الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي ابن القيم رحمه الله
في حكم الزواج بنية الطلاق
لم أجد لابن القيم الجوزية رحمه الله رأيًا صريحًا في تحريم الزواج بنية الطلاق، ولكن لو نظرنا إلى تقعيداته رحمه الله وتأصيلاته من خلال استنباطاته الأحكام الشرعية من عمومات الأدلة ومقاصد الشريعة، لوجدناها تنطبق على الزواج بنية الطلاق، مما يجعلنا نكاد نقول: إن ابن القيم يرى تحريم نكاح الزواج بنية الطلاق. وانظر إلى تقعيده رحمه الله إذ يقول:
تعال معي لنقرأ ما قاله في نكاح التحليل، ثم نقارن بين النكاحين من خلال ما ذكره رحمه الله.
قال ابن القيم رحمه الله:
«وأما في هذه الأزمات التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل» .
قلت: كيف لو رأى ابن القيم رحمه الله في هذا الزمان والذي زاد فيها شكاية الفروج إلى ربها مفسدة الزواج بنية الطلاق، والذي تسارع كثير من الناس إليه تسارع السابقين في التحليل.
ثم قال رحمه الله: «وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في
(1) انظر: «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» 1/ 268، وطريق الهجرتين 1/ 532.
عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه».
قلت: وهذا ما عابه وتشمت به أعداء الإسلام في هذا الزمن عما قيل في إباحة الإسلام للزواج بنية الطلاق.
قلت: ومثله الزواج بنية الطلاق فإن الرجل لا تهمه هذه المقاصد الأربع غالبًا، والتي يتزوج الرجل المرأة لأجلها، بل همه أن يقضي شهوته منها في خلال الفترة التي نواها، ثم يتركها ويذهب إلى أخرى، فإنه لا يمسك بعصمتها بل قد دخل على زوالها.
قلت: ما ذكره ابن القيم من أن مقصود عقد النكاح هو ما ذكره الله تعالى في حصول السكن والمودة والرحمة بين الزوجين هو منتف في الزواج بنية الطلاق، كما هو منتفٍ في نكاح التحليل. فإن هذين الزواجين لا يحصل بهما مقصود العقد ولا تتم بهما المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم. فسل المتزوج بنية الطلاق هل له من مقصود هذا العقد وحكمته نصيب؟
ثم قال: «وهل طلب منها ولدًا نجيبًا» .
قلت: وكذلك الزواج بنية الطلاق لا يريد من الزوجة ولدًا نجيبًا بل يجعل الموانع التي تمنع من حصول الولد، ولو حصل ثم ولد
لأضاعه ولم يعطه ما يعطي أولاده الآخرين الذين وجدوا من زوجة أراد بزواجه منها الدوام أو ربما ينكره ويتبرأ منه.
ثم قال: «هل سأل قط عما يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح» .
قلت: يريد الشيخ بالسؤال عن دينها وخلقها وأهلها وعشيرتها وهذا هو الواقع في الزواج بنية الطلاق لا يهمه ذلك.
ثم قال: «هل أَوْلَمَ ولو بشاة وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه» .
ثم قال: «وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية» .
قلت: وهذه الأسئلة التي وجهها ابن القيم للمحلَّل، يمكن أن نوجها لمن تزوج بنية الطلاق فنقول هل أَوْلَمَ ولو بشاة وهل دعا إليها أقاربه وأصحابه وقيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما بخير وعافيه، الغالب أنه لا يحصل فيه شيء من ذلك.
ثم قال ابن القيم: «وكم جمع ماءه في أرحام ما زاد على الأربع» .
قلت: وما ذكره بالنسبة لزواج المحلَّل ينطبق على الزواج بنية الطلاق، فكم حصل ممن يتزوج بنية الطلاق الزواج أكثر من أربع زوجات قبل نهاية المطلق الرابعة من عدتها، ومن المعلوم أن الرجل لا يجوز له أن يجمع في ذمته أكثر من أربع زوجات فإنه إذا أراد ذلك وعنده أربع نسوة يطلق من شاء منهن ثم ينتظر حتى تنتهي عدتها ثم يتزوج بأخرى بدلها (1).
ثم قال ابن القيم: «وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها
(1) انظر ص22 حاشية (1).
فلما ذاقت عسيلة المحلَّل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد بشملها».
قلت: وكم من امرأة عفيفة خدعها من تزوجها بنية الطلاق فلما ذاقت عسيلته وتعلقت به تعلق الزوجات بالأزواج، قلب لها ظهر المجن فطلقها، فلا تزال تذكر ذلك الزواج الذي كانت لا تعرف عنه شيئًا قبل فدعاها ذلك للبحث عنها -؟ أي العسيلة - من غيره مما دعاها إلى السقوط في الحضيض.
