المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الزواج بنية الطلاق من خلال أدلة الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الإسلامية

[صالح آل منصور]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ لفضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌تقريظ صاحب الفضيلةرئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماءالشيخ صالح بن محمد اللحيدان

- ‌تقريظ لفضيلة الشيخ الدكتورصالح بن فوزان الفوزان

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌المراد بالزواج الذي شرعه الله تعالى

- ‌مقاصد الشريعة في الزواج

- ‌نماذج من الأنكحة التي حرمها الله

- ‌لماذا حرمت هذه الأنكحة

- ‌النكاح بنية الطلاق

- ‌القول الأول: ذهب الجمهور إلى الجواز

- ‌ الحنفية:

- ‌ المالكية:

- ‌ الشافعية:

- ‌ الحنابلة:

- ‌رأي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

- ‌القول الثاني: التحريم

- ‌ الإمام الأوزاعي

- ‌ الحنابلة:

- ‌رأي ابن القيم رحمه اللهفي حكم الزواج بنية الطلاق

- ‌رأي المجمع الفقهي الإسلامي

- ‌رأيي في حكم الزواج بنية الطلاق

- ‌ مقاصد الشريعة في النكاح

- ‌من مفاسد الزواج بنية الطلاق

- ‌الجواب على أدلة المجوزين للزواج بنية الطلاق

- ‌ جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

- ‌أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين

- ‌زواج المسيار

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

فصل

أما‌

‌ جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

، فهو ما يلي:

إن إباحته للزواج بنية الطلاق يتعارض مع قوله: «إن القصود في العقود معتبرة» (1).

نعم إن القصود في العقود معتبرة، ولأجل ذلك قلنا بتحريم الزواج بنية الطلاق، ذلك لأنه لا يريد بالزواج ما أراده الشارع الحكيم من مشروعية النكاح؛ بل يريد الزواج لإرضاء نهمته أو قضاء غرضه فحسب، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2).

قوله رحمه الله تعالى: «ليس بنكاح متعة، ولا يحرم، وذلك أنه قاصد للنكاح، وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه» .

قلت: نعم، ولكن كما قال رحمه الله تعالى: «ليس قاصدًا له على

(1) هذه القاعدة أصل عند المالكية وأقرها شيخ الإسلام، وابن القيم. انظر:«الفتاوى» 20/ 378ن و «إعلام الموقعين» 3/ 119.

(2)

رواه البخاري في عدة مواضع أحدها، باب بدء الوحي رقم (1) 1/ 3، ومسلم في صحيحه، في كتاب الجهاد بلفظ:«إنما الأعمال بالنية» رقم (1907) 3/ 1515 من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 83

الدوام والاستمرار» وهل مقصود الشارع من شرع النكاح كونه قاصدًا للنكاح وراغبًا فيه؟ كلا، وإنما المقصود من النكاح هو دوامه واستمراره، لما يترتب على الدوام من فوائد عظيمة يحبها الله تعالى، ولذلك رغّب الشارع في الزواج، وحذر من التبتل، وشرع الوسائل التي يكون بها دوام النكاح، وحذر من الطلاق وأمر بإمساك المرأة مع كراهتها {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

أما مجرد قصده للنكاح دون قصد الدوام، فهذا يشاركه فيه نكح التحليل والمتعة؛ حيث إن كلاً منهم قاصد للنكاح وراغب فيه، ولكن لا يريد الدوام، فلو كانت الرغبة أو قصد النكاح وحدها مسوغة للنكاح، لكان نكاح التحليل وزواج المتعة جائزًا أيضًا.

ولكن مراد الشارع - والله أعلم - من النكاح قضاء الوطر على الدوام، وهو الذي يحصل به مقاصد الشريعة من إعفاف كل من الزوجين وإنجاب الأولاد، إلى غير ذلك مما ذكرناه سابقًا (1).

قد يقال: هناك فرق بين نكاح التحليل والزواج بنية الطلاق هو وجود شرط الطلاق في نكاح التحليل.

قلنا: هذا إذا وجد شرط، ولكن ربما يوجد زواج التحليل بدون شرط، وهذا لا يجوز عند كثير من العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

على أن العلة في تحريم نكاح المتعة ونكاح التحليل ليست اشتراط الطلاق لذاته؛ بل حرم الشرط في هذا النكاح؛ لأنه يتعارض مع مقاصد الشريعة في النكاح التي ذكرنا معظمها مرارًا، والله أعلم.

(1) تقدم ذكره ص71 وما بعدها وص106 وما بعدها.

ص: 84

قوله رحمه الله تعالى: «لكن لا يريد دوام المرأة، وهذا ليس بشرط» (1).

