المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السيد يحيى المفتي - الروض النضر في ترجمة أدباء العصر - جـ ١

[عصام الدين العمري]

الفصل: ‌السيد يحيى المفتي

‌السيد يحيى المفتي

(1)

نجله المفتي السيد يحيى

لا أدركت تلك الأهلة دهرها

نقصا ولا تلك النجوم أفولا

(1) هو يحيى بن فخر الدين المفتي. ترجم له المرادي في سلك الدرر 4: 233، وقال عنه:

يحيى الموصلي بن فخر الدين الموصلي، مفتي الحنفية، الشيخ الفاضل النبيل، المفنن البارع، ولد بالموصل سنة اثنتي عشرة ومائة والف، ونشأ بها، وترجمه السيد محمد امين الموصلي، وقال في حقه: ربيع الفضل والمحاسن، صاحب الفضائل والكمال، مرجع الطلاب وارباب المعالي، وبالجملة فهو بالشرف كالنار على العلم، وبالكرم كذوارف الديم. أصل طاهر، وفرع زكي، ونسب قرشي علوي، ليس في الموصل كصحة نسبه ونسب أبناء عمه الا نسبة السيادة التي في باب العراق ابناء السيد عيسى الطحاوي، ثم هذا السيد يتيمة زمانه. له صدقات جارية، وللفقراء في ماله رواتب ووظائف. فيقال انه في كل يوم يعطى زهاء ثلاثين راتبا، ومنزله ربيع الضيوف وابناء السيل، لا يمر به يوم الا وعنده ضيف واكثر.

وقد مهر في الفتوى والعلم والتقدم. وكان توجيه الفتوى اليه سنة ثلاث واربعين ومائة والف، ثم اخذت منه، ثم عادت اليه. وله الايادي المشهورة والمحاضرة المبرورة، والفضائل المعمورة.

وأخذ علمه عن جماعة منهم الشيخ احمد الجميلي فقيه وقته. وهو الآن يقرئ التفسير للقاضي، يقرأه على جماعة من الطلبة، ما بين فاضل، وزكي عاقل. وله الخبرة التامة في صناعة الفارسية، واللغة التركية، وبالاصطرلاب، والربع المجيب وغير ذلك من الفضائل، ونظمه احلى من القند.

وترجمه صاحب الروض (ونقل المرادي بعض ما قاله فيه).

ثم قال وحج سنة سبع وخمسين ومائة والف. وله شعر لطيف منه قوله مقرظا على الروض (وذكر خمسة ابيات سينية) وله غير ذلك من الاشعار.

وكانت وفاته سنة سبع وثمانين ومائة والف رحمه الله تعالى.

وترجم له محمد امين العمري في منهل الاولياء 1: 239. ولما كان بين ما نقله المرادي عنه وبين ما هو في المنهل بعض الاختلاف آثرنا نقله قال: السيد يحيى بن فخر الدين المفتي الزاهد التقي، كان عليما بالفتاوى، خبيرا بدقائق رموزها واسرارها، ماهرا في علم التفسير، يقرئ تفسير القاضي مع مراجعة الحواشي، ويحل لهم العبارات المغلقة، ويجتمع عليه الجم الغفير من أهل الفضل والمعرفة، فيلقي عليهم العبارات المنسجمة والفوائد المهمة.*

ص: 257

والمفتي هذا نجله الأمجد، فلك سما السها والفرقد (1). واحد

(*)(هنا نقص في النص ويظهر ان المؤلف تكلم عن اسرته فسقطت من الكتاب المطبوع اذ قال): كان لهم اتصال بخدمة ملوك الموصل ثم بخدمة ملوك بغداد، فصارت لهم التقدمة، وحصلت لهم الرياسة التامة، وفاق من بينهم السيد يحيى واخوه عبد الله، فكانا قمري هذا الفلك وروضتي هذه الساحة. واستمرت الفتوى عليه مدة حياته، وكان رجلا صالحا يحب الاصلاح بين الخصوم فيمنعهم عن الوصول الى محل الحكم والقضاء، مع ان القضاء له. وكان قد نصب نفسه لقضاء حوائج الناس وانتصاف ارباب الظلامات والأخذ بايديهم.

وبعد موت والدي كانت لنا زيادة في معلوم الخطيب، فقطعت عني فراجعته فيها، فأصر على اعادتها علي. وكنت ازوره احيانا فاجد عنده اكراما تاما.

أخذ العلوم عن الشيخ عبد الله المدرس، والشيخ احمد الجميلي. وحج فاجتمع في حلب بعلمائها، وكذلك في الشام والحرمين.

وكان له الجاه الكبير، والشأن النبيه، والقول التام عند رجال الدولة، وملوك آل عثمان، واقبلت الدنيا عليه فكثرت صدقاته، وتواترت خيراته.

وكان الزهد شعاره، والعفاف دثاره، والتقوى رأس ماله، ومكارم الاخلاق كسبه. في لين عريكة، وشفقة وافرة، ومحافظة على السنن الشرعية ومجانبة كل ما يريب.

وكان قد اجاز الشيخ سليم الاردلاني الآتي ذكره برواية مسموعاته، واجازني الشيخ سليم بها، فعرضتها عليه، وسألته ان يكتب لي خطه بذلك. وان يجيزني فوعدني كذلك وأمرني ان اكتب صورة الاجازة ليضع عليها ختمه. فعرض لي شواغل عنها.

ومات رحمه الله فكان لي منه اذن واجازة ايضا والحمد لله.

وعرضت عليه نسبنا الى الامام عمر رضي الله عنه فامضاه وكتب خطه عليه بصحته وكان بيته مأوى ارباب الحوائج، والمنقطعين، والغرباء، والمسافرين، والاكابر والاصاغر. وله شعر متوسط، وذكر الابيات التي سيذكرها المؤلف.

كانت وفاته سنة سبع وثمانين ومائة والف، فخرجنا للصلاة عليه، فكان معه خلق عظيم لا يحصى لهم عدد لكثرتهم. انتهى.

وله كتاب كبير في الفتاوى اسمه «فتاوى يحيى افندي» منه نسخة خطية في خزانة المرحوم الحاج أمين بك بن أيوب الجليلي. ونسخة اخرى في خزانة المرحوم محمد نوري أفندي الفخري بن الشيخ عبد الله الفخري. ونسخة ثالثة في مكتبة جامع الباشا، ورابعة في مدرسة يحيى باشا بن نعمان باشا الجليلي (انظر مخطوطات الموصل ص 63، 239).

وترجم له أيضا صاحب العلم السامي: 18، 299 وشمامة العنبر.

(1)

في الاصل: السهى. والسها كوكب خفي من بنات نعش الصغرى. والفرقد النجم الذي يهتدى به.

ص: 258

الفضل ومرجعه، ومنبع العلم وموضحه. الذي عقدت عليه الخناصر، وتوارث الفضل كابرا عن كابر. فهو الذي أورق (1) غصن شبابه في ساحة المجد والفتوة، حيث ناداه قلم الإفتاء من أعلى (2) هامات الفضل يا يحيى خذ الكتاب بقوة. قد عقدت رايات الكمال عليه وانتشرت، وضمخت جوانبه بعبير المعارف وانتثرت.

سطعت أنوار الإفادة من جانبه في كل مقام، فأشرقت شمس أفضاله على رءوس الربى (3) وهامات الآكام. فاسترق بلفظه الرائق أبناء الزمن، فكان أدبه ألذ للعيون من معاطاة الوسن. فهو المستعذب الأدب والعرفان، والماجد الذي يكل عن وصفه اللسان، ويمل عن حصر نعوته ووصفه البيان. فكم له في الأدب من فنون تبهر العيون، وتحير الظنون. وكيف لا وهو من بيت الوحي والرسالة الحائزين لأصناف الحزم وأصناف البسالة. لهم سطور أدب منقوشة على صحايف الدهور، ونظم شعر يشاكل العبير ويشاكه المنثور (4) وهم كما قيل:

لهم شعر كشعر أبي نواس

على روض كنظم أبي فراس

فهم الحائزون (5) قصب السبق في مضمار الأدب، الراقون (6) من المجد والفضل والجود إلى أعلى (7) الرتب. وهذا السيد عمود

(1) في ب: درف.

(2)

في المخطوطتين: من أعلى.

(3)

في الاصل: الربا.

(4)

شاكه: شابه وشاكل وقارب. والمنثور نوع من الورد يسميه العامة ببغداد (الشبوي).

(5)

في ب: فهم الحائزين.

(6)

في ب: الراقين.

(7)

في المخطوطتين الى اعلا.

ص: 259

هذا البيت ووتده، الذي عليه في المهمات معوله ومعتمده. وكنت أشاهده في مجلسه، وقد عبق الدهر من عبير ملاطفته وتأنسه.

ولله من ناد قد زفته أيدي الزمان بكل فضيلة، وحفته بنادر مكارم هي في ذاتها جميلة. غزلت به يد المعارف أحرف الفضل فزهت بقماشه، وبسطت به اللطائف على غواشي تلك الحواشي فسمت بارتياشه. وحاكت على تولي الشكر والثناء أنواع تلك المكارم، ونسجت بألفاظ ذات صفاء من مكارمه فجعلته لباساً للأعياد والمواسم. وألبسته عرايا أدب. ما ارتاشوا إلا بلباسه، وكسته منهوبي (1) أرب ما اعتاشوا إلا بطيب أنفاسه. فنبتت تلك الفضائل براحتهم وأورقت أغصانا، وسادت تلك المحافل ففاخرت اعصرا وزمانا. فرعت سائمة العفاة تلك الدوحة، واهتصرت أيدي الوافدين أنواع المكارم من تلك الرشحة. فهي كعبة جود تلاقى باديه وعاكفه، وقلعة كرم انحدر بناديه وأكفه.

وروضة علم يتفيأ (2) بظلال ازهارها، وحديقة حكم تزهو على النيرين بإشراق أنوارها. فهو المجلس العاطر الزاهر الانفس، والمحل الباهر العامر الأقدس. والمشار إليه بدره الكثير الإشراق، المصون عن الكسوف والمحاق.

وليس غريباً أن ينال غرائبا

من المجد فرد في الزمان غريب

فضل هذا السيد لم يحط به كتاب، ولم يؤد (3) باسهاب واطناب

(1) في المخطوطتين: فهو بين.

(2)

في المخطوطتين: يتضوأ.

(3)

في المخطوطتين: ولم يؤدى.

ص: 260

وقد أتيت بوصفه القليل، ومن نظمه بالنادر المعجب الجزيل.

وأثبت منه ما هو الباهر العطر والشائع بكل قطر.

وكل له فضله والحجول

يوم التفاخر دون الغرر

فمن نظمه البهيج، ومنظومه الأريج، قوله حين اطلع على بعض فصول هذا الكتاب، ووقف منه خاصة على هذا الباب.

ولله دره من قائل أنسى ذكر الأواخر والأوائل، وهي:

عقود وشحت صدر الطروس

أم السكر المخامر للنفوس

ومنثور فصيح راق معنى

بروض مثل صهباء الكؤوس

شطور سطوره تزهو وتنمو

برونقه على العقد النفيس

صحايفه لا عين ناظريه

تضيء بلاغة مثل الشموس

فتهنا إذ وجدناه كانا

ثملنا من حساء الخندريس (1)

(1) في الاصلين من حشاء الخندريس وكذلك جاء في منهل الاولياء. والصواب ما أثبتناه.

ص: 261

السيد عبد الله الحسيني (1) كاتب ديوان الإنشاء ببغداد

نجله الثاني السيد عبد الله

خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

أديب ربي في مهد المجد والسيادة، وأريب تعاطى (2) سلافة

(1) السيد عبد الله بن السيد فخر الدين وأخو السيد يحيى المترجم قبله. ترجم له صاحب منهل الاولياء 10: 241 فقال عنه: نشأ في الموصل واخذ العلم عن شيوخها مثل الشيخ عبد الله الربتكي، والشيخ احمد الجميلي، وحصل كمالا وافرا، وعلما غزيرا، وتضلع بفنون المعقول والمنقول.

واتصل بخدمة الوزير الحاج حسين باشا الجليلي، ثم انفصل عنه، وانحدر الى بغداد فاتصل بواليها الوزير احمد باشا بن حسن باشا، فصادف قبولا واقبالا، وعلت حاله، وتوفرت الدنيا عليه. وازداد اطلاعه وخبرته.

وصار على ديوان الانشاء لجودة عبارته، وحسن سبكه، ولطافة سجعه. وكثرت الخيرات عنده فقصده الفضلاء، ومدحه الشعراء، فكانت داره مأوى ارباب المقاصد، ومحط رحالهم، ومرسى مآربهم.

وله تآليف عديدة، ورسائل مفيدة، وانشاءات بديعة، ومكاتبات عجيبة. ووقفت له على شرح رسالة البهاء العاملي في علم الهيئة فوجدت علما عظيما، وفطنة وقادة، واسرارا غريبة.

(وبعد ان ذكر له ابياتا ستة من قصيدته الرائية التي سيذكرها المؤلف قال انه) توفي سنة ثمان وثمانين ومائة والف.

وجاء عنه في كتاب غاية المرام انه: سافر الى بغداد، واتصل بخدمة وزيرها ذي السداد الوزير احمد باشا، فقربه وحظي عنده الى أن توفي الوزير المذكور، فاتصل بخدمة الوزير سليمان باشا. وصار كاتب ديوان الانشاء، فاقام بتلك الخدمة الى ان توفي مخدومه. فاتصل بخدمة الوزير علي باشا. فقدمه وعظمه، ثم لما قتل الوزير المذكور اتصل بخدمة الوزير عمر باشا. انظر أيضا تاريخ الموصل 2: 187 والعلم السامي 299. والحوادث الجلية في حوادث سنة 1150، وشمامة العنبر.

(2)

في المخطوطتين تعاطا.

ص: 262

الفضل والكمال حتى اعتاده، تقمط بقماط الفواضل والمعارف، ففاضت عليه مكارم ففاضت له عوارف. رضع ثدي الأدب من صدور المعال، وقلد جيد الطلب بفرائد اللؤال. انفطم عن كل شيء دون الفصاحة، وترك كل حرفة غير المكارم والسماحة. فأثمر لغصون الأماني، وشهد له بالنجابة كل قاص وداني. فهو في حسن الأثر، كالقمر إذا بدر.

ما إن أرى مثلا له فيما أرى

أم الكرام قليلة الأولاد

أشرقت شمس معاليه في سماء الكمال، وكان ذلك بعد بلوغ القصد والآمال. رتع في وهاد المكارم وبلغ منتهاها، وخط في جباه الأيام سطور المجد فكان مناها. سلك وعر المسالك لتحصيل المحامد، ولم يحتج (1) في إثبات ذلك إلى بينة وشاهد. استخرج من كنوز العلم كل نفيس ومدخر، ورصع دفاتر الأوائل والأواخر بأنواع العقود والدرر. تقلد بصارم الجود والكرم، وقلد جيد الزمان بقلائد النعم. أخذ الخصال الحميدة، وملك الطبائع المحمودة.

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (2)

فهو الآن نور حدقة الزمان، ونور حديقة الجنان. ذو الشرف الباذخ القديم والسلف الشامخ الكريم. قد ورد مناهل الأسود، فحسده الدهر والحسود لا يسود.

(1) في ب: ولم يحتاج.

(2)

في المخطوطتين: وليس لله بمستنكر. والصواب ما أثبتناه. والبيت لابي نواس في مدح الفضل بن الربيع (انظر ديوانه).

ص: 263

وفي تعب من يحسد الشمس نورها

ويجهد أن يأتي لها بضريب

فما كل شجرة تحلو لذائقها، ولا كل دار ترحب بطارقها.

إذا أسفر اللثام عن وجوه بنات الأفكار، أوضح طرق الهداية من إشراق تلك الأنوار. فهناك تعلم أن أم الدهر لم تلد بمثله أبدا، وإن ألفاظه على الحقيقة جواهر وعقدا.

عاشرته بعضا من الأيام، بمدينة بغداد دار السلام. وقد امطته (1) المعالي صهواتها، وأركبته على متونها، وحملته على عاتق المجد وجعلته إنسان عيونها. فعبق مسك فضله في تلك النواحي والأقطار وسلكته رغما على انف الدهر في سلك المصطفين الأخيار. ومنحته موانح العز وخصته بمكارم السكينة، واتخذت ذلك الجناب كاتب الإنشاء لديوان تلك المدينة. وأرخت على مجالسه من أصناف المعارف ستورا، وجعلته لمدخر المكارم حصنا ولمكنون النوال سورا. فكان سعيه في كسب تلك المواهب السنية محموداً مشكورا، وتحصيله لأنواع تلك المحامد البهية مقبولا ومبرورا.

خزن- بعد علمه بان الدهر الخئون دول. وإن المأثور فيه والمحصل منه المكارم لا الخيل والخول- فرائد مآثر، مرصعة في صحف الدفاتر. ونوادر مكارم حوت المحامد والمفاخر. فملأ بيت آثاره من تلك الموانح النفيسة وشحنه، بعد أن شيد أركان منازل المجد بأنواع النوال وحصنه. وتقحم بذلك نجاد المعالي ووصل إلى أغوارها

(1) في الاصل: امتطته.

