المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين - الزواج بنية الطلاق من خلال أدلة الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة الإسلامية

[صالح آل منصور]

فهرس الكتاب

- ‌تقريظ لفضيلة الشيخ/محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

- ‌تقريظ صاحب الفضيلةرئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماءالشيخ صالح بن محمد اللحيدان

- ‌تقريظ لفضيلة الشيخ الدكتورصالح بن فوزان الفوزان

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌المراد بالزواج الذي شرعه الله تعالى

- ‌مقاصد الشريعة في الزواج

- ‌نماذج من الأنكحة التي حرمها الله

- ‌لماذا حرمت هذه الأنكحة

- ‌النكاح بنية الطلاق

- ‌القول الأول: ذهب الجمهور إلى الجواز

- ‌ الحنفية:

- ‌ المالكية:

- ‌ الشافعية:

- ‌ الحنابلة:

- ‌رأي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

- ‌القول الثاني: التحريم

- ‌ الإمام الأوزاعي

- ‌ الحنابلة:

- ‌رأي ابن القيم رحمه اللهفي حكم الزواج بنية الطلاق

- ‌رأي المجمع الفقهي الإسلامي

- ‌رأيي في حكم الزواج بنية الطلاق

- ‌ مقاصد الشريعة في النكاح

- ‌من مفاسد الزواج بنية الطلاق

- ‌الجواب على أدلة المجوزين للزواج بنية الطلاق

- ‌ جوابنا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

- ‌أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين

- ‌زواج المسيار

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين

فصل

‌أدلة المجوزين لهذا النكاح من المتأخرين

وقد انتصر بعض المتأخرين لرأي المجوزين، فاستدلوا بما يلي:

الدليل الأول:

إن الزواج ضرورة تدعو إليه الحاجة، ومن القواعد الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات.

الجواب:

أقول: ما ضابط الضرورات التي تبيح المحظورات؟ أهي الحاجة إلى الشيء خوفًا من الوقوع بضده؟ كلا ليس ذلك ضابط الضرورة، فالحاجة إلى الشيء منها ما يصل إلى درجة الضروري، ومنها ما يصل إلى درجة الحاجي، أو بعبارة أخرى منها ما هو ضروري، ومنها ما ليس بضروري. فضابط الضرورة التي تبيح المحظور هي ما يترتب على تركها ضياع الدين، أو النفس، أو العقل، أو المال، أو النسب، أو العرض، كالجوع الشديد الذي لا يمكن دفعه بأي وسيلة من الوسائل إلا بالأكل من الميتة، أو دفع غصة بالإنسان لا يمكن دفعها بأي وسيلة إلا بشربة مقدار ما يدفع الغصة من الخمر، أو إكراه على النطق بكلمة الكفر لا يمكن دفعه إلا بالنطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان. فهل يا ترى الزواج بنية الطلاق من هذا النوع؟ كلا، فإذا كان هو في حاجة إلى الزواج ومضطرًا إليه لماذا لا يتزوج بنية الدوام والاستمرار لا بنية الطلاق، ثم هو بعد ذلك بالخيار؛ لأن تكاليف الزواجين واحدة والمؤنة واحدة.

ص: 102

الدليل الثاني:

إن الزواج بنية الطلاق قد تدعو إليه ضرورة وحاجة بعض الناس كمن ابتعث لدراسة أو مهمة، أو تمثيل لبلاده أو تجارة في بعض البلدان التي قد يتعرض فيها الإنسان للفتنة. فهو بين أمرين، إما أن يقع في الزنا وإما أن يتزوج بنية الطلاق. فتعين عليه ارتكاب أدنى المفسدتين دفعًا لأعلاهما.

الجواب:

نقول: متى غلب على ظنه الفتنة والوقوع في الزنى فإنه لا يجوز له السفر إلى بلاد الكفر، وقد ذكر العلماء لجواز السفر إلى بلاد الكفر شروطًا منها:

1 -

لا يجوز السفر إلى بلاد الكفر إلا في الضرورات القصوى بعد التأكد من أن الإيجابيات أكثر من السلبيات، أو بعبارة أخرى أن المصلحة في السفر أعظم من المفسدة، فإن ترجحت المفسدة حرم السفر.

2 -

أن يكون عنده حصانة علمية وعقيدة راسخة وفكر نيَّر.

3 -

أن يكون صالحًا تقيًا محافظًا على شرائع الإسلام مبتعدًا عن محارم الله.

4 -

إذا سافر يجب عليه أن يبتعد عن مواطن الفتنة، وأسباب مهاوي الرذيلة من اختلاط، وخلوة محرمة، ومسلك مشين، وأصدقاء السوء، ويغض بصره، ويحفظ لسانه.

5 -

ربط الشباب بمراكز إسلامية والحرص على الرفقة الطيبة والجلساء الصالحين.

6 -

يأخذ معه زوجته إن كان متزوجًا، إن تيسر له ذلك، ،إلا تزوج بنية الدوام سواء كان ذلك في بلاده أو في بلاد الغربة إذا كان مستطيعًا

ص: 103

زواجًا بنية الدوام والاستمرار؛ أي: ينوي عند عقد النكاح أن تكون زوجته دائمًا في بلاد الغربة، وفي بلده يريد بزواجه تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج من غض البصر، وإحصان فرجه وفرجها، وأن تكون سكنًا له ويكون سكنًا لها، وتكون لباسًا له ويكون لباسًا لها على الدوام، حريصًا على تحقيق المودة بينهما، وحصول الولد، مستجيبًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاثرة الأمم يوم القيامة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم» (1).

فإن لم يستطع فليلجأ إلى الاستعفاف استجابة لقول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، ويستعين على ذلك بعد اللجوء إلى الله والتضرع إليه، وسؤاله العون على العفة، وإحصان الفرج بالصيام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (2).

ومع ذلك فإنه لا يكفي زواجه الأمن من الفتنة مع وجود أسبابها، حتى ولو كان زواجًا بنية الدوام والاستمرار فضلاً عن الزواج بنية الطلاق. وإلا فما فائدة أمر الشارع للرجل والمرأة بغض البصر، وإحصان الفرج، وأمر المرأة بالحجاب ونهيها عن إبداء الزينة، وعن الخلوة بالمرأة والسفر بلا محرم، والخضوع بالقول، وهل الأمر خاص بمن لم يتزوج وبعد الزواج يباح له ذلك كله.

وقول المجيزين إن الزواج بنية الطلاق قد تدعو إليه ضرورة وحاجة بعض الناس، اعتراف من المخالف بأن الزواج بنية الطلاق لا يجوز،

(1) سبق تخريجه ص17 حاشية 1.

(2)

سبق تخريجه، رواه الجماعة.

ص: 104

وإنما جاز للضرورة إن سلمنا له ذلك، فإنا نقول إن الزواج المذكور لا يحقق الغرض الذي يريده الشارع من إشباع رغبته الجنسية، وإحصان فرجه، كلا، بل سيصيبه السعار الجنسي مما يراه من تلك المغريات من أجسام عارية واختلاط وخلوة، ونظرات مسعورة تلاحقه ويلاحقها لا يخلو منها مكان، قائلة له هيت لك، أترون زواجه هذا حتى ولو كان زواجًا دائمًا ومستمرًا أترونه يعصمه ويحصنه؟ الجواب معروف عند المنصفين العقلاء، فارتكاب الزواج هذا ليس هو أدنى المفسدتين. لأنه متى شاع مثل هذا الزواج حصل من المفاسد ما سبق أن ذكرناه، مؤيدًا بالأدلة الشرعية التي تؤيدها الفطرة السليمة والعقل السليم

والله أعلم.