قلت: نعم؛ ليس بشرط، ولكن وجود هذا المقصد يضر بالمقصد الأصلي الذي من أجله شرع النكاح.

ويرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال. قال ابن القيم: «وكل شرط أو علة أو ضابط يرجع على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال» (2).

كيف لا وهو يخفي هذا المقصد عن المرأة وأوليائها خوفًا من عدم موافقتهم؟ ولو صرح لهم بذلك، ووافقوه على ذلك، لبرزت فيه صورة نكاح المتعة ظاهرة.

وقوله رحمه الله تعالى: «فإن دوام المرأة معه ليس بواجب؛ بل له أن يطلقها» .

قلت: فرق بين أن يتزوج إنسان بنية دوام العشرة؛ ثم لا يوفق لما أراده؛ لأن القلوب بيد الله، وبين إنسان دخل على نية عدم الدوام؛ بل ليقضي منها وطرًا عاجلاً أو منفعة زمنًا ما؛ ثم يطلقها ليذهب إلى أخرى. فالأول لا أحد يقول بعدم صحة نكاحه ومشروعية طلاقه، والثاني كيف يقول بجواز نكاحه، وعدم الاستمرار والدوام ونية الطلاق موجودة قبل علم خلاف ذلك؛ أي: عدم الدوام والاستمرار لم يتزوج بها أصلاً، وأما إن حصل طلاق، فهو خلاف ما قصده أولاً عند العقد، وهو فعل مشروع له وحده؛ لأنه تخلص من ضرر عليه أو عليها، لذا شرعه الله تعالى لهما:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130].

(1) ارجع إلى كلام الشيخ رحمه الله تعالى في ص48.

(2)

انظر: حاشية ابن القيم 1/ 81، ط الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ.

ص: 85

قوله رحمه الله تعالى: «فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة، فقد قصد أمرًا جائزًا، بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا، فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا، وذلك جائز له، كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا ثم بدا له طلاقها، جاز ذلك، ولو تزوج بنية أنه إذا أعجبته وإلا فارقها، جاز

» الخ.

قوله رحمه الله تعالى: «قصد أمرًا جائزًا» .

قلت: لم يقصد أمرًا جائزًا، بل هذا شبيه بنكاح المتعة (1) من حيث قصد كل منهما الطلاق بعد مدة، وغاية ما في الأمر أن المتعة صرح فيها بالمدة في بعض صورها. وعدم التصريح بمدة في عقد الزواج ليس هو الذي يجعل الزواج مشروعًا في الواقع ونفس الأمر؛ بل هناك شروط، وانتفاء موانع لا بد من توفرها حتى يكون الزواج مشروعًا، لذا فإنا نقول: إن الزواج بنية الطلاق وجد فيه مانع يمنع من كونه مشروعًا، ألا وهو النية التي تنافي مقصد الشارع في النكاح، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات

» الحديث (2)، فالنية كافية في تحريم العمل.

ولا يقال: هذه نية ليس معها عمل، فإنا نقول: كم من إنسان يؤاخذ على نيته وهو لم يوجد منه عمل؛ بل قد قال شيخ الإسلام نفسه في مثل هذا: «الإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام له ثواب الفاعل التام وعقاب الفاعل التام» (3). والمتزوج بنية الطلاق جازم على الطلاق وقادر عليه، فهو بمنزلة الفاعل التام.

(1) كما قال الإمام أحمد، وقد سبق ذكره.

(2)

رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وسبق تخريجه ص83.

(3)

«مجموع الفتاوى» 10/ 740.

ص: 86

أرأيت لو أن إنسانًا ذهب ليسرق متاعًا أو مالاً، ولكن لم يستطع السرقة، وآخر أمسك امرأة ليزني بها، فأحس بالرقيب، فولى هاربًا، ولم يقربها، فهل نقول: إنهما لا يؤاخذان على نيتهما؛ لأنهما لم يحصل منهما فعل؟! كلا؛ فكلاهما آثم، وإن لم يحصل منهما فعل.

يشهد لهذا ما رواه أبو بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» ، قلت: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (1).

ولا يقول قائل: «إن ما ذكرت حصل منهم محاولة للسرقة والزنى والقتل، والزواج بنية الطلاق لم يحصل فيه فعل.

فإنا نقول: قد حصل منه فعل، وهو بحثه عن الزوجة، وإقدامه على هذا الزواج، وتملكه المرأة بهذه النية، كل ذلك فعل وإرادة جازمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقولك «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ، قال شيخ الإسلام: «من اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب، وإن لم يقع فيه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنى أو السرقة أو نحو ذلك

» (2)، وقال ابن القيم: «قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نُزَّل صاحبه في الثواب والعقاب

(1) رواه البخاري في صحيحه في مواضع عدة، أحدها في كتاب الأيمان، باب «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» فسماهم المؤمنين رقم (31) 1/ 120، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة رقم (288) 4/ 2213 كلاهما من طريق حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن فيس عن أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

«مجموع الفتاوى» 14/ 123، وهذا القول الذي قاله ابن تيمية رحمه الله يلزمه بالقول بتحريم الزواج بنية الطلاق.