ص: 264

وتسلق إلى بروج حصون الكمال ورقي إلى أسوارها. ومد يده إلى جواد الجود فعلقت يده بزمامه، ونصب شرك البذل لبزاة (1) الأدب فصادهم بفخ كرمه وإنعامه. فهو صاحب السيف والقلم، الذي افتخرت به الدهور، والجود والكرم، الذي ضاءت به الأيام والشهور. وهو قطب تلك المدينة إلى الآن، وسمر ليالي ذلك الإقليم إلى آخر الزمان.

دخلت عليه في بعض الأوقات وهو مشرق بوجه كالقمر، وقد حفته أرباب المعارف من كل جهة كما يحف الجيد بالدرر.

وهو قد شمر عن ساعد الجد لاقتطافه ثمر المعالي، وتهيأ (2) للغوص في بحر الفضائل لإخراج فرائد اللآلي (3).

وقد غدا النادي كالربيع ونواره، وهو كالبدر المنير بجمال أنواره. تخاله حديقة جنان. قد حفتها يد الغمام فنبتت ألوانا، وأخرجت من سنائها على حافة جداولها أزهارا وأغصانا. وقد حملت أكل ما تشتهي الأنفس من ثمار المعارف، وتلذ الأعين من فواكه عناقيد اللطائف. ووضعته في خوان الأوراق وقدمته لأرباب الأدب، فهو كما يوضع اللآل (4) عند محترفة الصياغة في أطباق الذهب. فازدحمت عليه أيدي الوافدين كازدحام الصوادي على الموارد. وتناولت من تلك الفواكه الطيبة ما يوهب المواهب وينيل

(1) في المخطوطتين: البزات.

(2)

في الاصل تهبيء.

(3)

في المخطوطتين: اللؤالي.

(4)

في المخطوطتين: اللؤال.

ص: 265

المحامد. هذا والنوال أمواجا، والوفود أفواجا. وهو كالغمام يهطل نوالا، ويشرق بدرا ويبدو هلالا. بفرق منير وضاح، ووجه مستنير مصباح وكيف ما هطل فكرم، أو نطق فحكم. أو أشار فنوال، أو نظر فكمال، أو نثر فلآل (1). إلى أن أضحى نهاره، وتكاملت أنواره، وتسطرت في الصحف آثاره. أخذ يصرف تلك الجموع بأدب، بعد أن أظهر من صنوف كمالاته العجب.

ثم بعد أن خلا (2) فناء الدار من الواشين والاغيار، أخذ يلاطفني ويمنيني، وعلى قربي من حضرته يهنيني. وأدار بيننا من الأدب أقداحا، تورث مسرات وأفراحا (3). وسقاني من تلك الأشربة كئوسا، وناولني من هاتيك الزجاجات شموسا. إلى أن انجر بنا الكلام إلى النشيد، والتفنن في نظم البيت والقصيد. وأدى البحث إلى أبيات الحماسة، وما حوته تلك الطريقة من الرجاحة والنفاسة، فأنشدني هناك قصيدة لنفسه في هذا الباب انشط من القهوة، وهي في الحقيقة أطرب منها حالا وأسر نشوة. لم ينتج لها الزمان بمثال، وهي أرق من الخيال، وأعذب من الماء العذب الزلال. قد أثبتها تأييدا للمقال المذكور، وجعلتها قلادة لنحور الحور، مدى الأيام والدهور. وهي:

تجل وتسمو عن مثقفة السمر

مهفهفة تزهو على الشمس والبدر

(1) في المخطوطتين: اللؤال

(2)

في المخطوطتين: خلى.

(3)

في ب: من الادب اقداح، تورث انواع المسرات والافراح.

ص: 266

وما قدروا حقا لليلة وصلها

فخيرٌ ليالي الوصل من ليلة القدر

فكم من صباح لاح من ليل شعرها

ومن بدرتم ظل في فاحم الشعر

سقى الله روضاً كنت فيه منعما

تدير كئوس العيش لي ربة الخدر

وجاد الغوادي في مرابع ثهمد

ونجد وسلع والعقيق على أثر

فباتت تعاطيني كئوس وصالها

حبيبة قلبي أم عمرو بلا عذر

فتم ثمالي من سلافة ريقها

وأغنت بمعناها عن الشهد والخمر

ثملت بها حتى انثنت لي نشوة

أخال باني لست أصحى إلى الحشر (1)

بنفسي من ترنو وفيها ملالة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر (2)

وقائلة ما بال دمعك جاريا

على رسم دار مثل خنسا على صخر

فقلت ذريني إنني طائع الهوى

فقد زاد وجدي بالنوى والهوى العذري (3)

(1) هذا البيت في ب فقط.

(2)

في ب: من ترني.

(3)

في ب في الهوى الندري.

ص: 267

وأصبحت في كبل الغرام مقيداً

طويل سهاد العين في ليلة الهجر

وإني لصبار على كل شدة

تنوء بثهلان وتأبى عن الصبر

أكلفها صبري فيصبح ناهضا

بأعبائها والصبر يعجز عن صبري

وللمعري قصيدة (1) تقرب من هذا المعنى وهي (2):

يهم الليالي بعض ما أنا مضمر

ويثقل رضوى دون ما أنا حامل

وفيها يقول:

وأني جواد لم يحل لجامه

ونضو يمان أغفلته الصياقل

وإن كان في لبس الفتى شرف له

فما السيف إلا حده والحمائل (3)

ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي

على أنني فوق السماكين نازل

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا

تجاهلت حتى ظن أني جاهل (4)

وهذه القصيدة للمعري فريدة في هذا الباب، خالية عن الإطناب والإسهاب، لا بأس بذكر شيء منها. ومنها:

فيا عجباً كم يدعي الفضل ناقص

وواسفاً كم يظهر النقص كامل (5)

وكيف تنام الطير في وكناتها

اذا نصبت للفرقدين الحبائل

(1) في المخطوطتين: من قصيدة.

(2)

في المخطوطتين: وهو وهذا البيت ليس مطلع القصيدة ومطلعها:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل

عفاف واقدام وحزم ونائل

(3)

في الديوان الا غمده والحمائل.

(4)

وقبل هذا البيت في الديوان:

ولي موطن يشتاقه كل سيد

ويقصر عن ادراكه المتناول

(5)

في الديوان فوا عجبا كم يدعي.

ص: 268

ينافس أمسي في يومي تشرفا

وتحسد اسحاري علي الاصائل (1)

وطال اعترافي بالزمان وصرفه

فلست أبالي من تغول الغوائل

والغلو فيها في البيت الآتي وهو:

فلو بان عضدي ما تأسف منكبي

ولو مات زندي ما بكته الأنامل

اذا وصف الطائي بالبخل مادر

وعيّر قساً بالفهاهة باقل (2)

وقال السها للشمس أنت خفية

وقال الدجى للصبح لونك حائل (3)

وطاولت الأرض السماء سفاهة

وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة

ويا نفس جدي إن دهرك هازل

وقد أغتدي والليل يبكي تأسفا

على نفسه والنجم في الغرب مائل

بريح أعيرت حافراً من زبرجد

لها التبر جسم واللجين خلاخل

(1) في الديوان: ينافس يومى في أمسي.

(2)

يريد بالطائي حاتم الذي يضرب به المثل بالكرم. ومادر: لقب مخارق، لئيم من بني هلال بن مالك بن صعصعة، سقى ابله فبقي في الحوض قليل فسلح فيه. وقس هو ابن ساعده الخطيب المشهور. وباقل: رجل اشترى ظبيا باحد عشر درهما فسئل عن شرائه ففتح كفيه واخرج لسانه يشير الى ثمنه فانفلت الظبي فضرب به المثل في العي. وفي الاصلين بالفصاحة باقل.

(3)

في المخطوطتين: السهى.

ص: 269

كأن الصبا ألقت إلي عنانها

تخب بسرحي مرة وتناقل

إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت

عن الماء فاشتاقت إليها المناهل

ومنها:

إذا أنت أعطيت السعادة لم تبل

وإن نظرت شزراً إليك القبائل

ومنها في ختامها:

إذا كنت تهوى العيش فابغ توسطا

فعند التناهي يقصر المتطاول (1)

توقى البدور النقص وهي أهلة

ويدركها النقصان وهي كوامل

ومن القصيدة المترجمة:

وهمي المعالي والزمان معاندي

ويمنعني عن نيل ما رمته دهري

للشعراء في هذا المعنى فنون، تكاد أن تورث الجنون. قد هصرت أفنان البيان هصر، حتى كادت أن لا تعد ولا تنحصر. فمنه ما قاله بعضهم:

ما قصر السعي وما عللت

عن مطلب نفس أمانيها

(1) في الديوان وان كنت، وفي الاصلين فاقطع توسطا والتصحيح من الديوان.

ص: 270

بل خانها الدهر وأزرى بها

عثرة جد لا تواتيها (1)

وقال الآخر:

أسمو إلى الأمل الأقصى فيلفتني

جد عثور ودهر مهتر خرف (2)

لا الجد يسعدني فيما أحاوله

من العلو ولا لي عنه منصرف

وللقيسراني (3) فيه:

إلى كم أسوم الدهر غير طباعه

وأصدقه عن شيمتي وهو خابث

وأسمو مجداً في العلى وتحطني

خطوب كأن الدهر فيهن عابث

ولبعض الأندلسيين فيه:

لحا الله دهراً خصني بخصاصة

وأقعدني عما سوى فيه أمثالي (4)

تنوب صديقي نائبات زمانه

فيقعدني عن رفده قلة المال

فوا أسفي من مكرمات أرومها

فينهضني عزمي ويقعدني حالي

وعلى هذا بنى الصفدي فقال:

وقائلة فيم اجتهادك للغنى

وقد رقدت للحظ منك عيون

فقلت لها والله مالي حاجة

لتحصيل دنيا والامور تهون

(1) في المخطوطتين: حد وصوابه جد أي حظ.

(2)

في المخطوطتين: مهتن والصواب مهتر من الهتر وهو ذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن.

(3)

هو أبو عبد الله محمد بن نصر ابن القيسراني. من شعراء الجزيرة، شاعر مجيد، اصله من حلب ومنسوب الى قيسارية بسورية. توفي سنة ثمان واربعين وخمسمائة. خريدة القصر، قسم الشام 1: 96، معجم الادباء 19:64. وفيات الاعيان 4: 82.

(4)

في الاصل: لحن. ولحاه يلحوه أي شتمه.

ص: 271

فلو وجدت كفي لبرأت ساحتي

وكنت أريك الجود كيف يكون (1)

وقال أيضا:

صاح إن لم أجد في كسب مال

هات قل لي بالله كيف أجود

وإذا لم أسد خلة حر

هات قل لي بالله كيف أسود

ثم قال وما يطلب إلا للإنفاق وبلوغ المقاصد، وإبلاغ القاصد، كما إن السيف للذب والدرع، والمدية للقط والقطع.

وما أحسن قول أبي العتاهية:

وصغ ما كنت حليت

به سيفك خلخالا (2)

وما تصنع بالسيف

إذا لم تك قتالا

وتبعهم بعض الشعراء فقال:

تقول أحبب القربى وصل ذا وسيلة

وقم بالحقوق الواجبات اللوازم

أما إنني لو نلت ايسر يسرة

لكانت لكفي بسطة في المكارم

(1) على هامش الاصل جاء: وقد كنت شطرت ابيات الصفدي بتمامها بقولي:

وقائلة فيم اجتهادك للغنى

وفي كل يوم للزمان شؤون

تؤمل ان ترقى وجدك نازل

وقد رقدت للحظ منك عيون

فقلت لها والله مالي حاجة

ولكن جنون والجنون فنون

على ان جهدي حين أجهد لم يكن

لتحصيل دنيا والامور تهون

ولكن حقوق للعلى قد ترتبت

علي ومالي مسعد ومعين

وللمجد عندي يا أميمة حاجة

على ذمتي محبوسة وديون

فلو وجدت كفي لبرأت ساحتي

وابرزت عقد المجد وهو مصون

واحييت جودا بعد حاتم طي

وكنت اريك الجود كيف يكون

وانا الفقير اليه تعالى علي علاء الدين الوسى زاده عفي عنه.

(2)

في المخطوطتين: وضع والابيات يهجو فيها ابو العتاهية عبد الله بن معن بن زائدة الشيباني.

ص: 272

فآهاً لعصر مثل أهليه جاهل

ودهر لأبناء المروة ظالم

وتتمة القصيدة المترجمة:

ونفسي تأبى عن أمور تشينني

وتأنف عما فيه أنحط عن قدري

وإني لصقر ليس ينقض هاويا

على رخم لكن على غصم النسر

أموت ولا ابغي الحياة بذلة

واهلك ظمآنا على شاطئ البحر

تميز آبائي بمجد وخصصوا

بأيد غزار الفضل والأوجه الغر

بجدي وجدي نلت سبقاً إلى العلى

كسيت لباس المجد فخرا على فخر (1)

إذا رمت للأبطال حربا مبارزاً

فرأيي يغنيني عن البيض والسمر

وإني لثبت الجأش لا متضعضع

إذا اشتدت اللآواء في ساعة العسر (2)

ولأبي فراس في هذا المعنى في قصيدته الرائية المرفوعة التي (3)

(1) في المخطوطتين: العلا.

(2)

في الاصل: اللوآء. وفي ب: اللواء والصواب اللأواء: وهي الشدة.

(3)

في ب: الذي.

ص: 273

يعاتب بها قومه، قوله منها: وإني لنزال بكل مخوفة. وسنذكرها برمتها في ترجمة هذا الشريف أيضاً:

ومن تتمة القصيدة:

واصبر صبر الربد عن ورد منهل

وأطوي كما يطوي العملس في البر (1)

أصد عن الفعل الذي يثلم العلى

ولست أبالي فيه نفعي أو ضري (2)

وأني ان لم ادرك المجد في الدنى

فلم اقتنع فيها بورق ولا تبر (3)

واني لكتم السر احفظ مودع

وليس لصون السر أحسن من صدري

ومالي سوى صبري حليف وإن ألذ

بغير فاني مستجير الى عمرو

يؤرقني فكري لادراكي المنى

واني لنيل العز اسهد من نمر

وفي معنى هذا البيت للمتنبي:

كثير سهاد العين من غير علة

يؤرقه فيما يشرفه الفكر

(1) الربد جمع أربد وربداء من الربدة لون الى الغبرة والأربد حية خبيثة. والعملس: الذئب الخبيث.

(2)

في المخطوطتين: العلا.

(3)

في المخطوطتين الدنا والصواب ما أثبتناه جمع دنيا. والورق مثلثة الدراهم المضروبة. والتبر بكسر التاء الذهب والفضة أو فتاتهما قبل ان يصاغا فاذا صيغا فهما ذهب أو فضة.

ص: 274

له منن تغني الثناء كانما

به اقسمت ان لا يؤدى لها شكر

ومن القصيدة المترجمة أيضاً:

اذا لم أجدد كل يوم مؤثلا

من المجد إني ذلك اليوم في خسر

وما ضرني إذ كنت بالمجد مثريا

اذا كنت صفر الكف من ثروة الوفر

وما الفقر عيب في الرجال وإنما

خلو الفتى عن مجده أشنع الفقر

تحملت اعباء الزمان وضره

وإن كانت الأرزاء قاصمة الظهر

وفوضت أمري للكريم مسلما

لينظر في حالي ويحكم في أمري

وفي ذلك الوقت، مع كثرة المقت، في ريعان الشباب. في أول تعاطي كئوس الآداب. كنت أنشأت في فن الحماسة أبياتاً (1).

وقد ناسب إيرادها، حيث أزهر رياضها، وأثمرت أعوادها. وهي:

رعى الله غزلانا تميل الى الصد

لقد أورثوا قلبي لظى زائد الوقد

ظباء نأت عني فأصبحت بعدهم

احاول لمح الآل في طلب الورد (2)

(1) في ب: أبيات.

(2)

الآل: السراب أو خاص بما في أول النهار.

ص: 275

فسيان قرب الدار عندي وبعدها

على أن قرب الدار خير من البعد (1)

كلفت بهم لا أرتجي الود والأذى

شغفت بهم لا للعطية والنقد

وعهدي بهم ورد لظمآن وردهم

مشاربهم عذب تنوب عن الشهد

فيا لأويقات تقضت بقربهم

ويا لسحيرات لطيب الهنا تهدي

كفى حزناً أن قد أبيحت دماؤنا

على كمد مستوجب الذل والهد

وفي القلب جمر للبعاد وكلما

تذكرهم قد زدت وجداً على وجد

أخلائي ما أحلاكم وأمركم

وأعلمني بالحلو منكم وبالوبد (2)

بما في الهوى من سالف الود والنوى

وما بالنوى من محكم الحل والعقد

سمعتم بمثلي مستهاماً متيما

يكابد نيران الغرام ولا يبدي

(1) الشطر الثاني تضمين لشطر من قصيدة عبد الله بن الدمينة التي مطلعها:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

(2)

الوبد شدة العيش وسوء الحال، أو كثر العيال وقلة المال.

