الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواز الحرص على الاستكثار من المال الحلال لمن وثق من نفسه بالشكر عليه
، والقيام بما يجلب به النفع الأخروي إليه، ما صح من حديث همامٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«بينما أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً خرَّ عليه رِجل جرادٍ من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى، ولكن لا غنى بي عن بركتك» (1) ،
وفي لفظٍ: «ومن يشبع من رحمتك» ، أو قال:«من فضلك» .
ويشهد لبعض ما أشرتُ إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همَّه جعل الله
= وقد فعل الناسخ ذلك في موضعين آخرين، والورقتان بخط المصنف (السخاوي) ، أما هنا فلم أظفر بشيء.
(1)
أخرجه البخاري (3391، 7493) عن عبد الله بن محمد الجعفي، وفي (279) في الغسل (باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة) عن إسحاق بن نصر، وأحمد (2/314) ، وابن حبان (6229) ، والبغوي في «شرح السنة» (2027) من طريق أحمد بن يوسف السلمي، كلهم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، به.
وهو في «صحيفة همام بن منبه» (رقم 47) ، و «أمالي عبد الرزاق» (رقم 169) .
وأخرجه أحمد (2/304 و490) عن أبي داود الطيالسي، و (2/511) عنه وعن عبد الصمد، وابن حبان في «صحيحه» (6230) عن عبد الصمد وحده، والحاكم (2/582) ، وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «البداية» (1/223) ، من طريق عمرو بن مرزوق، ثلاثتهم عن همّام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، وقال ابن كثير: ورواه ابن حبان في «صحيحه» عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد، به.
وأخرجه أحمد (2/243) ، والحميدي في «المسند» (2/457 رقم 1060) عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
وأخرجه النسائي (1/200 و201) في الغسل (باب الاستتار عند الاغتسال) ، عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة.
وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (5/660) وزاد نسبته إلى البيهقي في «الأسماء والصفات» ، وابن مردويه.
غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عَينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (1) .
(1) أخرجه تاماً ومختصراً: أحمد في «مسنده» (5/183) ، و «الزهد» (33) ، وابن ماجه (4105) ، والدارمي (229) ، وابن حبان (680) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (94) ، وفي «الزهد» (163) ، وابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 352) ، والطبراني في «الكبير» (4891 و4925) ، وفي «الأوسط» (7267) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/227) ، و «ذكر أخبار أصبهان» (1/354) ، وابن عبد البر في «التمهيد» (21/276) ، و «الجامع» (رقم 184) ، والبيهقي في «الشعب» (7/288 رقم 10338) من حديث زيد بن ثابت.
وإسناده صحيح، صححه البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (3/270- 271 رقم 1454) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (4/121) ، وشيخنا الألباني في «الصحيحة» (رقم 404، 950) .
وفي الباب عن ابن مسعود:
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/220-221) -ومن طريقه ابن ماجه في «السنن» (رقم 257، 4106) -، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» (ص 29) ، والهيثم بن كليب الشاشي في «مسنده» (رقم 317) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/105) ، وابن عدي في «الكامل» (7/2521- 2522) ، والدارقطني في «العلل» (رقم 688) ، و «الأفراد» (ق 207/أ- مع أطراف الغرائب)، وابن عبد البر في «الجامع» (رقم 1128) بإسنادٍ ضعيف جدّاً عن ابن مسعود مرفوعاً:«من جعل الهموم هماً واحداً؛ كفاه الله همّ آخرته، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أوديتها وقع» .
وفي إسناده نهشل بن سعيد يروي المناكير، وقيل: بل يروي الموضوعات. قاله البوصيري، وقال أبو حاتم في «العلل» (2/122- 123) :«هذا حديث منكر، ونهشل بن سعيد متروك الحديث» ، وبنهشل أعله ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/54) .
وفي الباب عن أنس:
أخرجه الدارمي (229) ، والترمذي (2465) ، والطبراني في «الأوسط» (8883) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (1/33) ، وهناد في «الزهد» (667، 669) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/307) ، وابن عدي في «الكامل» (1/384) ، والبزار والبيهقي في «الشعب» (7/289 رقم 10341) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 333) ، وابن الجوزي في «الواهيات» (1329) ، وهو في «السلسلة الصحيحة» (949) .
وللحديث شواهد عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن عباس، ومن مرسل سليمان ابن حبيب المحاربي، ومن مرسل محمد بن المنكدر، وهو صحيح بها، وأحسنها حديث زيد المتقدم. =
وقد أنشد سلم بن ميمون الخوّاص (1) :
أرى الدنيا لِمَنْ هي في يديْهِ
…
عذاباً كلَّما كَثُرَت لديه
تُهينُ المُكرمِينَ لها بصُغْرٍ
…
وتُكرِمُ كلَّ مَنْ هانَتْ عليه
على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتصر في الدعاء لأنس رضي الله عنه بالإكثار فقط، بل ضم إليه الدعاء بالبركة (2) الذي صدوره منه صلى الله عليه وسلم يشمل عدم الافتتان به بحيث يزول محذوره، إذ الدنيا بلاء وفتنة، ففي التنزيل:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] .
وفي الأحاديث الإلهية يقول الله عز وجل: «ابن آدم ما خلقت هذه الدنيا إلا محنة» (3)، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون» (4) .
