الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة [التحقيق]
مؤلف الكتاب:
مؤلف الكتاب أبو النور عصام الدين عثمان الدفتري ابن علي أبي الفضائل ابن مراد بن عثمان بن علي بن الحاج قاسم العمري من الأسرة العمرية في الموصل.
والأسرة العمرية أسرة عريقة تنتمي الى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد توزعت هذه الأسرة في مختلف الأقطار فسكنت فروعها مكة ودمشق ومصر والموصل.
وكان اشهر فروع الأسرة فرع دمشق والموصل وقد ظهر منهم كثير من العلماء والأدباء والشعراء (1).
ان اول من قدم الموصل من العمرية الحاج قاسم بن علي ابن محمد بن الحسين وهو من سلالة عاصم بن عمر بن الخطاب
(1) المرادي: سلك الدرر 1: 123 وقد ترجم لعدد كبير من افراد الاسرة في القرن الثاني عشر.
رضي الله عنه (1) وقد قدم الحاج قاسم الى الموصل مع ولده علي. ولا نعرف على وجه التحقيق تاريخ قدومه. ويستنتج مما يقوله لونكريك: أن الأسرة العمرية قد جاءت الى الموصل بعد سنة 980 هـ. اذ يقول «ان زلزالا شديدا حدث في أذربيجان، فسرى تأثيره جنوبا حى الموصل
…
وجئ بالأسرة العمرية المعروفة في هذه الفرة؟ ؟ ؟ لعل قدسيتها تهدئ الزلزال المفجع الذي هز المدينة» (2).
وحدد لونكريك وقوع الزلزال سنة 980 هـ.
ولكنا نعلم أن الحاج قاسم العمري قد شيد بعد قدومه الى الموصل جامع العمرية عام 971 هـ. ولدينا وقفيته لهذا الجامع حررها في أوائل رجب الفرد سنة تسعمائة وتسع وسبعين للهجرة أوقف فيها على الجامع ما يمتلكه في الموصل من حمامات ودكاكين ودور وأراض زراعية. ولذلك فاننا نرجح انه قدم الى الموصل في النصف الاول من القرن العاشر الهجري.
ويعتقد كثير من أفراد الأسرة العمرية أن جدهم الحاج قاسم قد قدم الى الموصل من دمشق. غير ان القس سليمان صائغ يذكر في كتابه تاريخ الموصل (3) أنه من مكة المكرمة، ويذكر لقدومه سببا غير الذي ذكره لونكريك. وهو يعتمد فيما يقوله
(1) نسبه مكتوب في دائرة قبة جامع العمرية الذي انشأه في محلة باب العراق في الموصل.
(2)
اربعة قرون في تاريخ العراق ص 37.
(3)
ج 1 ص 266
علي اوراق تتضمن تاريخ العائلة العمرية لكاتبها الفاضل حسن أفندي ابن محمود أفندي العمري، لم نستطع الوقوف عليها.
وصدرت الارادة السلطانية بجلب ذاتين محترمين من اشراف السادة والعمرية القاطنين في الحرمين الشريفين، لانذار الأهالي. فدعي السيد عبد الله الأعرجي الحسيني من المدينة المنورة، ودعي الحاج قاسم العمري من مكة المشرفة. فسكن السيد عبد الله في المحلة الواقعة في شمالي الموصل، وتعرف بمحلة السادة. وسكن الحاج قاسم العمري في المحلة المسماة باب العراق في جنوب الموصل وتعرف ايضا بمحلة الشيخ محمد».
ويفهم من كلام الاستاذ سعيد الديوه جي في المقدمة التي
كتبها لكتاب منهل الأولياء ان عمريين كانوا يسكنون الموصل قبل قدوم الحاج قاسم اذ يقول «وسكن (يعني الحاج قاسم) مع العمريين الذين كانوا قرب باب الحديد» . (1) ولم يشر الى المصدر الذي اعتمد عليه. ولم نعثر فيما رجعنا اليه من المصادر على ما يؤيد قوله هذا.
ولا نعلم عن الحاج قاسم جد الأسرة شيئا الا ما ذكرناه من أمر قدومه الى الموصل وبنائه جامع العمرية وما ورد في وقفية الجامع من املاك كان يمتلكها أوقفها على الجامع وما ذكره عنه صاحب الدر المكنون من أنه توفي سنة 1001 هـ.