الدليل الثالث:

إن الزواج بنية الطلاق لم يرد في حكمه نص شرعي يدل على تحريم الزواج بنية الطلاق، ولا على إباحته.

الجواب عن هذا الدليل من وجهين:

الوجه الأول: قولهم إنه لم يرد في حكم الزواج بنية الطلاق نص شرعي يدل على تحريمه أو إباحته، أقول هذا قول على الله بلا علم، فإن الشارع لم يفرط في شيء مما يحتاجه الناس، يقول تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]،

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فإما أن يدل على تلك الأحكام بنص صريح، أو عن طريق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو عن طريق الصحابة، أو عن طريق القياس والنظر في مقاصد الشريعة، أو غير ذلك من الأدلة. وإننا حينما رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لنعرف مقاصد الشريعة في النكاح، وجدنا أن ما جاء عن الشارع من مقاصد الشريعة في النكاح تدل على تحريم النكاح بنية الطلاق، فمن المعلوم أن المقصود من خلق الجن والإنس عبادة الله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، إذًا لا بد من

ص: 105

وجود عابد يعبد الله، وهذا لا يحصل إلا بالنكاح. ومن هنا نفهم أن الوطء ليس غاية؛ بل هو وسيلة إلى الإنجاب، لذا أوجد الله غريزة الشهوة حتى تحصل الذرية. ومن ثم فإن الشارع الحكيم جعل أسبابًا ووسائل تنظم هذه الغريزة وتحفظها حتى لا تحصل الفوضى في المجتمع بوجود النسل، واختلاطه بين الرجال، فلا يعرف للولد أب يقوم برعايته وتربيته على الأخلاق والفضيلة والعفة (1)، وتعليم الإسلام حتى يتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض، وبضياع الأولاد تحصل الفوضى العظيمة، وربما يتعرض النسل للانقراض، لذا شرع الله الزواج لمقاصد سامية، والمراد بالزواج الزواج الذي ينوي به صاحبه الدوام، فتعالوا معي لنعرف هل هناك دليل من الشارع على عدم مشروعية الزواج بنية الطلاق أو لا؟

أقول: إننا إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لنعرف مقاصد الشريعة في النكاح وجدناه شرع لغايات عظيمة ومقاصد سامية شريفة ولا تحصل أو لا توجد على وجه أكمل إلا إذا كان ذلك الزواج يراد به الدوام والاستمرار، ولا شك أن الأَوْلى أن يحمل مراد الله على ما هو أكمل وأفضل.

فمن مقاصد الشارع في مشروعية النكاح:

1 -

السكن: كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، والمراد به السكن الكامل بين الزوجين، بما تحمله هذه الكلمة من معنى، سكن القلب وسكن الجوارح، وسكن الحواس، وسكن الفكر لكل من الزوجين، وهو الاستقرار الكامل ولا يكون كذلك إلا إذا كان مصحوبًا بالمودة والرحمة من الطرفين. فسكن المسافر في فندق ونحوه

(1) وبهذا يعرف ضلال دعاة تجرد المرأة من أحكام الشرع.

ص: 106

لا يكون سكنًا مستقرًا ولذلك لا يتخذ الساكن فيه وسائل الدوام والاستقرار.

وهل الزواج بنية الطلاق أو نكاح المتعة أو التحليل يكون سكنًا لكل من الزوجين؟ وهل يبذل الزوج وسائل الدوام والاستقرار لهذا الزواج؟ وهل توجد فيه المودة والرحمة وقد أضمر في قلبه عند بدء عقد النكاح الطلاق، ثم هو ينفذه بعد انتهاء غرضه؟ فأين الرحمة والمودة في هذا النكاح؟

وماذا نفهم من قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]؟ هل نفهم أن المراد أنكحوهم ليفرغوا شهوتهم ثم يطلقونهن؟ وإذا كانت نيته في الزواج الطلاق بعد إفراغ الشهوة، فهل يزول بعده تأيمهم؟ وهل هذا مقصود الشارع من مشروعية النكاح؟

وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، ألا يدل ذلك على أن الزواج بنية الطلاق غير مراد للشارع فكيف يكون لباسًا لها أو تكون لباسًا له إذا تزوجها بنية الطلاق، يتزوجها اليوم وغدًا يطلقها ويتزوج الأخرى بعدها ثم يطلقها، فكيف يحصل بذلك الستر والعفة. فلباسٌ لا يدوم مع صاحبه لا يستره، وفي المثل تقول العرب (ثوب العارية لا يستر)؛ لأنه لا يملكها المستعير فهو غير دائم عليه فسيأخذه صاحبه، فكذلك الزواج بنية الطلاق لا يستر كلاً من الزوجين لأنه لا يحصل به إعفاف؛ بل ربما يعرض الزوجة للسقوط، متى بقيت بدون زوج. وأيهما أكمل حالاً وأحب إلى الله الزواج الذي يراد به الدوام أو الزواج بنية الطلاق؟ لا شك أن الأول أكمل حالاً وأحب إلى الله، لذا يحمل مراد الله على الأكمل والأحسن إذ به تتحقق مقاصده من شرعية الزواج.

وما الذي يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ

ص: 107

أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فما المراد بالسكن؟ أليس هو ما يسكن الإنسان ويستره ويلجأ إليه للراحة، فهل مراد الشارع السكن الذي يسكنه الإنسان يومًا أو يومين أو زمنًا محدودًا يتركه إلى سكن آخر وآخر وآخر.

ولذا يجدر بنا أن نحمل مراد الله في الزواج على أكمل حالة وأفضلها، في قوله تعالى:{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} .

2 -

ومنها الدوام والاستمرار: يقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

وفي ذلك دلالة على أن المراد بالمعاشرة بالمعروف حصول المودة والرحمة على وجه الدوام والاستمرار، بدليل ترغيبه تعالى الأزواج بإمساك زوجاتهم.

وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} دليل على دوام النكاح لأن المعروف بين الناس جميعًا عربهم وعجمهم، مسلمهم وكافرهم، أن من يتزوج إنما يريد بزواجه الدوام؛ بل هذا أمر فطر الله عليه الإنس والجن، لو لم يكن ذلك مما فطر الله عليه الناس لما تحقق ما أراد الله من عمارة الكون كما أراد الله تعالى، ولو عرف بين الناس غير الدوام لكان نكاح متعة، فمعاشرة من يتزوج بنية الطلاق ليست معاشرة بالمعروف.

ومما يدل على أن الأصل في النكاح هو الدوام والاستمرار قول الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، أمر الله بالحكمين لإزالة الشقاق الذي وقع بينهما فعكر صفو حياتهما الذي ربما أزال استمرار الحياة الزوجية ورغبتهما في إصلاح النية بينهما حتى يوفق الله بينهما. ومعلوم ما سر

ص: 108

توفيق الله بينهما. فلا شك أن أعظم شيء هو استمرار الحياة الزوجية التي يترتب عليها سعادة الطرفين؛ بل ربما سعادة الأسر والمجتمع.