ص: 276

ويستنطق العجماء عن مستقركم

أحبة قلبي قد تعزى عن الفقد

هجرتم وأوديتم وبحتم وخنتموا

نأيتم وصديتم وأني على العهد (1)

فإني لحفظ العهد مفرد وقتها

وهل لوداد الحب أحسن من ودي

وإني سحاب بالوفا لا حبتي

وهيهات مثلي مات أهل الوفا بعدي

وأني لضرغام بكل ملمة

وإني إذا ليث أسود على الأسد

سلوا السمر والبيض الرقاق فإنها

يحدثن عن حمدي ويخبرن عن جهدي (2)

فقصدي المعالي وهي إربي وطالما

أسائلها فيم الوصول إلى الوفد (3)

فنفسي تأبى عن شنيع يشينها

وتأنف عما لا يشاد به مجدي

أموت أسى إن لم أنل ما أوده

من المجد وهو القصد بل غاية القصد (4)

(1) كذا في المخطوطتين وصديتم. وهي لغة في صددتم.

(2)

في ب: فانهم.

(3)

في ب: فيما الوصول.

(4)

في ب: أسا.

ص: 277

وإني وان لم ارق للمجد والعلى

بمجدي فاني لا أعيد ولا أبدي (1)

بجدي على رغم الحسود ومحتدي

لبست برود العز بردا على برد

بجدي وجدي والعلى ومكارمي

كسيت لباساً بالنجابة والرشد (1)

علوت بآبائي سموت بمجدهم

خصصت بهم في المكرمات على البعد

وان لم يكن جدي الشريف بقومه

فاني بمجدي لا بعمرو ولا زيد

سل الخيل ثم الليل والغيل والعفا

يردن بنا وهدا ويصدرن عن وهد (2)

كذا السيف والقرطاس والبيد والفلا

إذا وقع الايلاء في ساعة الطرد

فرمحي وسيفي والكمال وإن أقل

سواهم فاني في نجاد عن السرد

أصد عن الامر الذي لا يسودني

واصبر صبر الليث عزما ولا أبدي

سأصبر صبراً لم ير الدهر مثله

وأرشف مر الصبر عن قصب القند

(1) في المخطوطتين: العلا.

(2)

في الاصل سل الخليل ثم الليل والخيل والعفا وفي ب سل الخيل ثم الليل والقيل والعنا.

ص: 278

تحدثني نفسي عن المجد والعلى

من المهد عن تلك المعالي الى اللحد

أموت ولا أحيا بشين وذلة

إذا لم يكن عندي من العز ما عندي (1)

صبرت على جور الزمان وضره

وحملت نفسي ما ينوف على العد (2)

وسلمت أمري في العضال لخالقي

ليرثي إلى عولي ويلطف في بيدي

ومن جيد ما رأيت في هذا النوع، أعني نوع الحماسة، قصيدة القاضي السعيد ابن سناء الملك (3) كما قال ابن حجة. قسم القصيدة شطرين، وتلاعب في ميادين البلاغة بالفنين. وهذه القصيدة تقف دونها فرسان الحماسة، وتثبت لها دونهم النفاسة والرياسة.

ويكبو الجواد من فحولها، وينسى بلطائف غزلها من لعبت بلطف شمائله شمولها.

وهي:

سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى

وغيري يهوى ان يكون مخلدا (4)

ولكنني لا أرهب الدهر إن سطا

ولا أحذر الموت الزؤام اذا عدا

(1) في ب: اموت ولم أحيا.

(2)

في الاصول: صبوت الى والمعنى لا يستقيم به.

(3)

انظر حاشية 2 ص/ 212.

(4)

في ب: الروا.

ص: 279

ولو مد نحوي حادث الموت طرفه

لحدثت نفسي أن أمد له يدا

توقد عزم يترك الماء جمرة

وحلية علم يترك السيف مبردا

وفرط احتقاري للأنام لأنني

أرى كل عار ما خلا سؤددي سدى (1)

وأظمأ أن أبدى لي الماء منة

ولو كان لي نهر المجرة موردا

ولو كان إدراك الهدى بمذلة

رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى (2)

وقدماً بغيري أصبح الدهر أشيبا

وبي بل بفضلي أصبح الدهر أمردا

وإنك عبدي يا زمان وإنني

على الكره مني أن أرى لك سيدا (3)

ولم أنا راض أنني واطئ الثرى

ولي همة لم ترتض الأفق مقعدا

ولو علمت زهر النجوم مكانتي

لخرت جميعا نحو وجهي سجدا

(1) في الاصول: سدا.

(2)

في الاصول: الى الهدا.

(3)

في الاصول: وإنك عندي.

ص: 280

وبذل نوال زاد حتى لقد غدا

من الغيظ منه ساكن البحر مزبدا

ولي قلم في أنمل لو هززته

فما ضرني ألا أهز المهندا (1)

إذا صال فوق الطرس وقع صريره

فان صليل المشرفي له صدى (2)

والمخلص من الحماسة والفخر إلى الغزل قوله:

ومن كل شيء قد صحوت سوى هوى

أقام عذولي بالملام واقعدا

إذا وصل من أهواه لم يك مسعدي

فليت عذولي كان بالصمت مسعدا

يحب عذولي من يكون مفندي

فيا ليتني كنت العذول المفندا

وقال لقد آنست ناراً بخده

فقلت وأنى قد وجدت بها هدى (3)

ومنها:

ولم أدم ذاك الخد باللحظ إنما

عملت خلوقا حين ابصرت مسجدا

(1) في الاصول: اني اهز.

(2)

في الاصول: صدا.

(3)

في ب: هدا.

ص: 281

وكم لي إلى دار الحبيب التفاتة

تذكرني عهداً قديماً ومعهدا

يراقب طرفي أن يكون هلالها

فقد طال ما قد صام حتى تعبدا

عبرت عليها واعتبرت تجلدي

فيا حسرتي لما اعتبرت التجلدا

كأن بقلبي ما بطرفي صبابة

فلم ير تلك الدار إلا مقيدا

وكم لجوادي وقفة في عراصها

تعود منها عيده ما تعودا

تعود ذاك الجيد مني أنني

أصيره من در دمعي مقلدا

ويا رب ليل بت فيه وبيننا

عناق أعاد العقد عقدا مبددا

ولم أجعل الكف الشمال وساده

فبات على كفي اليمين موسدا

وجردته من ثوبه وأعدته

بثوب عناق كاسيا متجردا

وقربني حتى طربت الى النوى

وأوردني حتى صديت الى الصدى (1)

(1) في الاصول: الصدا. وصدي عطش والصدى العطش.

ص: 282

شهدت بان الشهد والسكر ريقه

وما كنت لو لم اختبره لأشهدا

وان السلاف البابلية لحظه

وإلا سلوا إنسانه كيف عربدا

ومما (1) يناسب هذا الميدان الفسيح، والنظم الرائق الفصيح. ذكر قصيدة أنشأتها في ليلة، وأرحت فيها من الفصاحة خيله. وهي مشتملة على الغزل والنفاسة، وثانيا في اللطافة والحماسة وثالثا في المدحة، وهي من الله منحة.

أما الغزل فقولي:

أبدر دجى يا صاح أم أقبلت دعد

أم انتشبت نار وفي جمرها وقد

تلوح كبدر التم حسنا وبهجة

وفي جيدها در وفي نحرها عقد

فلا زال بدر بين مروة والصفا

يشتت لبي والغرام له حد

هي الشمس حقا إن تراءت لمغرم

وإن خطرت فالبدر من وجهها يبدو

لها أعين كالنرجس الغض خلقة

وحمرة خد في لطافته ورد

(1) من هنا حتى نهاية القصيدة لم يذكر في ب.

ص: 283

تحاكي الظبا لحظا وبالقد بانة

وبالردف طوداً وهو في ذاته طود

وفي وجهها بدراً وبالثغر أنجما

وبالريم لفتات ورمانها النهد (1)

فلله من ليل تقضى بقربها

وليس لنا ستر سوى الشعر الجعد (2)

فخان بنا الدهر الخئون فشمرت

إلى البعد ساقاً فاستمر بها الوجد

وقد أسبلت عند الوداع لآلئاً

فاستروى من المدمع الخد (3)

وأودعتها عند الوداع جوانحي

وديعة صب مالها في الورى رد

وها عندها قلبي وأنّا بذا الأسى

لنا القبر في غير الوصال أو اللحد

نأت وأنا ملقى على الجمر والغضا

تمزق مني الصبر وانقطع الجهد

إذا أودعت قلبي لهيباً وحرقة

ففي كبدي حر وفي مقلتي سهد

وأما قولي في الحماسة منها:

(1) في الاصل: الفتاتا.

(2)

في هذا البيت اقواء.

(3)

عجز البيت معلول

ص: 284

فخضت غمارا دونها وسباسبا

يضل القطا فيها وينحسم الكد

ولم ينج في تلك المهامه عابر

ويشكو انحطاطا في مفازتها الوجد

وحزت عُلى في ذا الرحيل وسؤدداً

لنا الشكر في هذا الرحيل أو الحمد (1)

وجيران وادي الرس إذ حث عيسهم

ولم يك لي من قربهم أبداً بد

يقولون لي كم ذا التغرب والجفا

إلى كم تخوض النقع جهلا وكم تعدو

فانك قد خضت الغمار وطالما

فتكت بعضب واستبحت دما جد (2)

وقدت خيولا سابحات إلى الوغى

إذا قيد للركض المطهمة الجرد

فقلت لهم خلوا سبيلي فإنني

أنا رجل الدنيا وواحدها الجلد

بعلمي وآدابي وسيفي وصاحبي

سموت فإني في الورى لسن فرد

فإني لمن قوم كرام ذوي حجى

فآدابنا بحر وآراؤنا رشد

سلوا الخيل عنا عند معترك القنا

فصمصامنا برق وأصواتنا رعد

(1) في الاصل ومرات غلا.

(2)

كذا.

ص: 285

فما عندنا جفن لعضب وانما

له أبدا من هامة البطل الغمد

بنا المشرفي اجتاز كل فضيلة

فما آب في كفي وفي حده حد

يجول على أسيافنا الموت دائما

فسل عن ظبانا فهو ما طبع الهند (1)

واما حسن المخلص في المديح قولي منها:

وكيف ولا أعلو على هامة السها

وأسعد لي في كل معركة سعد

أديب أريب سيد وابن سيد

حوى كرما بين الورى ما له حد

همام إذا ما جئته لملمة

تراه كماء المزن إذ عدم الورد

أغر كأن الشمس دون جبينه

بطلعته الغراء يستمطر المجد

له الراحة الرحباء في كل حادث

تسح نضارا حيث قد وجب الرفد (2)

فما آب وفد من عطاياه رابح

على رسله إلا أقام له وفد

يد تخجل الأنواء من نفحاتها

لها نعم صارت لجيد العلا وسد

(1) في الاصل فسل عن ضبانا: والظبى جمع ظبية وهي حد السيف أو الرمح.

(2)

في الاصل نظارا. والنضار الذهب أو الفضة أو الجوهر الخالص من التبر.

ص: 286

هو البطل الضرغام والبطل الذي

تراه ولا ليث سواه ولا أسد

فتى مشرق كالبدر والشمس وجهه

فهل أشرقت الا بطلعته نجد

له همة لو يحتمي بأقلها

لما كان حقا في الورى أبداً عبد

يجل ويسمو ان يقاس بحاتم

فذلك شوك ثم ذا الثفل الجعد (1)

أبر يدا في الضنك من هاطل الحيا

فلا الجزر يحكي راحتيه ولا المد

ألست أبا نعمان من سادة همو

ذو والنسب السامي وذو الحسب الغد (2)

إذا ذكروا في المكرمات فحاتم

لديهم سراب ماله أبدا رشد

إذا ما بدوا للناظرين تفرقوا

أيادي سبا فالعالمين لهم جند

فما لكمو والله حلفة صادق

شبيه وأنى ان يكون لكم ضد

رقيتم الى هام السماك بمحتد

فآراؤكم رشد واحسانكم ملد (3)

(1) الثفل نبت من احرار البقول، نوره اصفر طيب الرائحة تسمن عليه الخيول. والجعد الكريم والبخيل والسياق هنا يقتضي الكريم.

(2)

في هذا البيت اقواء.

(3)

الشباب والنعمة والاهتزاز واضطر الشاعر الى تسكين الوسط ليستقيم الوزن.

ص: 287

ملكتم لأحرار الأنام ببذلكم

فلا زلتم دوماً لثلم العلى سد (1)

فمن أسعد سعد الزمان وكيف لا

هو الساعد العضب اليمان بل الزند

ترفق فإني لم أفه لسواكم

بشعر ومالي دونكم في الورى عهد

فخذ غادة والله زفت بليلة

فإني على عزم بمدحكم أشدو

بقيت بقاء الدهر يا اسعد الورى

فإنك قند في مذاقته شهد

يشار إلى علياك بالفضل والعلى

وتستمطر الدنيا لديك ولا بعد

وممن حذا هذا الحذو، ومشى على هذا المنوال، ونظم أنواع العقود واللآل، الصاحب بهاء الدين زهير بن الوزير المهلبي (2). فإنه كتب إلى الصاحب كمال الدين ابن العديم (3) أبياتا معناها إنه انتخبه لحاجة له، ولم يؤهل غيره لها. وتخلص منها إلى الغزل.

وهي:

دعوتك لما أن بدت لي حاجة

وقلت رئيس مثله من تفضلا

(1) في الاصل: العلا. ورفع الشاعر قافية البيت وحكمها النصب

(2)

انظر حاشية 1 ص/ 212.

(3)

هو عمر بن هبة الله بن ابى جرادة العقيلي كمال الدين، مؤرخ. محدث، من الكتاب وله شعر حسن. ولد بحلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وتوفي بالقاهرة سنة ستين وستمائة. من كتبه «بغية المطلب في تاريخ حلب» اختصره في كتاب آخر سماه «زبدة الحلب في تاريخ حلب» طبع المجلد الاول منه ارشاد الاريب 6: 18، فوات الوفيات 2: 201 شذرات الذهب 5: 303 الاعلام 5: 197 وفيه مصادر اخرى.

ص: 288

لعلك للفضل الذي أنت ربه

تغار فلا نرضى بان تتبدلا

إذا لم يكن إلا تحمل منة

فمنك وإما من سواك فلا ولا

حملت زماناً عنكم كل كلفة

وخففت حتى آن لي أن أثقلا

ومن مذهبي المشهور مذ كنت أنثني

لغير حبيب قط لن أتذللا

وقد عشت دهراً ما شكوت لحادث

بلى كنت أشكو الاغيد المتدللا

وما همت إلا للصبابة والهوى

ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلى (1)

أروح وأخلاقي تذوب حلاوة

وأغدو وإعطافي تسيل تغزلا

ومن الغريب والنادر العجيب هنا قصيدة الأديب أحمد الشاهيني (2) فإنها نسجت وحدها وهي:

لا يسلني عن الزمان سئول

ان عتبي على الزمان يطول

(1) في الاصول. القلا. والقلى شدة الكراهية.

(2)

هو أحمد بن شاهين القبرسي الاصل، الدمشقي ولد سنة خمس وتسعين وتسعمائة. وكان ابوه من اجناد دمشق، وسلك هو أيضا طريق الجندية، ثم تركها بعد الفتنة التي وقعت بين علي بن جانبولاذ والعساكر الشامية. ثم اتجه الى العلم والأدب فتفوق فيهما وكان مليح العبارة، جيد الفكرة حلو الترصيع، حسن التصرف في النظم والنثر. اشتغل بالتدريس، والقضاء والتأليف. وتوفي سنة ثلاث وخمسين والف في دمشق.

تراجم الاعيان 1: 139 وخلاصة الاثر 1: 210 وريحانة الالبا 1: 228 وسلافة العصر- 275 وهدية العارفين 1: 159 ونفحة الريحانة 1: 96.