ص: 87

بمنزلة الفاعل التام» (1).

فهناك فرق كبير بَيَّنٌ في حكم الشرع بين النية مع العمل، والنية بعد حدوث العمل: فرجل دخل في صلاة رباعية على أنها صلاة ظهر، وبعد تكبيرة الإحرام نواها عصرًا، أو دخل فيها على أنها صلاة عصر ثم بعد ذلك نواها ظهرًا، فهل يصح ذلك؟ ورجل نوى عند طلوع الفجر صيام يوم الإثنين وبعد الإمساك نوى أن يكون عن يوم من رمضان، فهل يجزيه صيام هذا اليوم عن يوم واجب عليه من رمضان؟ ورجل تصدق بمال تطوعًا، ثم بعد ذلك نواه عن زكاة واجبة عليه، فهل يجزيه ذلك؟

إذًا؛ فعدم تفريق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بين وجود نية الزواج بنية الطلاق عند العقد وبين وجود نية الطلاق بعد العقد، غير مستقيم، والله أعلم.

وأما قوله رحمه الله تعالى: «وهذا ملكه ثابت مطلق، وقد تتغير نيته فيمسكها دائمًا» .

قلت: إنما حصل ثبوت ملكه على الزوجة مطلقًا بسبب ستره وإخفائه قصده عن الزوجة وأوليائها، ولو صرح بنيته، ما حصل له ملك أبدًا، ولو حصلت الموافقة بعد التصريح، لكان نكاح متعة.

وأما قوله رحمه الله تعالى: «وقد تتغير نيته فيمسكها» .

هذا إذا تغيرت النية، ولكن؛ إذا لم تتغير النية، ألا يكون مبررًا لمنعه (2)؟ ثم هذا منقوض بنكاح التحليل والمتعة فإنه قد تتغير نيته ولا قائل بجوازه لهذا، وأما كون الطلاق جائزًا له. هذا فيمن دخل بنية الاستمرار، ثم وجدت نية الطلاق بعد ذلك، أما من دخل من أول العقد على نية الطلاق فهذا أمر آخر.

(1)«طريق الهجرتين» 1/ 532، و «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» 1/ 268.

(2)

قد سبق مناقشة هذا الكلام ص79.

ص: 88

وأما قوله رحمه الله تعالى: «كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائمًا، ثم بدا له طلاقها، جاز ذلك» .

قلت: هذا قياس مع الفارق؛ لأنه إذا تزوجها بنية إمساكها دائمًا، فإنه بعمله هذا وافق مقصود الشرع، ووافق الأصل في الزواج، إذ الأصل في كل متزوج أن يتزوج المرأة ليمسكها دائمًا لا ليتزوجها من أجل أن يطلقها، فهو بعمله هذا وافق ما شرع الله تعالى له، بخلاف الزواج بنية الطلاق، فإنه خلاف مقصود الشرع.

وقوله رحمه الله تعالى: «ولو تزوجها بنية أنها إذا أعجبته، أمسكها، وإلا فارقها

» الخ (1).

أقول: نعم؛ إذا تزوجها بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها، جاز له ذلك؛ لأنه فعل بذلك ما شرع الله له في الزواج؛ لأنه تزوجها ابتداءً بنية أنه يعيش معها على الدوام، وما كان يفكر بغير هذا، ولو ظن - بل لو خالجه شك - في أن هذا الزواج لا يستمر، وأنه قد توجد أسباب تمنع دوامه، لَمَا أقدم على الزواج بها، وهذا هو الأصل في كل زواج، ولكن، لو لم توافقه، ولم تحصل العشرة التي يريدها، له أن يطلقها، فهذا أمر مشروع له بالإجماع، فكل إنسان يتزوج امرأة، في باله أنه يجوز له إذا أحبها أمسكها، وإن كرهها طلقها، ولكن هل إذا جاز له ذلك يجوز له أن يتزوجها بنية الطلاق بعد انتهاء غرضه ولا يريدها بعد ذلك زوجة له، فإنها لو علمت الزوجة أو وليها بهذه النية رضيا بهذا النكاح.

وما الفرق إذًا بين هذا النكاح ونكاح المتعة والتحليل في القصد، إذ كل من المتزوج متعة، والمحلل والمتزوج بنية الطلاق، كل منهم لا

(1) ارجع إلى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ص48 من هذا الكتاب. وقد كررنا الجواب عن هذه الشبهة ص80.