وفي قوله تعالى: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] دليل على الفرق بين الزواج بنية الطلاق والزواج بنية الدوام. فالزواج بنية الدوام توجد فيه النية الصالحة إذ بدأ الزواج بهذه النية الصالحة بنية الدوام، وعند وجود الحكمين يرغب كل منهما بدوام العشرة وزوال أسباب الخلاف التي تمنع من استمرار النكاح، لذا قال الله تعالى لهما ما دامت هذه نيتهما:{يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} .

أما الزواج بنية الطلاق، فقد بدأ الزوج النكاح بنية غير صالحة. بدأها بالخداع والخيانة والمكر والخبث، حيث بيّت هذه النية الماكرة لهذه المرأة المسكينة. فإن وجد شقاق بينهما، ووجد حكمان للإصلاح بينهما فإنه لا يريد في الغالب إصلاحًا، وإن أراد إصلاحًا فإنه لا يريد دوامًا زائدًا على المدة التي حدد نهاية النكاح بها في قلبه.

ومما يدل على أن الأصل في النكاح الدوام والاستمرار قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما خطب امرأة: «اذهب فانظر فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (1) قال الترمذي يؤدم بينكما: «أي تدوم المودة» (2)،

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم (18162) 4/ 244، ورواه النسائي في «السنن الكبرى» ، باب النظر إلى المرأة قبل تزوجيها رقم (5346) 3/ 272، ورواه الترمذي، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة رقم (1087) 3/ 397، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا: لا بأس أن ينظر إليها ما لم ير منها محرمًا وهو قول أحمد وإسحاق، ومعنى قوله:«أن يؤدم بينكما، قال: أن تدوم المودة بينكما» قال أبو عيسى: وفي الباب عن محمد بن مسلمة وجابر وأبي حميد وأبي هريرة ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه رقم (2697)، ورواه ابن ماجه، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها رقم (1864) 1/ 599، صححه ابن حبان (4043) 0/ 351، وأيضًا الضياء المقدسي في المختارة وقال إسناده صحيح (1788) 5/ 169.

(2)

انظر: «تلخيص الحبير» 3/ 146، و «نصب الراية» 4/ 240.

ص: 109

فهل معنى قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة: «فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» أي أحرى أن توجد المودة بينكما إلى نهاية المدة التي نواها المتزوج بنية الطلاق؟؟، كلا، ثم كلا؛ بل المراد بذلك أحرى أن توجد بينكما المودة والمحبة التي يكون من أثرها حسن العشرة على الدوام، فهذا الحديث دليل على أن الزواج الذي شرعه الله هو ما كان يراد به الدوام والاستمرار، فإن كان غير ذلك فهو ليس مشروعًا.

شبهة وجوابها:

قد يقول قائل: إن المودة قد توجد بينهما وهي لا تكون غالبًا موجودة قبل الزواج ثم توجد بعد ذلك، فكذلك الزواج بنية الطلاق قد لا تكون المودة والرحمة موجودة عند عقد النكاح، ولكن قد توجد بعد الزواج، فيحصل الاستمرار في النكاح.

قلت: إن احتمال وجود الرحمة والمودة في الزواج الذي لا ينوي فيه المتزوج الطلاق أقوى وأغلب، والشريعة كثيرًا ما تبني أحكامها على الظن الغالب، كالجمع والقصر خوف المشقة، والاجتهاد في القبلة وقول المفتي، وحكم الحاكم بشهادة الشاهدين أو بشاهد مع اليمين إلى غير ذلك، ولا يعلَّق الحكم على الشيء النادر.

3 -

ومن مقاصد الشريعة أيضًا: حصول الأولاد وإكثار النسل: يقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم» (1)، فهل من يتزوج بنية الطلاق بعد انتهاء مهمته من هذا البلد أو بعد قدوم زوجته الغائبة هل

(1) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان وصححه الحاكم، كلهم رووه عن معقل بن يسار وهو جزء من حديث سبق تخريجه ص17، حاشية 1.

ص: 110

يريد المتزوج بهذه النية أولادًا؟ في الغالب أنه لا يريد بزواجه هذا أولادًا، لذا فإن الكثيرين يستعملون المانع للحمل.

4 -

ومنها: حفظ الأنساب: ومن ثمرات حفظ الأنساب حصول التعارف والتآلف والتعاون والتناصر والتكافل والعقل في الديات. ولولا عقد النكاح لضاعت الفروج والأنساب ولأصبحت الحياة فوضى. وكيف يحصل التعارف على نطاق واسع ثابت مستقر؟ وكيف يحصل العقل في الديات؟ وكيف تحفظ الأنساب إذا لم يحصل دوام النكاح؟

5 -

ومنها: غض البصر وإحصان الفرج عما حرم الله: ولذلك جعل الله كلاً من الزوجين لباسًا للآخر فقال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ، فهي اللباس الذي يلبسه الرجل فيلصقه بجسمه فيجد فيه الظل والدفء والستر، فيستر به جسمه وعورته. كما هو الآخر لباس لها تجد فيه الظل والدفء والستر، فتستر به جسمها وعورتها.

الله أكبر، ما أبلغ قوله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} فإذا كانت لباسًا له يستر بها عورته، فهي إذًا تغض بصره وتحصن فرجه، فلا يطمح إلى ما حرم الله عليه، فيكشف عورته، فهي إذًا الساتر لعورته. وإذا كان الزوج لباسًا لها تستر به جسمها وعورتها، فهو إذًا يغض بصرها ويحصن فرجها، فلا تطمح إلى ما حرم الله عليها، فتكشف عورتها له فهو إذًا الساتر لعورتها.

وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ، فيه إشارة إلى الدوام والاستمرار، لأن ستر العورة يراد به الستر دائمًا. إذ لو كان الزواج مؤقتًا كنكاح المتعة أو التحليل أو الزواج بنية الطلاق لما حصل به دوام الستر. وقد جاء في المثل السائر:«ثوب العارية لا يستر» . فهل بعد هذا نقول: إن الزواج بنية الطلاق يوجد فيه معنى اللباس الذي

ص: 111

أراده الله بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ؛ ثم بعد ذلك ألا يكون ذلك دليلاً على أن الزواج بنية الطلاق مناف لمقاصد الشريعة في النكاح؟

6 -

ومنها: تكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع الصالح: وهل الزواج بنية الطلاق يحصل به تكوين الأسرة وترابطها؟ كلا؛ بل المتزوج بنية الطلاق قصده وفعله قائم على محاربة هذا المقصد، فلا يريد من هذه الزوجة تكوين الأسرة، وإنما يريد ذلك من زوجته الحقيقية، أما هذه فمجرد إناء يفرغ فيه شهوته ليتخلص منها فحسب، تلك بعض مقاصد الشريعة الإسلامية في مشروعية الزواج - والله أعلم - فأي مقصد بعد هذا نجده في الزواج بنية الطلاق؟ اللهم إلا إشباع تلك الغريزة.