ص: 289

طال عتبي كطول عمر تجنيه

فعتبي بذنبه موصول

أنست لي خطوبه فلو اغتا

ل سواي لغرني التبديل

وأحاطت سهامه بي حتى

سد طرقي المسام مني النصول

أبتغي صفوة الحياة ضلالا

وسواد الليال ليس يحول

أنا يا دهر لست إلا قناة

لم يشنها لدى المكرّ النحول

إن أكن في الحضيض أصبحت أني

في ذرى الأوج كل حين أجول

فطريقي هو المجرة في السي

ر وعند السماك دأبي المقيل

صنت نفسي ترفعاً عند قدري

فكثير الأنام عندي قليل

فإذا قيل لي فلان نراه

ذا جميل أقول صبري جميل

وفرت همتي علي وعزمي

ماء وجهي فسيف عزمي صقيل

قد عرفت الأيام قدماً فلما

أن دهتني أتت وعندي الدليل

سلبتني بالغدر كل جميل

غير فضلي ففاتها المأمول

إن هذا الزمان يحمل مني

همة حملها عليه ثقيل

يتأذى من كون مثلي كأني

أنا منه في الصدر داء دخيل

فكأني إذا انتضيت يراعا

بسنان على الزمان أصول

وكأن المداد إذ رقمته

أنملي والدموع مني تسيل

صبغة أثرت بحظي سواداً

وأحالته وهي لا تستحيل

ليتني لو صبغت فودي منها

فارعوى الشيب واستحال النصول

لا أرى أنني انفردت بهذا

كل أيام دهر مثلي شكول

ولصاحب الترجمة مما نسجتها بنات أفكاره واقتطفت أيدي

ص: 290

المنى من يانع ثماره، قوله في مدح المرحوم أحمد باشا ابن المبرور حسن باشا أخذ الله بيده وجعل النور في مرقده:

أقدك ذا أم خوط بان به نَوْرُ

ووجهك ذا أم بارق لاح أم بدر

وهذا وميض شمته من تهامة

أم ابتسمت ليلا فبان لها ثغر

وماء عذيب أم رضاب ممزج

بخمرة أجفان بها يسكر السكر

فلله أيام مضت في لذاذة

وقد غفل الواشون إذ غفل الدهر

سقى الله ذاك الربع جادبه الحيا

وحياه غاد والغوادي به قطر

فودعت قلبي حين ودعت زينبا

ولا عج أشواقي يضيق به الصدر

يمازج دمعي دمع ما فوق خدها

وابكي وتبكي والقلوب بها جمر

شرقت بما أجرى الدموع من الدما

وقلبي خوف البين خامره الذعر

صبوت فلم يترك بي الصبر قوة

إلى كم أقاسي ما أمرك يا صبر

ولم يبق مني البين إلا تصبري

وجسما نحيلا قد أحل به الضر

وثهلان هجر حال بيني وبينها

فمّن بها لا در درك يا هجر

تقول وقد بل الدموع خدودها

وضرج وجهاً من محاسنه البشر

إلى أين أزمعت المسير معجماً

وزمت مطاياك المطهمة الغر

فقلت ذريني إنني أنا سائر

إلى بحر جود من عوارفه اليسر

فتى لا يجارى في المكارم والعلى

بنائله يوم الندى يقتل الفقر

أغر فتى الفتيان بدر مآثر

بغرته الغراء يستمطر الخير

شجاع شديد البأس قرم سميدع

إذا ذكر الأجواد طاب به الذكر

سليل كرام في المكارم سبق

لهم اوجه بيض وأردية حمر

ص: 291

مليك له عند الأنام مواهب

تناقلها الركبان والبدو والحضر

لقد طار في الآفاق ذكر نواله

وهل تنكر الأنوار إذ بزغ الفجر (1)

له صيتة في الخافقين جسيمة

يعطر أردان الزمان لها نشر

وما صافحت بيض القنا مثل كفه

ولا شاهدت شبهاً له الخيل والسمر (2)

إذا ما امتطى متن السلاهب غازيا

يقابله التأييد والعز والنصر

وإن سار يقري الطير والوحش في الفلا

فمن جيشه الضرغام والذئب والنسر (3)

وأبكم أفواه الزمان نواله

أياد له لا يستطاع لها شكر (4)

أبا حسن يا ذا المحاسن والندى

ويا من له فخر على من له فخر

عقلت قلوصي في حمى فضلك الذي

به تسمن الانضاء بل يهلك العسر

ولا أبتغي في ذاك إلا مفاخراً

فان لم يكن فخر فلا وفر الوفر

وفي هذا البيت رائحة من كلام أبي فراس الحمداني. وسنبينه هناك ومن تتمتها:

(1) في ب: وهل ينكر.

(2)

في ب شبحاله.

(3)

في ب: الوحش والفلا.

(4)

في الاصول: وافكم والصواب ما أثبتناه.

ص: 292

وما ضرني ان كنت فاقد ثروة

إذا كان ما قد حزته المجد والفخر

وما شانني أن كنت صفراً من الغنى

ولا عيب أن تعرى المهندة البتر

وهل ينقص القدر الرفيع مطاعن

يفوه به الواشون إن كمل القدر

وإنا من العرب الكرام ذوي العلا

وفينا الهدى والمجد والعلم والشعر

وما ضم حب المال قط صدورنا

فأموالنا عبد وأعراضنا حر

أبى المجد إلا أن نعيش بعزة

فإن لم يكن عز فمختارنا القبر (1)

وأنا لفينا نخوة عربية

وإن لنا جداً به ينتهي الفخر

والقصيدة الفراسية، التي هي كالشمعة المضية، وهي كما قيل كلام الملوك ملوك الكلام وهي:

أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له سر

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى

وأذللت دمعا من خلائقه الكبر

تكاد تضيء النار بين جوانحي

إذا هي أذكتها الصبابة والفكر

(1) في ب: ان يعيش.

ص: 293

معللتي بالوعد والموت دونه

إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر

بدوت وأهلي حاضرون لأنني

أرى أن دارا لست من أهلها قفر

وحاربت قومي في هواك وانهم

وإياي لولا حبك الماء والخمر

وإن كان ما قال الوشاة ولم يكن

فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر

وفيت وفي بعض الوفاء مذلة

لإنسانة في الحي شيمتها الغدر

وقور وريعان الصبا يستفزها

فتأرن أحياناً كما يأرن المهر (1)

تسائلني من أنت وهي عليمة

فهل بفتى مثلي على حاله نكر

فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى

قتيلك قالت أيهم فهم كثر

فأيقنت أن لا عز بعدي لعاشق

وأن يدي مما علقت به صفر

وقلبت أمري لا أرى لي راحة

إذا البين إنساني ألح بي الهجر

فعدت إلى حكم الزمان وحكمها

لها الذنب لا تجزى به ولي العذر (2)

كأني أنادي دون ميثاء ظبية

على شرف ظمياء حلأها الذعر (3)

تجفل حيناً ثم تدنو وانما

تراعي طلا بالواد أعجزه الخصر

وإني لنزال بكل مخوفة

كثير إلى نزالها النظر الشزر

وأني لجزار لكل كتيبة

معودة أن لا يحل بها نصر

فانظر إلى ما قال والى ما سيقول فإنها تبهر الألباب فضلا عن العقول:

فأصدأ حتى ترتوي البيض والقنا

وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر

ولا أصبح الحي الخلوف لغارة

ولا الجيش ما لم يأته قبلي النذر (4)

(1) أرن كفرح أرنا نشط.

(2)

في الاصول لا تجري به.

(3)

ميثاء الارض السهلة، وظمياء عطشى، وحلأه عن الماء طرده ومنعه.

(4)

في الاصول: الخلوق والمعنى لا يستقيم به والحى الخلوف بضم الخاء الذي تركه رجاله.

ص: 294

ويا رب دار لم تخفني منيعة

طلعت عليها بالردى أنا والفخر

وحي رددت الخيل حتى ملكته

هزيما فردتني البراقع والخمر

وساحبة الأذيال نحوي لقيتها

فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر

وهبت لها ما حازه الجيش كله

وأبت ولم يكشف لا ثوابها ستر

وما راح يطغيني بأثوابه الغنى

ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر

وما حاجتي بالمال أبغي وفوره

إذا لم أفر عرضي فلا وفر الوفر

هذا هو البيت المشار إليه سابقا وكذلك الذي قبله من الأبيات

أسرت وما صحبى بعزل لدى الوغى

ولا فرسي مهر ولا ربه عمرو

ولكن إذا حم القضاء على امرئ

فليس له بر يقل ولا بحر (1)

وقال أصيحابي الفرار أو الردى

فقلت هما أمران أحلاهما مر

يقولون لي بعت السلامة بالردى

فقلت لهم والله ما نالني خسر

ولكنني أمضي لما لا يريبني

وحسبك من أمرين خيرهما الأسر

هو الموت فاختر ما علا لك ذكره

ولم يمت الإنسان ما حيي الذكر

ولا خير في دفع الأذى بمذلة

كما ردها يوماً بسوءته عمرو

يمنون أن خلوا ثيابي وإنما

علي ثياب من دمائهم حمر

وقائم سيف فيهم دق نصله

وأعقاب رمح فيهم حطم الصدر

فإن عشت فالطعن الذي يعرفونه

وتلك القنا والبيض والضمر والشقر

وإن مت فالإنسان لا بد ميت

وان طالت الأيام وانفسح الصدر

ستذكرني قومي إذا جد جدها

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به

وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر

(1) في الاصول جم القضاء وحم القضاء قضي.

ص: 295

ونحن أناس لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن خطب الحسناء لم يغلها مهر

أعز بنى العليا وأعلى ذوى العلى

وأكرم من فوق التراب ولا فخر

وقول صاحب الترجمة في قصيدته:

وما شانني أن كنت صفراً من الغنى

ولا عيب أن تعرى المهندة البتر

قريب منه قول القاضي الهروي (1):

وليس يضر السيف إن رث غمده

ورونقه في المتن والحد مقضب

وما يضع السباق عري وخلة

ولا يرفع المسبوق جل ومركب (2)

وما يستوي الشخصان هذا مصعد

إلى المرقب الأعلى وهذا مصوب (3)

ويشتبه البرقان هذا مبشر

بغيث وهذا كاذب اللمع خلب

ولأبي سعيد الرستمي من قصيدة:

ولا غرو أن أعرى وذو النقص ساحب

على الأرض أذيالا من الحبرات

تكن النشاشيب الجعاب ولا ترى

طوال الردينيات غير عراة (4)

(1) لعله عبد الله بن محمد بن علي الانصاري الهروي أبو اسماعيل، شيخ خراسان في عصره، من ذرية ابي ايوب الانصاري ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة وتوفي سنة احدى وثمانين واربعمائة، انظر الذيل على طبقات الحنابلة 1: 64 والاعلام 4: 267 ومعجم المطبوعات العربية.

(2)

الجل: بالضم والفتح ما تلبسه الدابة لتصان به.

(3)

في الاصل: اعلا ومصوب أي نازل ضد مصعد.

(4)

في الاصول عرات.

ص: 296

ومنها قوله:

أغرك مني يا ابنة القوم أنني

مقيم على الأدواء واللزبات

وأن بني الدنيا تقاسم فضلها

وان وطائي دونهم صفرات

وما ذاك نقص أنني لو علمته

عيون القذى منها أبي أباة (1)

ألم تعلمي إن المكاكي تغتدي

نشاوي خلال الروض والربوات

وإن البزاة البيض يمضين جوعا

مخافة عذر أو معاف قذاة (2)

ولصاحب الترجمة في مدح الوزير المرحوم ايضا:

هل من مجير مسعدي

من لحظ ظبي أغيد

ومن صدود غادة

تخلفني بالموعد

مكانها من مهجتي

مكانها من جسدي

لحاظها فتاكة

ترمي بها في كبدي

كم من شجي قتلت

بصدها ولم تد

ولم يزل من هجرها

قلبي بجمر موقد

أصمت فؤادي ذا الهوى

ولم تعاهد معهدي

مالي أراها غصبت

رق المعنى المكمد

وليس ذاك حقها

بل قد أتت باللدد

وإنما الأولى به

شرعاً وعرفاً ذو اليد

الماجد القرم الذي

نظيره لم يوجد

أعني الوزير المجتبى

سمي طه أحمد

رب العلاء والبها

ء والعلى والسؤدد

(1) في الاصول: أبات.

(2)

في الاصول قذات.

ص: 297

فتى الكفاح والصفا

ح والرماح الأود

هو الإمام المقتفي

إثر أبيه الأصيد

قد مهد الملك لنا

نفديه من ممهد

مشهور فضل وندى

كسيفه المهند

ليس له غمد سوى

هامة كل معتدي

كم فرق فرقها

بعزمه المؤيد

كم عصب جمعها

برأيه المسدد

فيا له من صارم

على العدى مجرد

فلاق هامات العدى

قامع كل معتدي

مقتحم نار الوغى

إلى سناها مهتدي

سباق غايات العلى

بالمكرمات مرتدي

بحر نوال قاذف

دراً لكل مجتدي

له يد مذ خلقت

علت على كل يد

عطاؤه معجل

لا آجل إلى غد

لا غرو إن فاق الورى

في كرم ومحتد

فالمجد أرث جده

ثم أبيه الأمجد

لا بل له من نفسه

غنى عن المسود

أخلاقه منبئة

عن مجده المشيد

أعداؤه من بأسه

أمست بعيش نكد

وأولياؤه غدت

في خفض عيش رغد

فرض علي مدحه

وهو أجل مقصدي

ص: 298

وقف عليه فكرتي

فغيره لم احمد

ولم يجل يوماً سوى

مديحه في خلدي

وكيف لا وهو الذي

غمرني بالرفد

وجاد لي حتى لقد

أكمد قلب حسدي

نعم وأعلى رتبتي

من فوق فرق الفرقد

حتى سلوت عنده

أهلي ومن في بلدي

وليس عندي ما به

أجزي جناب سيدي

سوى دعاء خالص

في جنح ليل أسود

أقول يا مولى الورى

يا أحداً لم يلد

زده على وكن له

يا رب خير منجد

بحق طه المصطفى

شفيع يوم المورد

وآله وصحبه

ذوي التقى والرشد

وله فيه لما أغار على آل قشعم، وهزمهم وفر شيخهم صقر واستلب أموالهم. وسبقه إلى الهيجاء وتخلف جيشه عنه في مقابلة الأعداء (1):

أغرت مغاراً فيه اكرم مغنم

وحزت فخاراً فيه كل التكرم

علوت متون السابحات على الوني

وخضت غماراً دونها الحق يهزم (2)

وكم طلبوا رداً لما كنت عازماً

فلم تنثن والعزم أكرم ملزم (3)

(1) حدثت هذه الحملة سنة 1151 للهجرة فقد اتفقت عشيرة قشعم مع عشائر السرحان واسلم وبني صخر على شق عصا الطاعة والتمرد على الحكومة. واتخذت من سبروت وهو محل يبعد بضع ساعات عن شفاثة مكاتا للتجمع، وشن الغارات، وقطع الطريق على القوافل، ونشر الفوضى. فسار بنفسه اليهم. انظر دوحة الوزراء ص 45.

(2)

في الاصول: الونا. والونى: التعب. وفي هذا البيت إقواء

(3)

في ب لما كنت عارضا.

ص: 299

فجردت عضبا من علائك ما ضيا

بعزم كبيض الهند لم يتثلم

سبقت إلى الهيجاء جيشاً تعودت

قراع العدا من كل قرم ملثم

إذا ما دجى ليل من الخطب دامساً

ففي البدر مغنى عن مسارج أنجم

فان كنت قد لاقيت فرداً فإنما

وجودك يغني عن خميس عرمرم

أتيت وبعض السمر يقرع بعضها

فطاحوا حيارى باليدين وبالفم

وكحلت جفنا بالسهاد مجالدا

وأدأبت جسماً لم يزل بتنعم

ومثلك من يبغي فخاراً وسؤدداً

يبيت ويضحي فوق أشهب شيظم (1)

نعم هكذا نيل العلى واكتسابها

فان المعالي لا تباع بدرهم

قطعت إليهم كل بهماء مقفر

وجبت فلاة بالردى تتكلم (2)

فلاة يذيب الصخر وقد هجيرها

وحر به الأحشاء كالنار تضرم (2)

بواد بها آل يموج ملامعا

يحار بها الساري كبحر غطمطم (3)

(1) الشيظم: الطويل الجسيم الفتى من الابل والخيل والناس.

(2)

في هذين البيتين إفواء.

(3)

الغطمطم: البحر العظيم.

ص: 300

حرور كنار الوجد يعلو اضطرامه

كقلب محب مستهام متيم

فصبحهم كالموت نبّر خافياً

فضلوا حيارى بين نصل ولهذم (1)

وشاموا بروقاً من سيوفك أمطرت

سيول منايا من رواعيد مخذم (2)

عقاب الوغى لما بدا طار صقرهم

«لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم» (3)

فخلوا لك الأموال من كل تالد

ومكتسب عن كل شاء ومنسم (4)

تركتهم رهن العوان بقاتم

شديد النوى في شر عيش مسخم

ولم تتركن شيئاً لهم غير أنفس

تسيل على آماقهم مثل عندم

أتيت بما يؤتى السميع تعجبا

ويدهش عقل الفارس المتقدم

فلا زلت منصور اللواء مظفراً

تدين لك الدنيا بعرب وأعجم

ومن نظمه الرائق ومنظومه الفائق أرجوزة أرسلها الى ابن عمه الآتي

(1) في الاصول: لهزم. واللهزم. القاطع من الاسنة.

(2)

في الاصول مخزم. ومخذم: صفة للسيف أي قاطع. ورواعيد جمع راعدة.

(3)

أم قشعم: الحرب والمنية والداهية وهي هنا المنية. والشطر تضمين لشطر زهير بن ابى سلمى في معلقته ..

(4)

الشاء جمع شاة. ومنسم كمجلس خلف البعير. يريد الغنم والابل.

