الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله منور البصائر، والعالم بمكنونات الضمائر، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الهادي من شاء من عباده سواء السبيل، فأراه الحق حقًا ورزقه اتباعه، والباطل باطلاً ورزقه اجتنابه، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فما من شيء يقرب الناس إلى ربهم ويسعدهم في دينهم ودنياهم إلا بينه صلى الله عليه وسلم لأمته، وما من شيء يجرهم إلى الشقاء في الدنيا والآخرة ويبعدهم عن شرعه إلا حرمه عليهم وحذرهم منه، جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، فما كانت مصلحته أكثر من مفسدته شرعه لهم، وما كانت مفسدته ومضرته أكثر من مصلحته حرمه على أمته، وهذه سمة تجدها فيما شرع الله من أمر أو نهي، كما أنه شرع تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، فسلك هذا المسلك علماء السلف ومن نوّر الله بصائرهم من علماء الأمة، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن سلك مسلكهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن عداوة الشيطان للإنسان قديمة ومستمرة، فقد آلى على نفسه وأقسم لربه أن يضل بني آدم، فقد قال:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]، وقال في آية أخرى:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، وقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا *
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 119 - 121].
لذا فإنه لا يألو جهدًا وذريته في إضلال بني آدم بشتى الوسائل والطرق، صغرت أو كبرت دقت أو جلت عظمت أو صغرت، ولما كانت النساء من أعظم الحبائل والوسائل التي يصل بها إبليس اللعين إلى إفساد المجتمع وضياعه، وضعفه وانصرافه عن الواجبات والوقوع في المحرمات، فقد أحكم المصائد والأشراك بشتى الوسائل، بما يزينه من الإغراءات لبعض الناس والشبه التي تجعل بعض الناس يدعون لبعض الأنكحة، التي تتعارض مع مقاصد الشريعة في النكاح - كنكاح المتعة، والتحليل، والشَّغَار - ومن ذلك نكاح الزواج بنية الطلاق، بشبهة أنه سبب يمنع من الوقوع في الزنا، وعلاج مؤقت للغرباء والعزاب حتى يتيسر لهم الاستقرار أو تتوفر لهم مؤنة الزواج الحقيقي، هكذا استساغ هؤلاء هذه الشبه وزينوها لهم، فما كان من ذلك إلا أن عزف كثير من الشباب العزاب عن الزواج خوفًا من وجود المشاكل الزوجية والتزاماتها المستمرة، وزهد كثير من المتزوجين بزوجاتهم فصاروا في بلادهم يتزوجون ويطلقون يشبعون رغباتهم، ويروون نهماتهم؛ بل سارع الكثير منهم في إجازاتهم إلى السفر إلى خارج بلادهم إلى البلدان العربية أو البلاد الشرقية والغربية وغيرها فيتزوج أحدهم عدة زوجات، وربما تزوج في شهر واحد ما يزيد على العشرين، وربما كان عنده زوجة أو زوجات، ومن المعلوم أن الرجل لا يجوز له أن يجمع في ذمته أكثر من أربع زوجات، وهذا حرام بإجماع أهل العلم (1)،
وهذا مما علم من
(1) قلت: هذا بالنسبة للرجعية فلا يجوز للزوج حين يطلق الرابعة أن يتزوج بدلها في عدتها بل حتى تنقضي عدتها، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم قال ابن عبد البر:(لا خلاف بين العلماء فيمن له أربع نسوة يطلق إحداهن طلقة يملك رجعتها أنه لا يحل له نكاح غيرها حتى تنقضي عدتها لأنها في حكم الزوجات في النفقة والسكنى والميراث ولحقوق الطلاق والإيلاء والظهار واللعان كالتي لم تطلق منهن سواء)(الاستذكار) 5/ 540.
أما المطلقة طلاقًا بائنًا أو المفسوخة فالصحيح أنه لا يجوز له أيضًا، وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم لكنه محجوج بإجماع الصحابة قبله. قال عبيدة السليماني: (ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر: وألا تنكح امرأة في عدة أختها
…
) انظر: (المغني) 7/ 67، وقد روى هذا عن ابن عباس رواه ابن أبي شيبة 3/ 524.
وروي عن علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ومجاهد والنخعي والثوري وأصحاب الرأي، وروي عن أبي الزناد قال:(كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة فطلق واحدة ألبتة وتزوج قبل أن تحل فعاب عليه كثير من الفقهاء وليس كلهم عابه) قال سعيد بن منصور: (إذا عاب عليه سعيد بن المسيب فأي شيء بقي)، (سنن سعيد بن منصور)(1/ 448 رقم (1749).