فإن قيل: إن فيه إحصانًا للفروج من الوقوع في الزنا.

قلت: إن إحصان الفرج يكون بغير الزواج، وهو أن ينوي بزواجه الدوام والاستمرار حتى يصيب مقاصد الشريعة في النكاح. أما مثل ذلك الزواج فالذي رأيناه وغيرنا أن كثيرًا من الشباب وغيرهم يذهب إلى أمريكا وأوروبا وإلى بعض البلاد العربية والإسلامية فيتزوجون ويطلقون في فترة قصيرة عدة زوجات، فهل يعتبر هذا إحصانًا للفرج؟

وهل هذه المرأة المسكينة المخدوعة التي طلقت، أحصن فرجها؟ كلا

بل أذاقها العسيلة فعرفتها وتعلق قلبها بها وبقيت محرومة منها، فحدَّث ولا حرج عن خطورة هذا الحرمان. كيف وقد زال الحجاب الذي قد يمنع كثيرًا من الفتيات من الوقوع في الفاحشة خشية الفضيحة والعار (1).

فإن قيل: إن ما ذكرت حاصل فيما إذا تزوجها بنية الدوام والاستمرار، فإذا لم تعجبه وكرهها طلقها (2)؟

(1) وقد فصلنا الجواب في ذلك ص80.

(2)

وقد ذكر مثل ذلك شيخ الإسلام وأجبنا عنه مفصلاً ص89.

ص: 112

فالجواب:

أقول إن هناك فرقًا بين النكاحين، فالأول تزوجها، وقد عقد النية الجازمة على طلاقها فخدع المرأة وغشها فقبلته زوجًا غير عالمة بمقصده السيء فطلقها بعد انتهاء غرضه. أما الثاني فقد تزوج المرأة وفي نيته الاستمرار والدوام. إذا لم يحصل بينهما وفاق ولم توجد المودة بينهما وشق عليه إمساكها فطلقها، فإنه والحالة هذه هو معذور ولا يلام بعد أن يستعمل جميع الوسائل التي شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لإبقائها واستمرار النكاح، فالأمر بعد ذلك لله:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، فلعل الفرق بين النكاحين واضح.

والخلاصة أن نقول: أن ثمة أمورًا ثلاثة ينبغي أن يتنبه لها الإنسان.

أحدها: خواطر وهواجس ترد على الإنسان عند عقد النكاح.

وثانيها: أن ينوي أنها إن صلحت أبقاها وإن لم تعجبه طلقها.

ثالثها: أن ينوي أنه متى مضى شهر أو انتهى غرضه من البلد أو متى شفى الله زوجته يطلقها.

أما الأول: فلا يضر العقد ولا يؤثر فيه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه:«إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم» (1).

والثاني: أيضًا لا يضر العقد، حيث إن هذا مما يقتضيه العقد بل جميع العقود أن الإنسان إذا لم تعجبه السلعة يبيعها أو لم يرد الله بينهما توافق يطلقها.

(1) رواه البخاري في صحيحه في مواضع عدة أحدها باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان رقم (6287) 6/ 2454، ومسلم في صحيحه رقم (127) 1/ 116 كلاهما من طريق قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة.

ص: 113

أما الثالث: فلم يضمر نية صحيحة سليمة؛ بل أضمر وعقد العزم على طلاقها، ولو سألته هل ترغب فيها زوجة لك وأمًا لأولادك وشريكة لك في حياتك؟ لأجابك على الفور: لا، لا أريدها زوجة لي على الدوام ولا أرغب منها أولادًا؛ بل أريد أن استمتع بها وأقضي معها فترة زمنية ثم أطلقها لأرجع إلى زوجتي الحقيقية، أو أتزوج المرأة التي تعجبني على الدوام.

فإن قيل: إنه قد يريد بزواجه عند العقد توقيت مدة الزواج بعدم إنجابها الأولاد؛ أي: إنه إذا لم تنجب له يطلقها.

فالجواب:

إن هذه النية لا بأس بها؛ لأنه دخل بها على أساس الرغبة في الولد والاستمرار بعد الإنجاب ولم يحدد بقاء الزواج بفترة معلومة، بخلاف من تزوج بنية الطلاق، فإنه دخل على أساس أنه لا يستمر معها ولا يرغب في الاستمرار؛ بل يريد الزوجة لفترة معينة ثم يفارقها بعد ذلك، فالفرق بين النكاحين كبير وواضح.

الوجه الثاني (1): قولهم أنه يبقى على الأصل وهو الإباحة. فإن هذا غير مسلَّم، فإن (الأصل في الأبضاع التحريم) فلا تستباح إلا بما دل الشرع على إباحته. وهذا النكاح لم يدل دليل من الشرع على إباحته فتبقى حرمة الأبضاع على الأصل، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل.

الدليل الرابع:

أن هذا النكاح قد توفرت فيه أركان النكاح وشروطه، وخلا من الشروط الفاسدة، وهو يحقق مصالح قد تضيع لو قيل بعدم جوازه للمغتربين، ومنها طلب الحصانة، ووجوب العفة، والخوف من إشباع

(1) هذا الوجه الثاني في الجواب عن الدليل الثالث.

ص: 114

الغريزة بغير الطرق الشرعية، ومن المعلوم شرعًا أن الإسلام يكره العزوبة وينهى عن التبتل لأن الطاقة الجنسية قد تطغى على قدرة الإنسان فيقع في الحرام، ولكون النية المضمرة في القلب إذا لم يتلفظ بها أو يشترطها لا تؤثر على صحة النكاح.

الجواب عليه من وجهين:

الوجه الأول: سلمان توفر الأركان والشروط فيه، فإن هذا يجعل النكاح صحيحًا في الظاهر، أما في الباطن فالنكاح وجد فيه الغش والخداع، وحيث كان كذلك ولمنافاته مقاصد الشريعة فهو حرام.

الوجه الثاني: لا نسلَّم توفر جميع الأركان في هذا النكاح؛ بل اختل فيه ركن من أركان النكاح ألا وهو الإيجاب. فإن المرأة ووليها وافقًا على هذا النكاح بناءً على ما ظهر لهما من حال الزوج وهو أنه يريدها زوجة له على الدوام، فلو علمت بنيته لما قبلته ولا وليها. ولو أن أحدًا جاء يخطب ابنتك ليتزوجها بنية الطلاق وأخفى عليك هذه النية وبعد انتهاء غرضه منها طلقها، ألا تعتبره غاشًا ومخادعًا لك؟ ومن من الناس يرضى لموليته مثل هذا الزواج؟

وأما قولهم إن هذا الزواج يحقق مصالح قد تضيع لو قيل بعدم جوازه فالجواب نقول:

ما هذه المصالح التي قد تضيع لو قيل بعدم جوازه؟ أهي المودة والسكن والاستقرار الكامل الدائم؟

أهي حصول الأولاد وإكثار النسل؟

أهي حفظ الأنساب والتعارف والتآلف والتعاون والتناصر والتكافل والعقل في الديات؟

كل ذلك لا يوجد في الزواج بنية الطلاق، أو يوجد بشكل لا

ص: 115

يحصل به مقاصد الشريعة في شرعية الزواج (1).

