المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ليس لكل من استحسن عبادة بذوقه ووجده أن يجعلها من الشريعة والسنة - الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق - جـ ١

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌العبادات أغذيةُ القلوب وأدويةٌ لها

- ‌العمل الصالح

- ‌المراد بالبدعة:

- ‌ ذمّ الله تعالى المشركين بذلك

- ‌الواجب على أبي بكر وعمر وسائر الخلق الاعتصام بالكتاب والسنة ومتابعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌من كانت الواسطة بينه وبين الله عز وجل نورَ النبوة المحمدية كان أكمل

- ‌ ليس لأحدٍ أن يضيف الاعتقاد الذي يجب اتباعه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى طائفة غير الصحابة

- ‌ليس لكلّ مَن استحسن عبادةً بذوقه ووجده أن يجعلها من الشريعة والسنة

- ‌ المنقولات تحتاج إلى نقد ومعرفة

- ‌ كمال التوكل

- ‌الموضع الثاني: قوله: (نسألَك العصمةَ في الحركات

- ‌أحدها:

- ‌الثاني:

- ‌الثالث:

- ‌ الرابع:

- ‌ تنازع العلماء في قراءة القرآن بالإدارة

- ‌ قوله في «الحزب الكبير»(1): (فالسعيدُ حقًّا من أغنيتَه

- ‌يقال: هذا الدعاء من الأدعية المحرَّمة

- ‌قوله: «الإحسان لا ينفع مع البغض» ليس بسديد

- ‌الأحوال ثلاثة: رحماني، ونفساني، وشيطاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌ الكرمَ والبخلَ للناس فيه أقوال:

- ‌قوله: (وقد وَسِعْتَ كلَّ شيء من جهالتي بعلمك

- ‌ الأنبياء نوعان: نبيٌّ مَلِك، وعبد رسول

- ‌ لفظ النفس

- ‌ لفظ «الروح»

- ‌قوله: «ثم يمدُّه الله بنور العقل الأصلي

- ‌ قوله: «فأمدّه الله بنور الروح الرباني

- ‌ قوله: «فأمدَّه بنور سرِّ الروح

- ‌ قوله: «أعوذ بك منك»

- ‌هؤلاء يشهدون وحدة الوجود، وفطرتهم تشهد بتعدُّد الوجود

- ‌ الثاني: الفناء عن وجود السّوي

- ‌ قوله: «فهناك يظهر من لم يزل ظهورًا

- ‌الحلول المطلق

- ‌ الحلول الخاص أنواع:

- ‌ جهمٌ وأتباعه خير من هؤلاء من جهتين

- ‌أصل دين الإسلام:

- ‌ مذهب نُظَّار أهل الإثبات كالأشعري وغيره: أن وجود كل شيء هو حقيقته الموجودة

- ‌ فهرس المراجع

الفصل: ‌ليس لكل من استحسن عبادة بذوقه ووجده أن يجعلها من الشريعة والسنة

فإن ما يُذكر من الاعتقاد إما أن يكون موافقًا لخبر النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون مخالفًا، إذ ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر مثل كثير من الصناعات والطب والحساب، فإن كان المذكور موافقًا لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يُذْكَر خبرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظه ويُدعى إليه ولا يُدعَى إلى ما لم يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به. وإن كان مخالفًا لخبره لم يجز لأحدٍ أن يعتقده فضلًا عن أن يدعو إليه، فإنه باطل وكذب.

وإن لم يكن مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا ليس من الذي أمر الله باعتقاده لا إيجابًا ولا استحبابًا، فلا يكون من الدين، بل يكون كالصناعات والأمور العقلية المحضة كالطب والحساب.

ولهذا‌

‌ ليس لأحدٍ أن يضيف الاعتقاد الذي يجب اتباعه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى طائفة غير الصحابة

. ولا يقول: إن اعتقاد فلان والطائفة الفلانية هو الحق دون اعتقاد فلان والطائفة الفلانية، إلا أن يبيّن أن ذلك هو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. وحينئذٍ فإضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أولى من إضافته إلى مَن هو دونه.

