الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقريظ صاحب الفضيلة
رئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء
الشيخ صالح بن محمد اللحيدان
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن سار على منهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
وبعد؛ فقد رغب إلى أخي وزميلي في الدراسة فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن عبد العزيز المنصور، الأستاذ المشارك في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في كلية الشريعة في القصيم، مطالعة ما كتبه حول الزواج بنية الطلاق، وتقريظ رسالته في هذا الموضوع، وقد وعدته بإنجاز ما طلب، وتحقيق ما فيه رغب مرة تلو أخرى، ثم يعوقني عن الوفاء بما وعدت به عوائق كثيرة، ويبدو أن فضيلته كان قد علم برأيي في هذه المسألة، فإني قد أفتيت بعدم جواز مثل هذا النكاح منذ فترة ليست بالقصيرة في مجالس عامة، وفي بعض اللقاءات الجامعية، وقد حصل من ذلك شيء في عام 1399هـ، في جامعة البترول وأبديت أن ذلك يصح أن يقال عنه إنه شبيه بالزنى المنظم، ما دامت النية مستقرة على عدم استمرار عقد النكاح، ثم إني أثرت ذلك في بعض اجتماعات هيئة كبار العلماء قبل عام 1400هـ، وقد اطلعت في حينها على الخلاف في المسألة، وذاكرت بعض مشائخنا في هذا الأمر، وكيف نجعل النية مؤثرة في نكاح المحلل الذي قد لا يذكر في عقده شرط طلاق، ولا نية تحليل، ومع ذلك يعد هذا النكاح باطلاً؛ لأن النية أثرة فيه. وأبديت
أن فيه شبهًا من نكاح المتعة الذي ينص فيه على الأجل؛ لأن العبرة في كثير من العقود بالنية، إلى غير ذلك مما كان قد تردد في فكري وتراجعت فيه مع أن أيدني من كبار مشائخنا، وحاولت استصدار ما قد ينفع الله به من فتوى ذات أثر. إلا أن هيبة ما ذكره صاحب المغني موفق الدين بن قدامة رحمه الله ومن وافقه قد تكون حالت دون ذلك، وقد بقيت مستاءًا من انزلاق كثير من الشباب في هذا المنحدر، وأنهي عنه وأفتي بعدم موافقته لمقاصد الشريعة وقواعدها المحكمة، وأصولها المتينة.
ولما أبدى لي فضيلة أخي الدكتور صالح بن عبد العزيز المنصور أنه، أعد كتابة في هذا الموضوع ورغب أن أشارك ولو بكلمة عابرة، وافقت ورجوت أن أدرس الرسالة وأتحدث عن الموضوع ورسالة فضيلته، إلا أن ما شرحته آنفًا كان حائلاً بيني وبين إعطاء تصور عن رسالة فضيلته مع تأييد الفكرة، فقلت ما لا يدرك كله لا يترك كله، وقصد أخي أن أقف معه في هذا الميدان، والوقوف معه في مثل ذلك وقوف مع الحق وتأييد للصواب من القول، ومن فعل ذلك محتسبًا الأجر والثواب من الله، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أقول: لقد جاء الله بالإسلام ليُبقي ما كان سليمًا من علاقات الناس ومنسجمًا مع الفطرة ويستبعد ما يضادها، وكان العرب موضوع ذلك بالدرجة الأولى، ومعلوم أن العرب كانت لهم أنكحة في الجاهلية مختلفة الأشكال والمقاصد فأقر منها ما خلا عن الغدر والخيانة، واشتمل على سلامة النية، وتوفرت فيه مستلزمات العقود الصحيحة، وانتفت عنه موانع الصحة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أنكحة بعينها، وعلم من ذلك أن ما شابهها فهو ملحق بها، فقد نهى عن نكاح المحلل، ولعن فاعله وحرم نكاح المتعة، وتوعد عمر رضي الله عنه برجم فاعله، وقد أقر ما ليس شبيهًا بذلك بأن كان نكاح رغبة حاضرة ومستمرة؛ لأن الهدف من
النكاح متعدد الجوانب فهو للذة، والمتعة، والحصول على الرحمة والمودة، وكسب الولد، وتوفير السكن، والخدمة، والأنس، وحفظ المال القائم عليه، إذ أن المرأة الصالحة خير ما يكنزه المرء المسلم؛ لأنها مبعث المودة، والرحمة، وموضع السرور، ومكان الأمن على ماله، وموضع حرثه، وهي القائمة على تربية أفراد الأسرة في مبدأ نموهم وحال طراوة أفكارهم وأجسامهم، ولا يكون ذلك في زواج لا نية في استدامته، ولا أمل في إنجاب من ورائه، فنكاح المتعة معلوم القصد منه، ومثله نكاح المحلل، وقد لا يختلف عنه النكاح الذي ظاهره الاستدامة وباطنه الانقطاع والاكتفاء بنيل اللذة وحدها أو نيلها مع الخدمة والعزم على قطع حبل هذا النكاح وحل عقدته في وقت لاحق مستقر لدى الزوج معلوم لديه، فإذا كان النكاحان حرامين بالنص، فما أجدر أن يلحق بهما هذا النكاح الذي كانت النية فيه من جانب الزوج منعقدة على قطعه عن الاستمرار.