ص: 301

ذكره السيد خليل البصيري وهي:

الحمد لله العزيز الغالب

الناصر الممد ذي المواهب

المانح الجزل العميم الطول

الدافع الضر الشديد الحول

تبارك الله تعالى شانه

وعز جاراً وعلا سلطانه

سبحانه يفعل ما يشاء

هيهات أن يحصى له ثناء

هو اللطيف بالبرايا سرمدا

حاشاه ان يترك أمرهم سدى (1)

يخص بالرحمة من عباده

من شاء فضلا منه في إسعاده

ثم من الصلاة ما قد كملا

على نبي السيف سيد الملا

الهاشمي هازم الأحزاب

محمد مقسم الأسلاب

وآله فرسان مضمار الوغى

وصحبه سبق حلبة الهدى

ما قامت الحرب وثار الرهج

وسلت الظبا وسالت مهج

كل شطر من هذه الأبيات عن براعة الاستهلال عبارة، بل في كل كلمة عن ذلك المقصد إشارة. فإن هذه الرسالة في وقائع نادر شاه ومحاصرته الموصل (2) ورحيله عنها، وعدم نيل مرامه منها. وكانت تلك الوقائع مما تشيب الأطفال، وتقلع الجبال.

فضلا عن التلال ومنها:

ثم سلام من محب نائي

واكمل الثناء والدعاء

إلى النقاب الفاضل الهمام

العالم الحبر الرضي القمقام (3)

(1) في الاصول سدا: سدى: مهمل.

(2)

كان حصار نادر شاه للموصل سنة 1156 انظر دوحة الوزراء ص 50

(3)

النقاب: الرجل العلامة. القمقام بفتح القاف وضمها: السيد

ص: 302

عف الإزار طاهر الثياب

سلالة الأطهار والأطياب

السيد السميدع الجليل

حلمي وخدني صاحبي خليلي (1)

علامة الدنيا قريع دهره

من لا يبارى من وحيد عصره

لا زال فارعاً ذرى الكمال

مقتعداً غوارب الآمال

وبعد عرض صورة الأشواق

وبث بث البين والفراق

فالغرض الأصلي فحص الحال

والبحث عن كيفية الأحوال

وكيف ذاك العنصر اللطيف

الأطيب المطهر الشريف

لا زال في حفظ الإله دائما

وفي مقام الفضل طوداً قائما

ثم أيا من حبه أودى بي

ومن حوى أقصى مدى الآداب

فان تعطف الجناب السامي

بالفحص عن أحوال ذي الهيام

فانه في غمرة لا تنجلي

إلا إذا شاء المهيمن العلي

فكيف لا والوجد قد عناني

يثني كما يريد من عناني

وفرقة الأحباب والديار

أخنت على جسمي واصطباري

والله مأمول لجمع الشمل

فإنه ولي كل فضل

فبينما أفحص عن آثار

وأتلقى جلب الأخبار

إذ ورد الكتاب أسمى الكتب

من شيد حوى فخار العرب

أي كتاب عقد در نظما

وروض آداب غدا منمنما

أي كتاب عقلة المستوفز

قرة عين عدة المستنجز (2)

يحكي الهواء رقة والماءا

لطافة وقد سما سماء

(1) في الاصل خدمي: والحلم الصاحب والصديق «القاموس» والخدن الصاحب ومن يخادنك في كل أمر ظاهر وباطن «القاموس» .

(2)

المستوفز المتهيئ للوثوب

ص: 303

مضمونه يعرب عن خفض العدا

وما أصابوا من عوامل الردى

وما أتاح الله من تأييد

والظفر الباهر والتسديد

فهز من عطف النشاط والجذل

وفرح القلب الكئيب المختبل

فصار للانام عيداً آخرا

كلا تراه حامداً وشاكرا

على انجلاء غمة البلاء

بفضل ذي الألطاف والآلاء

ومما يأتي من هذه الأرجوزة، ونشوة هذه الشمطاء العجوزة، بعض ما وقع من أحوال ذلك الخارجي مع أهل الموصل بقوله:

وذاك أن صاحب الاعجام

حاصرهم بجيشه اللهام (1)

باللجب العرمرم الكماة

يطلب بالذحول والترات (2)

فأعضل الأمر وأعيى الراقيا

وبلغت من همه التراقيا (3)

جاءهم من فوقهم والأسفل

بجحفل كظل ليل أليل

شبوا ضرام البأس والكفاح

ما غادروا ضربا من النقاح (4)

رموهم بنارهم أسبوعا

وهجموا عليهم جموعا

نار وما أدراك صاح ماهيه

نار لظى تضرم ناراً حاميه

صواعق قوارع قواصف

رواعد طوارق رواجف

فاضطرب الحبل وجل الخطب

واستفحل الداء وجل الكرب

وإنه سبحانه جلاها

إن إلى ربك منتهاها

(1) اللهام: الكثير العدد والجيش العظيم

(2)

في الاصول يطلب بالدخول وصوابه الذحول جمع ذحل وهو الثأر او طلب مكافأة بجناية جنيت عليك أو عداوة أتيت اليك والترات جمع ترة وهي الذحل والثأر.

(3)

في ب من همها

(4)

النقاح: الذي يستخرج المخ

ص: 304

ردوا بغيظ لم ينالوا خيرا

نعم أصابوا ضرراً وضيرا

إذ باد باللغم لهم ألوف

وذا سوى ما نالت السيوف

وكانت النيران مثلها على ال

خليل برداً وسلاماً لم تزل

كفاهم سبحانه القتالا

وكف عنهم ما دهى تعالى

هذا وما قد دفع الله من ال

بلاء قد كان عظيما وأجل

ونسأل الله تمام النعمة

من طوله ودفع كل نقمة

فهو ولي الفضل والأنعام

ذو العز والجلال والإكرام

والحق أن هذه إحدى الكبر

وأبدع البدع وأم للعبر

فيا لها من وقعة لم تسبق

إلا بأحزاب بيوم الخندق

وكان رمي تلك بالأحجار

وصار رمي هذه بالنار

لله قومي من رجال صبر

على المضاض في البلاء الأكبر

ما ريع منهم أحد كلا ولا

غرتهم الفشلة من بأس العدا

كل يقول حبذا يوم اللقا

ونعم ما يوم لنا يوم الوغى

تلقاه منشدا لذي البراز

أبلغ ما قيل في الارتجاز (1)

«أنا أبو برزة ان جد الوهل

وليس فينا زمل ولا وكل»

«نحن بنو الموت إذا الموت نزل

والموت أحلى عندنا من العسل»

إذ وطنوا الأنفس للحتوف

وأخذوا قوائم السيوف

يجاهدون في سبيل الله

بالمال والنفس بلا إكراه

يقون بالبيض وأطراف الأسل

عرضاً مصوناً ليس فيه من خلل

محاذرين خطة الهوان

وسوم خسف من ذوي العدوان

(1) في ب: نلقيه

ص: 305

حتى قضى الله لهم بالفرج

وعاجل الفلج ودفع الحرج

ردوا وجوههم بحر الضرب

وأورثوا بهم سعير الحرب

فقهقروا نكصاً على الأعقاب

على احتذاء غزوة الأحزاب

بصفقة خاسرة واليأس

وخيبة من ظفر ببأس

إذ رتعوا في مرتع وبيل

وطمعوا في مطمع ثقيل

غرتهم الأمان والأماني

إذ جعلوا القاصي مثل الداني

ما كل سوداء بتمرة ولا

حمراء جمرة إذا جد البلا

لله درهم على ما فعلوا

وأي مجد وطدوا وأثلوا

ناهيك من ذخر أتم الذخر

وحبهم ذا الفخر أنمى فخر

لا سيما قائدهم حسين

ذاك الذي ما فيه قط شين

ذاك الوزير الأصيد المشيع

البطل الضرب الهزبر الأشجع

الرابط الجأش لدى اللقاء

عند اشتجار السمر في الهيجاء

فإنه الأصل لهذي المفخره

بل تنتهي إليه هذي المأثره

لأنه رئيسها ورأسها

ونجمها الوضاح بل نبراسها

لله دره يهون الحتف

عليه إن لاح عليه خسف

بجده أنقذ أهل الموصل

من فتك ذي ضغائن مستأصل

فلمّ عنهم ظفر الأعداء

وفلّ عنهم غرب ذاك الداء

عليه عين الله من أمير

صاحب رأي صائب خبير

ذو غير يحمي الديار كالعرب

يسطو بعضب قائم بلا رهب

فيا له من ذي غناء كافل

أخلق به قرما بقول القائل

«نفس عصام سودت عصاما

وعلمته الكر والإقداما»

ص: 306

قيل في هذا انه عصام بن شهير حاجب النعمان بن المنذر الذي قال له النابغة الذبياني (1) حين حجبه عن عيادة النعمان من قصيدة له. منها:

فإني لا ألومك في دخول

ولكن ما وراءك يا عصام

وفي المثل كن عصامياً ولا تكن عظاميا. وقيل:

نفس عصام سودت عصاما

وعلمته الكر والإقداما

وصيرته ملكاً هماما

يقال انه وصف عند الحجاج رجل بالجهل وكانت له إليه حاجة فقال في نفسه لاختبرنه. ثم قال له حين دخل عليه أعصامي أم عظامي، يريد أشرفت بنفسك أم تفتخر بآبائك الذين صاروا عظاماً. فقال الرجل: أنا عصامي عظامي. فقال الحجاج هذا افضل الناس وقضى حاجته، وزاده ومكث عنده مدة ثم ناقشه فوجده أجهل الناس. فقال: أتصدقني أو لأقتلنك.

قال: قل ما بدا لك أصدقك. قال: كيف أجبتني لما أجبت لما سألتك عما سألت؟ قال له: لم أعلم أعصامي خير أم عظامي، فخشيت أني أقول أحدهما فأخطئ، فقلت أقول كلاهما فان ضرني أحدهما نفعني الآخر. وكان الحجاج ظن أنه أراد افتخر بنفسي لفضلي وبآبائي لشرفهم. فقال الحجاج عند ذاك: المقادير تصير العي خطيباً. فذهبت مثلا ومن تتمة الأرجوزة المترجمة:

رعياً له إذ جد في دفع الأذى

وقد سما على العدا مستحوذا

(1) في الاصول: نابغة الذبياني

ص: 307

«فهو لعمري حائز تفضيلا

مستوجب ثنائي الجميلا» (1)

فزكه تزكية واجملا

إجمال من تجملا تجملا

منا له الدعا بنفس صاغره

«والله يقضي بهبات وافره»

وهكذا سليله مراد

من مثله لمثل ذا يراد

شمر عن ساعد جد وسطا

يحمي الحمى بسيفه مخترطا

«بأبه اقتدى عدي بالكرم

ومن يشابه أبه فما ظلم» (1)

كذا الوزير صاحب الشهباء

ذو الحزم والآراء والدهاء

فانه لم يلف ذا تقصير

أصاب في الرأي وفي التدبير

جوزي بالخير عن الأنام

ببذله المجهود في الإسلام

بشرى بذا الفتح المبين البيّن

والنصر إذ جاء من المهيمن

بشراكم يا أيها الدهاة

أيتها الحماة والكماة (2)

بشراكم يا أهل ذياك الحمى

على احتياز الفوز من رب السما

فمن له بشكره والحمد

إذ فضله جاوز حد العد

يا ليتني كنت مع الأصحاب

ظفرت بالنصرة والثواب

وأن تسل عن هذه الأرجاء

وما تعاني من عضال الداء

فإنها منذ شهور لم تزل

محصورة ضاقت بأهلها الحيل

حسبك من شر سماعه كما

قد قيل في الغابر فيما قدما

وذاك أن الشاه شاه العجم

أمّ ديار الروم في تقحم (3)

فدلفت من جنده سوالف

رواجف تتبعها روادف

(1) تضمين من الفية ابن مالك

(2)

في الاصل: الدهات. الكمات

(3)

في ب: في تهجم

ص: 308

جحافل تطاول الجبالا

قنابل تكاثر الرمالا

تموج موج زاخر البحار

غصّت بها القفار والبواري

دكت لها شواهق الاطواد

وبس منها هضب الاعضاد (1)

جاسوا خلال هذه الديار

يبغون ضبطها على اقتدار

فعجل العربان والأكراد

في طاعة الأمر لهم وانقادوا

أهل القرى كذاك والضياع

نعم وأهل سائر الرباع

لم يتريث أحد في الطاعة

بادر في شق عصا الجماعة (2)

في المثل يقال شق فلان عصا (2) المسلمين أي فرق جمعهم.

قال أبو عبيدة (3) معناه فرق جماعتهم قال والأصل في العصا الاجتماع والائتلاف وذلك إنها لا تدعى عصا حتى تكون جميعا، فإذا انشقت لم تدع عصا. ومن ذلك قولهم للرجل إذا أقام بالمكان واطمأن به واجتمع له فيه أمره قد ألقى عصاه. وقال معقل البارقي:

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عيناً بالإياب المسافر

قالوا وأصل هذا ان الحاديين يكونان في رقعة فإذا فرقهم الطريق شقت العصا التي معهما فاخذ هذا نصفها وذا نصفها فضرب مثلا لكل فرقة.

(1) بس: نسف

(2)

في الاصل: عصى

(3)

ابو عبيدة معمر بن المثنى انظر حاشية 18 ص 109

ص: 309

قال صلة بن الاشيم لأبي السليل إياك أن تكون (1) قاتلا أو مقتولا في شق عصا المسلمين. و (2) خرج المنصور إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأولياء ولما واجه الحصن سقط الرمح من يده فأخذه بعض الأولياء ومسحه وقال:

وألقت عصاه واستقر به النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر (3)

قال فضحك المنصور وقال قلت (4) وألقى عصاه، قال يا أمير المؤمنين: العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل على نبيه من كلام رب العالمين فكان الأمر على ما ذكر واخذ الحصن وحصل الظفر بابي يزيد فكانت الإشارة من المنصور بالآية، هي المقصد والغاية.

ومن الأرجوزة أيضا:

وذاك إنباء على العيال

والأهل والأولاد والأطفال

ولا يلامون لدى الانصاف

بما أتوا إلا على اعتساف

إذ لم يكن في طاقة الأغنام

دفع أسود الغاب والآجام

فملكوا ما كان من ضياع

ما تركوا فتراً من الأصقاع

فلم يكن بداً من الحصار

لقلة الأعوان والأنصار

فاقتصر الهم على التحصن

وحفظ نفس الحصن في تمنن

وغرب الشاه يروم الروما

وينتحي الأطلال والرسوما

(1) في الاصل اياك قائلا

(2)

في الاصل ولما خرج

(3)

في الاصول والقى والمعنى لا يستقيم الا برواية البيت على الله

(4)

في الاصول قال لم قلت: والمعنى لا يستقيم الا كانت قال هلا قلت

ص: 310

فأولاً أقام في كركوك

غادرها كالقتب المفكوك

أخذها كالقابس العجلان

لم يتلوم أقرب الزمان

ومثل كركوك غدت اربيل

ووطؤه عليهما ثقيل

ثم غدا يسير نحو الموصل

بذلك الجيش الثقيل الكلكل

وكان ما كان من أمر شجرا

ما بينهم ثمة مما سطرا

والشاه إذ عن له أن يرجعا

وذاك لا بد لأمر وقعا

علا من الموصل بالجيش اللجب

يقصد بغداد ببحر مضطرب

جاء يقود الجحفل الجرارا

بالطم والرم يروم ثارا

بالقض والقضيض من أوشابه

بجنده الجلاد من أنيابه

في اصل المثل الطم والرم بالضم يضرب لمن جاء بالمال الكثير أو العدد الكثير، فالطم البحر، وقال ابن الانباري الطم بالفتح الماء الكثير، والرم، الثرى. وقال الأزهري: الطم بالفتح البحر.