وكثير من الناس أدخلوا في الاعتقادات ألفاظًا مجملةً تتضمّن مخالفة النصوص، فخرجوا عن السنة والجماعة مع ظنهم أن ذلك هو السنة والجماعة، وإنما اعتقاد أهل السنة: ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن والحديث الصحيح الثابت عنه، واعتقاد الجماعة: ما كان عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان.

و‌

‌ليس لكلّ مَن استحسن عبادةً بذوقه ووجده أن يجعلها من الشريعة والسنة

إن لم تأت بها الشريعةُ والسنةُ، ولا لكلّ مَن رأى رأيًا بعقله ونَظَره أن

ص: 28

يجعله من الشريعة والسنة إن لم تأت بها الشريعةُ والسنةُ، بل على الخلق كلهم أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا في الاعتقادات والأعمال في الأمور الخبرية والأمور الطلبية، وفي العلوم النظرية والعملية، وعلى كل أحد أن يفعل ما وجب عليه من العلم والعمل، فلا يكفيه قيامه بالعلم الواجب دون العمل به، ولا قيامه بالعبادة دون ما وجب عليه من العلم، ولا يكفيه العلم والعمل حتى يكون متبعًا في ذلك للكتاب والسنة، ولهذا قال مَن قال مِن السلف: الإيمانُ قولٌ وعمل ومتابعة للسنة.

وقال بعضهم: لا ينفع

(1)

قولٌ إلا بعمل، ولا قولٌ وعملٌ إلا بمتابعة العلم، فالقول يتضمن العلم، والعمل يتضمن الإرادة

(2)

.

ولهذا لما سلك كثير من طلاب العلم طريقَ النظر والاستدلال دون العمل الواجب والاعتصام بالكتاب والسنة= وقعوا في بدع كثيرة كلامية مع الخروج عن الواجب في أعمالهم، فجمعوا بين بدعةٍ وفجور.

ولما سلك كثير من أهل الإرادة والعبادة والزهادة طريقة العمل دون ما يجب عليهم من العلم ودون الاعتصام في ذلك بالكتاب والسنة= وقعوا في كثير من البدع الحالية مع الخروج عن الواجب أيضًا، فجمعوا بين بدعة وجهالة!

فهؤلاء يشبهون الضالين وأولئك يشبهون المغضوب عليهم، ولهذا قيل: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما لكل مفتون، فالعالم الفاجر فيه [ت 12] شَبَهٌ من اليهود، والعابد الجاهل فيه شَبَهٌ من النصارى. قال سفيان بن عُيينة: كانوا يقولون: مَن فَسَد من علمائنا فيه شَبَهٌ

(1)

(ت): «يقع» ، والظاهر ما أثبتّ وهي على الصواب فيما سيأتي (ص 257).

(2)

سيأتي تخريج هذه الآثار (ص 70).

ص: 29

من اليهود، ومَن فسد من عبّادنا فيه شَبَهٌ من النصارى

(1)

.

وقد أمرنا الله تعالى أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].

وهذه جملة مختصرة يدخل تحتها أمورٌ كثيرة، مَن هداه الله تعالى لتفصيلها انتفع بذلك نفعًا كثيرًا، وعرف أن كثيرًا من العلماء والمشايخ يقع في كلامهم وأفعالهم ما لا يسوغ اتّباعُهم فيه، وإن كانوا مع ذلك من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين.

وقد عُلِم أن لجماعةٍ من الشيوخ أحزابًا، وهم في ذلك متفاوتون، فبعضهم لم يُحدِث فيها ذِكْرًا بل جمع ما ذَكَره غيره وهي من القرآن والحديث، فهذه لا تُنكر في نفسها وإنما يُنكر اتخاذ الاجتماع عليها سنة راتبة. وهذا أمر يختلف اجتهاد الناس فيه، فقد صار كثيرٌ مما لم يُشرع الاجتماع المعتاد عليه عادةً للناس، بل وُقِّف على ذلك وقوف كالقراءة والحديث وتدريس العلم وغير ذلك.