وأما المغتربون: فإن الشارع أمر المسلم بالحصانة والعفة، وشرع أسبابها كغض البصر، وتحريم الخلوة، وسفر المرأة بدون محرم، وأمر بالزواج ونهي عن التبتل. والزواج الذي أمر به هو الزواج الذي يحقق مقاصد الشريعة. فالزواج المعروف عند الإنسانية من عرب وعجم، ومسلمين وغيرهم، وإنس وجن، هو الاقتران الذي يقصد به الاستمرار والدوام، إن أعجبته استمر معها، وإن لم تعجبه طلقها. وفرق بين هذه النية وبين من يتزوج وفي نيته وعزمه أنه لا يريدها إلا لمدة زمنية معينة يطلقها عندها؛ لأن الأول كما سبق أن قلت دخل في الزواج وهو يريد أن تبقى وتستمر، وإذا ما أعجبته طلقها، وهذا شأن عقود المعاملات والأنكحة إن أعجبته طلقها، وهذا شأن عقود المعاملات والأنكحة إن أعجبته السلعة وتعلقت رغبته فيها أبقاها، وإن لم تعجبه أو لم يرغب فيها أو رغب في غيرها باعها، وإن كانت امرأة طلقها، فليس من شروط النكاح أن ينوي أن لا يطلقها، ما دام دخل وفي نيته وعزمه أن تبقى عنده. بخلاف النكاح بنية الطلاق فهذا دخل في الزواج، وقد بيت نية السوء والخداع والغش أنه يطلقها، ولا يريدها أن تبقى عنده؛ بل ربما عمل الأسباب التي تجعل المرأة لا تدوم معه، فهو بمثابة من أراد شراء سيارة وفي قصده ونيته أنه سيردها على صاحبها بعد أن يحمل عليها متاعه ويحقق غرضه.

ومن الأسباب التي شرعها الله تعالى للحصانة والعفة: الاشتغال بطاعة الله وذكره، والاستعفاف والصيام، قال الله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع

(1) انظر ص71 و 110 وما بعدها.

ص: 116

فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (1)، أما النكاح بنية الطلاق فإنه لا يغض بصرًا، ولا يحصن فرجًا. وإما الذي يغض بصره ويحصن فرجه فإنه النكاح الذي شرعه الله وهو الذي يحقق مقاصد التشريع، فهذا النكاح هو بمثابة من يغسل الدم ببول.

وأما قولهم: ولكون النية المضمرة في القلب إذا لم يتلفظ بها أو يشترطها لا تؤثر على صحة النكاح:

فالجواب:

نقول: النية محلها القلب، وعليها المداد في الصحة والفساد، والثواب، والعقاب، والله لا يجازي العبد إلا من خلال نيته، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المكلف قد يؤاخذ على مجرد النية ولو لم يحصل معها فعل فقد روى أبو بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت: يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (2).

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي كبشة الأغاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجل أتاه الله مالاً وعلمًا فهو يعمل به في ماله فينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً فهو يقول لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا فهو يخبط فيه فينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو كان لي مال مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الوزر سواء» (3).

(1) أخرجه البخاري، ومسلم وغيرهما، وسبق تخريجه ص81.

(2)

رواه البخاري ومسلم من طريق حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة رضي الله عنه، وسبق تخريجه ص87.

(3)

رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (18053) 4/ 230، ورواه الترمذي، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر رقم (2325) 4/ 562، وقال أبو عيسى:«هذا حديث حسن صحيح» ، ورواه ابن ماجه، باب النية رقم (4228) 2/ 1413، ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» رقم (7617) 4/ 189.

ص: 117

فرجلان يصليان في مكان واحد خلف إمام واحد وقد أتيا في الظاهر بجميع شروط وأركان الصلاة وربما سننها، ولكن بينهما كما بين المشرق والمغرب، والثرى والثريا. فهذا صلاته صحيحة ومقبولة ويثاب عليها، والآخر صلاته غير صحيحة ومردودة عليه مع أنه لم يحصل من كل منهما تلفظ وصورة الصلاة واحدة. وهذان رجلان يجاهدان الكفار كل منهما يكر ويفر ويصول ويجول، ويقتل الكفار، فيقتلان وبينهما كما بين المشرق والمغرب، والثرى والثريا، عملهما واحد وجهادهما واحد، ولكن أحدهما قتل شهيدًا والآخر في نار جهنم، فما الذي فرق بينهما؛ لا شك أنه النية التي لم يطلع عليها أحد إلا الله عز وجل.

وهذان رجلان يتزوجان؛ أحدهما يريد بزواجه إعفاف فرجه على الدوام وإحصان المرأة والحصول على السكن والاستقرار الدائم ويريد الذرية الصالحة، وحفظ الأنساب، والتعارف والتآلف والتعاون والتناصر والتكافل، يريد بنكاحه جميع مقاصد الشارع في النكاح. والآخر يخدع المرأة ويخونها في زواجه منها، حيث يريد إفراغ شهوته لفترة حددها في نيته، ثم يتركها ليذهب إلى غيرها ويترك هذه ليذهب إلى أخرى مضمرًا في كل زواج مثل هذه النية الخبيثة. ثم لماذا حرم الله نكاح التحليل ونكاح المتعة، أليس لأنه لا يقصد به الدوام والاستمرار؛ بل لأنه زواج مؤقت ينافي مقصد الشارع من شرعية النكاح الذي يراد به الدوام، إذًا ما الفرق بين هذا النكاح ونكاح المتعة، والتحليل؟ قد تقول هذا صرح فيه بالنية وهذا لم يصرح فيه بالنية. فأقول: إنه إن صرح فيه بالنية أصبح الأمر مكشوفًا لكل أحد فيؤاخذ على عمله حسب ما ظهر لنا من حاله،

ص: 118

أما إذا أضمر الزواج بنية الطلاق بعد انتهاء غرضه فإن النية غير معلومة لنا ولكنها معلومة لله تعالى فيجازيه الله على ما علم من حاله، أما نحن فنعامله في نكاحه إذا لم يظهر لنا منه شيء معاملة النكاح الصحيح. ولكن أحيانًا قد تظهر هذه النية لكثير من الناس بل تكون حقيقة واضحة لا تقبل الشك، كما لو قال للناس إني أريد أن أتزوج زوجة مدة زمنية محدودة أطلقها بعدها، فيتزوج ويطلق بعد انتهاء غرضه؛ بل قد يسافر وإذا سئل أين تريد؟ قال: إلى بلد كذا لأتزوج ثم أطلقها كما هو الواقع؛ بل قال لي بعض الإخوة إنه حصل بيننا وبين شخص ما كلام في التعدد وخاض الجالسون فيه وذكروا محاسنه. وقال أحدهم أنا لا أحبذ التعدد لأني أجد طريقًا غير طريق التعدد، أسلم لي وأبعد عن المشاكل والمسؤوليات، ففي كل إجازة أذهب إلى بلد كذا وأتزوج وأطلق ثم أتزوج وأطلق وأشبع رغبتي وبعد ذلك أرجع إلى بلدي لأستقر مع زوجتي.