ولعل القارئ أدرك معي أن ما ذكره ابن القيم رحمه الله من استدلال على تحريم نكاح التحليل ينطبق على الزواج بنية الطلاق، وأن القاعدة التي ذكرها رحمه الله تؤيد القول بتحريم النكاح بنية الطلاق، والله أعلم.
وممن منعه من المتأخرين وقال: هو شبيه بنكاح المتعة:
الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى:
قال في «تفسيره» : «هذا؛ وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون: إن عقد النكاح يكون صحيحًا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعًا وغشًا، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات، وما لا يشترط فيه ذلك، يكون اشتماله على ذلك غشًا وخداعًا، تترتب عليه مفاسد أخرى، من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له وتعاونهما على
تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة» (1). اهـ.
وممن أفتى بتحريمه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله (2)، وإليك نص السؤال والفتوى:
س: نحن هنا في غربة وفي بلد تنتشر فيه اللا أخلاقيات بشكل كبير، وقد سأل أحد الشباب شيخًا قدم إلينا من الكويت عن حكم الزواج المؤقت فأباحه بشرط عدم بيان ذلك للفتاة، والحقيقة أنني عندي شك كبير في صحة هذه الفتوى، وقد بثت فتنة في صفوف الشباب، فأرجو توضيح هذه المسألة وماذا يفعل من خشي على نفسه الفتنة؟
الجواب: الزواج المؤقت زواج باطل؛ لأنه متعة، والمتعة محرمة بالإجماع، والزواج الصحيح: أن يتزوج بنية بقاء الزوجية والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة وناسبت له وإلا طلقها، قال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (3).
اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عضو/ بكر أبو زيد
عضو/ عبد العزيز آل الشيخ
عضو/ صالح الفوزان
عضو/ عبد الله بن غديان
(1) تفسير القرآن الكريم الشهير بـ «تفسير المنار» 5/ 17.
(2)
قلت: وللشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله قول آخر بالجواز وهو المشهور عنه، ولقد تبع في ذلك شيخ الإسلام رحمه الله فأجازه لمن هو خارج البلاد في الرجل الركَّاض الذي لا يستقر في بلد وخشي على نفسه الوقوع في الزنا. ولم تكن فتوى الشيخ رحمه الله بالجواز لمن ينشأ سفرًا لأجل هذا الزواج فإن هذا لا يقول به عالم كما قال الشيخ ابن عثيمين ومع ذلك فالعبرة بالدليل. على أنه ذًكر لنا أن الشيخ رحمه الله تراجع عن رأيه وأفتى بالتحريم في آخر حياته لما رأى من المفاسد والله أعلم.
وسوف نناقش كل ما ذكره شيخ الإسلام في هذه المسألة ص83، مما يتبين لك أن الصواب القول بتحريمه مطلقًا - والله أعلم - وهذا الأليق بأصول الشيخ رحمه الله.
(3)
س: انتشرت بين أوساط الشباب السفر خارج البلاد للزواج بنية الطلاق، والزواج هو الهدف في السفر استنادًا على فتوى بهذا الخصوص، وقد فهم الكثير من الناس الفتوى خطأ فما حكم هذا؟
الجواب: الزواج بنية الطلاق زواج مؤقت، والزواج المؤقت زواج باطل؛ لأنه متعة، والمتعة محرمة بالإجماع، والزواج الصحيح: أن يتزوج بنية الزوجية والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة وناسبت له وإلا طلقها، قال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (1).
اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عضو/ بكر أبو زيد
عضو/ صالح الفوزان
عضو/ عبد الله بن غديان
وممن قال بتحريمه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى، قال: في شرحه لمنظومته في أصول الفقه في شرحه للبيت رقم (89، 80):
49 -
وكل شرط مفسد للعقد
…
بذكره يُفسده بالقصد
قال: «وهذه أيضًا من القواعد المهمة:
كل شرط يفسد العقد إذا ذكر فيه فإنه يفسده أيضًا إذا نوى، يعني أن النية تقوم مقام النطق، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2).