ص: 89

يريد الزوجة على الدوام، ولا يحبها محبة الأزواج، ولا يعاشرها معاشرة الأزواج؛ بل همّه قضاء وطره في بلاد الغربة مثلاً، حتى يذهب إلى زوجته التي يحبها ويريد الأولاد منها وحدها، أو حتى يتزوج الزواج الحقيقي من المرأة التي يختارها حسب المواصفات المطلوبة عرفًا وشرعًا زواجًا بنية الدوام والاستمرار.

لذا؛ نجد الكثير ممن يتزوج بنية الطلاق أو بالمتعة لا يسأل عن حسب المرأة ولا نسبها، ولا يسأل عن كونها ولودًا أو ودودًا، ولا عن دينها؛ بل منهم من لا يسأل عن عفتها، وربما كانت غير عفيفة، كل ذلك ربما لا يهمه، وربما لا يفكر فيه، وبعد هذا، فلا أشك في أنه شبيه بنكاح المتعة. غاية ما في الأمر أن نكاح المتعة صرح فيه بقصده، وهذا كتم نيته وقصده وطلقها بعد تمام المدة، والأول قيل له فارقها بعد تمام المدة المشروطة.

وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «وقد كان الحسن بن علي كثير الطلاق، فلعل غالب من تزوجها كانت في نيته أن يطلقها بعد مدة، ولم يقل أحد إن ذلك متعة» (1).

قلت: إذا صح ما نسب إليه من كثرة الطلاق رضي الله عنه (2)، فلا يجوز لنا أن نحمل عمله في كثرة زواجه وطلاقه على الزواج بنية الطلاق، فهذا قول عليه بلا علم، إذ لا يعلم ما في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى، وحاشاه أن يفعل ذلك، ولو قدر أنه أخبر أحدًا أن نيته بذلك، الزواج بنية الطلاق، لقلنا: إن هذا فعل صحابي لا يقبل إذا تجرد عن الدليل، فكيف إذا خالف مقاصد الشريعة في النكاح؟! وكيف وقد خالفه والده على رضي الله عنه وأنكر

(1) ارجع إلى قوله رحمه الله في ص49.

(2)

وسيأتي بيان عدم صحة ذلك عن الحسن رضي الله عنه لا من حيث الإسناد ولا من حيث المعنى في ص127 وما بعدها.

ص: 90

عليه كما سيأتي

والذي يرجع إلى نصوص الشريعة وعموماتها يعلم أن هذا العمل لا يجوز، لمنافاته مقاصد الشريعة في النكاح، ولكن الحمد لله أنه لم ينقل أحد عن الحسن القول بجواز ذلك بسند صحيح.

وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «وهذا أيضًا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمى؛ بل عند انقضاء غرضه منها ومن البلد الذي أقام به، ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه، فقد تتغير نيته فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح وجعله كالإجارة المسماة

» الخ (1).

قلت: لا فرق - والله أعلم - بين أن ينوي طلاقها بعد أجل مسمى عند انقضاء غرضه منها أو من البلد الذي أقام به، فالكل حصل فيه زواج بنية الطلاق، ولم يحصل فيه زواج بنية الدوام. فالزواج بنية الدوام هو مقصد الشارع من النكاح، والزواج بدون نية الدوام لا يريده الشارع، ولا يرضاه، ولذلك حرم الشارع نكاح التحليل ونكاح المتعة، وأمر بحسن معاشرة النساء وحث عليها، كما أمر النساء بذلك، وعالج الخلاف والنشوز، وحذر من الطلاق، كل ذلك من أجل أن يدوم النكاح.

وأما قوله رحمه الله تعالى: «ولو قُدَّر أنه نواه في وقت بعينه، فقد تتغير نيته

» الخ (2).

قلت: إن الأحكام إنما تناط بالنية وقت مباشرة العمل أو نية العمل لو قدر عليه. مثال النية وقت مباشرة العمل: تعيين نية الصلاة عند تكبيرة الإحرام. وأما نية العمل لو قدر عليه: فكنية العادم للمال الصدقة إذا رزقه الله مالاً أو الحج إذا أقدره الله عليه، فإنه يثاب كل منهما على نيته الصالحة.

(1) ارجع إلى قوله رحمه الله في ص49.

(2)

ذكرنا هذا عنه رحمه الله في ص49.

ص: 91

أرأيتم لو أن أحدًا خلا بامرأة، فهل نمكنه من ذلك لعله أن يتزوجها؟ ولو أن رجلاً نظر إلى محاسن امرأة، فهل نمكنه من هذه المعصية بحجة أنه ربما يتزوجها؟

إذًا؛ فالأصل في هذا الرجل أنه تزوج المرأة بنية التوقيت، لا بنية الدوام. وكون نيته قد تتغير خلاف الأصل، فنعامله بنيته عند البدء بعقد النكاح، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . وتغير النية أمر نادر وقليل؛ بل الرجل الذي تزوج امرأة بنية الطلاق يبذل كل الأسباب والمحاولات المتيسرة التي تجعلها لا تبقى عنده بعد انتهاء غرضه.