فهل تقول له ما دام لم يوجد شرط فالزواج صحيح، فما قيمة الشرط ما دامت الحقيقة موجودة بدون شرط؟ بل هذا أشد ضررًا على المرأة مما لو وجد التصريح بالنية لأنه خدعها وغشها وأفسد عليها بكارتها وشرفها وهدم مستقبلها وحياتها. أبمثل هذه الفوضى في أعراض العفيفات نراه جائزًا لأنه لم يصرح فيه بالنية ولم يتلفظ بها، سبحان الله؟!

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المكلف قد يؤاخذ على مجرد النية ولو لم يحصل معها عمل.

ولعلنا نذكر ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (1)، فالزواج بنية الطلاق وجدت فيه النية والعزم

(1) رواه البخاري ومسلم من طريق حماد بن زيد عن أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف ابن قيس عن أبي بكرة رضي الله عنه سبق تخريجه ص87.

ص: 119

الأكيد مقارنًا لعقد الزواج، ثم وجد الفعل الذي يصدق النية وهو الطلاق. فكيف بعد ما تقدم يقال: إن النية المضمرة في القلب إذا لم يتلفظ بها لا تؤثر على صحة النكاح، أليست النية التي وجد الفعل بعدها أبلغ من التلفظ بها؟

الدليل الخامس:

ومن أدلتهم: أن في الزواج بنية الطلاق فوائد كثيرة منها: تحصيل النسل، وقضاء الوطر، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الزواج.

والجواب عنه:

نقول: ليست كلها موجودة في مثل هذا الزواج غالبًا، نعم

بالنسبة لقضاء الوطر فهو موجود، ولكن ليس ذلك المقصد الأساس من مشروعية النكاح؛ بل هو منها. وأما بالنسبة لكثرة النسل ومباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الذي نعرفه أن المتزوج بنية الطلاق لا يريد بزواجه أولادًا ولا يرغب فيهم؛ بل قد يستعمل الأسباب التي تمنع حصول الولد؛ بل قصده إشباع رغبته لا أكثر، ولو وجد له ولد فإنه ربما يكون الكره له من أبيه، وربما يتبرأ منه، فكان مصيره الضياع والتشرد؛ لأنه جاءه عن غير رغبة. فكيف إذًا يحصل تكثير الأمة، وتتحقق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم من زواج بُني على الغريزة الجنسية وقضاء الوطر فحسب؟ فكيف يكون هذا الزواج مثل زواج نوى فيه صاحبه من أول العقد الاستمرار والدوام، زواج دخل فيه صاحبه وقد وطن نفسه على دوام العشرة والوئام والمحبة، يترقب كل منهما ولدًا صالحًا يتحقق فيه جميع أماني كل زوج مسلم - والله أعلم.

ص: 120

الدليل السادس:

أن الزواج بنية الطلاق سُّنّة أقرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مع علمه أن بعض الصحابة يتزوجون بنية الطلاق، ولم ينكر عليهم، ولو كان غير مشروع لما سكت عن بيان الحكم وقت الحاجة.

الجواب:

قولهم إن الزواج بنية الطلاق سُّنّة أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه

إلخ. هذه دعوى تحتاج إلى دليل ثابت صحيح يدل عليه، فهل الدليل وجود الطلاق بين الصحابة رضوان الله عليهم؟ فوقوعه - أي الطلاق - بينهم وبين المسلمين إلى قيام الساعة، حيث جاءت به شريعة الله في كتابه وعلى لسان رسوله وفعله، وإجماع المسلمين. فهل هذا يعتبر دليلاً على جواز الزواج بنية الطلاق؟

إن الصحابة رضي الله عنهم أقرب الناس إلى الكمال، فإذا تزوج أحدهم لا يكون همه خداعَ وغشَ الزوجة وأوليائها، ولا يكون همه إشباع رغبته الجنسية دون مبالاة بمقاصد الشريعة كالمودة والسكن وإحصان المرأة، وإغضاض طرفها وإسعادها وإسكانها على الدوام في بيت ترفرف فيه السعادة، وإنجاب الأولاد وتقوية روابط الأسر. وهل جاء خبر صحيح أو ضعيف يفيد أن الصحابة أو أحدًا منهم صرح بقوله إني تزوجت بنية الطلاق؟ فلا بد من تصريحه أو وجود ما يدل على ذلك مما يقوم مقام التصريح وأنه انتشر بين الصحابة حتى يقال: إن هذا مما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره.

لأن النية في القلب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فلا نظن بهم هذا الظن ما دمنا نجد لعملهم محملاً طيبًا، وهو أن نقول إن وجود الطلاق أمر عارض وطارئ بعد العقد أو الدخول بالزوجة، لأسباب كثيرة كعدم وجود المودة، والرحمة، التي يجعلها الله بين الزوجين. وما أكثر

ص: 121

الأسباب التي تجعل الرجل منا يطلق امرأته. والطلاق في أصله جائز قبل النكاح وبعد النكاح.

أما الزواج مع نية الطلاق التي تكون سابقة للعقد أو مقارنة له فهذا ننزه عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ننزه شرع الله منه. وهل يرضى مؤمن يحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضى أن يكون مثل هذا الزواج الذي نراه اليوم، والذي يكون فيه الغش والخداع للمرأة وأوليائها والتلاعب بكرامة النساء وأعراضهن، وتعريضهن للسقوط والوقوع في فاحشة الزنا، وغير ذلك مما ينافي مقاصد الشريعة في مشروعية النكاح.

أقول: هل يرضى مسلم أن يصف الصحابة أو بعضهم بذلك ويحمل نياتهم المحمل السيء جهلاً؟ حاشاهم ذلك رضي الله عنهم وأرضاهم، وغفر الله للجميع وهدانا جميعًا الصراط المستقيم وحشرنا جميعًا معهم.

وأما القول: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم ذلك من الصحابة ولم ينكر عليهم فيكون مشروعًا.

فالجواب:

إنه لم يثبت عن الصحابة أو أحدٍ منهم ما قيل من أنهم يتزوجون بنية الطلاق حتى يقال إن الرسول علم بها. وعلى فرض التسليم جدلاً أن بعضهم كان يتزوج بنية الطلاق ويطلق، فإنه لا يعتبر عمله مشروعًا لأنه لم يدل دليل على إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له حتى يكون مشروعًا. لأن من شروط السنة التقريرية عند أهل الحديث وأهل الأصول علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالفاعل، فأين ما يدل على علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالفاعل وإقراره له؟

الدليل السابع:

ومن أدلتهم ما يقال: إن الزواج بنية الطلاق كان على عهد

ص: 122

الصحابة رضي الله عنهم دون أن ينكر أحد منهم على من يتزوج بنية الطلاق؛ بل كان على مرأى ومسمع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين، فيكون مع فشو الخبر بينهم حجة. وذكروا أن من بين الذين اشتهروا بالزواج بنية الطلاق الحسن بن علي رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حيث نقل شمس الدين الذهبي أن المغيرة بن شعبة قال: لقد تزوجت سبعين امرأة أو أكثر وكان يومًا تحته أربعة نساء فصفهن بين يديه وقال: أنتن حسنات الأخلاق طويلات الأعناق ولكني رجل مطلاق فأنتن الطلاق، وكان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا.