ولا بد أنه «كان احد كبار الفضلاء وخيار الفصحاء» كما يقول القس صائغ استنتاجا على ما نعتقد. غير أن الأستاذ الديوه جي يضيف بعد أن يذكر انه بنى الجامع العمري أنه «اتخذ فيه مدرسة، وكان من العلماء الفضلاء، يدرس في مدرسته، وتخرج على يده كثير من علماء الموصل» (2)
ولم يذكر الاستاذ المصادر التي اعتمد عليها في ذلك ايضا.
ولم نجد في المصادر ما ينص على أن الحاج قاسم قد اتخذ في جامعه مدرسة وأنه كان يدرس فيها. بل أن المصادر تنص على أن مدرسة جامع العمرية انما اسسها أحد أحفاده وهو أبو الفضائل علي بن مراد بن عثمان بن علي بن الحاج قاسم، حين جدد عمارة الجامع العمري سنة 1133 هـ وفرغ منها سنة 1134 هـ وانقطع الى التدريس فيها عشر سنين.
(1) منهل الاولياء ص 17، والصواب الباب الجديد.
(2)
مخطوطات الموصل ص 86
وكذلك فاننا لا نعلم عن علي بن الحاج قاسم شيئا سوى انه قدم الى الموصل مع أبيه، ولعله توفي قبله اذ لم يرد له في الوقفية ذكر. كما أننا لا نعلم عن عثمان بن علي هذا شيئا.
اما مراد بن عثمان جد المؤلف. فقد كان مدرسا في الحضرة اليونسية وخطيب جامعها. وكانت له اليد الطولى في علمي المعقول والمنقول. وكانت اليه الرياسة في الموصل، وهو مرجع الفضلاء.
وكان عارفا بعدة لغات عدا العربية وهي التركية والفارسية والكردية وانه توفي سنة 1091 أو 1092 هـ (1).
وقد ترجم له حفيده مؤلف الكتاب وأورد له قصيدة من شعره.
أما والد المؤلف أبو الفضائل علي بن مراد فقد ولد سنة 1060 هـ في الموصل. وصارت اليه الرئاسة فيها. وسافر الى القسطنطنية ينازع ابن عمه فتح الله العمري تولية جامع العمرية، فأصلح بينهما صاحب الصدارة الكوبرلي، وجعلها بينهما، ثم استقل بهذه التولية عند ما توفي فتح الله العمري عام 1107 هـ. وتولى قضاء بغداد سنة 1112 هـ ولكنه عاد الى الموصل بعد سنة. ثم تولى افتاء الموصل سنة 1122 هـ ثم عزل عنه، وأعيد اليه سنة 1125 هـ واستمر الى أن غلبه الكبر فنزل عنه لحفيده يحيى بن مراد بن علي. وأسس في الجامع العمري مدرسة بعد ان جدد عمارته وتولى التدريس فيها عشر سنوات واحرز شهرة عظيمة، وأقبلت عليه الدنيا، وكثرت ثروته واقطاعه (2).
(1) منهل الاولياء ص: 224، تاريخ الموصل 2: 137
(2)
منهل الاولياء 255، غاية المرام 340، تاريخ الموصل 2: 152 وترجم له صاحب شمامة العنبر ومنهج الثقات.
وكان يتمتع بمنزلة كبيرة وقد حدثت بسببه فتنة الموصل المشهورة سنة 1138 هـ والتي عرفت بفتنة علي أفندي.
وله من المصنفات شرح الفقه الأكبر للامام أبي حنيفة، وشرح كتاب الآثار لمحمد بن الحسن. وقيل إنه ترك ذيولا وتعليقات على كل فن وتوفي سنة 1147 هـ.
*** في هذا الوسط من العلم والثراء والجاه ولد مؤلف الكتاب عصام الدين عثمان سنة 1034 هـ فنشأ في كنف والده الذي تقدمت به السن. حتى اذا ما ترعرع سلك طريق العلم والدراسة فدرس على أساتذة أجلاء من علماء عصره هم:
1 -
الشيخ اسماعيل ابن أبي جحش الموصلي المتوفي بعد سنة 1140 هـ وقد ترجم له المؤلف في الروض النضر وقال عنه «قضى أوقاته مع الوالد، فكان له المنجد المساعد
…
اتخذه لنا مؤدبا ولحلي معارفنا صائغا، فكلنا قرأنا عليه، وجثونا بين يديه».