ولأنها محبوسة عن النكاح لحقَّه أشبه ما لو كان الطلاق رجعيًا، ولأنها معتدة في حقه أشبهت الرجعية وفارق المطلق قبل الدخول بها. انظر:(المغني) 7/ 67، وهو اختيار اللجنة الدائمة 18/ 236 وما بعدها.
أما إذا ماتت أحد زوجاته فلا بأس أن يتزوج إثر وفاتها. قال ابن عبد البر: (لأنه لا يخاف مع الموت فساد النسب ولا يراعى اجتماع المائين هنا) انظر: (الاستذكار) 5/ 540.
الدين تحريمه بالضرورة، كما أنه إذا أراد أن يتزوج وعنده أربع نسوة يطلق من شاء منهن ثم ينتظر حتى تنتهي عدتها ثم يتزوج بدلها، ولكن الذي يحصل ويا للأسف من كثير من هؤلاء أنه يتزوج في شهر واحد أكثر من أربع زوجات، فمن البدهي المقطوع به أنه تزوج أكثر من أربع قبل نهاية المطلقة الرابعة من عدتها، وربما حملت بعض هؤلاء النسوة المطلقات فأنكر آباؤهم هؤلاء الأولاد فكان حظهم الضياع والتشرد.
إن كثيرًا من هؤلاء الذين يتزوجون بنية الطلاق لا يبالي بأصل الزوجة ولا خلقها ولا أمانتها ولا دينها، ويتخذ موانع للحمل، وهكذا يظل يتمتع ويتنقل طوال إجازته في مراتع الشهوات، وربما حمل على نفسه الأمراض الخطيرة، وجرها إلى زوجته الحقيقية ومجتمعه، فامتلأت كثير من بيوت الأسر بالفتيات المطلقات والعوانس لا يرغب فيهن أحد،
وحدَّث ولا حرج مع وجود هذه المغريات التي توجد على الساحة عن ما يحدث من الفساد الخلقي، والاجتماعي، والديني، والاقتصادي.
لما رأيت ذلك وخطورته على الفرد والأسر والمجتمعات؛ تبين لي أنه يجب على طلبة العلم أن يدرسوا هذه الظاهرة دراسة متأنية، فينظروا مدى ارتباطها بأصول وقواعد الزواج الحقيقي ومنافاتها لها، وما إيجابيات هذا الزواج وسلبياته؟ وهل هذا الزواج يوافق مقاصد الشارع في مشروعيته للزواج أو ينافيه؟ وهل المصلحة في هذا الزواج تربو على المفسدة أو العكس؟
لذا فإني نظرت في أقوال وأدلة من أجازه ومن منعه، واستعنت الله واستلهمته الرشد والصواب، فسطَّرت هذا البحث مدعمًا بالأدلة الشرعية والفطرية والعقلية، وذكرت أدلة من قال بجوازه فأجبت عنها بأجوبة هادئة هادفة، مبينًا مقاصد الشارع الكريم من النكاح المعروف عند الإنس والجن والعرب والعجم، وهو الزواج الذي لا يفكر فيه صاحبه عند عقد الزواج بالتخلي عنه بعد يوم أو يومين أو فترة زمنية، وإذا قيل إن فلانًا سيتزوج فلانة لا يخطر في بال أحد من الناس أنه يتزوجها اليوم ليطلقها غدًا بعد انتهاء غرضه، هذا هو الزواج المعروف عند الناس. ويحمل أمر الشارع وترغيبه في الزواج على ما هو متعارف عليه عند الناس، وعلى الزواج الأكمل والأفضل وهو الزواج الذي ينوي فيه صاحبه عند عقد النكاح الاستمرار والدوام.
وذكرت وجه ارتباط الزواج بنية الطلاق بنكاح المتعة، ونكاح التحليل، وهو أن كلاً منها لا يقصد فيه المتزوج الدوام والاستمرار؛ بل ذكرت أن نكاح الزواج بنية الطلاق الضرر فيه أكثر، وبينت كيف كان ذلك.
وبينت ما يترتب على الرزواج بنية الطلاق من مفاسد عظيمة تربو على المصالح المزعومة، ومن قواعد الشرع أن درء المفاسد مقدم على
جلب المصالح، وأن ما كانت مفسدته أعظم من مصلحته فإن الشريعة جاءت بتحريمه، كل ذلك وأكثر من ذلك ذكرته في كتابي مبسطًا وموضحًا، وسميته (الزواج بنية الطلاق).
