الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراد العمري
(1)
وأما الجد القريب مراد، صاحب الحيثية والاستعداد. فهو البحر الزاخر، والغمام الهموع المتقاطر. ربيع الحكم وصاحب المجد والكرم. روض الإفادة وغصن ساحة الكمال والسعادة. أمام فن العربية وترجمان لسانها، وعين أعيان البلاغة وإنسان إنسانها (2).
لا ترجون له المثيل فإنه
…
شمس الهدى وعناية الآداب
أحيا أموات العلوم، وعمر ربع المنثور والمنظوم. ملأ (3) بآدابه جنبات الأرض، ونشر لواء فضله في طولها والعرض.
جال في ميدانها، واسترق أدباء عصرها وأوانها، صارم العزم، حاضر الحزم، ساري الفكر ثبت المقام، صلب العود، تهادت أهل العلوم، بفضله المرسوم. فتحقيقاته كثيرة حقيقة، وتدقيقاته غزيرة أنيقة. وتعاليمه رايقه، وتصانيفه فائقة. فضله ظاهر، وقد تعاطت سلافة أدبه الأكابر والأصاغر.
ومما أخبرني الوالد عن أبيه هذا الكريم الماجد قال: كان في
(1) هو مراد بن عثمان بن علي بن قاسم العمري، كان مدرس الحضرة النبوية اليونسية وخطيب جامعها. وكانت له اليد الطولى في علمي المعقول والمنقول، عارفا بعدة لغات: التركية والفارسية والكردية. توفى سنة 1092 هجرية. ترجمته في منهل الاولياء 1: 224.
وغاية المرام وتاريخ الموصل ج 2.
(2)
في الاصل لسانهم، إنسانهم
(3)
في الاصل ملؤ.
علوم العربية فريد الزمن، وآثاره الآن دالة على توغله في كل فن. أمة بالحديث (1) وعلامة بالتفسير، مرجع في كليهما للقليل والكثير. كأنه روض هذه العلوم الذي اعتدلت اسطاره، وابتسمت في حدائقه من أكمامها أنواره. قد منع الشمس من فضله ان ترمق ثراه، وعن أن تدرك خيال كماله في مروره ومسراه. وقد شهدت له بذلك الفضل ليالي وأيام، وتلت محاسن مواهبه الزاهية محابر وأقلام، وتعليقاته على المشارق نعم الأثر، وهو الذي يرشدك إلى صحة هذا البيان وثبوت هذا الخبر. وقد اثبت من نظمه الساطع، ما هو لكماله برهان قاطع. فمن شعره قوله:
بح بالغرام فما عليك ملام
…
إن التستر بالغرام حرام (2)
واترك ملامة لائم في حبه
…
إن الملامة في هواه هيام
كيف التعرض للسلو وصده
…
برء ووصل سواه لي أسقام (3)
ذكر العلامة إبراهيم بن حيدر (4) في كتابه الملهمات، فيما نقل من أن ملاحظة الخيال، ألطف من مشاهدة الوصال، بل
(1) في ب: في الحديث.
(2)
في ب: في الغرام.
(3)
في الاصل: بريء.
(4)
هو ابراهيم بن حيدر الصفوي الحسين آبادي من الاسرة الحيدرية. درس عليه المؤلف في قرية ماوران، وترجم له في هذا الكتاب مع السادة الحيدرية، اسم كتابه الملهمات: ملهمات ربانية في اسرار ذوقية وجدانية في العشق والتصوف وغيرهما. منه نسخة خطية في المدرسة الاحمدية في الموصل كتبها المؤلف وهو عند المصنف في قرية ماوران نقلا عن مسودته سنة 1151. (انظر مخطوطات الموصل لداود الجلبي ص 27).
الوصال إذا لم يكن مراد المحبوب، فهو عندهم على الحقيقة غير مطلوب، والفراق ألذ من الوصل لأنه مراد المعشوق، والوصال مراد العاشق المشوق، وحصول مراد المعشوق على كل حال، هو عند العاشق غاية الطلب ونهاية الآمال. وقد قيل في هذا المعنى:
أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد وفي البيت المذكور ما يفيد ذلك.