وقول الشيخ رحمه الله: «فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر، فلم نعلم أن أحدًا قال: إن ذلك يبطل النكاح، فإنه قد يطلق وقد لا يطلق عند الأجل، كذلك الناوي عند العقد في النكاح، وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت، فلا بد من الفرقة» .

قلت: بين نية الطلاق بعد الزواج ونية الطلاق عند عقد النكاح فرق عظيمٌ وبونٌ شاسعٌ:

فالأول: نوى ما أباحه له الشارع، إذ المصلحة والحكمة تقتضي إباحة ذلك، والله عليم حكيم.

والثاني: نيته لا توافق مقاصد الشريعة في الزواج، إذ الأصل في الزواج الدوام والاستمرار، لما في ذلك من المصالح العظيمة والحكم الجليلة الكثيرة، وقد قدمنا الرد على مثل هذا القول.

وكون كل واحد من الزوجين يتزوج الآخر إلى أن يموت، فالفرقة معلومة من الطرفين، هذا أمر لا مناص عنه، وهل تمنع الشريعة مثل هذا الزواج الذي يعلم فيه كل من الطرفين أن الزواج مؤجل إلى فرقة الموت؟ كلا.

ص: 92

أما الزواج بنية الطلاق، فعمل أقدم عليه الزوج وحده بنيته، لا أقول: الغالب عنده أنه يطلقها عند انتهاء المدة أو انتهاء غرضه؛ بل اليقين في نفسه الذي بيَّته أنه يطلقها، فكيف يقاس هذا على الفرقة بالموت؟ فالنية في الفرقة بالموت حاصلة من الطرفين بخلاف الزواج بنية الطلاق فإنها حاصلة من الزوج وحده. فلو جاز لنا ذلك، لأجزنا النكاح الذي ينوي فيه كل من الزوجين الطلاق بعد مدة أو بعد انتهاء الغرض، فيتزوجان وهما يعلمان أنهما سيفترقان بعد انتهاء غرض الزوج، وهذا محو نكاح المتعة.

وقوله رحمه الله تعالى: «والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها، ولو أعتقت، كان الأمر بيدها، وهو يعلم أنها لا تختاره، وهو نكاح صحيح، ولو كان عتقها مؤجلاً، أو كانت مدبرة وتزوجها، وإن كانت لها عند نهاية مدة الأجل اختيار فراقه

» إلى أن قال: «ثم إذا عرف أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهتها، ويبقى جائزًا لم يقدح في النكاح» (1).

قلت: ما ذكره رحمه الله تعالى يختلف كثيرًا مع الزواج بنية الطلاق، ذلك:

أولاً: أن زواج الحر بالأمة لا يجوز إلا بشروط معلومة، وما ذلك والله أعلم إلا لأجل ما ذكره الشيخ رحمه الله، ولما في ذلك من ذلة للحر، وعدم كمال إعفافه، وتعريض ولده للرق، وغير ذلك من الأحكام.

ثانيًا: أن عتق الأمة المتزوجة حرًا لا يعطيها خيار فسخ النكاح بعد حريتها في أصح قولي العلماء. وهو قول جمهور أهل العلم وقول ابن عمرو وابن عباس ومالك والشافعي والإمام أحمد وابن قدامة والنووي

(1) ارجع إلى كلامه ص50 من هذا الكتاب.

ص: 93

وابن حجر (1).

ثالثًا: في حال زواج الرقيق للأمة، فإنا نقول: إن إرادة السيد العتق مجرد إرادة، قد تتحقق وقد لا تتحقق، بينما المتزوج بنية الطلاق قد عزم على الطلاق. وفي حال زواجه للأمة المدبرة أو المؤجل عتقها، نقول: إن هذه الفرقة توجد من قبل الزوجة وحدها، بينما تحصل الفرقة في الزواج بنية الطلاق من الزوج وحده ففرق بينهما. وفرق بين أن تحصل الفرقة منها وهو يعلم ذلك منها، وبين من يدخل في عقد زواج من امرأة يبيّت لها النية السيئة، يبيّت لها قاصمة الظهر، وهو الطلاق وهي لا تعلم ذلك. أليس هذا خيانة منه لها، ومَن من النساء تقبل مثل هذا الزواج؟ لو علمت منه هذا وقبلت، كان نكاح متعة.