وقد كثر هذا النوع في كثير من الأمصار، والمعروف والمنكر مراتب. فمن كانوا على طريقة فيها نوعٌ من الخطأ والبدعة، وفيها خير وصواب كثير لم يُنهوا عنها إلا أن يُنقلوا إلى خير منها، وإلا فما كان فيه خير كثير مع قليل من الشرّ خير مما هو شرٌّ كلُّه، والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها

(1)

ذكر المؤلف هذا القول عن سفيان في عدد من كتبه «الاقتضاء» : (1/ 79)، و «الاستقامة»:(1/ 100)، و «الفتاوى»:(1/ 197، 13/ 100، 16/ 567 وغيرها)، وعزاها في مواضع لبعض السلف. وذكره ابن القيم في «البدائع»:(2/ 440) وغيره، وابن كثير في «تاريخه»:(14/ 821) معزوّةً له.

ص: 30

وتعطيل المفاسد وتقليلها، فينبغي معرفة خير الخيرين وشرّ الشرين، فلا يُزالُ المنكرُ بما

(1)

هو أنكر منه، ولا يفوت الخير الكثير من الواجب والمستحب باشتماله على شرّ قليل.

بل إذا كان النهي عن المكروه أو المحَرّم يستلزم تركَ واجبِ مصلحةٍ في الدين أعظم من مصلحة ترك ذلك المكروه والمحرم= لم يجز النهي عنه، كالغزو مع الأمراء الفجّار، فإنه يحصل به مصلحة الجهاد الواجب ودفع العدوّ ما لا يجوز تركه، فلا يُنهى عنه لما فيه من ظلم الولاة في بعض الأمور، بل يُعاونُ الناسُ ولاةَ الأمور وغيرهم على ما يفعلونه من البر والتقوى، ولا يعاونونهم على ما يفعلونه من الإثم والعدوان.

وإذا كان ذلك البر والتقوى لكان الفساد أعظم

(2)

لم يُدفع الفساد القليل بفساد أكثر منه.

ولهذا نظائر في أهل العلم والعبادة والإمارة، فكثير من الناس ينظر إلى جهة الذمّ التي في الفعل ولا ينظر إلى ما فيه من المدح، ومن هنا أخطأت الخوارج والمعتزلة ونحوهم حيث نظروا إلى سيئات المسلمين ولم ينظروا إلى حسناتهم، وقالوا: إن الشخص الواحد لا يجتمع في حقه الثوابُ والعقابُ والطاعةُ والمعصيةُ.

وهذا خطأ عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة، بل عندهم أن الشخص الواحد يكون مستحقًّا للثواب والعقاب، فيُحمَد من

(1)

النسخة: «لما» .

(2)

كذا في النسخة، والعبارة قلقة.

ص: 31

وجهٍ ويُذمّ من وجه، ويُحَبّ من وجه ويُبْغَض من وجه، ويدخل في الدعاء بالمغفرة والرحمة من وجه، ويدخل في الدعاء باللعنة من وجه، ويدخل النار فيقيم بها مدّة ثم يخرجه الله تعالى منها فيدخله الجنة.

وهكذا النوع الواحد في الأعمال، كالسجود يكون تارة طاعة كالسجود لله تعالى، وتارة معصية كالسجود للصنم.

ونازعَ في ذلك ابنُ الجُبّائي أبو هاشم، وجمهور الناس على تخطِئته، وهو كما لو قالوا بأن الفعل يختلف باختلاف النيات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:[ت 13]«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»

(1)

.

وهو زعم أن الاختلاف يقع في النية فقط، وأما العمل الظاهر فهو متماثل الأفراد، وهو خطأ، بل العمل الظاهر يختلف مدحُه وذمُّه وحُسْنُه وقُبْحُه باختلاف نيّة فاعله، فنفس السجود لله تعالى حَسَن محمود، وللشمس والقمر سيئٌ مذموم، قال تعالى:{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ} [فصلت: 37].

وأما الفعل الواحد بعينه كصوم اليوم المعيّن والصلاة المعيّنة والدعاء المعيّن، فهل يكون محمودًا من وجه مذمومًا من وجه؟ وهل يستحق به فاعله الثواب من وجه والعقاب من وجه؟ وهل ذلك ممكن عقلًا أم لا؟

على قولين، فأكثر الناس على أن ذلك ممكنٌ عقلًا، وصار طائفة من

(1)

أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 32

أهل الكلام وبعضُ أهل الفقه إلى أنه ليس ممكنًا

(1)

عقلًا، وهو اختيار القاضي أبي بكر والرازي. ثم ادّعى بعضُ هؤلاء أنما صحَّحَتْه الشريعة من ذلك فإنما سقط الفرض عنده لا به.