قال: مثال ذلك: ثم ذكر أمثلة
…
منها: لو أن إنسانًا تزوج بنية الطلاق بعد شهر فالنكاح باطل؛ لأنه لو شرط أن يكون النكاح مؤقتًا
(1)«فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» 18/ 448.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية
…
» 1907/ 155 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
بالشهر لكان هذا الشرط مفسدًا للعقد، فإذا كان هذا الشرط مفسدًا للعقد كانت نيته - أيضًا - مفسدة للعقد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
ثم قال في منظومته رحمه الله:
80 -
مثل نكاح قاصد التحليل
…
ومن نوى الطلاق للرحيل
يعني من نوى أنه إذا رحل عن هذا البلد طلّق، فيكون نكاحه بالنية، أنه متى رحل طلق، فهو في الواقع نكاح مؤقت لكن لا بالشرط؛ بل بالنية، فيكون النكاح فاسدًا
…
إلى أن قال: «
…
ثم إنه يجب سد الباب في هذه المسألة سدًا منيعًا؛ لأنه وجد من السفهاء الذين لا يبالون بممارسة الفاحشة - عياذًا بالله - من يذهب لبلاد الخارج ليتزوج بهذه النية، وليس له غرض إطلاقًا إلا أنه يتزوج بنية الطلاق إذا عاد، ولهذا يتزوجون عدة مرات في خلال ثلاثة شهور.
فهذه المسألة؛ حتى لو قلنا بجوازها مع ما فيها من غش وخداع، فإنه يجب سد الباب، لئلا يكون ذريعة إلى السفر للزنا، نسأل الله العافية.
بل إن هذه المسألة لا تدخل تحت الخلاف الذي فرضه أهل العلم قطعًا؛ لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج، إنما سافر لحاجة، طلب علم، أو مال، أو غير ذلك، واحتاج إلى النكاح فتزوج، أما هؤلاء فقد قصدوا من الأصل أن يذهبوا إلى البلد ليتزوجوا بنية الطلاق».
انتهى المراد من كلامه رحمه الله من المنظومة» (1).
وقال رحمه الله أيضًا - في جوابه لسؤال هذا نصه:
(1) ارجع إلى كلامه رحمه الله في منظومة أصول الفقه وقواعده، ص287، 288.
السؤال: «ما نقل عنكم أنكم أفتيتم بجواز النكاح بنية الطلاق لمدة معينة هل هذا صحيح أم لا؟» .
الجواب: ما نقل عني أني أفتيت بجواز النكاح بنية الطلاق في مدة معينة غير صحيح وأنا لا أرى جواز ذلك لأمور:
الأول: أنه خلاف مقصود النكاح الشرعي، فإن مقصود النكاح الشرعي الاستمرار في النكاح وترسيخ المودة والرحمة بين الزوجين ليكثر النسل بينهما، ولهذا حرم نكاح التحليل لأنه لا يقصد به الاستمرار وترسيخ المودة، وإن كان يختلف عن هذا بكون المقصود منه مصلحة المحلَّل له، بخلاف من تزوج بنية الطلاق فإنه يقصد التمتع بالمرأة مدة معينة لكن بينهما شيء من التشابه.
الثاني: أنه دائر بين الغش ونكاح المتعة؛ لأنه إن أخبر الزوج المرأة أو وليها بنيته صار نكاحًا مؤجلاً فهو شبيه بالمتعة، وإن لم يخبرهما كان غشًا لأنهما لو علما بنيته لم يحصل له النكاح في الغالب.
الثالث: أنه ربما خلق بينهما ولد، فإن طلقها فمشكل، وإن أمسكها أمسكها على كره، وربما يلزم على ذلك لوازم صعبة.
الرابع: أن في فتح هذا الباب ذريعة لأن يسافر الناس إلى البلاد الأخرى لغير غرض سوى أن يستمتعوا بمثل هذا النكاح كما جرى ذلك فعلاً حسب ما سمعنا.
ومن أجل هذه الوجوه نرى تحريم النكاح بنية الطلاق، وأن على الإنسان أن يصبر حتى يغنيه الله من فضله لقوله تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]، وإذا أغناه الله بزوجة وتزوج فليصحبها معه إلى بلد الغربة، وعلى الزوجة أن تسافر معه إذا طلب ذلك، إلا أن تشترط عند عقد النكاح أن لا يسافر بها. وعليها وعلى زوجها إذا حصل السفر أن يحافظا على العفة والحجاب، وإنني
أحذر أولئك الذين لا يسافرون لغرض إلا أن يتمتعوا بهذا النكاح المختلف فيه على أن هذه الصورة، أعني أن لا يسافر إلا لغرض التمتع بالمرأة بهذا العقد ليست موضع الخلاف، فإن الخلاف إنما كان في رجل غريب شق عليه عنت العزوبة فتزوج بنية تحصين فرجه مدة الغربة، فإذا رجع إلى بلده طلقها. وبين هذه الصورة وصورة المسافر ليتزوج بنية الطلاق فرق ظاهر للمتأمل، فليتقوا الله وليتدبروا الأمر بفكر مجرد عن هوى النفس حتى تتبين لهم الحقيقة. أسأل الله أن يحمي الجميع من أسباب سخطه. أ. هـ.