الجواب:

نقول: لقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن أقوال الصحابة وأفعالهم لا تكون حجة إلا إذا توفرت فيها الشروط المطلوبة، منها:

1 -

أن لا تخالف دليلاً شرعيًا أو مقصدًا من مقاصد الشريعة.

2 -

أن لا تخالف قول صحابي آخر، فليس قول أحدهم بأولى من قول الآخر إلا ما أيده الدليل.

3 -

أن ينتشر هذا القول أو هذا الفعل بينهم فيحصل السكوت منهم مع وجود ما يدل على رضاهم وإقرارهم.

أما ما ذكروه عن المغيرة بن شعبة والحسن بن علي رضي الله عنهما؛ فإنا نطالبهم بثبوت ما ذكروه عنهما، وما ذكروه عن المغيرة فإن لفظ الأثر لا يتناسب ولا يليق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بحثت في إسناد هذا الأثر فوجدت ما ذكروه زيادة أدرجت في حديث صحيح، وهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه (1) أنبأنا أبو شهاب عن عاصم الأحول عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن

(1)«سنن سعيد بن منصور» ، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها رقم (516) 1/ 171.

ص: 123

شعبة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني خطبت امرأة فقال: «رأيتها» ؟ قلت: لا، قال:«فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» ، قال: فأتيتهم فأخبرته بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها أبواها فسكتا فقالت المرأة أني أحرج عليك إن كان رسول الله لم يأمرك أن تنظر إلي لما نظرت، ورفعت السجف فنظرت إليها فتزوجتها فما نزلت مني امرأة قط بمنزلتها. وقد تزوجت سبعين امرأة أو بضعة وسبعين امرأة.

فقوله: «وقد تزوجت سبعين امرأة أو بضعة وسبعين امرأة» ، هذه زيادة تفرد بها أبو شهاب عبد ربه الحناط شيخ سعيد بن منصور، وهو وإن كان ثقة كما قال ابن معين إلا أن في حفظه شيئًا كما قال يحيى القطان (سيء الحفظ)، وقال علي بن المديني: سمعت يحيى بن القطان يقول: «لم يكن أبو شهاب بالحافظ ولم يرض يحيى القطان أمره» ، وقال النسائي: ليس بالقوي (1)، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين (2)، وذكره العقيلي في الضعفاء (3)، وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء، وقال الذهبي:«صدوق لكن غيره أحفظ منه» ، وقال مرة في حفظه شيء (4)، ولخص ابن حجر حاله فقال:«صدوق يهم» (5). وقد خالف أبو شهاب كل من روى هذا الحديث عن عاصم الأحول فلم يذكروا ما ذكره أبو شهاب، ومن الذين رووا الحديث عن عاصم الأحول:

(1) انظر: «تهذيب الكمال» للمزي 16/ 487، و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم 6/ 42، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر 6/ 117، و «خلاصة تهذيب تهذيب الكمال» 1/ 223، و «طبقات المدلسين» لابن حجر 1/ 22.

(2)

انظر: «الضعفاء والمتروكين» لابن الجوي 2/ 82.

(3)

انظر: «ضعفاء العقيلي» 3/ 97.

(4)

انظر: كتب الذهبي المغني في «الضعفاء» 1/ 370، وانظر:«لسان الميزان» لابن حجر 4/ 255، وذكر من تكلم فيه 1/ 116، «سير أعلام النبلاء» 8/ 226.

(5)

انظر: «تقريب التهذيب» لابن حجر 1/ 335.

ص: 124

1 -

أبو معاوية محمد بن خازم الضرير عند ابن الجارود في المنتقى (1)، وأحمد (2).

2 -

وسفيان الثوري عند أحمد (3) والدارمي (4).

3 -

وحفص بن غياث عند النسائي (5).

4 -

وابن أبي زائدة عند الترمذي (6).

وهؤلاء كلهم أكثر وأضبط من أبي شهاب الذي تفرد بهذه الزيادة. ومعلوم أن في حفظه شيئًا كما قال يحيى القطان وغيره، فهذه الزيادة غير مقبولة لمخالفته لمن هو أوثق وأضبط منه وأكثر عددًا. قال الذهبي:«غيره أحفظ منه» .

وقد جاء هذا الحديث من طرق أخرى، فقد رواه ابن ماجه (7) والدارقطني (8) من طريق عبد الرزاق عن معمر بن ثابت البناني عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بدون هذه الزيادة.

وأما ما روى عن المغيرة أنه كان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا فقد رواه ابن عساكر في تاريخه (9) بسنده إلى مالك بن أنس عن المغيرة. فالأثر عنه فيه انقطاع وهو من مراسيل مالك. ومعلوم كلام العلماء في المرسل وشروطهم في قبول المرسل، وهم يعدونه بمنزلة الحديث الضعيف، ومعلوم أن هذا المرسل الذي معنا فيه انقطاع كبير

(1)«المنتقى» لابن الجارود رقم (675) 1/ 170.

(2)

رواه أحمد في مسنده رقم (18179) 4/ 246.

(3)

رواه أحمد في مسنده رقم (18162) 4/ 244.

(4)

«سنن الدارمي» رقم (2172) 2/ 180، باب الرخصة في النظر للمرأة عند الخطبة.

(5)

«السنن الكبرى» للنسائي، باب إباحة النظر إلى المرأة قبل تزويجها رقم (5345) 3/ 272.

(6)

«سنن الترمذي» ، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة رقم (1087) 3/ 397.

(7)

«سنن ابن ماجه» رقم (1865) 1/ 599.

(8)

«سنن الدارقطني» رقم (32) 3/ 253.

(9)

«تاريخ دمشق» 60/ 55.

ص: 125

وفجوة كبيرة بين الإمام مالك وصاحب القصة المغيرة بن شعبة، بينهما مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل.

أما ما روي أنه كان يومًا تحته أربع نساء فصفهن بين يديه وقال: أنتن حسنات الأخلاق طويلات الأعناق ولكني رجل مطلاق، فأنتن الطلاق، وكان ينكح أربعًا جميعًا ويطلقهن جميعًا.

فهذا رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وفيه أبو بكر الهذلي ضعفه الإمام أحمد (1)، وضعفه الجوزجاني (2)، وقال البخاري:«ليس بالحافظ عندهم» (3)، وذكره النسائي في الضعفاء والمتروكين وقال:«متروك الحديث» (4)، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين، ونقل عن غندار أنه كذاب، وقال يحيى بن معين:«ليس بشيء» وقال ابن المديني: «ضعيف ليس بشيء» وقال الدارقطني: «منكر الحديث متروك» (5)، وذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال أبو زرعة:«ضعيف» وقال أبو حاتم: «لين الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به» (6).

هذا الجواب عن ما استدلوا به مما روي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

أما من ناحية النظر السليم فإن من عرف الصحابة رضي الله عنهم، وهم صفوة الأمة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وضحوا بالنفس والنفيس والغالي والرخيص، وقد أثنى الله عليهم وزكاهم في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. أقول من عرف الصحابة استبعد كل البعد حصول ذلك منهم فهل من

(1)«ميزان الاعتدال» للذهبي 7/ 334.