وأما غير هؤلاء من المعتزلة والمرجئة وغيرهم فأبطل ذلك شرعًا، ووافقهم بعضُ الفقهاء من أهل الظاهر وبعضُ أصحاب أحمد، وأما أحمد نفسُه وأئمة أصحابِه وسائر العلماء فقالوا: إن ذلك ممتنع عقلًا، بل الصلاة في الدار المغصوبة والثوب المغصوب والثوب الحرير وغير ذلك مما نهى الشارعُ عنه نهيًا عامًّا ولم يرد نهيٌ خاصّ عن فعل العبادة معه هل تبطل معه العبادة كما ورد فيه نهيٌ خاص كالصلاة عُريانًا، والصلاة في المكان النجس؟ هذا مما فيه نزاع معروف بين الفقهاء، وفيه قولان في مذهب أحمد وغيره.

فالناسُ في هذا الأصل على أربعة أقوال:

منهم مَن يقول: هذا النوع ممتنع عقلًا وشرعًا، ومنهم مَن يقول: هو جائز عقلًا وشرعًا، ومنهم مَن يقول: هو جائز عقلًا لكن الشارع منع منه، ومنهم مَن يقول: هو ممتنع عقلًا ولكن ما ورد به الشرع منه قلنا: سقط الفرض عنده لا به. وهذا أضعف الأقوال.

والصحيح ما عليه الجمهور، وهو أنه يمكن في الجملة أن يُثاب الرجل على عملٍ من وجه ويُعاقب عليه من وجه، لكن هل يسقط الفرض بذلك فلا تجب الإعادة؟ هذه مسألة فقهية يُبْحَث فيها بالأدلة الفقهية، فإن الفقهاء الأربعة وغيرهم متفقون على أن من واجبات الحج ما إذا تركه لم يسقط الفرض بل عليه الحج، ومنها ما إذا تركه سقط فرض الحج وجبر ذلك بدم،

(1)

(ت): «ممكن» .

ص: 33

وكذلك واجبات الصلاة جمهورهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد على أن من واجباتها ما إذا تركه سهوًا لم تلزمه الإعادة، بل يجبره بسجود السهو، بل وفي واجباتها ما إذا تركه عمدًا عند أبي حنيفة لا إعادة عليه، وكذلك عند أحمد، كالجماعة في أشهر القولين في مذهبه.

فهذه مسائل تحتاج إلى أدلة خاصة، ومع هذا فإن أوجَبْنا الإعادة على الإنسان فلا ريب أنه يُثاب على ما فَعَله من الخير في العبادات التي وجبت إعادتُها، فإذا صلى وترك ركنًا عمدًا بحيث تجب عليه الإعادة فإنه يُثاب على ما فَعَله من الخير قبل ذلك، وكذلك الحج إذا أُمر بإعادته، كالذي يفوته الوقوف فإنه يُثاب على ما فعله أولًا.

فهذا وهذا مما يبيِّن أن الفعل الواحد قد يُثاب عليه من وجه وإن كان يُذم عليه من وجه آخر، فكثير من العبادات التي جنسها مشروع وقد نُهي عن فعلها على وجه معيّن إذا فعلها الفاعل على ذلك الوجه ولم يعلم بالنهي= فإنه يُثاب على ما فعل من [ت 14] الخير، ولا يعاقب على ما أخطأ فيه.

فالأحزاب التي ليس في دعواتها وأذكارها ما يخالف الشرع من هذا الباب، وأما ما كان في نفس أذكارها ودعواتها منكر كالحزب المسؤول عنه، فهذا يُنهى عنه بلا ريب.

ثم مَن لم يعرف ما فيه من اللوم فإنه يُثاب على ما فيه من الذِّكْر المشروع، وأما الذِّكْر المنهيّ عنه فقد يحصل له ضرره وفساده كما تحصل الأحوال النفسانية والشيطانية لكثير من الناس.