رابعًا: كونه يعلم أن الزوجة لا تختاره، هذا لا يلام عليه، إذ هو فعل ما طُلِبَ منه شرعًا، وهو زواجه، ليحقق ما يقدر عليه من مقاصد الشريعة في النكاح.

فإن قيل: إن تزوجها بنية أن تفارقه هي؛ حيث يعلم من حالها قبل الزواج أنها لا تريده، فهذا شبيه بالزواج بنية الطلاق.

قلت: كلا؛ بل دخل بها بنية أن تفارقه هي، لا بنية أن يفارقها هو، وفرق بين الصورتين.

خامسًا: ثم هذه الصورة التي فرضها شيخ الإسلام رحمه الله صورة نادرة، أعني: اختيار المرأة بعد عتقها فراق زوجها، بخلاف الزواج بنية الطلاق، فإن الغالب أن من تزوج امرأة بنية الطلاق ينفذ نيته، كما هو واقع كثيرًا.

(1) انظر: «المغني» 7/ 167، و «شرح النووي على صحيح مسلم» 10/ 141، و «فتح الباري» 9/ 407.

ص: 94

وقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد، فهو بالنسبة إليه ليس بلازم، وهو بالنسبة إلى المرأة لازم، ثم إذا عرف أنه بعد مدة يول اللزوم من جهتها ويبقى جائزًا (1)، لم يقدح في النكاح» .

قلت: لا يلزم من كون الزوج يملك الطلاق من حين العقد أن يكون ذلك مبررًا للزواج بنية الطلاق، فإن الله ملكه ذلك، ولكن أمره بإمساكها، وشرع الوسائل التي تديم هذا النكاح، وحذر من الوسائل التي تقطع هذا الدوام، فبغَّض إليه الطلاق وحذره منه، لما في ذلك من مصادمة لمقاصد الشرع في الزواج. وكون الزوج يعلم أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهة الزوجة، ويبقى جائزًا من جهتها، لا يضر الزوج إذا هو فعل ما طلب منه شرعًا.

وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين وبشروط يشترطها الزوج، مع أن المرأة لها الخيار إذا لم يوف بتلك الشروط. فعلم أن مصيره جائزًا من جهة المرأة لا يقدح، وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين، فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة، مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح، فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد، وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبًا أو إذا نقص ماله ونحو ذلك، فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله، أو قدمت امرأته الغائبة، أو قضى وطره منها، من هذا الباب» (2).

جوابنا على ما ذكر الشيخ رحمه الله رحمة واسعة:

نقول: نعم، يصح نكاح المجبوب والعنين، ومع الشروط التي

(1) كما في قصة بريرة لما عتقت كان العقد في حقها جائزًا.

(2)

ارجع إلى كلام الشيخ في ص51.

ص: 95

يشترطها كل من الزوجين أو أحدهما، وللمرأة الخيار باستمرار النكاح أو عدمه إذا لم يف لها بالشروط، ولكن كل هذا لا يكون مبررًا لمشروعية الزواج بنية الطلاق؛ لأنها حينما تزوجت المجبوب أو العنِيَّن تزوجته برضاها، وكذلك إذا لم يف لها بالشروط، فكل من الزوجين عند العقد يتوقع عدم استمرار النكاح، ولكن هذا التوقع مجرد احتمال، بخلاف من تزوج امرأة وهو يريد طلاقها: إذا سافر إلى أهله، أو إذا حضرت زوجته الغائبة، أو إذا شُفيت زوجته المريضة، أو غير ذلك، فإن الزوج دخل بنية عدم الاستمرار، وهو لا يريد الاستمرار ولا يرغب فيه، والزوجة المسكينة ليس عندها علم بما يبيته الزوج لها، بخلاف قبولها الزواج من المجبوب أو العنين.

وأما قوله رحمه الله: «مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق، وهذا من لوازم النكاح

» إلخ.

فجوابنا على ذلك: أن هذا قياس مع الفارق (1)، ذلك أن الزواج شرع مرادًا به الاستمرار والدوام، فالأصل فيه البقاء، وإن كان الشارع أباح الطلاق لمصلحة كل من الزوجين، فحينما أقدمت المرأة على الزواج ليس في بالها إلا الدوام والاستمرار، وليس في بال أوليائها إلا ذلك؛ بل من علم بالزواج من الناس ليس في بالهم إلا الدوام والاستمرار، ولو علمت أنه سيطلقها بعد سفره أو قدوم زوجته أو شفائها من مرضها، لما أقدمت، ومن من النساء أو من الأولياء يرضى بمثل هذا الزواج؟ وليس ذلك كعلمها بأنه سيطلقها إن فعلت ذنبًا أو نقص ماله ونحو ذلك؛ لأنها في هذا الحال أقدمت على الزواج منه لظنها أنها لا يحصل منها شيء بسبب الطلاق؛ بل تحسن الظن بالله، وترجوه دوام

(1) إباحة الشارع الطلاق دليل على أن الأصل في الزواج الدوام والاستمرار، والطلاق مخالف لذلك.