ومن القصيدة المذكورة:
كيف التخلص من محاسنه التي
…
فيها لأرواح الكماة حمام
فالطرف يرمي بالنبال ولحظه
…
قد سل للعشاق منه حسام
وبقده الخطي أوهن مهجتي
…
وحشاشتي فكلاهما أوهام
بالروح أفدي من إذا أبصرته
…
لم أستطع ولهاً عليه سلام
ما لابن مقلة صاد مقلته ولا
…
مثل العذار بما تحفظ لام (1)
بين السيوف المرهفات وجفنه
…
عهد على سفك الدماء دوام
أأروم من كلفي عليه تخلصا
…
هيهات ذاك جرت به الأقلام
أو كيف تخل من الصبابة مهجتي
…
ولنارها في الخد منه ضرام (2)
(1) ابن مقلة: محمد بن علي بن الحسين بن مقلة أبو علي الوزير، يضرب بحسن خطه المثل.
تولى الوزارة ثلاث مرات: استوزره الخليفة المقتدر العباس سنة 316 هـ، ثم استوزره الخليفة القاهر بالله سنة 320، واستوزره الراضي سنة 322، ثم نقم عليه فقطع يده اليمنى فكان يشد القلم على ساعده ويكتب به، ثم قطع لسانه سنة 326 وسجنه ومات في سجنه سنة 328 هـ.
(2)
كذا في الاصلين وصوابه تخلو، وقد حذف الواو ليستقيم الوزن، وفي شعر القدماء امثلة تجيز مثل هذا.
هذا البيت لطيف جدا في بابه زائد على بيت ابن النبيه (1) في قوله من قصيدة مدح بها الملك الأشرف موسى (2) ومطلعها:
صن ناظراً مترقباً لك ان ترى
…
فلقد كفى من دمعه ما قد جرى (3)
يا من حكى في الحسن صورة يوسف
…
واهاً لو انك مثل يوسف تشتري
والبيت المطلوب منها:
تعشو العيون لخده فيردها
…
ويقول ليست هذه نار القرى
فإنه زاد على هذا نكتة لطيفة لا تخفي على المتأمل، إذ ما على خده من النار المضرمة إنما هي مستعارة من قلبه الذي هو منزله ومكانه. وأما بيت ابن النبيه فخلاصة ما فيه النار فقط (4).
ومثله للشيخ تقي الدين (5) قوله:
(1) هو كمال الدين علي بن محمد بن يوسف بن النبيه، الكاتب الشاعر، صاحب ديوان رسائل الملك الاشرف موسى بن الملك العادل صاحب خلاط من سلاطين الايوبيين المتوفى سنة 635 هـ.
ولابن النبيه ديوان شعر كله ملح وتوفى سنة 619 هـ.
(2)
هو الملك الاشرف موسى بن محمد العادل بن ابي بكر محمد بن ايوب من ملوك الدولة الايوبية بمصر والشام ولد في القاهر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وتوفى سنة خمس وثلاثين وستمائة في دمشق وهو يملكها. وفيات الاعيان 2: 138. الاعلام للزركلى 8: 281 وفيه مصادر اخرى.
(3)
رسمها في الاصل: جرا، وما بعدها في البيتين تشترا، القرا.
(4)
علق بحاشية ب بخط مخالف لخط الكتاب: قلت دعوى عادية المحبوب حمرة خده من نار قلب عاشقه، لا يجد العاشق عليها شاهدا، ولا يسلمها المحبوب، وليس في البيت الا ان نار قلبه أحرقت خد المحبوب ولو قال:
كيف السلو ونار خديه لها
…
في مهجتي طول الزمان ضرام
لكان أليق بالمحبوب، وأقرب الى تسليمه، وأدعى الى عطفه. ولكن شتان بين بيته وبيت ابن النبيه عند النبيه.