وهذا باب واسع، والمقصود هنا أن الشاذلي رحمه الله من خيار الشيوخ الذين في أحزابهم ما يُنْكَر في نفسه، وقد ذكرنا أن الشاذلي رحمة الله عليه من

ص: 34

خيار هؤلاء الشيوخ، ومع هذا فقد وقع في حزبه وغير حزبه كلمات منكرة توجب

(1)

منعَ الناس أن يقرؤوا هذا الحزب، فضلًا عن أن يجتمعوا عليه أو يتخذوا ذلك سنةً راتبةً لها أوقات معتادة ويظهروها في المساجد، فإن إظهار مثل ذلك في دار الإسلام من أعظم المنكرات، فكيف في المساجد؟!

وإذا كان هذا في مثل حزب الشاذلي رحمه الله الذي هو أرجح من غيره، فكيف بما هو دونه؟!

فهذا جواب عامّ في هذا الحزب وأمثاله مما يشبه ذلك من العبادات البدعية التي لم يشرعها الله ورسوله.

ومن أمثل ذلك الحزب المتضمّن للمسبّعات الذي ذكره أبو طالب المكي في أول كتابه المسمّى بـ «قوت القلوب»

(2)

فإن هذا الكتاب فيه أمور جليلة القدر في الدين، مثل كلامه في مقامات العارفين من الصبر والشكر والرضا والخوف والرجاء والمحبّة، ونحو ذلك؟ ولهذا سماه «قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» . ولكن تسميته «قوت القلوب» مما أنكره طائفةٌ، وذكر بعضُهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فذكر له «قوت القلوب» فقال: لا تقل قوت القلوب، فإن قوتَ القلوب القرآنُ، ولكن قل: كتاب أبي طالب.

وأجود ما في «إحياء علوم

(3)

الدين» لأبي حامد هو مما أخذه من كتاب أبي طالب، فإن أبا طالب كان أعلم منه بالحديث والآثار، وأعلم بأحوال

(1)

في (ت): «يجب» وما أثبته يستقيم به السياق.

(2)

(1/ 19 - 20).

(3)

النسخة: «العلوم» .

ص: 35

القلوب، ومع هذا ففي كتابه من الأحاديث والآثار الموضوعة والأقوال الضعيفة بل المردودة ما قد أنكره عليه كثيرٌ من أهل العلم والدين، حتى جرّد بعضُهم القولَ في ذلك، كالشيخ أبي البيان

(1)

في القول له في الاستدراكات على أبي طالب مواضعَ أجادَ فيها الشيخُ البيانَ رحمة الله عليهم أجمعين، وإن كانت الاستدراكات على «الإحياء» أكثر من ذلك لما فيه من المادة الفلسفية التي ليست في كتاب أبي طالب، مع ما فيه من الآثار الموضوعة والكلام المحدَث ما ليس في كلام أبي طالب.

ومن المستدرك على أبي طالب المسبّعات التي ذكرها في أول كتابه وعزاها إلى حكايةٍ نُقلَت عن رَقَبة بن مصقلة

(2)

عن التيمي عن الخضر أنه نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين وغيرهما سبع مرات، وذكر فيها ثوابًا جازف فيه. ولا ريب عند أهل العلم بالنقل أن هذه

(1)

أبو البيان الدمشقي: نبا بن محمد بن محفوظ القرشي، من مشاهير مشايخ الصوفية (ت 551). ترجمته في «السير»:(20/ 326 - 327). وقد أشار المؤلف إلى استدراكاته على أبي طالب في «جامع المسائل» : (6/ 125)، و «الفتاوى»:(4/ 66).

(2)

في النسخة هكذا: «إلى رُقية حكاية نقلت عن رُقية بن مصقلة» ! وهو تصحيف، ووضع الناسخ فوق «ابن» علامة تشبه الميم (م).

والذي في «قوت القلوب» : (1/ 19) في إسناد هذه الحكاية: «روى ذلك سعيد بن سعيد عن أبي طيبة عن كرز بن وبرة

أنه أسند له هذه الحكاية عن إبراهيم التيمي عن الخضر». وقد أخرجه من هذا الطريق ابنُ عساكر في «تاريخه» : (16/ 430). ولا ذِكر لرقبة بن مصقلة في إسناد هذه الحكاية.

وقد جاء ذكر رقبة بن مسقلة ــ بالسين أو الصاد ــ في «قوت القلوب» : (1/ 83) لكن في أثر آخر في رؤيته لربّ العزة في النوم يقول: وعزتي وجلالي لأكرمن مثوى سليمان التيمي فإنه صلى الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة.

ص: 36