= وانظر: «الزهد» لابن أبي عاصم (باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت همته ونيته الآخرة؛ أتته الدنيا وهي راغمة» (ص 62 وما بعدها) ، و «زهد وكيع» (رقم 359، 360) والتعليق عليه، و «إتحاف السادة المتقين» (6/290) .
ومعنى الحديث: إن المشتغل بالسبب معرضاً عن النظر في غيره؛ فمشتغل بأمرٍ واحد، وهو التعبّد بالسبب أي سبب كان، ولا شك أن همّاً واحداً خفيفٌ على النفس جدّاً بالنسبة إلى هموم متعدّدة، بل همّ واحدٌ وثابتٌ خفيف بالنسبة إلى همّ واحد متغيّر مُتشتِّت في نفسه، وللكلاباذي كلام مطول حوله، انظر:«معاني الأخبار» له (ص 333-335) .
(1)
ذكر ذلك أبو نعيم في «الحلية» (8/278) ووقع فيه: «كلما كوت» ؛ وهو خطأ، صوابه المثبت، وفيه -أيضاً-:«سالم بن ميمون الخواص» ، وهو خطأ، صوابه:«سلم» » . له ترجمة في «الجرح والتعديل» (4/267) ، «ميزان الاعتدال» (2/186) ، «السير» (8/179) .
وقد وجدت الأبيات عند ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 438) وذكر تمثّل بعضهم بها.
(2)
انظر: «الأجوبة المرضية» (2/745) ، وسيأتي كلامه في التعليق على آخر رسالتنا هذه.
(3)
أورده الديلمي في «الفردوس» (8051) من حديث ابن عمر.
(4)
جزء من حديث أخرجه بنحوه: أحمد (3/7 و51 و84) ، والحميدي (752) ، وعبد بن حميد (864) ، والترمذي (2191) ، وابن ماجه (4000) ، والنسائي في «الكبرى» (9269) ، وأبو يعلى (1101 و1212 و1213 و1245) من حديث أبي سعيد الخدري، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
وقال -أيضاً-: «إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وأنهما مهلكاكم فانظروا كيف تعملون» (1) .
وقال -أيضاً-: «لكل أمة فتنة، وفتنةُ أمتي المال» (2) .
(1) أخرجه ابن حبان (694) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/112) ، والبيهقي في «الشعب» (10294) من حديث أبي موسى مرفوعاً.
وأخرجه من حديث أبي موسى موقوفاً: ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/141و 505) ، وهناد في «الزهد» (683) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/261) ، والبيهقي في «الشعب» (10293) ، وأورده الديلمي في «الفردوس» (898) .
وأخرجه البزار (1612) ، والطبراني في «الكبير» (10069) ، والدارقطني في «العلل» (791) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/102) من حديث ابن مسعود مرفوعاً، وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/22) إلى الطبراني في «الكبير» وقال:«فيه يحيى بن المنذر وهو ضعيف» . وفي (10/237) عزاه من حديث ابن مسعود إلى البزار، وقال:«وإسناده جيد» .
(2)
أخرجه الترمذي (2336) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/222) ، والنسائي في «السنن الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (8/309) -، وأحمد (4/160) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2516) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (12/4431، 4432 رقم 1634، 1635) ، وابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 13) ، وأبو القاسم البغوي في «معجم الصحابة» (5/124، 124- 125 رقم 2020، 2021) ، وابن حبان في «الصحيح» (3223) ، والطحاوي في «المشكل» (4325) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1022، 1023) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (19 رقم 404) ، و «الأوسط» (3319) ، وفي «مسند الشاميين» (2027) ، والحاكم في «المستدرك» (4/318) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/2373 رقم 5826) ، والبغوي في «شرح السنة» (5194) ، والبيهقي في «الشعب» (10309) من طريقين عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن ابن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن كعب بن عياض، رفعه.
وإسناده قويّ.
وله شاهد من حديث أبي هريرة، عند العقيلي (3/970- ط. الشيخ حمدي) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الواهيات» (2/798 رقم 1333) - من طريق علي بن قتيبة، عن مالك، عن موسى الأحمر، عن أبي هريرة، رفعه.
وقال على إثره: «ليس له أصل من حديث مالك، ولا من وجه يثبت» ، وأقره ابن الجوزي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وتعقبه شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (رقم 592) بقوله: «قوله: «ولا من وجه يثبت» ، مردود بحديث كعب بن عياض، فإنه لا علة له، وقد صححه من ذكرنا (وهم الترمذي بقوله:«حديث حسن صحيح غريب» ، والحاكم بقوله:«صحيح الإسناد» ) ، وكذا ابن عبد البر في ترجمة كعب هذا من «الاستيعاب» (3/381) ، وأقرهم الحافظ في «الفتح» (11/253)، وقال:«وله شاهد عند سعيد بن منصور عن جبير بن نفير مثله» » .
قال شيخنا الألباني: «وأقول: هذا لا يصلح للشهادة؛ لأنه من طريق المشهود له، الموصول من طريق جبير نفسه، كما تقدم، فتأمل» .
قلت: وأخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 509) بسندٍ صحيح عن ابن مسعود قوله: «إنّ لكل أمّة فتنة، وإن فتنة هذه الأمة الدراهم» .
