الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
قال رحمه الله تعالى (1): «وأما نكاح المتعة: إذا قصد أن يستمتع بها إلى مدة، ثم يفارقها، مثل المسافر الذي يسافر إلى بلد يقيم به مدة، فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقدًا مطلقًا، فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: قيل: هو نكاح جائز وهو اختيار أبي محمد المقدسي، وهو قول الجمهور.
وقيل: إنه نكاح تحليل لا يجوز، وروي عن الأوزاعي، وهو الذي نصره القاضي وأصحابه في الخلاف، وقيل: هو مكروه، وليس بمحرم.
والصحيح: أن هذا ليس بنكاح متعة، ولا يحرم، وذلك أنه قاصد النكاح وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه، وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب؛ بل له أن يطلقها، فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة، فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة، تنقضي فيه بانقضاء المدة ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا، فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا، وذلك جائز له، كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا، ثم بدا له طلاقها جاز ذلك، ولو تزوجها بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها، جاز، ولكن هذا لا يشترط في العقد، لكن لو شرط أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان، فهذا موجب العقد شرعًا، كاشتراط النبي صلى الله عليه وسلم في عقد البيع بيع المسلم للمسلم: «ولا داء، ولا غائلة،
(1)«مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية» 32/ 147.
ولا خبيثة» (1)،
وهذا موجب العقد.
وقد كان الحسن بن علي كثير الطلاق، فلعل غالب من تزوجها كان في نيته أنه يطلقها بعد مدة، ولم يقل أحد: إن ذلك متعة.
وهذا أيضًا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمى؛ بل عند انقضاء غرضه منها ومن البلد الذي أقام به، ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه، فقد تتغير نيته، فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح وجعله كالإجارة المسماة، وعزم الطلاق لو قدر بعد عقد النكاح لم يبطله، ولم يكره مقامه مع المرأة، وإن نوى طلاقها، من غير نزاع نعلمه في ذلك، مع اختلافهم فيما حدث من تأجيل النكاح، مثل أن يؤجل الذي بينهما، فهذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: تنجز الفرقة، وهو قول مالك، لئلا يصير النكاح مؤجلاً.
(1) الخِبْثَة: قال ابن التين: ضبطناه بكسر الخاء المعجمة، وسكون الموحدة بعدها مثلثة، وقيل: هو بضم أوله لغتان: قال أبو عبيد: «هو أن يكون البيع غير طيب» ، انظر: فتح الباري 12/ 350، وقال ابن الأثير:«هو العيب الباطن في السلعة الذي لم يطلع عليه المشتري» . «النهاية في غريب الأثر» 2/ 142.
وهذا الحديث رواه البخاري معلقًا بصيغة التمريض، (باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا) ويُذكر عن العدّاء بن خالد قال:«كتب لي النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما اشترى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدَّاء بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة» ورواه الترمذي رقم (1216) 3/ 520 باب ما جاء في كتابه الشروط، وقال:«هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن ليث» ، ورواه ابن ماجه رقم (2251) 2/ 756، ورواه الدارقطني رقم (289) 3/ 77، والبيهقي في السنن الكبرى رقم (10564) 5/ 328 كلهم من طريق عباد بن ليث الكرابيسي ثنا عبد المجيد بن أبي وهب قال قال لي العداء بن خالد بن هوذة. قال عبد الله بن أحمد سألت يحيى بن معين عن عباد بن ليث فقال:«ليس هو بشيء» . وذكره ابن عدي في «الكامل» وذكره العقيلي في «الضعفاء» ، وقال:«لا يتابع على حديثه، وقال أحمد بن حنبل ليس بشيء» . انظر: فيما سبق «الكامل في ضعفاء الرجال» 4/ 354 و «ضعفاء العُقيلي» 3/ 143، و «تهذيب الكمال» 14/ 855.