ص: 96

النكاح، وتطرح الظنون والأوهام، وتفعل الأسباب التي تثبت هذا الزواج، وكون الرجل يجوز له الطلاق ويملكه، ليس معنى هذا أن الطلاق هو الغاية من النكاح؛ بل الغاية الدوام والاستمرار، وشرع الطلاق كما قلنا للتخلص مما قد يحصل لأحد الزوجين من الضرر، دفعًا للحرج، ولقد حرص الشارع الحكيم على تثبيت المحبة والألفة بين الزوجين ليحصل الدوام بينهما، بما شرعه من حث على إمساك الزوجة مع الكراهية، وما شرعه من وسائل لحل المشكلات الزوجية، وتحذيره من الطلاق، فإذا كان ذلك معلومًا، فإن إقدام المرأة على أن الزوج إن شاء الطلاق طلق لا يكون مسوغًا للرجل أن يخدع المرأة فيتزوجها بنية الطلاق (1).

وقول الشيخ رحمه الله: «فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله أو قدمت امرأته الغائبة أو قضى وطره منها، من هذا الباب» .

أقول: في كلام الشيخ نفسه ما يشعر الإنسان بالفرق بين النكاحين والفرق بين الزوجتين.

فالأولى: لا شك أنها زوجته، وأنها أهله حقيقة، وهو الحق الذي أظهره الله على لسان الشيخ رحمه الله، فقد قال رحمه الله:«إذا قدمت امرأته أو أهله» .

وأما الثانية: فهي في الحقيقة ليست أهله ولا امرأته، فهي إذًا أجنبية، وعلاقته بها علاقة مؤقتة، علاقة شهوانية، كما قال الشيخ:«أو قضى وطره منها» ، ولذلك تركها حينما جاءت امرأته أو سافر إلى أهله أو قضى وطره منها. فلعل القارئ أدرك الفرق الكبير بين الزوجتين والنكاحين من خلال ما سطَّره الشيخ نفسه رحمه الله تعالى.

(1) سبق أن ناقشنا مثل هذا الكلام ص78، 79.

ص: 97

وقول الشيخ رحمه الله تعالى: «وزيد كان قد عزم على طلاق امرأته، ولم تخرج بذلك عن زوجتيه؛ بل ما زالت زوجته حتى طلقها

» إلى أن قال: «وبكل حال، لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحًا في النكاح في الاستدامة، وهذا مما لا نعرف فيه نزاعًا، وإذًا، ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال» (1).

قلت: ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من نية زيد طلاق زوجته زينب واستمرار النية معه حتى طلقها ليس دليلاً لما ذهب إليه من جواز النكاح بنية الطلاق. إذ أن زيدًا حينما عقد على زينب لم تكن نيته الطلاق، وإنما وجدت النية فيما بعد، وفرق بين أن يتزوج المرأة يريد دوام النكاح ثم بعد ذلك تتغير هذه النية فينوي طلاقها، وبين إنسان عقد على امرأة لا يريد دوام النكاح معها؛ بل نوى عند عقد النكاح طلاقها بعد مدة. فالأول لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وهذا مما لا يعرف فيه نزاع؛ بل قد ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها، كما قال الشيخ رحمه الله. ولكن أقول: ذلك بشرط أن توجد النية بعد تمام عقد النكاح. وأما الثاني (وهو جود نية الطلاق بعد مدة، عند عقد النكاح)، فهذا هو محل الخلاف، وبينهما فرق كبير.

وقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد، فإن النية المبطلة ما كانت مناقضة لمقصود العقد، والطلاق بعد مدة أمر جائز لا يناقض مقصود العقد إلى حين الطلاق» (2).

قلت: إن المسألتين حكمهما واحد، فهما كما يقال: وجهان لعملة واحدة، فنية التطليق عند العقد غير جائزة، وذلك لمناقضته مقصود الشرع

(1) ارجع إلى كلام الشيخ رحمه الله في ص51.

(2)

ارجع إلى كلام شيخ الإسلام ص52 من هذا الكتاب.

ص: 98

وما خالف مقصود الشرع فهو باطل، ونية الدوام والاستمرار عند العقد من مقاصد الشريعة، وبدوام النكاح واستمراره تحصل الحِكَمُ العظيمة من شرعية النكاح، وقد سبق أن ذكرنا نماذج من هذه الأسرار والحِكَمُ العظيمة في مشروعية النكاح (1).