وإنما كسرت الطاء في مثل هذا المثل لمجاورة الرم. والقض والقضيض يقال لما تكسر من الحجارة. يقال (لما) صغر قضيض ولما كبر قض وأصله جاء بالقض والقضيض يعني جاء بالكبير والصغير. ويقال أيضا جاء القوم بالقض والقضيض وقضهم بقضيضهم أي كلهم. وقال سيبويه يجوز قضهم بالنصب على المصدر كما قال الشاعر:

وجاءت سليم قضها بقضيضها

وجمع عوالي ما أدق وأنعما

قال الأصمعي: لم أسمعهم ينشدون قضها إلا رفعاً. هكذا ذكره الميداني ومن الأرجوزة أيضا:

ص: 311

خيل وما خيل صلاد حمّ

منقدة من الجبال الشمّ

أبناء موت يحرقون الأرما

إذا رأوا يوم الهياج البهما

بنو كرابة فحول حرب

أسود رهج ورجال ضرب

حتوف قرن يقضمون الزمرا

من الحديد قاضمين الخطرا

أي رجال ثكلتهم أمهم

ومثل ويل أمه بأمهم

فارتجت الجبال أي رجة

ومادت الأرض لثقل الوطأة

والناس حيث شاهدوا ذا الحالا

تضعضعوا وزلزلوا زلزالا

توجسوا وزاغت الأبصار

وارتاعت النفوس والأسحار

وارتعدت فرائص القلوب

شق لها كمائم الجيوب

وهم على القنوط من حياة

يغتبطون راحة الأموات

وحق للقلوب ان ترتاعا

وللحشى لذاك أن تلتاعا

إلا الرضى حامي حمى الزوراء

ذو الفتكة البكر لدى اللقاء

الهزبري الصاحب المعظم

والماجد القرم الوزير الأفخم

منتشر الصيتة في الآفاق

مقدم الكل على الإطلاق

ذو الجد والجد المعم المخول

ذو الغمرات الواحد المقبل (1)

السابق الأنام وهو قاعد

من همه الفخار والمحامد

رب العتاق والرقاق والقنا

المفلق الهام إذا القرم دنا

ترب المصاع صارع الشجعان

إذا تلاقت حلقتا البطان (2)

ذو الهبوات السود والحروب

مجتمع الرأي لدى الخطوب

(1) في الاصول المعم المحول. في ب: الواحدي

(2)

في الاصل ترب المصارع. والمصارع: القتال والجلاد

ص: 312

كافي الكفاة حارس العراق

الطيب الأخلاق والأعراق

غيظ العدى مقتحم الأهوال

ليث الشرى مجندل الأبطال

مضرس الخطوب والنوائب

ذو دربة محنك التجارب

لكل خير مبتدى معود

وعوده مثل سماه أحمد

لم يتتعتع من موارد الردى

ولم يكن يرتاع من خيل العدا

وراعه تكاثر الأعداء

ولم يهل من صحة البلاء

فواطأ الرأي على القرار

ووطن النفس على الدمار

محارساً محافظاً مجاهدا

مصابراً مرابطاً مجالدا

يرمقه الموت بلمح شزر

والحتف قد أناخ حول الأمر

لم يتضعضع من مضاض الهول

والموت أدنى من شراك النعل

تمثل الذمار والصغارا

فرجح الهلاك والدمارا

يزأر زأر الأسد الهصور

لم يستكن للجلل المخطور

وكان ذا الشاه له مختبرا

مجربا أحواله مستبرا

جربه في خله وخمره

وذاقه في حلوه ومره

وكان قد حاصر مرتين

وفيهما آب بأصدرين (1)

فظن أن لا نافع ثم عمل

وشر ما رام امرؤ ما لم ينل

فما رأى إلا الجنوح للسلم

ودفع ضغن كان في البين ألم

واختار كون الصلح وهو يطمع

وانكف وهو يشتهي ويجزع

(1) الاصدران عرقان تحت الصدغين.

ص: 313

أرسل من لديه يبغي سلما

وسد ما قد كان قبل انثلما

يقول قصدي راحة الأنام

والصلح خير، سيد الأحكام

«ورغبة في الخير خير وعمل

بر يزين وليقس ما لم يقل»

ومال حتى أنه تنزلا

عن الذي كلف كان أولا (1)

من الذي لم يك يستطاع

كأبلق العقوق لا يطاع

وقبل قد كان على الرواسخ

يعطس من زهو بأنف شامخ

وحيث كان الصاحب المعظم

الحازم الا سبهبذ المفخم

من طرف الدولة ذا اختيار

خيّر في الإيراد والإصدار

مرخصاً في الصلح والقتال

مفوضاً في جملة الأحوال

قيل له افعل ما ترى فيما صلح

وما أبيح افعل ودع ما لم يبح

وفكر الأمر برأي صائب

وكرر الفكر بفهم ثاقب

قدم رجلا تارة وأخرى

أخر ينتحي الجدير الأحرى

مدبراً مقتضيات الحال

ملاحظاً للأمر في المآل

مفكراً مفهوم قول الشاعر

من أبلغ الشعر الشرود السائر

«البس لكل حالة لبوسها

إما نعيمها واما بوسها»

وبعد ما استشار واستخارا

واجتهد الأصلح افتكارا

ألهمه الله صلاح الناس

ودفع عاجل البلا والباس

فاختار للشقاق أن يموصه

إن دواء الشق ان تحوصه

(1) في ب وما لا

ص: 314

وإذا رأى العلاج في المسالمة

أرسل من لدنه للمكالمة

ثلاثة من الرجال الكمل

عليهم أقصى مدى المعول (1)

الكتحذا يومئذ والسابقا

وكاتب الديوان يتلو لا حقا

فابرموا الأمر بضرب لازب

وشيدوا الصلح برأي ثاقب

وأسسوا مباني المهادنة

ومهدوا قواعد المخادنة

وجملة الشروط والأركان

أن يرجع الشاه إلى الايران

يمكث ثم يرقب الأخبارا

من طرف الدولة انتظارا

فأغمدت صوارم الصفاح

فتحاً لباب الصلح والصلاح

وذاك بعد العزم والإياب

من الغري معهد الأحباب

مشهد مولانا الفتى علي

أخي النبي الطاهر الزكي

ثم إلى زيارة السبط الأجل

ريحانة الرسول ذي القدر الأجل (2)

وكلما كان من الاساورة

تنكف من هذي البلاد سائرة

وترجع الرباع والأصقاع

وتسلم البلاد والقلاع

والحمد لله عفى الغوائل

واندفع الشرور والطوائل

وانقمع البأس وحل الفرج

وانشعب الصدع وزال الحرج

له تعالى المنة الغراء

على العباد مثل ما يشاء

وبعد ذاك للوزير الحازم

ذي الرأي والتدبير والمكارم

فانه شاد أساس الصلح

برأيه مجاهداً للسنح

فقد غدا ذا منة على الملا

لدفعه بالتي مثل ذا البلا (3)

(1) في الاصل اقصى المدا

(2)

في الاصول ذو القدر

(3)

في الاصول مثل ذا لملا والمعنى لدفعه مثل ذا البلاء بالتى هي احسن

ص: 315

فيا له من ذي دهاء منتجب

من واضع الهناء موضع النقب (1)

لله دره أصاب المفصلا

وقطع المحز فيما فعلا

فأوله المديح أي كان لا

تعدل به فهو يضاهي المثلا

والحمد لله على نواله

على خفي اللطف من افضاله

مواهب منه توالت زائدة

«فالله بر والأيادي شاهدة»

ثم صلاة وسلام كملا

على الذي علا السماوات العلى

محمد خير الورى الرءوف

السيد الطهر الرضى العطوف

وآله الغر مصابيح الهدى

وصحبه ليوث حومة الردى

ما أغمدت قواضب الكفاح

بين الورى في السلم والصلاح

من المحب المخلص المباهي

يحب أهل الفضل عبد الله

للود الراسخ، والخلوص الشامخ: كتبت إليه بعد نهوضي من بغداد، ومفارقة تلك الطلول والعهاد. والوصول إلى الديار والوطن.

وقد أورث البعد أنواع الشوق والشجن. وليس قصدي حصر نعوته وأوصافه، وبيان مطويات معارفه ومكنونات ألطافه. ولكن الشوق إلى جنابه هو الذي دعاني. وأوقعني فيما لا أطيق فأبلاني، ولئلا انسب إلى العقوق، وتضيع الحقوق، قولي:

يقبل أرضاً أشرقت شمس علمها

وليس سواها مقصد ومرام

محب يرى بذل الدعاء فريضة

لمن هو حبر في العلوم همام

أديب حسيب فاضل متبحر

له فوق فرق الفرقدين مقام

هو البحر لولا أن مر مذاقه

هو البدر لولا أن فيه دوام (2)

(1) في الاصل: موضع التعب

(2)

كذا في الاصل

ص: 316

مطاف لأهل العلم في كل جانب

فمنهم جثوم حوله وقيام (1)

بأبوابه للسائلين تكاثر

بأعتابه للوافدين زحام

يلوح لنا من برجه كوكب الهدى

كبرق بليل قد علاه ظلام

له جل أيد يقصر المدح عندها

تباهي قباب السبع وهي عظام

فيا قبلة الآمال لا زلت قبلة

لكل لبيب مقتدى وأمام

يهيم إلى ذاك المقام صبابة

فتعلو عليه لوعة وضرام

لما فيه من شوق ملم وحرقة

يرى يوم بعد في المساءة عام

دهور تقضت في حماكم كساعة

تنبه قلبي أن ذاك منام

فيا لأويقات تقضت وليتها

تدوم ولكن ما لهن دوام

فهل تسمح الأقدار يوماً بعودة

وليس عليها معتب وملام

فأطرب في تلك المعاهد منشداً

لكل زمان غاية وتمام

أعيني ناما طال ما قد سهرتما

فهذا زمان الوصل فهو حرام

على ربعكم يا آل فخر تحية

مباركة من ربنا وسلام

الحمد لله الذي قصرت عن إدراك صنعه العقول، وحارت في فهم قدرته الكمل من البلغاء والفحول. والصلاة والسلام على البدر التمام، وقنديل الظلام، والنبي الأمي، والرسول التهامي. صاحب المجد الأتم، محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى آله وأصحابه الكرام، ما لاحت علائم الاعلام، في وجوه الأماثل، وناحت حمائم الاقلام، في غصون الأنامل.

وبعد فنخص بالدعاء المستجاب، والثناء المستطاب. جناب

(1) في ب: من كل جانب

ص: 317

يتيمة الدهر، غرة فرق العصر، واقف مواقف الفضائل، حاوي التجريد عن الدناءات والرذائل. كشاف مشكلات آثار المحققين، ومفتاح كشف رمز أنموذج المدققين. النهر الفائق المدرار، والبحر الرائق الزخار. إشارات شفاء المرام، تلميح التلويح في توضيح الكلام. من علم علمه المشهور، على عاتق الخافقين منشور، ذو البيان العذب الطلق. والروض اليانع العبق. من تفجر منه ينبوع الحكمة معينا. فنادى لسان الفضل عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. فهو الذي له في كل لفظ برء ساعة، وفي قلب كل عبارة براعة. السيد الاعظم، والملاذ الأفخم. النجيب الجليل، والحسيب الأصيل. الناشئ في حجر الشرف الباهر، المستخرج من أكرم العناصر. مولانا فرع شجرة خير الأوائل والأواخر. أبقى الله بحر افضاله في مزيد، وجعل طالع كماله النير السعيد. إنه القوي القدير العزيز الحميد.

ثم المعروض إلى ذلك المقام، كعبة مطاف الخاص والعام.

هو انه مضى برهة من الزمان، وهو من ورود المرسوم العالي الذي هو كالعقود واللآلي (1). وذلك مع خادمكم إلياس، فكان لنا به الفخر التام والمباهاة بين الناس. ولم أكن (2) أتجاسر على عرض الأحوال وتحرير الجواب، خشية عروض الملال لذلك الجناب. وحيث بحر الشوق تلاطمت أمواجه، وسحاب الغرام

(1) في الاصول اللؤالي.

(2)

في ب ولم كنت.

ص: 318

علا قتامه وعجاجه، أهديت إلى الحظوة العلية، والسدة السنية، هذا الكتاب، وأنا في أكمل حجاب. وهو كما قيل:

فزودني ما لم يقل بقاؤه

فزودته حمداً يدوم على الدهر

وكان ذلك كمن أرسل للجنان غض الزهر. والشمع للشمس والسمك للبحر.

أرسلت أسماكاً إلى

من مجده حل الفلك

أرأيت قبلي مهديا

أهدى إلي البحر سمك

وأنا أسأل الله تعالى ان يطفئ من البعد ضرام صداه، بمشاهدة ذلك الوجه الذي ماء بشره ونداه. ويحكم في عاتق الفراق، سيوف التداني والتلاق. فان العبد ما دام في هذه الآلام في أسر البعد، فكره محبوس في سجن الغرام والوجد. كيف لا والقلب مملوء بنوالك، وثوب الحياة لحمته وسداه منسوج بيد نعمائك.

فانك نور حدق الزمان، ونور حديقة الجنان.

فراجعني بما هو كالجواهر في أعناق المهاة والجآذر، وما هو كالحمائل، مصندلة الغلائل. بكلام كالمدام، يحير العقول والأوهام. يسكر سرا وجهرا، ويطرب مما يسحر، وإن من البيان لسحرا. يردد محاسن معارف ويرويها، وينشر فضائل عوارف ويطويها. تزهى بماء الجوانح والضلوع، ويعبق من مطاويها الفضل ويضوع. قد جمعت لحسن رأي، وأتت بعد لأي. وطفت زفرة شوق لاعج، وضجره توق هايج. وهي:

أما بعد حمد الله سبحانه على سوابغ نعمه وفضله، وشكره على

ص: 319

ذوارف إحسانه وطوله، والصلاة والسلام الاتمين الاشملين على حجته على خليقته، وخيرته من بريته، وعلى الميامين الأطهار من عترته، والطيبين الأخيار من صحابته.

فنهدي من التحيات الزكية ما يبسم بالبشر ثغوره، ويسطع في أفق المجد نوره. ونتحف من البركات النامية ما يتحلى بحلي الفضائل نحوره، ويشرح بصدق الوداد صدوره. إلى سامي جناب اللوذعي الامجد، واليلمعي الأرشد. الممتطي من المجد صهوة كل صعب وذلول. والمختطي من الفضائل بأوفر الحظ في الحزون والسهول. العاطس من الأنفة بأنف شامخ، والقائم من الشرف على قدم راسخ. صاحب الخلال المرضية، والملكات الملكية، ذي النورين الحجا والأدب، والمجدين العلم والحسب.

سليل الأرومة العمرية، وغرة العصابة الفاروقية، أعز الإخوان، وأكرم الخلان. الغاني بصفته عن تسميته. لا زال لعين العلم قرة، ولجبهة المجد والكرم غرة.

ثم إنا نعرب تارة أخرى عن الشوق المناجي، والغرام اللزام المداجي. متمثلين بأبيات الأمير الصنهاجي (1):

ليت شعري بأي أرض أقاموا

فعليهم من المحب السلام

لو تقضيت بعض شوقي وتوقي

نفد الحظ دونه والكلام

(1) لعله الامير تميم بن باديس بن المنصور ابو يحيى الصنهاجي من امراء الدولة الصنهاجية بافريقية ولد سنة اثنين وعشرين واربعمائة. وتولى الملك بعد وفاة ابيه سنة اربع وخمسين واربعمائة. كان شجاعا ذكيا، له عناية بالادب، ينظم الشعر الحسن. وله ديوان شعر كبير وتوفي سنة الاولى بعد الخمسمائة.

النجوم الزاهرة: 5: 198. ابن خلدون 6: 159. ابن خلكان 1: 98. الاعلام 2: 71 وفيه مصادر اخرى

ص: 320

غير أني كتمته وهو باد

مثلما تكتم البروق الغمام

كلما صنته اكتتاماً بقلبي

شف عن محض سره الاكتتام

فهو كالراح في الزجاج وهل يخفى على اللحظ في الزجاج المرام لك مني محبة الطبع والفطرة والطبع ليس فيه الضرام

ثم إنه أن تفضل الجناب السامي، بالفحص عن جلية حال المحب الظامي فنحمد إليك الباري عز شأنه، وعظم سلطانه.

على أن غصن الحياة غض وريق. وروض الوجود بماء النماء مباكر أنيق. مراعين لما تمهد من مؤكدات الوداد، موفين حق ما توطد من الحب والاتحاد. بحيث أنا لم نحل ولا نحول عن العهد وان حالت الدراري عن محارها، ولم نزل ولا نزول وان زالت الرواسي عن مقارها. وحسبي في ذلك علمك وضميرك شاهدين لا تجرح عدالتهما، ولا تخشى جهالتهما. وبينما نحن مشرئبون إلى حقيقة أحوالكم، نستنطق المعربة والعجماء في سؤالكم. إذ ورد الكتاب النامي، والمشرف السامي. فكان شأنه كما قال حبيب بن اوس الطائي في حبيبه المتنائي.

لقد جلّى كتابك كل بث

رمى فأصاب شاكلة الرميّ

فضضت ختامه فتبلجت لي

غرائبه عن الخبر الجلي

وكان أغض في عيني وأندى

على كبدي من الزهر الجني

وأحسن موقعاً مني وعندي

من البشرى أتت بعد النعي

وضمن صدره ما لم تضمن

صدور الغانيات من الحلي

فكائن فيه من معنى لطيف

وكائن فيه من لفظ بهي

ص: 321

فيا ثلج الفؤاد وكان رصفا

ويا شبعي برونقه ورييّ

فابتدرت إليه كما يتعاطى الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفض الكتاب المختوم، فتضوع منه ارج المحبة والولاء، ما أحيا ميت الأحياء. فكان مشتملا من النظم على ما يشابه العذب الزلال، ومن النثر على ما يشاكه السحر الحلال. نظم كاللؤلؤ والطف، ونثر كالمنثور وأترف. نعم: وبلاغة تخرس الفصحاء. وفصاحة تبكم السن البلغاء. ولعمري أنه كان أحلى (1) في المذاق من خطب ابن نباتة ومنشآته، وأغلى (2) من برود حاكتها أقلام الحريري (3) في مقاماته. وأهز لأعطاف الانس من مستملحات الأعشى في خمرياته. وأحلى من زواهر أبي الطيب في بدرياته. فاستفدت منه للناظر نورا، وللقلب بهجة وسرورا.