والثاني: لا تنجز؛ لأن هذا التأجيل طرأ على النكاح، والدوام أقوى من الابتداء، فالمدة والردة والإحرام تمنع ابتداءه دون دوامه، فلا يلزم إذا منع التأجيل في الابتداء أن يمنع في الدوام، لكن يقال: ومن الموانع ما يمنع الدوام والابتداء أيضًا، فهذا محل اجتهاد، كما اختلف في العيوب الحادثة، وزوال الكفاءة، هل تثبت الفسخ؟ فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر، فلم نعلم أن أحدًا قال: إن ذلك يبطل النكاح، فإنه قد يطلق وقد لا يطلق عند الأجل، كذلك الناوي عند العقد في النكاح (1)،
وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت، فلا بد من الفرقة، والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها، ولو أعتقت كان الأمر بيدها، وهو يعلم أنها لا تختاره، وهو نكاح صحيح، ولو كان عتقها مؤجلاً أو كانت مدبرة وتزوجها، وإن كانت لها عند (2) مدة الأجل اختيار فراقه، والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد، فهو بالنسبة إليه ليس بلازم وهو بالنسبة إلى المرأة لازم، ثم إذا عرف أنه
(1) قلت: هناك فرق كبير بين من تزوج وكانت نيته عند بدء عقد النكاح دوام النكاح واستمراره ثم بدا له بعد ذلك أن يطلقها بعد شهر، وبين من كانت نيته عند بداية العقد أن يطلقها بعد مدة، بل كانت نيته عند بداية العقد المتعة المؤقتة:
فالأول: دخل بنية دوام العشرة والسكن والرغبة في الولد، وهذه من مقاصد الشرع في النكاح، أما الثاني، فدخل بها بنية التمتع إلى أجل معلوم له، فلا يريد منها ما يريده الأزواج من الزوجة الحقيقية.
والأول: أيضًا تعلم الزوجة ويعلم وليها أنها ربما تدوم العشرة مع هذا الزوج، وربما ينوي بعد ذلك طلاقها، ودخلت في هذا الزواج على هذا العلم.
والثاني: لو علمت الزوجة أو وليها بأنه دخل بها على أساس أنه يستمتع بها فترة من الزمن وبعد انتهائها يطلقها، أقول: لو علمت هي أو وليها بهذه النية السيئة بهذا الخداع، لما تزوجته، ومن منا يرضى لموليته مثل هذا الزواج؟ وهل هذا الزواج يوافق مقاصد الشريعة في النكاح؟
أظن الجواب معروفًا للجميع، وأظن الفرق بين النكاحين واضح، والله أعلم.
(2)
لعل الصواب والله أعلم: «وإن كانت لها عند نهاية مدة الأجل
…
» إلخ.
بعد مدة يزول اللزوم من جهتها ويبقى جائزًا، لم يقدح في النكاح، ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين وبشرط يشترطها الزوج، مع أن المرأة لها الخيار إذا لم تعرف بتلك الشروط، فعلم أن مصيره جائزًا من جهة المرأة لا يقدح، وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين، فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح، فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد، وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبًا، أو إذا نقص ماله، ونحو ذلك، فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله، أو قدمت امرأته الغائبة، أو قضى وطره منها، من هذا الباب.
وزيد كان قد عزم على طلاق امرأته، ولم تخرج بذلك عن زوجيَّته؛ بل ما زالت زوجته حتى طلقها، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«اتق الله وأمسك عليك زوجك» (1)، وقيل: إن الله قد كان أعلمه أن سيتزوجها، وكتم هذا الإعلام عن الناس، فعاتبه الله بذلك، وقيل: بل الذي أخفاه أنه إن طلقها تزوجها. وبكل حال لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحًا في النكاح في الاستدامة، وهذا مما لا نعرف فيه نزاعًا، وإذا ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال، وهذا يرد على من قال: إنه إذا نوى الطلاق بقلبه، وقع. فإن قلب زيد كان قد خرج عنها، ولم تزل زوجته إلى حين تكلم بطلاقها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به» (2).
(1) وقد أنزل الله عليه في هذا قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
(2)
رواه البخاري في صحيحه رقم (6287) 6/ 2454، باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم رقم (127) 1/ 116.