(5)
هو تقي الدين ابو بكر بن علي المشهور بابن حجة الحموي المتوفى سنة 837 هـ. نظم بديعية في مدح المرسول مطلعها:
لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذى سلم
…
براعة تستهل الدمع في العلم
شرحها شرحا وافيا في كتاب سماه خزانة الادب وغاية الارب وله ديوان شعر ومصنفات اخرى اشهرها ثمرات الاوراق.
وطال علينا الستر في ليل شعرها
…
فهنا كانا قط لم نعرف الفجرا
ولكن بأعلى خدها رفعت لنا
…
من النار في الظلماء ألوية حمرا
*** ومن القصيدة المذكورة:
فاقت بدور التم طلعة وجهه
…
فله عليها للطلوع ذمام
فإذا تبدى أو ترنح شاديا
…
فالليل صبح والغصون حمام
وإذا رنا أسباك من ألحاظه
…
سحر له هاروت فيه غلام
لله أي سويعة قضيتها
…
فكأنها من طيبها أحلام
نادمته والعيش برد نعيمه
…
صاف وما للحادثات نظام
أبرا بلذة أنسه وكلامه
…
قلباً برته من الصدود كلام
في روضة عبق النسيم بطيبها
…
وتفتحت عن نورها الأكمام
صدحت بلابلها على أغصانها
…
فنمت لطيب سماعها الأجسام
كأنه أشار بهذا البيت إلى ما قاله مروان بن أبي حفصة (1) إن الغناء غذاء الأرواح، كما إن الشراب غذاء الأشباح، وذلك لأن أصوات البلابل والحمائم ونحوها يختلف باختلاف السامع، فمنهم من جعله غناء، ومنهم من جعله عناء. إذ الإيقاعات المطربة لها في النفوس منزلة وتأثير عجيب، وموقع لطيف في تصفية الذهن، وتفريج القلب، وجلب السرور حتى قال بعضهم: أن أمهات لذات النفوس اربعة: لذة المطعم والمشرب
(1) هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة المتوفى سنة 182 هـ شاعر نشأ باليمامة في العصر الاموي وادرك العصر العباسي قدم بغداد ومدح المهدي والرشيد وكان يتقرب الى العباسيين بهجاء العلويين.
والنكاح والسماع. فالثلاثة الأولى لذات (1) جسمانية، ولا يتوصل إلى واحدة منها إلا بحركة تكلف. ولذة السماع نفسانية، ونشوة روحانية (2)، تدب في البدن، وتسري في الروح من غير تكلف فتنمي الأرواح كما تنمي الأشجار. وأصوات الحمائم من هذا القبيل وفي تسميتها غناء قال ابن عبد الظاهر (3):
نسب الناس للحمامة حزنا
…
وأرى في الشجي ليست كذلك
خصبت كفها وطوقت الجيد
…
وغنت وما الحزين كذلك
ومثله كثير. ومنها:
في ساعة سمح الزمان بطيبها
…
وتفضلت بصفائها الأيام
والكأس في يده تدار وبيننا
…
تب به لصدا القلوب رهام
من خمرة مثل الشموس وكأسها
…
بدر إذا ما زال عنه غمام
ومثل هذا التشبيه كثير كقول بعضهم:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه
…
فشبهتها بالشمس في البر والبحر
ومنها:
وبمزجها تبدو نجوم سمائها
…
من فوقها أنى يكون ظلام
حلت لنا وجلت فليس بشربها
…
إثم ولا عنها يقال حرام
هذا لعمري للمحب هو المنى
…
وهو الحياة وغيره أوهام
***
(1) في ب: لذاة.
(2)
في الاصلين نشأة روحانية، وصوابه نشوة.
(3)
في الاصلين عبد الظاهر وصوابه ابن عبد الظاهر، وهو محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي السعدي، المصري القاضي، أديب ومؤرخ، وله شعر جيد. توفي سنة اثنتين وتسعين وستمائة، فوات الوفيات 1:212.