وأما قول الشيخ رحمه الله تعالى: «بخلاف المحلَّل، فإنه لا رغبة له في نكاحها ألبتة؛ بل في كونها زوجة الأول، ولو أمكنه ذلك بغير تحليل، لم يحلها هذا، وإن كان مقصوده العوض، فلو حصل له بدون نكاحها، لم يتزوج» (2).

فجوابنا عليه: نقول: نعم، ربما لا يكون عند بعضهم رغبة في نكاحها، ولكن توجد عنده شهوة عند الوطء، والكثير منهم تكون عنده رغبة في زواج التحليل، ولكن هو زواج لا يريد به الدوام أو الاستمرار؛ بل يطلقها بعد انتهاء الغرض، كذلك الزواج بنية الطلاق، فالزواج في كليهما يتعارض مع مقاصد الشريعة في مشروعية النكاح.

أرأيتم لو أن رجلاً تزوج امرأة بنية تحليلها لزوجها، ولم يشترط

(1) انظر ص71 و 106 من هذا الكتاب.

(2)

ارجع إلى كلامه في ص52 من هذا الكتاب.

ص: 99

عليه أحد أن يطلقها؛ بل لم يعلم بنيته أحد إلا الله، فهل يجوز له هذا النكاح؟ هذا ما لا يجيزه شيخ الإسلام نفسه رحمه الله تعالى.

تعال معي لنقرأ ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ذلك، يقول:«وإن حصل بذلك تحليلها للأول، فهو لا يكون محللاً إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطًا لفظيًا أو عرفيًا، سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده. وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلاً، فهذا نكاح من الأنكحة» (1)، انتهى.

قلت: إن قوله رحمه الله: «أو عرفيًا» ، دليل على تحريم النكاح بنية الطلاق، إذا عُرِفَ بين الناس أن مثل هذا الرجل يتزوج بنية الطلاق، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بكراهة مثل هذا النكاح.

وخلاصة القول:

ولعلنا من خلال جوابنا على ما أورده الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - من أدلة، نخلص إلى القول بأن شيخ الإسلام رحمه الله له في حكم الزواج بنية الطلاق رأيان:

أحدهما: القول بجوازه كما مر بنا.

والقول الآخر: كراهته، إذ قال رحمه الله في الفتاوى الكبرى: «وإن نوى طلاقها حتمًا عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك وفي صحة النكاح نزاع

» (2).

وقد سبق من خلال استدلاله أنه يلزمه أن يقول بتحريمه، فقد قال رحمه الله في نكاح التحليل: «ولا يكون محللاً إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطًا لفظيًا أو عرفيًا سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده. وأما إذا

(1) ذكرنا ذلك عنه في ص52 من هذا الكتاب.

(2)

«الفتاوى الكبرى» 4/ 72 و 73.

ص: 100

لم يكن فيه قصد تحليل ولا شَرط أصلاً فهذا نكاح من الأنكحة»، فقوله رحمه الله إذا قصده؛ أي: إذا نوى بنكاحه التحليل دون شرط عليه ولا علم لأحد قصده - فهذا اعتراف من شيخ الإسلام رحمه الله بأن النية لها أثر في الحكم الشرعي. إذًا فما الفرق بين نية المحلل الذي حرم عليه هذا النكاح بمجرد نيته، وبين الزواج بنية الطلاق؟

لا فرق بينهما فيلزم شيخ الإسلام رحمه الله القول بتحريم هذا النكاح وبطلانه قياسًا على بطلان نكاح من نوى التحليل (1).

بل قال - رحمه الله تعالى - في موضع آخر: «والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام له ثواب الفاعل التام وعقاب الفاعل التام» (2).

وقال رحمه الله في موضع آخر: «والنكاح المبيح هو النكاح المعروف عند المسلمين وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة» (3). انتهى.

والناس قديمًا وحديثًا، عجمًا وعربًا، إنسًا وجنًا لا يعرفون إلا هذا النكاح الذي يوافق مقاصد الشريعة في مشروعية الزواج.

ولو أن شيخ الإسلام رحمه الله رأى ما عليه الناس اليوم من التلاعب بأعراض النساء وما يبيته كل واحد يتزوج بهذا الزواج، من غش وخداع للمرأة وأوليائها. وما جره ذلك من مفاسد عظيمة، أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية وصحية وغير ذلك، أقول لو رأى ذلك لما قال بجواز مثل هذا النكاح؛ لأن من القواعد العامة المسلم بها عند شيخ الإسلام رحمه الله أن الأمور بمقاصدها، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

ومن أصول شيخ الإسلام رحمه الله القول بسد الذرائع المفضية إلى مفاسد.

(1)«مجمع الفتاوى» 32/ 93، 94.

(2)

«مجموع الفتاوى» 10/ 740.

(3)

«مجموع الفتاوى» 32/ 93، 94.

ص: 101