وخص أبو عبد الله القرطبي في كتابه «قمع الحرص بالزهد والقناعة» في (الباب الخامس والثلاثين) لهذا الحديث، وقال في شرحه: «قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: هذا خبر منه صلى الله عليه وسلم بأن كل الأمم افتتنت، فأمم منهم افتتنوا عن توحيده بالأصنام فعبدوها، وقوم بالشمس فتألهوها، وقوم بالقمر، وقوم بالكواكب، وقوم نبي كان فيهم وهم اليهود عبدوا عزيراً، وقالوا: ابن الله، ومنهم من افتتنوا بالعجل يعبدونه، والنصارى افتتنوا بعيسى فقال قوم منهم: هو الإله. وآخرون منهم قالوا: هو ابن الله، وجعل فتنة هذه الأمة في حب الدينار والدرهم، فغلب على أكثرهم حب المال، فكدر عليهم عبودية المتكبر المتعال، كما غلب على أكثر الأمم فتنة شرك الأسباب في توحيد رب الأرباب.
قلت: وقد احتج بهذا، وما كان في معناه من لا يرى جمع المال واكتسابه، واتخاذه واقتناءه، لما ينشأ فيه من المفاسد، ويحرم صاحبه من الخيرات والفوائد، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن الناس مختلفون بحال في ذلك، وقد كشف هذا حديثان:
أحدهما: حديث أبي كبشة الأنماري وسيأتي (ص 113) .
والثاني: ما رواه البخاري، وابن ماجه، وغيرهما، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط» . ثم قال صلى الله عليه وسلم في تمامه: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله: أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كانت الحراسة، كان في الحراسة، وإن كانت الساقة كان في الساقة، يطلب الموت من مظانه، إن أعطى شكر، وإن منع صبر» [أخرجه البخاري (2886) وغيره] .
قال علماؤنا: فميز صلى الله عليه وسلم بين عبد المال والهوى، وبين العبد الخالص للمولى، فذلك دعا عليه =
وللخوف من الفتن يُروى -كما عند أبي يعلى وغيره - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم بعد المئتين الخفيف الحاذ (1) الذي لا أهل له ولا ولد» (2) .
= بسيىء الدعاء ليرجع إلى المولى، والمخلص خصه بحبذا، وهي درجة المحبوبين الأولياء، فالمال إذا شغل عن ذكر الله، وعن القيام بحقوقه؛ فبئس المال، وإذا لم يمنع عن ذلك؛ فنعم المال، كما قال
عليه الصلاة والسلام: «نعم المال الصالح للعبد الصالح» . لكن لما كانت سلامة الدين مع ذلك نادرة، والفتن والآفات من ذلك غالبة، تعين التقلل منه والفرار، وأن لا يأخذ المرء منه إلا ما يكفيه عند الحاجة والاضطرار.
وقد قال أرباب الفهوم: ما يشغلك عن الله من أهل أو مال، فهو عليك مشؤوم.
وقال يحيى بن المتوكل: كنت أمشي مع سفيان الثوري، فمررت برجل بنى بناء وشيده، فقال: لا تنظر إليه، إنما بناه لينظر إليه.
وقال هشام بن عروة: كان أبي إذا دخل على من عنده شيء من زينة الدنيا أسرع الرجوع إلى أهله، وقام بالباب، ونادى:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} [طه: 131] إلى آخر الآية، ثم ينادي: الصلاة الصلاة، فيقومون فيصلون أجمعون» .
(1)
خفيف الحاذ: أي خفيف الظهر من العيال، والحاذ والحال واحد، وأصل الحاذ: طريقة المتن، وهو ما يقع عليه اللَّبْدُ من ظهر الفرس. انظر:«النهاية» (1/457) ، و «لسان العرب» (3/487) .
(2)
أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير» -رواية ابن المقرىء، كما في «المطالب العالية» (17/ 617 رقم 4359- ط. العاصمة) ، و «المقاصد الحسنة» (ص203) -، والترقفي في «حديثه» (ق1/ ب) ، وابن أبي حاتم في «العلل» (2/132) ، والعقيلي في «الضعفاء» (2/69) ، والخليلي في «الإرشاد» (2/47 رقم 129) ، وابن عدي في «الكامل» (3/1037) ، والبيهقي في «الشعب» (7/ 292 رقم 10350) ، والخطابي في «العزلة» (ص 36) ، وابن الأعرابي في «الزهد» (ص 61 رقم 106) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/55 و18/211) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 197-198 و11/225) ، و «المهروانيات» (رقم 47) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (رقم 1051، 1052) ، والذهبي في «سير أعلام النبلاء» (13/14)، جميعهم من طريق روَّاد بن الجرَّاح: ثنا سفيان الثوري، ثنا منصور: ثنا ربعي عن حذيفة، رفعه.
وذكره الديلمي في «الفردوس» (2/170 رقم 2852) .
وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» (1/519) ، والعراقي في «تخريج أحاديث الأحياء» =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2/24) ، والمصنف في «المقاصد الحسنة» (رقم 452) ، والسيوطي في «الدرر» (رقم 206) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (1/464 رقم 1235) لأبي يعلى، وقال السيوطي:«ضعِّف» ، بينما في «الجامع الصغير» (3/397- مع «الفيض» ) :«صحيح» ، وتعقّبه المناوي، وأعله بروَّاد.
قال الخليلي: «وهذا لا يعرف من حديث سفيان إلا من هذا الوجه، وقد خطّئوه فيه» .
