277) وغيرهم أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العقل لا أصل لشيء منها، وليس في رواتها ثقة يعتمد.
فقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المعروف عن الأحاديث الموضوعات: (1/ 268 - 277) عامة ما روي في العقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
=
…
وروى
…
الحافظ أبو بكر الخطيب (تاريخ بغداد: 8/ 360) عن أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني: كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبّر فركَّبَه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركَّبَه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر.
قال (أي ابن الجوزي): وهو على ما قال الدارقطني. وقد رويت في العقل أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت؛ منها ما يرويه مروان بن سالم، وإسحاق بن أبي فروة، وأحمد بن بشير، ونصر بن طريف، وابن سمعان، وسليمان بن عيسى وكلهم متروكون، وقد كان بعضهم يضع الحديث ويسرقه الآخر ويغير إسناده، فلم نر التطويل بذكرها.
قلت (ابن تيمية): ومع هذا فقد روى أبو الفرج (الموضوعات: 1/ 272) هذا الحديث من طريق سيف بن محمد عن سفيان الثوري عن الفضل بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما خلق الله العقل قال له: قم فقام، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: اقعد فقعد فقال: ما خلقت خلقًا هو خير منك ولا أكرم عليَّ منك ولا أحسن منك، بك آخذ وبك أعطي وبك أعرف وبك الثواب وعليك العقاب» .
قال أبو الفرج: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال يحيى بن معين: الفضل رجل سوء. وقال ابن حبان (المجروحين: 1/ 259): وحفص بن عمر يروي الموضوعات لا يحل لأحد الاحتجاج به، وأما سيف فكذاب بإجماعهم.
ورواه أيضًا من كتاب أبي جعفر العقيلي (الضعفاء: 3/ 175) من حديث سعيد بن الفضل القرشي حدثنا عمر بن أبي صالح العتكي عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقًا هو أعجب إليَّ منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب» .
قال أبو الفرج: هذا حديث لا يصح عن رسول الله، وذكر أن سعيدًا وعمرًا مجهولان. قال: وقد روي من طريق علي وأبي هريرة وليس فيها شيء يثبت. قال أحمد بن =
الحديث من كتب «رسائل إخوان الصفا»
(1)
ونحوهم ممن يريد أن يحتجّ على قول هؤلاء المتفلسفة الملاحدة بالنصوص النبوية، ويقول: إنه يجمع بين [م 65] أقوال الأنبياء وبين أقوال هؤلاء المتفلسفة الملاحدة وهيهات، فإن دين اليهود والنصارى أقرب إلى دين الإسلام من دين هؤلاء المشركين الصابئين الذين يعبدون الكواكب والأصنام، وهم مِن أشد الناس كفرًا برب الأنام.
وإن كان لهم معرفة بأمور دنيوية كالحساب والطب، فهذا نوع آخر غير معرفة الله ومعرفة كتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر. ومن المعلوم أن كون اليهودي والنصراني حاذقًا في طبٍّ أو حسابٍ أو كتابة أو فلاحة أو حياكة أو بناء أو غير ذلك= لا يوجب أن يكون حاذقًا في معرفة الله ودينه، فكيف بهؤلاء الذين هم أجهل بالله وبدينه من اليهود والنصارى؟ ! إلا مَن كان منهم مع إظهاره لليهودية والنصرانية فإنه قد جمع نوعَي الكفر.
وهذا الحديث الموضوع لفظه: «أول ما خلقَ الله العقلَ قال له: أقْبِل فأَقْبَل» . فهو لو كان حقًّا إنما فيه أن الله خاطب العقل في أول أوقات خلقه بهذا الخطاب، وهذا يدل على أنه خَلَق قبلَه غيرَه، وهذا يناقض قولهم. وفيه أنه وصفه بالإقبال والإدبار، وذلك ممتنع عندهم. وفيه أنه قال له: «فبِكَ آخذ
=
…
حنبل: هذا الحديث موضوع ليس له أصل. قال العقيلي: لا يثبت في هذا الباب شيء.
فهذا اتفاق أهل المعرفة على بطلان هذا الحديث، مع أن أكثر ألفاظه: «لما خلق العقل قال له
…
» اهـ. مع تصرف يسير.
قلت: وأخرج حديث أبي أمامة الطبراني في «الكبير (8086)، و «الأوسط» (7237).
(1)
تقدم التعريف بها (ص 84).