2 -
يحيى بن مراد بن علي ابي الفضائل توفي بعد سنة 1160 هـ.
وهو ابن أخي المؤلف وقد تولى افتاء الموصل بعد جده. وقد ترجم له وقال عنه «قرأت عليه في الصغر، واستقصيت منه الأثر وأحييت بمكارمه ما دثر، فكان كالمطر، في كل ما قطر.
3 -
الشيخ درويش الكردي العقراوي المتوفى بعد سنة 1170 هـ وقد ترجم له في الروض وقال عنه «وهو شيخي وأستاذي، إليه رجوعي والتياذي قد أركبني من الأدب ظهراً، ونصب لي من الفصاحة
جسرا. انقطع عني سنين .. ففي اثناء تحريري هذا السفر والكتاب
…
أتى الي، ونزل علي، فانتعشت بقدومه .... واعدت القراءة عليه والتقطت لؤلؤ الفضل الذي لديه».
4 -
مصطفى الخوشناوي. وقد ترجم له في الروض. فقال «فهو أحد أشياخي الذي استفدت منه، وبحر الجواهر الذي أخذت عنه. له في كل علم يد، وهو في العربية جدار فصاحة ممتد.»
ثم رحل المؤلف الى قرية «ماوران» ودرس فيها على السادة الحيدرية وقد وهم المرادي صاحب سلك الدرر (3: 164) فقال «إنه سافر الى صوران على وزن سحبان قرية من قرى اليمن فقرأ على عامة علمائها، كالشيخ الصالح فضل الله الحيدري، والشيخ فتح الله والشيخ صالح» . وتابعه في وهمه هذا القس سليمان صائغ الموصلي صاحب تاريخ الموصل اذ قال (2: 181) «ثم سافر الى صوران من قرى اليمن وأخذ عن الشيخ صالح الحيدري. كما تابعهم خير الدين الزركلي في الاعلام فقال عنه ولد في الموصل رحل الى اليمن وصوران هذه فيما يذكر ياقوت في معجم البلدان قرية للحضارمة باليمن بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلا. ولم يعرف عنها انها كانت مركزا من مراكز العلم على الرغم من ان بعض العلماء كانوا ينسبون اليها. فيما ذكر ياقوت.
ونرجح ان كلمة «ماوران» قد كتبت «موران» بغير الف كما
رايناها في سلك الدرر (4: 6) فتصحفت على المرادي فقراها صوران، او ان نسخة من كتاب المرادي تصحفت فيها هذه الكلمة. ثم قرأها ناشر كتاب المرادي صوران وقال (على وزن سحبان قرية باليمن).
و«ماوران» هذه قرية من قرى قضاء راوندوز في شمال العراق. كان اول من اتخذ فيها مدرسة من السادة الحيدرية حيدر بن حيدر قال عنه المؤلف في الروض «حيدر جد الحيدرية الأعلى، نشر ابنه الثاني حيدر ألوية التدريس في قرية ماوران، فقصدته رجال التحصيل في كل مكان
…
وقد اشتهرت مدرسة ماوران هذه وقصدها الطلاب من كل قطر. وقد ترجم المؤلف لشيوخه الحيدرية وليس فيهم من يدعى بالشيخ صالح كما ذكر المرادي والقس صائغ. كما انه ترجم لفضل الله بن ابراهيم فلم يقل انه درس عليه.
وشيوخه الحيدرية هم:
1 -
إبراهيم بن حيدر. قال عنه في الروض «هو علامة العصر
…
أخذت منه ورويت عنه
…
صنف بكل فن من الفنون
…
واستأذنته بتحرير تصنيفه «الملهمات» و «شرح بانت سعاد» .
2 -
صبغة الله بن ابراهيم بن حيدر. قال عنه إنه «علامة الزمان
…
وهو رئيس هؤلاء الرجال، وجميع فضلاء هذا الكتاب عليه عيال
…
قرأت عليه وجثوت بين يديه».
3 -
فتح الله بن ابراهيم بن حيدر. قال عنه إنه «شيخ الادب
وشابه، ونجد الكمال وهضابه
…
ملأ بمزامير فضله مسامع الآفاق
…
فهو شيخي الذي أخذت عنه، وزندي الذي قدحت منه، درجني الى حلبة الادب. فعن أدبه رضاعي وحثني في أوان الطلب، فبفضله تعمرت رباعي».