وقال البيهقي: «تفرد به روّاد بن الجرّاح العسقلاني عن سفيان الثوري» ، وقال الخطيب:«هذا حديث غريب من حديث سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة، تفرد بروايته أبو عاصم روّاد بن الجراح عن الثوري، فقد رواه -أيضاً- عنه غيره» .
ونقل ابن الجوزي عن الدارقطني قوله: «تفرّد به رواد، وهو ضعيف» ، قال:«وقد أدخله البخاري في «الضعفاء» ، وقال: كان قد اختلط لا يكاد يقوم حديثه، وقال أحمد بن حنبل: حدَّث رواد عن سفيان أحاديث مناكير، وقد روى مطلقاً من غير ذكر المئتين» .
قلت: وكلام الدارقطني في «الأفراد والغرائب» (ق 126/أ- ترتيب ابن القيسراني) .
وانظر لروّاد وضعفه: «الجرح والتعديل» (2/52) ، «تاريخ بغداد» (4/173- 174) ، «تاريخ دمشق» (18/210) ، «الميزان» (2/56) ، «الكاشف» (1/20) ، «المغني» (1/40) .
وقال الذهبي في «الميزان» (2/56) : «قال أبوحاتم: هذا حديث منكر» ، وزاد:«لا يشبه حديثه حديث الثقات، وإنما كان بدوّ هذا الخبر -فيما ذكر لي- أن رجلاً جاء إلى رواد، فذكر له هذا الحديث، فاستحسنه، وكتبه، ثم بعد حدّث به، يظن أنه من سماعه» .
وقال في «المغني» (1/233) : «خبر منكر» .
وعلَّق جمع من العلماء جناية هذا الحديث بروّاد، منهم -على سبيل المثال-:
- الزركشي في «اللآلئ» (ص 68- 69)، وقال:«والمعروف ما رواه الترمذي (2347) عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أغبط أوليائي عندي المؤمن خفيف الحاذ، ذو حظٍّ في الصلاة» الحديث، وإسناده ضعيف» .
- العراقي قي «تخريج الأحياء» (2/24) ، والمصنف في «المقاصد الحسنة» (رقم 452)، قال:«علته روّاد» ، وقال:«وفي معناه أحاديث كثيرة كلها واهية» ، ثم ساق بعضها، وتكلّم عليها.
- وذكره الصَّغاني في «الموضوعات» (ص 15 رقم 98) ، وعزاه محققه -خطأ، وهو شنيع بشيع- للترمذي في «سننه» !!
وقال ابن القيم في «المنار المنيف» (ص 127) : «أحاديث مدح العزوبة كلها باطل» .
• تنبيه وتحذير: ذكر الخطيب في «تاريخه» (6/198) ، وعنه ابن عساكر (18/211) أن =
وفي الباب عدة أحاديث من نمطه (1) .
= موسى -وهو ابن إبراهيم بن النضر بن مروان المقرئ، أحد رواة الحديث- قال:«قال أبي: قال العباس: فتكلم الناس في هذا الحديث، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله! حدّثنا رواد ابن الجراح، ثنا سفيان، ثنا منصور، ثنا رِبعي، عن حذيفة عنك، أنك قلت: خيركم في المائتين كل خفيف الحاذ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: صدق روَّاد بن الجراح، وصدق سفيان، وصدق منصور، وصدق رِبعي، وصدق حذيفة. أنا قلت: خيركم في المايتين كل خفيف الحاذ» ، ولا تلتفت إلى هذه الحكاية، فالأحكام لا تبنى أصالة على الرؤى، فتنبه ولا تكن من الغافلين!
وفي الباب عن حذيفة بمعناه من طريق آخر، ولفظ مغاير أخرجه المعافي بن عمران في «الزهد» (رقم 19) -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (5/187)، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (3/544 و4/851) عن مكحول عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتمنّى أبو الخمسة أنهم أربعة، وأبو الأربعة أنهم ثلاثة، وأبو الثلاثة أنهم اثنان، وأبو الاثنين أنهم واحد، وأبو الواحد أنه ليس له ولد» ، وإسناده ضعيف، ومكحول لم يسمع حذيفة.
وقال ابن أبي حاتم في (2/132) : «قال أبي: هذا حديثٌ باطلٌ» . وقال في (2/420) : قال أبي: «هذا حديثٌ منكرٌ» .
(1)
ذكر بعضاً منها المصنف في «المقاصد الحسنة» (رقم 452) ، وضعّفها كما قدمناه عنه في الهامش السابق، وقال:«فإن صحّت فهو محمول على جواز التَّرهُّب أيام الفتن» .
قلت: وهذا تبويب شيخه ابن حجر في «المطالب العالية» (17/617- ط. العاصمة) على بعضها. وانظر -أيضا-: «الأجوبة المرضية» (2/742-743) .
ومن بين هذه الأحاديث:
ما أخرجه ابن خلاد في «فوائده» (ق 9) ، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (3/967 رقم 756- بغية الباحث)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/118) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس زمان يحل فيه العُزبة، ولا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه، من شاهق إلى شاهق، ومن جحر إلى جحر؛ كالطائر يفرّ بفراخه، وكالثعلب بأشباله، فأقام الصلاة وآتى الزكاة، واعتزل الناس إلَاّ من خير، ولمئة شاة عفراء أرعاها بسلع، أحب إليّ من ملك بني النضير، وذلك إذا كان كذا وكذا» .
وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحيم بن واقد، قال أبو نعيم:«غريب» .
وأخرجه من طرق أخرى ضعيفة جداً عن ابن مسعود مرفوعاً بمعناه وبألفاظ أخرى: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= البزار (4/131-كشف الأستار) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/12) ، وتمّام في «فوائده» (1716- الروض) ، والخطابي في «العزلة» (ص 66) ، والديلمي في «الفردوس» (1/ق 90 - زهر الروض) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/198) .
وانظر: «الميزان» (2/218- 219) ، «اللآلىء المصنوعة» (2/394-395) ، «تنزيه الشريعة» (2/345-346) .
وضعَّفه العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (2/24) ، والمصنِّف في «المقاصد الحسنة» (ص 329) .
وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» (1/ق683) للبيهقي في «الزهد» ، والخليلي، والرافعي عن ابن مسعود.
قلت: جعل العراقي حديث البيهقي في «الزهد» عن أبي هريرة، وهو كذلك فيه برقم (439) وسنده ضعيف، كما قال العراقي.
وأرجى ما ورد عن ابن مسعود في هذا موقوفاً عليه، أخرجه من طرق وبألفاظ:
أحمد في «الزهد» (ق 46/أو57/أ) ، والحاكم في «المستدرك» (4/486) ، والمعافى بن عمران في «الزهد» (رقم 13، 14، 20، 21، 22) ، والداني في «الفتن» (2/458 و3/543) ، ونعيم ابن حماد في «الفتن» (1/76) ، وابن أبي الدنيا في «العيال» (442) ، وابن عساكر (33/171) .
وفي الباب عن ابن عباس: أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/439) ، وتمام في «الفوائد» (رقم 1717- الروض) -ومن طريقهما ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (8/ق 105) -، وابن حبان في «المجروحين» (1/249) ، وسنده مظلم.
وانظر له: «الموضوعات» (2/279) ، «الميزان» (2/436) ، «تنزيه الشريعة» (2/211) ، «اللآلئ المصنوعة» (2/178) ، «الفوائد المجموعة» (134) ، «مجمع الزوائد» (4/257، 259) .
وعن أبي ذر: أخرجه الحاكم (3/343) ، والطبراني في «الأوسط» (4860) ، ضمن حديث طويل، وسنده ضعيف. انظر «مجمع الزوائد» (7/325) .
وعن أنس: أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور» -كما في اللآلئ-، وأبو نعيم في «ذكر أخبار أصبهان» (1/330) -ومن طريقهما الديلمي في «الفردوس» (4/ق 317- الزهر)، وفيه داود بن عفان وضاع. انظر:«اللسان» (2/421) .
وعن أبي سعيد: أخرجه أبو يعلى (990) ، بسندٍ فيه مسلمة بن علي الخشني، وهو متروك.
وفي الباب غيرها، انظرها عند: المعافى بن عمران في «الزهد» (16، 17) ، ونعيم بن حماد (2/703) ، وأبي عمرو الداني (3/664) ؛ كلاهما في «الفتن» ، و «الأجوبة المرضية» (2/742) بأسانيد لا أزمة لها ولا خطام، وأورد المعافى بعض المقطوعات في هذا الباب وهي أصح ما ورد في الباب، والله الهادي والموفق للصواب.
وكذا يشمل عدم نفادها من بين يديه، واحتياجه إلى اللئام ممن يفخر ويزهو بها عليهم.
قال صلى الله عليه وسلم لجرير رضي الله عنه: «يا جرير إني أحذِّرك الدنيا وحلاوةَ رضاعها ومرارة فطامها» (1) .
ولا شك أن من فاز بشمول البركة في ماله كان ممن يغبط على نواله.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق» (2) .
وأما المال الذي دعا بالكثرة منه على من لم يُؤمن به، وكذا الذي دعا بالتقلل منه لمحبيه، فهو المباين لما تقدم بكل طريق في الحقوق الواجبة، وكذا المستحبة بل هو المعنيُّ بقوله صلى الله عليه وسلم:«ورُبَّ متخوضٍ في مال الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم له النار يوم القيامة» (3) .
(1) أورده الديلمي (8576) من حديث ابن عباس.
ثم ظفرت به مطولاً جداً عند ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/567-571) ، أخرجه بسند مظلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الطيالسي (369) ، وابن المبارك في «الزهد» (1205) ، والحميدي (99) ، وأحمد (1/ 385) ، والبخاري (73، 1409) ، ومسلم (816) ، وابن ماجه (4208) ، والنسائي في «الكبرى» (5840) ، وابن حبان (90) ، وأبو يعلى (5078) ، والبيهقي في «السنن» (10/88) من حديث ابن مسعود.
(3)
أخرجه أحمد في «مسنده» (6/364، 378) ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/85) ، وعبد الرزاق في «مصنفه» (6962) ، وعبد بن حميد (1588) ، والبخاري (3118) ، وفي «تاريخه الكبير» (5/451) ، والترمذي (2374) ، وابن حبان (4512) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (3260) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4890) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1143) ، والطبراني في «الكبير» (24/578) ، وفي «الأوسط» (5318) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/64) ، والبيهقي في «الشعب» (10303) ، والبغوي في «شرح السنة» (2730) ، والخطيب في «تاريخه» (5/191) من حديث خولة بنت قيس.