فكان الماء للغليل، والشفاء للعليل فأصبح لله دره انفس طالع، وأحن متطلع وأحسن واقع، وأجل متوقع. فلم أزل أكرره وأطويه وأنشره، أحاديث نجد لا تمل بتكرار. حتى استوفيت منه الحظ

(1) في الاصل: احلا

(2)

في الاصول: اغلا

(3)

هو ابو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري. ولد بقرية الشأن قرب البصرة في حدود سنة ست واربعين واربعمائة كان عالما باللغة والادب. وهو صاحب المقامات المشهورة وصاحب «درة الغواص في اوهام الخواص» وغيرها وله ديوان شعر. معجم الادباء 16: 261 ووفيات الاعيان 3/ 227 وشذرات الذهب 4/ 50 وانباه الرواة 3/ 23 والنجوم الزاهرة 5/ 225، وهدية العارفين 1/ 827 والكنى والالقاب 2/ 163 وبغية الوعاة 2/ 257 والاعلام. ومعجم المطبوعات العربية.

ص: 322

الأوفى، ونلت القسط الأوفر الاسنى. ثم أنك أعربت عن صفاء ودادك، ونصوع اعتقادك. فما أخبرت إلا عما (1) جزم به لبي، وشهد عليه خلبي وقلبي. وما أراك زادك الله إحسانا، إلا أنك حصلت حاصلا ونبهت يقظانا. وقد شكوت ألم الفراق، وبثثت كامن الأشواق فكأنما أعربت عن قلبي، وتلوت آية الحب من قرآن صدري. ولكن ما الحيلة يا ابن أبي، إذ شكوت إلى من هو أشكى منك، وتوجعت إلى من هو اشد توجعا منك. فلله أنت لعمر أبيك من شائق مشوق، ووامق موموق. ومع ذلك فلست بأشوق مني إليك، ولا بأوجد وأحنى مني عليك. وما أراني إلا كما يقول أبو الطيب المتنبي (2):

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

نسأل الله سبحانه من عميم فضله، وشامل لطفه وطوله، أن يزيح غياهب الفراق، ويبرد بسلسال التلاق غلة الأشواق. ويسهل منه للوصال سبيلا ليس فيه مطمع. ويجعل للوصال ذريعة لا تتوقع.

إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

ثم لا يخفى على الرأي الشريف. أن المحب منذ مدة اعترته بعض العوارض الجسمانية علاوة على ما تعهدون من تراكم العوائق، وتزاحم الموانع. فكان داعيا إلى تأخير جواب المشرفة الكريمة،

(1) في الاصل على ما جزم

(2)

انظر حاشية 57 ص/ 111

ص: 323

حتى حصل بعض الابلال والانتعاش ببركة توجهاتكم المتيمنة، وأمكنت النهزة (1)، وحصلت الفرصة. لا لتنميق هذه الحروف.

فلا زلتم في فضل من الرحمن واف. ومن سوابغ آلائه في طول ضاف. فإنه المأمول لكل فضل وخير. والمعد لكل واقعة وضير.

فلما اطلعت على مضمون الكتاب ووقفت على غرابة الجواب، وتفكرت في رقيق معانيه المطوية، ووصلت إلى أنيق مبانيه البهية، وقد أصبح في الأدب عاقد كتائب، وقائد جنائب، راجعته وأنا معترف بفضله الغزير، وإن اللسان في مدحه لقصير، بقولي:

أغرة وجه الدهر يا أوحد العصر

وأكمل أهل الفضل والنظم والنثر

ومن فاق سحباناً وقساً فصاحة

ومن هو أبهى في الرياض من الزهر

نثرت عقوداً كاللآلي وإنما

هي الدر فاقت في سناها على البدر (2)

وضمنت أعجاز الصدور بمعجز

ووشحت صدر العجز في مثمن الدر

وأوقعت في تلك الرياض محاسناً

رقيقة معنى في التخيل كالسحر

أدرت سلافاً في البلاغة ساميا

وكللت هامات الفصاحة بالقطر

(1) في الاصل: النزهة

(2)

في الاصول: اللؤالى

ص: 324

ملكت عنان النظم والنثر جملة

فأنت مليك الفضل يا طيب النشر

قدحت زناداً للفضائل مورياً

وأظهرت فضلا قد يجل عن الحصر

فمعذرة مني إليك فإنني

من العجز والتقصير أنسب للفخر

فلا زلت في أوج الكمال مبجلا

محجاً لأهل العلم مستودع السر

ولا برحت آيات أبياتك التي

تسامت وأبيات الأعادي على الكسر

فدمت وحيداً في الفضائل مفرداً

وأهلا لمن وافى ركابك بالشعر

أهدي من التحيات ما يعطر الصبا بطيب نفحه العاطر، وينعش العليل سلسبيل نمائه المتقاطر. إلى كعبة الفضائل ومقام الأرب، التي التزمت الرواة مديحها فحبذا ذاك الالتزام لمديح ذلك النسب.

مشكاة العلم والكمال، ومصباح المعارف والافضال. بدر المجد الذي اتخذ من الكمال هالة، فأنار بأنواع الأدب على كل حالة.

وهو كف الندى ووكف الكرم. وسحاب سماء الفصاحة وغيث الحكم. فريد فضل ومعارف، ووحيد ذات ولطائف. تشعبت مكارمه أنهارا، وسقت رياض الأدب فأثمرت أنجما وأقمارا.

فهو السيد الذي جبلت طينته بماء السيادة، وغرست نبعته في

ص: 325

ساحة الشرف والسعادة. المنتمي لأشرف القبائل من الأمم، وهل يخفى البدر المنير في حالك الظلم، أو هل يخفى النار على علم.

حرس الله تلك الذات، وحباها بأنواع المسرات، وجعل بدرها بأنواع المكارم مشرقا، وغصن حياته بأصناف الكمال مورقا.

ما لفظت الأقلام، بديع النظام، مدى الشهور والأعوام.

ثم المعروض إليك، أسبغ الله نعمه عليك. أن المخلص بينما هو متطلع لإشراق بدر ذلك المطلع المنير، ومتشوق إلى هطل سحاب ذلك الجناب المطير. إذ بزغت شمس ذلك السماء فأنارت وأضاءت المعالم بأنوارها حيث دارت، وهب عرف ذلك الكتاب وطاب، وأتى بأنواع المسرات من لذيذ الخطاب. فيا له من در منظوم ورحيق مختوم. اذا نظرت الى رياضه الرائقة، وأساليبه الفائقة، علمت أنه بحر عجاج، متلاطم الأمواج. قد قذف الدر على الساحل، وأتى المتأخر بما لم تستطعه الأوائل. فإذا تفكرت في نسجه ونظامه، خلت أن الدر يزهو في أكمامه. فلله در طبعه الشريف. إذ هو لأنواع الفضائل رديف. فلعمري هو المقدم وغيره التالي، وجنابه أوج البلاغة وسماء المعالي لواردت لها القياس خشيت أن يكون مع الفارق، فكيف لا وهو نتيجة المغارب والمشارق.

فلا يخطر ببال مليك الادب، وحجة لسان العجم والعرب، ان المخلص ممن تصدى للجواب، وانسلك بسمط أهل (1) هذا

(1) في الاصل: بسمط هذا الباب

ص: 326

الباب. بل كنتم قد ذيلتم الكتاب المنيف، بطلب حاشية الفرائض الواقعة على السيد الشريف (1). لتكميل ما نقص منها عند بعض أصدقائكم، ولتعيدوها تارة أخرى. فرأينا المناسب أن ننسخها ونرسلها إلى حضرتكم عسى أن تكون بالقبول أليق وأحرى.

فكان كما رمنا. فأرسلناها مع هذه العريضة. وليعلم المولى أنه مذكور في كل فريضة.

ثم لما اشتكيت من البعد طولا، ولم أحصل من المشوق الملم سولا، وأبصرت للجوى امتدادا، ولم أر للقاء ميعادا. ولدي شوق يطير إليه مطارا، ولا يرى دون فنائه استقرارا. ولم أجد من برحائه إلا غليلا، ولم أر للقائه طريقة وسبيلا.

كتبت إليه كتابا ينبئ عن الجوى، ويخبر عن النوى. وهو:

ركائب أسما بالحطيم وزمزم

تكلم قلب المستهام المتيم

وحي لها حيى الحياء كأنه

صحائف نور تحت وشي وعندم

سقاني سلاف الوجد ربع تهامة

ونجد وسلع والعقيق وجرثم

بها هام قلبي لا بدعد وزينب

وفيها غرامي لا بهند ومريم

أيا ربة الإحسان والحسن والبها

سلوت وطرفي مازج الدمع بالدم

أما ترحمين الصب قد صب أدمعا

على صحن خد مسجما بعد مسجم

أبى الحب أن أهوى سواكم وكلما

تذكرتكم حنت ضلوعي وأعظمي (2)

(1) في ب السيد شريف

(2)

في الاصل: ابا الحب

ص: 327

جلبت إلى طرفي السقام وطالما

جلبت الهوى لكن على غير مجرم

أبيت لكي أحيا بطرف خيالها

وأرقد ولهاناً لعهد التنعم

ولست قحوماً حيث لم أدرك العلا

ولا أنا ممن سالم الناس للفم

أطارحها خير الكلام لتنثني

تطارحني ارم الزحام بأعجمي

فإني باهمام لفرط صبابتي

تلجلج نطقي للحديث المنمنم

أميل لكتمان الهيام كواتن

ويفضحني وجدي كسجم ولوم (1)

فاذكر أوقاتا مضت بربوعها

وأندب ما قد مر منها بسمسم (2)

فلم أنثن عنها لبعدي وطالما

أحاول وصلا كان كالعظم والدم

فو الله ما أسلو هواها ولم أمل

إلى منجد غير الأديب المعظم

كريم له جل المكارم ثابت

(1) الواتن: الشىء الثابت الدائم في مكانه، والسجم السيلان والمقطر قليلا أو كثيرا «القاموس» .

(2)

سمسم رملة» القاموس»

ص: 328

سريع لنيل المجد أكرم هيظم (1)

له جل أخلاق تعاظم قدرها

فما حاتم في الجود من قبل فاعلم

همام وحبر ماجد ذو مآثر

تبسم عن فضل ومجد مسلم

غمام يسح الجود في كل وجهة

ووبل سقى روض الكمال المنعم

أديب جليل فاضل متفضل

إلى فضله كل الفضائل تنتمي

تراه كبحر إن تيممت نحوه

حوى كرم التكريم دون التكرم

بأبهج ملقى عند بذل وجوده

وأحسن وجه مزهر بالتبسم (2)

فيا فاضلا أضحت مفاخر فضله

يفاخر فيها بين عبس وجرهم

أسأت بتقصيري وما كنت جاهلا

ولا أنا ممن باع وداً بدرهم

فأي أياد تختفي ووسامها

على جبهة الدنيا كغرة أدهم

ولكنما التقصير خوف إطالة

وما أنا إن أطنبت فيك بمجرم

(1) هيظم كذا في الاصول ولم نعثر له على معنى، ولعله تصحيف هيقم وهو البحر يقال بحر هيقم وهيقم واسع بعيد القعر «انظر لسان العرب»

(2)

في الاصول: بابهج ملقا.

ص: 329

ولولا أياديك التي سلفت لنا

لكان عسيراً في سواك تكلمي

فلا زلت في أمن ومجد ورفعة

لا كسب فخراً من قريضي المنظم

مولاي: أما القرطاس فكالأشواق تأجج ضرامها، وتبلج غرامها، وكاد أن يكون عذابها اليم. لما فاح إلي شذاكم، وما بعد العشية من شميم، فانتشق مجمر الطبع عنبرا وندا. ونثر قضيب اليراع على غدير الطروس أقاحا ووردا. وعرض الأشواق بما هو يقتضي البعاد، والحر لا يستعبد بغير الوداد. وإلا فشوقي إليك كثير وهيامي فيك لا يقبل النظير. ومع هذا فلا ينكر من الطبائع جمودها، ومن نيران الذكاء خمودها. ولسان التقصير كما قيل قصير. وكيف لا والفصاحة لا تقدم غير ناديك، والفضائل لا تدفق إلا من أياديك.

ومن تكلف فوق ما هو عليه، افتضح بما اكتسبته يديه (1). فالله يبقيك، ومن كل سوء يقيك.

ولما كان له علي حق مشهور، وكرم مدى الدهور مذكور، وامتدت أيام البعاد، وكاد أن ينقطع حبل الاتحاد، جددت عقود الصحبة، بكتاب يخبر عن الكمد، والشوق الذي هو كائن في الخلد. وهو:

الجيرة أخذت فؤادي بالمسير

بالند فاح نسيمها أم بالعبير

(1) كذا في الاصول وهو خطأ وصوابه يداه ولكن السجعة لا تستقيم الا بالخطأ.

ص: 330

أم تلك أسما قد سمت فضياؤها

للشمس يخجل في السناء وللبدور

أم لحظها كمهند وجبينها

كالصبح ضاء بلعلع أم في الثغور

فتقاعست تلك الديار وأهلها

بالرقمتين منازل في روض نور

فغدوت اكشف عن أثافي ربعهم

قفر المراقب لم أجد غير النسور

رحلت وقد وعدت بنيل وصالها

فأنا على تلك العهود إلى الظهور

فإلى متى أنا في الكآبة والعنا

والى متى ذا البعد من ريم الخدور

هجرت وأودت بالبعاد وأوقدت

وسط الفؤاد تلهبا وقد الهجير

ومنها في التخلص:

أو أن أوادد من سواها في الورى

إلا الذي قد ساد في كل الأمور

الواحد السامي الذي من قد غدا

بالفرد يعرف بالورى لا بالنظير

عين الفضائل والفواضل والندى

بحر المعارف منبع العلم الغزير (1)

(1) في الاصول: والندا

ص: 331

وبل سقى روض الكمال وأندى أغ

صان النوال وديمة الجود المطير

خال يسح ولا يشح بجوده

فمذاقه في الورد كالعذب النمير

ومنها:

غيث تساقط فضله بمكارم

فرياضه تزهو بساجعة الهدير

كم من غدير فضائل في كفه

بالكف تسمع صوت خاشعة الخرير

ومنها:

فهو الذي قد فاق من في عصره

حتى الأوائل وهو في الزمن الأخير

واها لأيام مضت في قربه

في القلب يوقد نارها أم في الضمير (1)

لا زال بالنعماء يسمو والعلا

ينمو على مر الأهلة والدهور

ما رنحت ريح الصبا بنسيمها

وتعطرت دمن الفلاة إلى النشور

سيدي: شوقي إليك لا يحكيه كتاب، ولا يستوفيه خطاب، ولا يمليه قلم، ولا تستمليه حكم. إن قلت أنا في الهيام عذري أو عامري، فما للرقاد لم يألف عيني ولم يأتلف بناظري.

(1) في ب بعد هذا البيت: ومنها

ص: 332

إن قيل من واحد في الشوق ذو وله

لاستعجلت عبرتي حتى أقول أنا

فكيف لا أتواجد عليك، وعين الكمال جارية لديك، وكيف لا أحن إليك ومنابع الفضائل تدفق بين يديك. بل كيف لا أهيم فيك، والدراري تتناثر من فيك. أنت أوحد الزمان بالحسب والكمال، ومفرد الأوان بالرقب والنوال. أما أياديك فلم تزل رائقة راقية، وأما معاليك فهي من أجدادك معجزة باقية.

وأرى الفصاحة جلها وقليلها

في راحتيك وفي يديك وفيك

إن قلت أنت بديع زمانه فما للبيان يتدفق من أياديك، وألوية البلاغة والبراعة قد انعقدت في أعلام ناديك. أو قلت أنت البدر المنير الزاهر فما لشمس الفصاحة بازغة من مطلع ذلك الجناب الفاخر.

إذا ورد الشتاء فأنت شمس

وإن ورد المصيف فأنت ظل

صرف الله الصروف عن أنديتك وحماها، وآمن حريمها من الاغيار وحماها. وكيف لا ألتزم الدعاء على الدوام، وأنت كعبة لمطاف الخاص والعام.

وما علمت لساني كلَّ عن صفة

ولا علمتك إلا فوق ما أصف

وكيف لا وطبعك قد جبل بماء الأدب والكمال، ولسانك هو

ص: 333

الآية الكبرى في نظم العقود واللآل (1).

وكيف لا وأبو الافضال أنت ومن

فاق الانام بسامي البذل والكرم

في الله ما أعلاك، وفي المذاق ما أحلاك، فما السيد السند إلا مثلك شريف، والعلامة الثاني بالنسبة إليك ظريف. وأبو الطيب والبديع أشعة مطلع ذلك الأفق المريع، فعليك يا ابن بنت رسول الله تعقد الخناصر. وأنت سراج محافل الأوائل والاواخر، فلا زلت تسحب ذيل المعارف والإجلال، ما تعاقبت الأيام والليال، ولا برحت كعبة علم ونوال، ما طفقت بحور النظم بنقس اللآل (2).