4 -
عبد الغفور بن أحمد بن حيدر، قال عنه «اشتهر بفضله في الآفاق
…
فغدت الطلبة عاكفين على بابه
…
هو أحد أشياخي، وشاه رقعتي في المعارف وإرخاخي. وهو شيخي الكريم الوجيه، وأستاذي القويم النبيه. استفدت من عبارته، واكتسبت من اشارته، ولازمت ناديه، وجنيت المعارف من أياديه».
كما درس على الشيخ الملا درويش الكردي وقد ترجم له في الروض وقال عنه «فهو شيخي وأستاذي الذي إليه رجوعي والتياذي، قد أركبني من الأدب ظهراً. ونصب لي من الفصاحة جسرا» .
ودرس على الشيخ مصطفى الخوشناوي وقد ترجم له في الروض أيضا وقال عنه في العنوان شيخي مصطفى الخوشناوي ثم قال في اثناء الترجمة «فهو أحد أشياخي الذين استفدت منه، وبحر العلوم الذي أخذت أدبي عنه» .
ولا ندري على وجه التحقيق متى رحل الى «ماوران» ولكنا نرجح ان رحلته اليها كانت بعد وفاة والده. كما انا لا ندري. كم اقام فيها ومتى عاد منها. ولكنا نعلم أنه كان لا يزال فيها سنة 1151 هـ.
فقد جاء في مخطوطة من مخطوطات المدرسة الأحمدية في الموصل
وهي «ملهمات ربانية في أسرار ذوقية وجدانية» لابراهيم حيدر الصفوي التي أشار المؤلف الى أنه استأذن استاذه إبراهيم بن حيدر بتحرير تصنيفه الملهمات: «كتبه عثمان العمري ابن الحاج علي العمري الموصلي وهو عند المصنف في قرية ماوران نقلا عن مسودته سنة «1151 هـ» . (1)
وقد ذكر المرادي وتابعه القس الصائغ أن المؤلف درس على العلامة جرجيس الأربلي ولكنا نلاحظ ان المؤلف على الرغم من انه نعته حين ترجم له في الروض بشيخي جرجيس فانه لم يذكر في اثناء الترجمة انه قد درس عليه كما ذكر عن غيره من شيوخه. ولعل كلمة شيخي التي جاءت في العنوان تدل على اعتباره شيخا في التصوف.
فان الذي يدقق في ترجمة الشيخ جرجيس الاربلي يرى انه قد درس على نفس الشيوخ الحيدرية الذين درس عليهم المؤلف وأنه حين درس في الموصل كان المؤلف قد جاوز سن الطلب.
*** اتصاله بالحاج حسين باشا الجليلي:
بعد أن أنهى المؤلف دراسته في «ماوران» عاد الى الموصل واتصل بخدمة الحاج حسين باشا الجليلي والي الموصل حينئذ. ولا نعلم على وجه التأكيد متى كان اتصاله هذا. فقد تولى الحاج حسين الجليلي ولاية الموصل عدة مرات. ولعله اتصل به اثناء ولايته الرابعة على الموصل
(1) مخطوطات الموصل ص 27.
(من سنة 1151 - 1153 هـ) او أثناء ولايته الخامسة عليها التي بدأت سنة 1154 هـ واستمرت أربع سنين وشهرا. (1)
ويظهر أن الوالي قربه كثيرا، فالمؤلف يقول في سنة 1156 هـ أثناء حصار نادر شاه للموصل:«وكنت في ذلك الحصار، ملازما في الليل والنهار، لحضرة هذا المشار (حسين باشا) فرأيت من شجاعته ما يبهر، ومن بذله ما يغمر» .
كما يقول حين يتحدث عن الحصار «وكنت اذ ذاك في خدمة السيف والسنان» .
وصمدت الموصل صمودها الرائع في وجه نادر شاه فاضطر الى قبول الصلح والانسحاب فأوفد الوالي حسين باشا المؤلف الى الآستانة صحبة ابنه أمين باشا يحمل البشرى الى عاصمة الدولة بهذا النصر المبين.