والشريعة الكاملة في أحكامها ذات الأسس القويمة والقواعد المتينة، لا يتوقع أن يكون في تشريعها تناقض أو تنافر أو أن تشتمل على نوع من الغدر أو الغرر؛ بل إن سبيل تشريعها الوضوح والبيان ونفي الغدر والغش والخيانة، ومعلوم أن امرأة يعقد عليها وتحسب أنها مقصودة لتكون أمًا، وربة بيت. وواقع الحال في قرارة نفس الزوج أنه يريدها لقضاء وطر حاضر وحاجة عاجلة، مع عزيمة جازمة على الفراق في أجل يعلمه ولا ينوي تجاوزه إنما هو خديعة وغش، فإن اتفقا على الفراق كانت المتعة المحرمة بالنص الصريح.
وإذا كان المحلل آثمًا وعمله محرمًا ولو لم يعلم بنيته أحد، ولو كان يقصد جمع شمل أسرة فرقها الطلاق، وأربكها حمق الزوج أو الزوجين، فإن من يريد متعة النفس ونيل الشهوة جدير بأن يكون حكمه
كذلك، ولا شك من وجود الخلاف لكن الخلاف إذا لم يُسند أحد جوانبه نصٌ أو مفهوم نص كان الناظر فيه غير ملزم بأخذ طرف، إلا ما اندرج منه تحت قواعد الشريعة وأصولها.
وإذا وجد لبعض فحول العلماء قولان في مثل هذه المسألة، فالمتعين الأخذ بما وافق الدليل وتمشى مع قواعد الشريعة واندرج في سبيلها القويم، وكون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له رأيان في المسألة وغيره يؤيد صحة هذا النكاح وآخر يبطله، يحملنا على أن نقول: الجدير بشيخ الإسلام أن يكون رأيه الخاص بإباحة هذا النكاح، كان في أول أمره تبعًا للموقف، ومن كان على هذا القول ثم استبان له الرأي، بعد اتساع دائرة علمه وإحاطته بالسنة ومقاصد الشريعة وتعمقه في الغوص على مدلولات النصوص وحكمة التشريع، فصار إلى خلاف الرأي الأول، ولا شك أن كل إنسان يؤخذ من قوله ما وافق الدليل، ويستغنى عن ما خالف الدليل بالدليل نفسه أو ما فهم منه، وإحسان الظن، بالعلماء أمر لازم، وشيخ الإسلام ومن سبقه ومن لحقه أولى الناس بإحسان الظن، لكن الواجب الأخذ بما اتفق مع حكمة التشريع، وانسجم مع أدلة الكتاب والسنّة، والحق إنما هو الموافق للدليل، ولا يشترط له أن يقول به الأكثر، إنما الممنوع أن يخالف الأخذ به إجماعًا متيقنًا، وهذه المسألة التي كتب فيها فضيلة الدكتور صالح ليس فيها إجماع؛ بل لو قيل إن الأكثر على كراهة هذا النكاح لكان ذلك صوابًا، والكراهية في عرف السلف قد تكون قرينة التحريم، وهي اللائقة في هذا البحث.
إن حماية الأمة من الوقوع في الحرام أو الاحتيال عليه ولو لم يقصد الاحتيال أمر متعين، ومن عرف ما وقع الناس فيه ويقعون يجزم بأن الحق إن شاء الله مع من منع من هذا النكاح، الذي لم تصحبه نية كريمة، ولا قصد نزيه، وربما جر إلى فساد عريض وإضاعة ذرية كثيرة بسبب الانسياق في هذا المنحدر المظلم.
إنني آسف إذ لم أقم بدراسة رسالة أخي دراسة تليق بها، وبالموضوع الذي كتبت من أجله غير أني أقول: إن أخي الدكتور صالح بعلمه وطول تمرسه في التعليم ولا سيما في العلم الذي هو محيط هذه الرسالة، وهو الفقه؛ يجعل دراسة رسالته من باب فضول القول، ولعله يرضى عني بعرضي المرفق بهذه الكتابة المتسرعة وأسأل الله أن ينفع بعلم فضيلته ويبارك بجهودنا جميعًا، وأن يهيء أسباب إغلاق أبواب الشر ومسالك التجاوز على حدود الشريعة، وأن يصلح شباب الأمة الإسلامية وكهولها ويمنحهم العفة والسلامة من الوقوع فيما حرّمه على عباده، وأن يهيئ كل قائم على ثغر من ثغور العلم والمعرفة إلى الصواب من القول إنه مجيب الدعاء - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال ذلك الفقير إلى الله:
صالح بن محمد اللحيدان.
القصيم - البكيرية
ليلة الجمعة 27/ 10/1414هـ