ثم لما طال البعد وامتد، وطريق الوصول إلى ناديه منسد. وقد كثر الصدود، على خله الودود. وبلغت البعاد مداها، ووصلت الأشواق إلى منتهاها، وظهرت إمارات الانقطاع على غير مقتضاها فتيامنت ناديه، لاستقطار ماء الحياة من مزنة أياديه. فأرسلت إليه هذه الأرجوزة، والمنظومة السابغة الوجيزة. وهي:

نهدي سلاماً طيب الأنفاس

يحكي ضياء البدر والنبراس

معنبراً ممسكاً مطيبا

مكللا مهذباً مذهبا

محفوفة أطراقة بالزهر

منقطاً مطوقاً بالدر

قد صافحته بلة الغمام

ما بين روض مسفر اللثام

فهو الكمال والمعالي والمنى

والأمن واليمن وأيام الهنا (3)

(1) في الاصول: الؤال

(2)

في الاصول: اللؤال

(3)

في الاصل: المعالي والمنا

ص: 334

لكعبة الفضل بلا اشتباه

الفاضل المجيد عبد الله

سلالة الرسول طه المصطفى

«وآله المستكملين الشرفا»

منابع العلوم والمعالي

معادن السماح والنوال

فهو إمام الفضل والكياسة

وصاحب الكمال والرياسة

ونخبة النخبة في فن الأدب

وزبدة الزبدة حبر منتخب

إن قام يعلو منبر الفصاحة

خطيبها المعروف بالسماحة

أو أن رقت أنمله أقلامه

فالواحد الفرد العلا العلامه

حبر الورى بالفضل قد تتوجا

ممجدا مطوقا مدمجا

فهو مناه ومنى مناه

والفضل فيه لا إلى سواه

ضياؤه المشرق بدر التم

وحقه بالبدر أن تسمي

وفضله ينمو على فضل السحب

ومجده أورق أغصان القضب

فواضل له إلينا عايده

«فالله بر والأيادي شاهده»

وكم له من نعم مفصله

كأنه بالرزق قد تكفلا

وكم له من الأيادي والكرم

«ومن يشابه أبه فما ظلم»

يا حبذا من ضيغم ومن أسد

وحبذا من والد ومن ولد

فهو الذي رقى المعالي والكرم

يعطي إلى السيف مناه والقلم

سام العلا وجاءها صبيا

بفضله من مهده مهديا

فانزل حماه واطلب العطايا

واستمطر الجود إلى الركايا

ومنها:

وإن أقل ما فيه من جميل

من جمل تغني عن التفصيل

ص: 335

اطلب فيها البحر للمداد

والجود يعلوها مع الأيادي

هذا وما يحتاج للإطالة

والبدر قد يعرف لا محالة

وكيف لا وأنت في ذا الجيل

ملكت للافضال والتفضيل

فدم بعز ثابت الأصول

وكن بسعد لازم الحصول

وبعد يا ذا الفضل والأيادي

من عرض شوق ملأ البوادي

أتى الكتاب يا إمام العصر

يا واحد الفخر وكل الفخر

لثمته في طلب الإجلال

فانتثرت بفضه اللآلي (1)

فارتدت الأعين منه مبصره

لكونه من الكرام البرره

ومنها لكون كتابه كان مصحوبا مع هدية.

أكرم بها من صلة وعايده

لكونها على الأيادي زائدة

نعم الكتاب بالمعاني الباهره

وما حواه من فصول زاهره

قد نظمته رقة المعاني

يغني عن الطنبور والمغاني

كواكب قد جمعت كما وقع

كأنما البدر عليها قد طلع

فكم وكم قد نظمت لحسن

ابن النباتي عليها يثني (2)

حكمت سيف الفضل في الرقاب

وحزت كل الفضل كالسحاب

(1) في الاصول: اللوالى.

(2)

لعله يريد بابن النباتي ابن نباته السعدي ابو يحى عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة الفارقي المتوفى سنة اربع وسبعين وثلاثمائة ترجمته في وفيات الاعيان 1/ 256 وانظر الاعلام وفيه مصادر اخرى.

او يريد ابن نباته المصري جمال الدين محمد بن محمد بن محمد الشاعر المشهور ويرجع نسبه الى عبد الرحيم بن نباتة. وقد توفي سنه ثمان وستين وسبعمائة. ترجمته في الدرر الكامنة وطبقات السبكي 6/ 31 وحسن المحاضره 1/ 273 وانظر الاعلام ففيه مصادر اخرى.

ص: 336

وشيتها كصنعة الحرير

وفقت فيها ابن اوس والحريري (1)

وكيف لا وأنت ابن الفخر

والسر في الأبناء سر يسري

ومنها:

وأن تجد بالعام في رسالة

تغني عن البدور والغزالة

وإنما الكتاب بعد الياس

يقابل الروح مع الأنفاس

فدم بعز وبسعد تالي

تحاول الكمال والمعالي

ما رنحت بوشيها الأقلام

محبر الأوراق والسلام

ولما كان هذا السيد كما ذكرنا كاتب الإنشاء بمدينة بغداد، وقد ملأ بسوانح معارفه هذه الأقطار والبلاد. وساد بكتابته أهل الفضائل. حتى طوى ذكر العماد (2)، وأنسى بمنشآته القاضي الفاضل (3) فلنذكر نبذة من منشآته التي تروق، وعلى أمثالها من المراسلات تزهو وتفوق.

منها ما كتبه من طرف والي بغداد دار السلام ذلك الوزير الضرغام حامي العباد، قامع آثار الفساد، الوزير الخطير، والوكيل المطلق المشير، نتيجة الوكلاء، فريدة الوزراء، صاحب البأس القامع، والمجد الجامع، والعطاء الواسع والبذل والنوال، والجود والكمال، الجليل الشأن، زبدة وزراء آل عثمان، حضرة الأكرم الأفخم الأعظم سليمان باشا، يسر الله له ما يشا،

(1) يريد بابن اوس حبيب بن أوس الطائي ابا تمام الشاعر المشهور المتوفى سنة 231 هـ وبالحريري القاسم بن علي صاحب المقامات وقد ترجمته في حاشية ص 88.

(2)

يريد بالعماد محمد بن صفي الدين محمد عماد الدين المشهور بالعماد الاصبهاني ولد باصبهان وتوفي بدمشق سنة سبع وتسعين وخمسمائة ترجمته في وفيات الاعيان 1/ 97 وانظر الاعلام 7/ 254 ففيه مصادر أخرى. ومعجم المطبوعات العربية.

(3)

هو عبد الرحيم بن علي البيساني، كان من وزراء السلطان صلاح الدين وتوفي سنة ست وتسعين*

ص: 337

إلى شريف مكة وحامي البيت، الذي لم يدخله عسى وليت.

نتيجة السلف الأكارم، وخلاصة الخلف الأعاظم سيف السعد المسلول، الذي لم يعتره فلول. الفريد الواحد، حضرة الشريف مساعد (1) تهنئة له في الشرافة، وتبريكا له على هذه الانافة. وتعزية له بالشريف المفقود والظريف المحمود، المرحوم المغفور الشريف مسعود. وقد جمع بين التعزية والهناء، وأتى بما يبهر ألسن الفصحاء، فأغرب، وبكل الوجوه أعجب وهي:

غب تحيات مترادفة السعود، تغادي ريح الصبا وتراوحه، وغرر دعوات متواصفة العقود، تصابح زهر الربى وتصافحه.

وبدائع تسليمات تبدو لوامع المودة من سنا أنوارها، وتنساب جداول الإخلاص في رياض أزهارها. يخص بها سامي فرع الشجرة المباركة الزكية، غرة الناصية الحسنية قطب الدائرة العلية العلوية. خلاصة السلسلة البهية النبوية، سلالة العصابة الكريمة المصطفوية، نقاوة السادة الميامين الهاشمية جمال الأشراف الاماجد الفاطمية، ذي الحسب الظاهر، والنسب الطاهر حائز القدح المعلى في حلبة المفاخر والمحامد، أعني به الشريف مساعد، أجد الله تعالى ميامن شرفه وسعده، وأعاد على الإسلام والمسلمين بركات أبيه وجده.

(*) وخمسمائة ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 284، وخريدة القصر قسم شعراء مصر 1/ 35 والنجوم الزاهرة 6/ 156 والاعلام 4/ 121 وفيه مصادر اخرى.

(1)

الشريف مساعد بن الشريف مسعود بن إدريس بن ابي نمي الشريف تولى امارة مكة بعد وفاة والده الشريف مسعود سنة اربعين ومائة والف وقد ترجم المحبي لابيه الشريف مسعود في خلاصة الاثر 4/ 361.

ص: 338

وبعد فالذي ينهى إلى سامي، جنابه الكريم النامي، هو أنه بمقتضى ما ثبت من طريف الإخلاص وتليده، ورسخ من موروث الوداد وجديده، لم نبرح مترقبين الأخبار السارة الشريفة الشريفية. ونستنشق فوائح الفتوحات المكية، إذ ورد صحبة الحاج أحمد بن علي البغدادي كتاب كريم، أبهى من عقد الدر النظيم وأزهى من قطاف الروض الوسيم. فاجتنينا من أفنانه رطبا جنيا، واقتطفنا من روضه زهراً جنياً. وكان مما لوح في مطاويه، حسب ما كان قرع المسامع من روائع فحاويه، انه سبحانه قضى في النفس المسعودة الزكية، بما هو حكمه في كافة البرية فلبت داعي الله راضية مرضية، دارجة إلى دار الكرامة العلية.

وجبر الله جل ثناؤه تلك الرزية، بأن سد مكانه بالذات الكريمة السنية، على نحو قول القائل.

نجوم سماء كلما غاب كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه (1)

فنحن في ذلك في كيفية ممتزجة في أحزان ونشاط، متوسطة بين انقباض وانبساط كما قال من قال:

فالعين باكية والسن ضاحكة

فنحن في مأتم منها وفي عرس

ولعمر أبيك، لولا أن الله، عم نواله، سد ثلمة المصاب، وخلة الاكتئاب، بالجناب الأمجد النقاب، والبحر الغطمطم

(1) في الاصول: بدى كوكب.

ص: 339

العباب، أطال الله بقاه، وحفظ على الدين والدنيا شرفه وسناه، لعظم الخطب في النعي، وفقد ذلك الشاب المضي. غير أن النعمة بحمد الله تعالى فيما بقي ضافية اللباس، نامية الغراس. فروح الله روح الماضي، وجعل هذا الخلف الباقي، وصيّر التعزية بعده له لا به، والخلف عليه لا منه، والعوض فيه لا عنه، وألهمه فيما عراه راحة الصبر. وبارك له فيما أولاه، وعرفه فاتحة السعد والنصر. وأيد معاقد العز والشرف بوجوده، وشيد أركان السعود ببره وجوده.

هذا وكان من جملة ما احتوت عليه صحيفة التواد، التوصية على الرجل المذكور من أهل بغداد. فحيث أن الأمجد الأرفع هو الشفيع وابن الشفيع المشفع، المحكم في المال، المساعف في مساعدة الآمال، ساعدنا الرجل المذكور تكرمة للخاطر العاطر وانلناه ما كان يتمناه. ولأجل تهنية المقام الأسنى، وتيريك الرتبة السنية الحسنى، نظمنا كتاب المحبة والتواد، في سلك الإخلاص والاتحاد، فحين الوصول بعون الله سبحانه والاطلاع، على ما تحويه الحشى والاضلاع، من خالص المودة وصادق الصداقة والمحبة، فالمرجو المؤمل، ذكر المحب في تضاعيف الدعوات المستجابة في تلك المعاهد المباركة، والتشمير عن ساعد الهمة في أخبار عافيتكم السارة والأنباء الشريفة المبهجة الدارة. ولا زال بيت عزكم حرما آمنا لكل مستجير عائذ. وحرم شرفكم مسعى يطوف به كل مستظل وعائذ.

ص: 340

وقد جمع هذا السيد المعروف بالبسالة فيما ذكره ووشاه في هذه الرسالة، بين التهنية والتعزية، وتفنن في أحسن أنواع الافتنان (1).

إلا أن أهل البديع، قرروا في نوع الافتنان أن الجمع بين التهنية والتعزية في النظم اصعب مسلكا لشدة التناقض بينهما. واستشهدوا عليه بقول بعض الشعراء (2) ليزيد بن معاوية، لما دفن أباه وجلس للتعزية قوله:

اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة

واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا

لا رزء أصبح في الإسلام نعلمه

كما رزئت ولا عقبى كعقباكا

وقال زكي الدين عبد العظيم بن أبي الإصبع (3) في كتابه المسمى بتحرير التحبير: أحسن شعر افتن فيه صاحبه بالجمع بين التهنية والتعزية قول أبي نواس لأبي العباس الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد

(1) الافتنان هو الاتيان بفنين مختلفين من فنون الكلام في بيت واحد فاكثر، مثل النسيب والحماسة، والمدح والهجو، والتهنية والتعزية. ولا يختص بالنظم بل يكون في النثر ايضا.

(2)

هو عبد الله بن همام السلولي، من بني مرة بن صعصعة، شاعر اسلامي، ادرك معاوية وبقي الى ايام سليمان بن عبد الملك او بعده، وقيل انه توفي سنة مائة للهجرة او نحو ذلك. انظر: الشعر والشعراء ص 544 والكامل للمبرد 1269 وسط اللآلى 683.

(3)

هو ابو محمد زكي الدين عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد المصري المعروف بابن أبي الاصبع ولد بمصر سنة خمس وثمانين وخمسمائة وقيل سنة تسع وثمانين وخمسمائة. تعلم في مصر وكان اشتغاله بالادب والشعر والنحو ثم سافر الى الشام وصحب جماعة من الملوك والرؤساء. وتوفي سنة اربع وخمسين وستمائة. الف في البديع واعجاز القرآن كتاب «تحرير التحبير» و «بديع القرآن» نشرهما الدكتور حفني محمد شرف وله كتب اخرى لم تنشر. انظر مقدمتي الكتابين المذكورين.

ص: 341

ويهنيه بالأمين (1):

تعز أبا العباس عن خير هالك

بأكرم حي كان أو هو كائن

حوادث أيام تدور صروفها

فهن مساو مرة ومحاسن

وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى

فلا أنت مغبون ولا أنت غابن

ولقد أتى ابن نباتة (2) بالبدائع التي ما سبقه أحد إليها، في تعزية (3) الملك المؤيد، صاحب حماه (4)، وتهنية ولده الأفضل بالسلطنة بعد أبيه وهي:

هناء محا ذاك العزاء المقدما

فما عبس المحزون حتى تبسما

ثغور ابتسام في ثغور مدامع

شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما

(1) في الاصلين: قول ابي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنيه بالمأمون وهو خطأ فالفضل بن الربيع يكنى ابا العباس وقد وزر للرشيد ثم لابنه الأمين وقام بأمره.

(2)

انظر حاشية ص 144.

(3)

استعمل لفظة تعزية بالمعنى الذي يستعمله العامة في العراق ويريدون به العزاء حيث تنشد القصائد في تأبين الميت.

(4)

هو اسماعيل بن علي بن محمود بن عمر بن شاهنشاه ابن ايوب الملك المؤيد ابو الفداء ولد سنة اثنتين وسبعين وستمائة قرأ التاريخ والادب واصول الدين، والفلسفة والطب. وعلم الهيئة، ونظم الشعر وهو صاحب كتاب المختصر في اخبار البشر ويعرف بتاريخ ابي الفداء، وكان سلطانا مستقلا في حماة وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. الدرر الكامنة 1: 371 والبداية والنهاية 4: 158 وفوات الوفيات 2: 16 والنجوم الزاهرة 9: 292 والاعلام 1: 317 وفيه مصادر اخرى.

ص: 342

فردّ مجاري الدمع والبشر واضح

كوابل غيث في ضحى الشمس قد سما

سقى الغيث منا تربة الملك الذي

عهدنا سجاياه أبر واكرما

ودامت يد النعما على الملك الذي

تدانت به الدنيا وعزّ به الحمى

مليكان هذا قد هوى لضريحه

برغمي وهذا للأسرّة قدما

ودوحة أصل شادوي تكافأت

فغصن ذوى منها وآخر قد نما

فقدنا لأنماق البرية مالكا

وشمنا لأنواع الجميل متمما

كأن ديار الملك غاب إذا انقضى

له ضيغم أنشأ له الدهر ضيغما

كأن عماد الدين غير مقوض

وقد قمت يا أزكى الأنام وأحزما

فإن يك من أيوب نجم قد انقضى

فقد اطلعت أوصافك الغر أنجما

وإن تك أيام المؤيد قد خلت

فقد جددت علياك وقتاً وموسما

هو الغيث ولى بالهناء مشبعا

وابقاك بحراً بالمواهب منعما

ص: 343

وكانت وفاة الملك المؤيد في شهر محرم الحرام فقال ولم نخرج عما فيه:

بل انبسطت فيها التهاني وأنشأت

ربيع الهنا حتى نسينا المحرما

ص: 344