ولما نقل حسين باشا الى ولاية قارص ثم الى ولاية كوتاهية صحبه المؤلف سنة 1164 هـ الى بلاد الروم هذه. وبقي في خدمته أربع فهو يقول في ترجمة عمه عبد الباقي العمري «في سنة أربع وستين ومائة وألف، من هجرة من له المجد والشرف، اتفق الى سفرة الى بلاد الروم
…
وامتدت الغربة الى اربع سنين وأيام».
كما يقول في ترجمة أمين باشا الجليلي ابن الحاج حسين الجليلي «ولما رجعت من بلاد الروم من خدمة أبيه ذلك الضرغام النبيه، وذلك ليلة عيد رمضان، بعد امتداد الغربة أربع سنين، وقد أثر بي حب الوطن
…
أمرني أن أشنف الأسماع بقصيدة في مديحه
(1) منية الادباء ص 82، 83.
الذي لا يستطاع».
ولا ندري طبيعة العمل الذي كان يتولاه المؤلف في ولاية حسين باشا الجليلي غير أن المرادي يقول، وتابعه على ذلك القس صائغ أنه ولاه في الروم بعض البلاد الصغيرة كارويش. وهما يذكران أيضا أن المؤلف كان قد صحب الحاج حسين الجليلي الى وان حين ولي عليها. ولعل ذلك وهم منهما، اذ انه انما تولى وان سنة 1147 هـ وقد كان المؤلف في الثالثة عشرة من العمر حينذاك وأنه كان لا يزال في ماوران إلى سنة 1151 هـ. ولم يكن قد اتصل به حينئذ.
وحين عاد المؤلف من بلاد الروم اتصل بخدمة أمين باشا الجليلي وكان واليا على الموصل من سنة 1166 حتى سنة 1168 هـ فقربه اليه ويقول صاحب غاية المرام (ص 343) انه كان مقدما عنده بمنزلة كتخدا». وظل متصلا به حتى بعد أن صرف عن ولاية الموصل حتى سنة 1170 هـ فالمؤلف يقول في ترجمة أمين باشا: «وفي سنة تحرير هذا المؤلف وهو سنة سبعين ومائة وألف يسره الله لبناء جامع في الحدباء
…
وكنت قد أنشأت لعمارة الجامع تاريخا وللمنارة آخر، وهو مكتوب عليها، وأنشأت بعض نثر مسطور في الباب فضلا ومنة من ذلك الجناب العالي».
ثم انفصل عنه فسافر الى استانبول سنة 1170 هـ في رواية، وسنة 1171 في أخرى، قاصدا الصدر الاعظم محمد راغب باشا (1).
(1) هو مؤلف كتاب سفينة الراغب وصاحب خزانة كتب راغب باشا في استانبول، كان من قبل دفتر دار في بغداد وواليا على مصر سنة 1159 هـ ثم أصبح صدرا أعظم.
وقدم اليه كتابه الروض النضر وجعله باسمه، وكان راغب باشا عالما أديبا. فأنعم على المؤلف وولاه حساب ولاية بغداد (دفتردار).
وقدم المؤلف بغداد سنة 1172 هـ في أرجح الروايات وتولى عمله، وكان مقدما عند واليها سليمان باشا. حتى اذا توفي سليمان باشا سنة 1175 هـ قام المؤلف مقام الوالي بضعة أشهر حتى تم تعين علي باشا واليا على بغداد في السنة نفسها. فحاسبه على أموال سليمان باشا، اذ أنه لم يجد منها الا اليسير، فحبسه بالقلعة وهم بقتله ثم اكتفى بنفيه الى الحسكة (1) وسجنه فيها.
فلما قتل الوالي علي باشا وتولى الولاية عمر باشا سنة 1177 هـ، هم بقتله، فقد كانت بينه وبين المؤلف عداوة قديمة. وأقدمه الى الحلة، فانجاه من القتل شفاعة عائشة خانم بنت الوزير أحمد باشا زوجة سليمان باشا فسجنه في الحلة واصيب فيها بفالج أبطل شقه فنفاه الى كركوك وسجنه فيها. ثم هم بقتله، فأدركته شفاعة عائشة خانم ثانية، فأطلق سراحه. وقدم الى اربيل وعاد الوالي فامر بالقبض عليه فيها وقتله، فسجنوه ولم يقتلوه. ثم شفع له فاطلقه وعاد الى الموصل.