وفي الباب عن أبي هريرة عند: أبي يعلى (6606) ، والطحاوي في «شرح المشكل» (4887) .
وعن حمنة عند: الحاكم (4/76) .
ومن شواهد ذلك: حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه رفعه: «إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يَتقي به، ويصل فيه رحمَه، ويعمل لله فيه حقّاً، فهذا أفضل المنازل؛ وعبدٍ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته، فأجرهما سواء؛ وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربَّه، ولا يصل فيه رحِمه، ولا يعمل لله فيه حقّاً، فهذا بأخبث المنازل؛ وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلانٍ فهو بنيته فوزرهما سواء» (1) .
رواه الترمذي وابن ماجه.
(1) أخرجه أحمد (4/229) ، ووكيع في «الزهد» (240) ، وابن ماجه (4228) ، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/222) ، وهناد في «الزهد» (586) ، والحسين المروزي في «زوائده على زهد ابن المبارك» (999) ، والفريابي في «فضائل القرآن» (105 و106) ، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (263) ، والطبراني في «الكبير» (22/867) ، وابن الأعرابي في «المعجم» (662) ، والبيهقي (4/189) من طرق عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي كبشة. وسالم لم يسمع من أبي كبشة.
وروي الحديث بذكر الواسطة بين سالم وأبي كبشة وهو ابن أبي كبشة - كما عند ابن ماجه (4228م) ، والطبراني في «الكبير» (22/865) ، والبيهقي (4/189) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/79 -80) - من طرق عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن أبي كبشة، عن أبي كبشة.
روى البيهقي بإثره: عن علي بن المديني أنه قال: ابن أبي كبشة هذا معروف، وهو: محمد بن أبي كبشة.
وذكره البخاري في «تاريخه» (1/176) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/372)، وقال الحافظ في «التقريب» (8486) :«مقبول» ، فهو لين الحديث، وقد توبع.
وقد تابعه أبو البختري سعيد الطائي كما عند: أحمد في «مسنده» (4/231) ، والترمذي (2325) ، ويعقوب بن سفيان الفسوي في «تاريخه» (3/191) ، والطبراني في «الكبير» (22/855 و868) ، والبغوي في «شرح السنة» (4097) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (14/193) من طرق عن سعيد الطائي، به.
وقال الترمذي عقبه: «هذا حديث حسن صحيح» .
وكتب أبو الدرداء إلى سلمان رضي الله عنهما: يا أخي! لا تجمع ما لا تستطيع شُكرهُ، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يجاء بصاحب الدنيا يوم القيامة الذي أطاع اللهَ فيها وهو بين يدي ماله، وماله خلفه، كلَّما تكفَّأ به الصِّراطُ، قال له ماله: امض فقد أديت الحقَّ الذي عليك، قال: ويجاء بالذي لم يطع اللهَ -تعالى- فيه، وماله بين كتفيه، فيعثره ماله، ويقول له: ويلك هلاّ عملت بطاعة الله عز وجل فِيَّ، فلا يزال كذلك حتى يدعوَ بالويل» (1) .
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» .
(1) ألحقه المصنف بورقة منفصلة بخطه ووضع علامة على محلّه في الهامش بقوله: «ينظر الورقة» ، ويبدأ الإلحاق من قوله: «وكتب أبو الدرداء
…
» إلى قوله: «أخرجه أبو نعيم في «الحلية» » ، وأثبت بعده بخطه: «يتلوه: والحاصل
…
» .
وقوله: «والحاصل
…
» وما بعده بخط أبي الفضل الأعرج، ناسخ الأصل، وسبقت ترجمته.
أما هذا الحديث فهو طويل جدّاً، والمذكور قطعة، أخرجه عبد الرزاق في «جامعه» (11/96- 98 رقم 20029) -ومن طريقه ابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 111) ، والبيهقي في «الشعب» (7/ 380 رقم 10658) -، وأبو نعيم في «الحلية» (1/214- 215)، ومختصراً ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/152) عن معمر عن صاحب له: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان
…
الخ، وإسناده ضعيف، للإبهام الذي فيه، وهو منقطع.
وأخرجه سعيد بن منصور -كما في «إتحاف السادة المتقين» (8/146) ، ومن طريقه ابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 112) ، والبيهقي في «الشعب» (7/379- 380 رقم 10657) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (47/153-ط. دار الفكر) مطولاً-، وابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 359) مقتصراً، على الشاهد الذي عندنا.
وأخرجه مختصراً دون الشاهد: الدينوري في «المجالسة» أول (الجزء الرابع) منه (2/323 رقم 482- بتحقيقي) ، وأعاده برقم (2408) -ومن طريقه ابن عساكر (13/ق 754 أو 47/152- ط. دار الفكر)، ومطولاً به من طريق أخرى: ابن عساكر (47/152- 153)، جميعهم عن إسماعيل بن عياش عن مُطعم -وتحرف في مطبوع «الشعب» إلى (محمد) ! فليصحح- بن المقدام الصنعاني عن محمد بن واسع الأزدي قال: كتب أبو الدرداء به.