وقد بذلت في هذا البحث جهدًا رجعت فيه إلى كتاب الله تعالى، وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف، وعرضته على مقاصد الشريعة في الزواج، فتبين لي أن الزواج شرع لمقاصد عظيمة منها: إعفاف وتحصين كل من الزوجين، ولا يكون الإعفاف إلا بالاستدامة، أما زواج لفترة كزواج المتعة أو الزواج بنية الطلاق ونحو ذلك، فإنه لا يحصل به إعفاف. ومنها حصول الولد، وكثرة النسل لمباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بهم الأنبياء، ولا تحصل الذرية بزواج بنية الطلاق كما هو الواقع المر الأليم. ومنها السكن وترابط الأسر وقوتها، والزواج بنية الطلاق لا يحصل به سكن ولا ترابط للأسر. كما أن أولياء المرأة متى عرفوا عن الزوج هذه النية فإنهم سيمقتونه، ويعادونه، وربما انتقموا لأنفسهم، إلى غير ذلك مما سأذكره مفصلاً من مقاصد الشرع في الزواج الحقيقي.
وقد خرجت الطبعة الأولى في وقت كبرت فيه هذه الفتنة وانتشرت وأصبحت حديث السُّمَّار في المجالس، فكان لخروج الكتاب أعظم الأثر حيث جعل العلماء والمنتسبين إلى العلم ينظرون في هذه المسألة، فكان منهم المؤيد للتحريم والمجوز لهذا الزواج، فصار الناس في بلبلة وحيرة من حكم هذا الزواج، وقد ظهرت أثناء ذلك كثير من السلبيات التي ذكرتها في كتابي، وحينئذ أشار علي بعض الأخوة بإعادة طباعته مرة أخرى، فرأيت أن ذلك متعين علي، لا سيما وقد أفتى بعض المنتسبين إلى العلم بجوازه وأورد كثيرًا من الشبه والأدلة التي لا تصح.
لذا جاءت هذه الطبعة الثانية من واقع المجتمع الذي يعيش كثير من شبابه وكهوله وشيبه هذه الفتنة.
وقد امتازت هذه الطبعة على الطبعة الأولى بما يلي:
1 -
ذكرت فيها كثيرًا من الشبه والأدلة التي ذكرها من أجازه مما لم أذكره في الطبعة الأولى، وأجبت عليها بما يتفق مع الأدلة الشرعية، والفطرية، والنظر الصحيح.
كما ناقشت أدلة المجوزين من حيث الإسناد.
2 -
ذكرنا أن أصول الإمام مالك رحمه الله تقتضي إلزامه القول بتحريم الزواج بنية الطلاق.
3 -
حررت في هذه الطبعة مذهب الإمام أحمد وأصحابه، وبينت أنهم يرون تحريم هذا الزواج، ولم يجوزه إلا ابن قدامة، وصاحب الشرح الكبير، وابن مفلح، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
4 -
حققت رأي شيخ الإسلام، وذكرت أن منهج شيخ الإسلام رحمه الله في تقعيده، واستدلالاته، وأحكامه على نظائر هذه المسألة، واعتماده على قاعدة المصالح ودرء المفاسد وغير ذلك من قواعده وأصوله، تجعله يلتزم بتحريم الزواج بنية الطلاق.
وبينت في هذه الطبعة أن شيخ الإسلام لم يُفْتِ بجواز الزواج بنية الطلاق لمن كان مقيمًا ومستقرًا في بلده، إنما هذه الفتوى لمن كان مقيمًا في بلد الغربة، كما سترى ذلك إن شاء الله في ثنايا البحث.
5 -
ذكرت في هذه الطبعة رأي ابن القيم استنباطًا من خلال أدلته، وأصوله.
6 -
كما ذكرت في هذه الطبعة رأي المانعين المتأخرين، ومنهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، واللجنة الدائمة، ورأي المجمع الفقهي التابع للرابطة الإسلامية.
7 -
وقد امتازت هذه الطبعة بزيادة التحقيق، وتخريج الأحاديث.
8 -
كما ذكرت في هذه الطبعة الفرق بين الزواج بنية الطلاق وزواج المسيار.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، فإن يكن ما عملته صوابًا فمن الله تعالى، والحمد لله على التسديد، وإن يكن خطأ فمن نفسي والشيطان وشرع الله بريء من كل رأي أو قول يخالفه. وأستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنب وخطيئة إن أريد إلا الخير للإسلام والمسلمين، أسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم، يا ذا الجلال والإكرام، أسألك باسمك الأعظم أن تجيب دعاءنا فترزقنا العلم النافع والعمل الصالح وتجعل خير أعمارنا خواتيهما وخير أيامنا يوم نلقاك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المؤلف
صالح بن عبد العزيز بن إبراهيم آل منصور