وتحسنت صحة المؤلف في الموصل بعض التحسن، فتوجه الى استانبول ليشكو ما لقيه من عمر باشا، غير أن هذا حين بلغه نبأ مسيره أرسل وراءه من اتبعه في الطريق، واستطاع أن يغرر به فعاد قبل أن يبلغ استانبول، حتى اذا بلغ ماردين في عودته قبضوا عليه فيها وسجنوه. ثم أطلقوه بعد مدة، وأخذوه الى اربيل وسجنوه
(1) بلدة قامت على انقاضها مدينة الديوانية في منطقة الفرات الأوسط
فيها وأخيرا أطلق سراحه فعاد الى الموصل.
وأقام في الموصل فترة توجه بعدها الى استانبول، وعرض ما أصابه على رجال الدولة حتى السلطان فما افاد ولا استفاد (1).
واقام في استانبول مدة ومات فيها بالطاعون سنة 1184 هـ (1770 م)
*** نشأ المؤلف ميالا الى الادب وكان أبوه منذ طفولته يرغبه فيه ويقوي ميله اليه. فهو يقول: أنه كان بعد أن ينفض سامر أبيه «ويبقى وحده، وليس غيري عنده، وأنا إذ ذاك في العشرة الأولى وهو في العشرة الثامنة، ولم يكن عندي من نفائس الأدب ولا كامنه فيناديني: يا عصام: شنف أسماعنا بديوان البحتري وأبي تمام.
فاجثو بين يديه وأقرأ ما تيسر منهم عليه. وكنت أرى منه ما يبهر العقول ويوقف الفحول، في تقرير الأدب وتعريف أيام العرب، يحرضني على تحصيل المعارف، واقتناء اللطائف، ومطالعة الكتب والدواوين».
فأخذ ينظم الشعر وهو صبي وغلب الشعر والأدب على دراساته الاخرى ولذلك نرى أن الذين ترجموا له وصفوه بالأديب الشاعر. وأثنوا عليه
قال عنه المرادي في سلك الدرر (3: 161)«الأديب الشاعر البارع المفتن، الناظم الناثر، له في الأدب النوادر الغضة والمحاسن التي هي انقى وأظرف من الفضة» .
وقال عنه صاحب منهل الاولياء ص 233 «كان فاضلا بارعا وشاعرا ماهرا له مشاركة في كل فن، شعره رقيق ومعانيه كلها رشيقة. بألفاظ
(1) غاية المرام 344
فصيحة، وحسن سبك، وجودة نظم. وانشاؤه أعلى طبقة من نظمه.»
ولم يجمع شعره في ديوان. وقد أورد طائفة كبيرة منه في أثناء كتابه الروض النضر، كما عقد في آخر الكتاب فصلا في مراسلاته النثرية والشعرية. وفي الموصليات شيء ليس بقليل من شعره.
وبعض شعره في مخطوطة (رقم 49) من كتب المرحوم داود الجلبي وهي مجموعة حوت قصائد لعدد من الشعراء منهم المؤلف. وكذلك في شمامة العنبر، وله في آخرها تقريظ مع من قرضها من الشعراء. وفي منهل الأولياء قليل من شعره نقله عن الروض. وكذلك في سلك الدرر.
واكثر شعره في المديح وبعضه في الغزل والخمريات والاخوانيات والتشوق. وقد التزم في كثير من شعره الصنعة الشعرية التي كانت غالبة على الشعر في العصر المظلم من التزام البديع والصناعة اللفظية. وهو يحاول في كثير مما نظم أن يظهر براعته في البديع وأن يعارض في ذلك من سبقه من الشعراء. وقد نظم لاظهار مهارته في الصناعة اللفظية قصيدة في مدح حسين باشا الجليلي على شكل شطرنجي تقرأ على أوجه شتى، التزم فيها قافيتين مطلعها.
هذا الحسين المحتشم
…
صدر النوال في الندى
مولى المكارم للامم
…
سيف الجلاء في العدى
وهي طويلة تجدها في كتابه الروض النضر والموصليات وله قصيدة أخرى في مدحه ايضا تقرأ على سبعة أوجه. ومع ذلك فقد حاول في بعض شعره أن يتخلص من التزامه بهذه الصناعة اللفظية متأثرا بشعر الشعراء المتقدمين في العصر العباسي وشعراء الأندلس. فخطا بذلك الخطوة