ووقع في مطبوع «ذم الدنيا» : كتب سلمان إلى أبي الدرداء، وهذا خطأ، قال العراقي في «تخريج أحاديث الأحياء» (3/227) : «ليس هو من حديث سلمان، إنما هو من حديث أبي الدرداء
…
» ، =
والحاصل أن خيرية المال ليست لذاته (1) ،
بل بحسب ما يتعلق به ولو اتفق
= وتعقب محققه العراقي قصور لا يخفى، لا نطيل به.
وإسناده ضعيف.
محمد بن واسع: عابد ثقة، لكن بُلي برواة ضعفاء، قاله الدارقطني في «سؤالات البرقاني» (رقم 463) . وقال علي بن المديني -فيما نقله المزي في «تهذيب الكمال» (26/ 578) عنه-:«ما أعلمه سمع من أحدٍ من الصحابة» ، فهو مرسل.
ومُطعم بن المقدام الصَّنعاني الشامي، وثَّقه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (72) ، وابن حبان في «ثقاته» (7/509) ، وابن معين، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (8/411) :«لا بأس به» .
وانظر: «تهذيب الكمال» (28/74) .
وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وهذه عن مطعم وهو شامي، فانحصرت علّة الحديث في الانقطاع، والله اعلم. وهو في «ضعيف الجامع الصغير» (3846) .
(1)
ولهذا قيل: الدرهم حاكم صامت، وعدل ساكت، وخاتم من الله نافذ، وقيل: لهذا المعنى سمي في لغة الفرس ديناراً، أي: الدين أتى به، والدين فارسية معربة. ولما كان ذلك حاكماً عظم الله تعالى وعيد من احتبسه ومنع الناس عن التعامل به فقال:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية [التوبة: 34] . وذلك أنه يصير بإحباسه إياهما كمن حبس حاكمين للناس بهما تتمشى أمور معايشهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:«الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ؛ لأنه يؤدي إلى منع الناس التصرف في معاملتهم.
فالمال إذا اعتبر بكونه أحد أسباب قوام الحياة الدنيوية فهو عظيم الخطر، وإذا اعتبر بسائر القنيات فهو صغير الخطر، إذ القنيات ثلاثة: نفسية، ومدنية، وخارجة، والخارجة أدونها، وأدون الخارجات الناض -وهو المال في لغة الحجاز-؛ لأنه خادم غير مخدوم، وسائر القنيات خادم من وجه، ومخدوم من وجه؛ لأن النفس يخدمها البدن، والبدن يخدمه المأكل والملبس، وهما يخدمهما المال، فالمال من حقه أن يكون خادماً لغيره من القنيات وأن لا يكون شيء من القنيات خادماً له، وإن كان كثير من الناس لجهلهم يجعلون جاههم وأبدانهم ونفوسهم خدماً للمال وعبيداً. وهم الذين ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«تعس عبد الدينار» ، ولعظم موقع المال عند من لا يتجاوز المحسوسات قال -حكاية عن بعض أنبيائه فيما خاطب به أمته-:{اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10]، ولعظم منافعه في الأمور الدنيوية قال -تعالى-:{وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، ونبه على حقارة قدره بالإضافة إلى أحوال الآخرة فقال:{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} [المنافقون: 9] ، وخوَّف من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أعجب باقتنائه فقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَاّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55-56]، وقال -تعالى-:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] .
فحق الإنسان أن يعد المقتنيات الدنيوية آلات موضوعة في خان سفر يصلح للانتفاع بها ما دام نازلاً في ذلك الخان، فيتناول منها مقدار البلغة، ويتسلى عنها عند الرحلة، ويستهجن لنفسه أن يكذب ويغضب ويحزن ويرتكب القبائح في سببها.
واعلم أن الناض الذي هو العين والورق حجر، جعله الله -سبحانه- سبباً للتعامل به كما تقدم آنفاً وخادماً كما ذكرناه، فقبيح بالحر المتوشح لنيل الفضائل والاقتداء بالبارئ جل ثناؤه، والوصول إلى الغنى الأكبر: أن يتهافت على المال بأكثر مما يحتاج إليه، ويجعل نفسه أقل رقيق له وأخسه، كما قيل:
فرق ذوي الأطماع رق مخلد
ويكون معكفاً منه على حجر يعبده قال -تعالى-: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138]، وأرى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما سأل الله -تعالى- فقال:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَام} [إبراهيم: 35] لم يرد إلا أن يحرسه وذريته عن الأعراض الدنيوية الصارفة عن الله، فمثله
عليه الصلاة والسلام وأولاده يتنزه أن يشفق من اعتقاد في حجر هو صانعه ويستحق عبادته، وقال في موضع آخر إشارة إلى ما يعم هذا المعنى وغيره:{يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يَبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42]، وقال بعض الحكماء: مثل الإنسان وشغفه بهذه الأعراض الدنيوية كراكب في سفينة إلى أفضل بلد، فانتهى إلى جزيرة ذات أسود وأساود، فأمروا بالخروج والتهيء للطهارة، وأن يكونوا على حذر، فرأوا حجراً مزبرجاً مزيناً فشغفوا به، وتباعدوا عن المركب ونسوا مقصودهم ومركبهم، وبقوا لاهين حتى سارت السفينة، فثارت عليهم الأسود والأساود، فلم يغن عنهم حجرهم، فصاروا كما قال
-تعالى- عمن هذه حاله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28-29] .