وهذا مذهب الجمهور، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد (1)، وهو إحدى الروايتين عن مالك، ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد، فإن النية المبطلة ما كنت مناقضة لمقصود العقد إلى حين الطلاق، بخلاف المحلل، فإنه لا رغبة له في نكاحها ألبتة؛ بل في كونها زوجة الأول، ولو أمكنه ذلك بغير تحليل، لم يحلها، هذا وإن كان مقصوده العوض، فلو حصل له بدون نكاحها، لم يتزوج، وإن كان مقصوده هنا وطأها ذلك اليوم، فهذا من جنس البغي التي يقصد وطأها يومًا أو يومين، بخلاف المتزوج الذي يقصد المقام، والأمر بيده، ولم يشترط عليه أحد أن يطلقها كما شرط على المحلل، فإن قدر من تزوجها نكاحًا مطلقًا ليس فيه شرط ولا عدة، ولكن كانت نيته أن يستمتع بها أيامًا ثم يطلقها، ليس مقصوده أن تعود إلى الأول، فهذا هو محل الكلام، وإن حصل بذلك تحليلها للأول، فهو لا يكون محللاً، إلا إذا قصده، أو شرط عليه شرطًا لفظيًا أو عرفيًا، سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده، وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلاً، فهذا نكاح من الأنكحة» انتهى (2).
وقال رحمه الله تعالى: «مسألة في رجل ركَّاض يسير في البلاد في كل مدينة شهرًا أو شهرين، ويعزل عنها، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلاد وإذا سافر طلقها وأعطاها حقها أو لا؟ وهل يصح النكاح أو لا (3)؟
(1) ما ذكره شيخ الإسلام من أنه مذهب الإمام أحمد فيه نظر، فإن المنصوص عن الإمام أحمد تحريم الزواج بنية الطلاق وعليه جميع أصحابه وهو الصحيح في المذهب ولم يخالف إلا ابن قدامة، بل قال شيخ الإسلام نفسه:«لم أر أحدًا من الأصحاب قال: لا بأس به» أي أن جميع الحنابلة على تحريمه. انظر: الإنصاف مع الشرح الكبير والمقنع. جمع د: عبد الله عبد المحسن التركي.
(2)
«مجموع الفتاوى» ص32/ 151.
(3)
يلاحظ أن فتوى الشيخ مبنية على حال السائل وهو رجل ركَّاض يسير البلاد فيقيم في كل مدينة شهرًا أو شهرين ثم يسافر، وخاف على نفسه الوقوع في المعصية. فأين هذا من رجل مقيم في بلده، وقد توفرت له الإمكانات من زوجة أو قدرة على الزواج!! فحال السائل لا تنطبق على واقع الناس اليوم فتأمل!!
الجواب: له أن يتزوج، لكن ينكح نكاحًا مطلقًا، لا يشترط فيه توقيتًا، بحيث يكون: إن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها، وإن نوى طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع، ولو نوى أنه إذا سافر وأعجبته، أمسكها، وإلا طلقها، جاز ذلك. فأما أن يشترط التوقيت، فهذا نكاح المتعة الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريمه
…
» إلى أن قال: «وأما إذا نوى الزوج الأجل، ولم يظهره للمرأة، فهذا فيه نزاع، يرخص فيه أبو حنيفة والشافعي، ويكرهه مالك وأحمد وغيرهما» (1).
وذكر هذه المسألة عنه البعلي في «الاختيارات الفقهية» لابن تيمية في باب الشروط والعيوب في النكاح، ولم يذكر رأي شيخ الإسلام ابن تيمية فيها.
قال رحمه الله تعالى: «وأما نية الاستمتاع، وهو أن يتزوجها وفي نيته أن يطلقها في وقت أو عند سفره، فلم يذكرها القاضي في «المحرر» ولا «الجامع» ، ولا ذكرها أبو الخطاب، وذكرها أبو محمد المقدسي، وقال النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء، إلا الأوزاعي، قال أبو العباس: ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحًا؛ إلا أبا محمد، وأما القاضي في «التعليق» ، فسوَّى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين نيته التحليل، وكذلك الجد وأصحاب الخلاف» (2).
وسيأتي الجواب على أدلة شيخ الإسلام مفصلة في فصل مستقل.
(1)«مجموع الفتاوى» 32/ 106.
(2)
«الاختيارات الفقهية» للبعلي ص220، تحقيق محمد حامد الفقي.