(2)

«أحوال الرجال» للجوزجاني 1/ 22.

(3)

«التاريخ الكبير» 4/ 198، و «الضعفاء الصغير» 1/ 56.

(4)

«الضعفاء والمتروكين» للنسائي 1/ 46.

(5)

«الضعفاء والمتروكين» لابن الجوزي 2/ 12.

(6)

«الكامل في الضعفاء» 3/ 3221.

ص: 126

المروءة والوفاء والأمانة ما نقل عن المغيرة أنه يفعل بالنساء هذا الفعل ويكون همه إرواء شهوته الغريزية غير مبال بمقاصد الشريعة في النكاح، لو أن أحدًا في عصرنا هذا فعل هذا الفعل لنال جزاءً صارمًا وصار موضع تندر الناس وسبهم من الرجال والنساء، ولاعتبرنا زواجه زواج متعة. وإذا عرف الناس حاله وأعطوه بناتهم وهم يرونه يتزوج هذا العدد بهذه الصورة، فإنهم يقدمون على هذا العقد بنية المتعة.

وأما ما ذكروا عن الحسن من أنه كان يتزوج بنية الطلاق، وكان مزواجًا مطلاقًا وكان يمسك في عصمته أربعًا ثم يطلقهن ليتزوج بدلهن بنية الطلاق، هكذا قالوا وعزوا ذلك القول إلى ابن حجر في كتابه الإصابة في ترجمة الحسن بن علي، بينما ابن حجر رحمه الله قال:«كان مطلاقًا أي كان يتزوج ويطلق» . اهـ.

ولم يقل رحمه الله إن الحسن كان يتزوج بنية الطلاق.

وذكروا عن الإمام شمس الدين الذهبي قوله: «وكان منكاحًا مطلاقًا تزوج نحوًا من سبعين امرأة» ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن فإنه مطلاق فقال رجل والله لنزوجهن فما رضي أمسك وما كره طلق» (1). اهـ.

وذكروا عن العماد بن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان كثير الزواج وكان لا يفارق أربع حرائر، وكان مطلاقًا يقول: إنه أحصن سبعين امرأة، وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم واحد، وكان علي يقول لأهل الكوفة لا تزوجوه فإنه مطلاق، فيقولون والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه من شاء ابتغاء في صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

ص: 127

الجواب عما روي عن الحسن رضي الله عنه:

أقول وبالله التوفيق

فقد تتبعت هذه القصة من جميع طرقها وأسانيدها التي رويت به فوجدتها لا تثبت ولا تصح من جميع طرقها. فهذا الأثر المنسوب للحسن رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر (1) بن محمد عن أبيه (2) محمد ابن علي بن الحسين. وكل الآثار الواردة في هذا الباب مدارها على محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهو أي: محمد بن علي، حجة، كما قال الزهري النسائي (3) وابن سعد والعجلي (4)، وغيره. إلا أن أحاديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده علي، والحسن، والحسين مرسلة، حيث لم يدركهم كما قال العلائي حيث قال:«أرسل عن الحسن والحسين وجده الأعلى» (5).

وقال الذهبي في السير: «روى عن جديه النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه مرسلاً، وعن جديه الحسن والحسين مرسلاً» (6). اهـ. وكذا قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (7).

إذًا فالرجل الذي روى عنه محمد بن علي الباقر رجل مجهول غير معروف.

ومن المعلوم أن المرسل لا يقبل عند علماء الحديث، لأنه من أقسام الحديث الضعيف.

(1) جعفر هو المعروف بجعفر الصادق وهو أحد الأئمة الإثنا عشر الذين تغلوا فيهم الشيعة الرافضة.

(2)

محمد الذي يلقب بالباقر وهو أحد الأئمة الاثنا عشرية الذين تغلو فيهم الرافضة لقب بالباقر لأنه بقر العلوم أي شقها.

(3)

«طبقات الحفاظ» للسيوطي 1/ 51.

(4)

«تهذيب التهذيب» لابن حجر 9/ 311.

(5)

«تحفة التحصيل» للعراقي 1/ 282، و «جامع التحصيل» للعلائي 1/ 266.

(6)

«سير أعلام النبلاء» 4/ 104.

(7)

«تهذيب التهذيب» 9/ 311.

ص: 128

ومما يدل على عدم صحة هذه القصة عن الحسن نكارتها من حيث المعنى من وجهين:

الأول: أن عليًا رضي الله عنه في هذا الأثر المرسل - أنكر على أهل الكوفة تزويجهم بهذه الطريقة، والحسن مستمر على فعله هذا يتزوج منهم ويزوجونه ثم لا يمنعه علي رضي الله عنه من فعله هذا وهو والده وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا يكون عدم منعه من هذا الفعل مع قدرته على منعه منه قادحًا في علي رضي الله عنه؟!

الثاني: أن عليًا رضي الله عنه كما في هذا الأثر أنكر فعل الحسن وأنكر صنيع أهل الكوفة ولم يوافقهم ولم يقرهم على ذلك الفعل، وإنكاره يدل على عدم حجية فعل الحسن، لأن من شروط العمل بقول الصحابي أو فعله ألا يخالفه غيره من الصحابة. وقد خالفه علي رضي الله عنه وهو والده وهو أفقه منه وأعلم، وهذا على فرض صحة هذه القصة، والله أعلم.

ثم هل يليق بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد شباب أهل الجنة كما ذكر ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (1)، وقد تربيا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم زهدًا وورعًا

(1) رواه الترمذي في جامعه، باب مناقب الحسن والحسين عليهم السلام رقم (3768) 5/ 656، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، ورواه النسائي، فضائل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعن أبويهما رقم (8169) 5/ 50، والإمام أحمد في مسنده رقم (11012) 3/ 3 و 3/ 62 و 3/ 64 و 3/ 82، ورواه الحاكم في مستدركه رقم (4778) 3/ 182، وقال الحاكم: هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه. رووه كلهم عن أبي سعيد الخدري وروي هذا الحديث عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم عن غير أبي سعيد الخدري منهم علي وعمر وأبي هريرة وحذيفة وقرة بن إياس ومالك بن الحويرث وجابر بن عبد الله وأسامة بن زيد والحسين بن علي والبراء بن عازب وأنس بن مالك وعقبة بن عامر وابن عباس وغيرهم. جمعها الهيثمي في «المجمع» . انظرها 9/ 182، ولذا عده الحافظ السيوطي من المتواترات. انظر:«تحفة الأحوذي» 10/ 178، و «الإصابة» لابن حجر 268، و «كشف الخفاء» للعجلوني 1/ 429.

ص: 129

وعلمًا وحلمًا وفقهًا وصبرًا، وبعدًا عن الشهوات المحرمة، بل عن الشبهات، وبعدًا عن خوارم المروءات، وبعدًا عن الولوغ في سفاسف الأمور والدنيات، وإقبالاً على الله والدار الآخرة والمنازل العالية. أيجوز بعد هذا أن نقول عنه: إنه مزواج للنساء مطلاق لهن رغبة وطمعًا في الشهوات الدنيات. حاشاه ذلك رضي الله عنه ووالدته ووالده وصلى الله على أبيه رسول الله محمد بن عبد الله.

ص: 130