وقد تقدم أن المال من الخيرات المتوسطة؛ لأنه كما قد يكون سبباً للشر يكون سبباً للخير، لكن لما كان في أكثر الأحوال يوجب كرامة أصحابه، وتعظيم أربابه، حتى صدق الشاعر في قوله:
الناس أعداء لكل مدقع
…
صفر اليدين وإخوة للمكثر
وحتى قيل: رأيت ذا المال مهيباً. قال صلى الله عليه وسلم: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح» ، واستصوب قول طلحة رضي الله عنه في دعائه: اللهم ارزقنا مجداً ومالاً، فلا يصلح المجد إلا بالمال، ولا يصلح المال إلا بمراعاة المجد. وقال بعض الحكماء: اطلبوا العلم والمال بحق الرئاسة، فالناس خاص وعام، فالخاص يفضلك بما تحسن، والعام بما تملك، واكتسابه من الوجه الذي ينبغي صعب، وتفريقه سهل، كما قال الشاعر: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= له مصعد صعب ومنحدر سهل
ومن رام اكتسابه من وجه صعب عليه، فالمكاسب الجليلة قليلة عند الحر العادل، ومن رضي بكسبه من حيث اتفق فقد سهل عليه، والفاضل ينقبض عن اقتناء المال، ويسترسل في إنفاقه، ولا يريده لذاته، بل لاكتسابه المحمدة به، ولا يجمع المال عنده مدّخراً، كما قال الشاعر:
لا يألف الدرهم المضروب صرته
…
لكن يمر عليها وهو منصرفُ
إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا
…
ظلت إلى طرق المعروف تنصرفُ
وغير الفاضل يسترسل في اقتنائه وينقبض في إنفاقه، ويطلب لذاته لا لادخار الفضيلة به.
قاله الراغب في «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (274-277) .
قال أبو عبيدة: وما ذكره المصنف من أن الخيرية ليست لذاتها دلت عليه نصوص، وهو قول جماعة من المحررين المدققين من العلماء، وهذا التفصيل:
- أخرج الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (54) بسندٍ صحيح من حديث أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ابتاعوا أنفسكم من الله من مال الله» . وانظر: «الصحيحة» (271) .
- وأخرج أحمد (5/218-219) ، والطبراني في «الكبير» (3300، 3301) وغيرهما من حديث أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه، فيُحدِّثنا، فقال لنا ذات يوم:
«إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة» وإسناده حسن، وقال شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (1639) :«وللحديث شواهد كثيرة معروفة، فهو حديث صحيح» .
أما بالنسبة إلى منعه وحرمانه، فإن ذلك محمود لمن ترتب في حقّه ما حصل مع الزاهدين والصالحين من الصحابة ومن سار على منوالهم، أمثال: أصحاب الصفّة.
أخرج أحمد (6/18-19) -ومن طريقه ابن الشجري في «الأمالي» (2/185) -، والترمذي (2368) ، وابن حبان (724) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/287 رقم 482- ط. شاكر) ، والطبراني (18 رقم 798- 800) ، وأبو نعيم (2/17) بسندٍ صحيح عن فضالة بن عبيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى بالناس خرَّ رجال من قامتهم في الصلاة، لما بهم من الخصاصة (الجوع) -وهم من أصحاب الصُّفة- حتى يقول الأعراب: إن هؤلاء مجانين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة انصرف إليهم، فقال:
«لو تعلمون ما لكم عند الله عز وجل، لأحببتم لو أنكم تزدادون حاجةً وفاقةً» .
وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2169) ، «رجحان الكفة» (ص 288-289- بتحقيقي) للمصنف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في أحاديث ونصوص كثيرة تساعد على هذا التفريق، وذكر المصنف جملة لا بأس بها، وإليك كلام بعض المحررين من العلماء يؤكد أن خيرية المال من أجل الثمرة المترتبة عليه:
* قال العز بن عبد السلام في أواخر «قواعد الأحكام» (2/362-365) :
«فإن قيل: أيما أفضل، حال الأغنياء أم حالُ الفقراء؟ فالجواب: أن الناس أقسام:
أحدها: من يستقيمُ على الغنى، وتفسدُ أحواله بالفقر، فلا خلاف أن غنى هذا خيرٌ له من فقره.
القسم الثاني: من يستقيم على الفقر، ويفسده الغِنى، ويحمله على الطغيان، فلا خلافَ أن فقر هذا خيرٌ له من غِناه.
القسم الثالث: من إذا افتقر قام بجميع وظائف الفقر، كالرضا والصبر، وإن استغنى قام بجميع وظائف الغنى من البذل والإحسان وشُكرِ الملِك الديّان، فقد اختلف الناس في أي حالي هذا أفضل؟
فذهب قومٌ إلى أن الفقر لهذا أفضل.
وقال آخرون: غِناه أفضل، وهو المختار، لاستعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر. ولا يجوز حمله على فقرِ النفس؛ لأنه خلاف للظاهر بغير دليل.
وقد يستدل لهؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أغلب أحواله الفقر إلى أن أغناه الله عز وجل بحصون خيبر، وفدك، والعوالي، وأموال بني النَّضير.
والجواب عن هذا: أن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يومٌ إلا كان أفضلَ من الذي قبله، فإنّ من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسهُ خيراً من يومه فهو ملعون -أي مطرود- مغبونٌ، وقد خُتِمَ آخر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنى، ولم يُخرجه غناه عما كان يتعاطاه في أيام فقره من البذل والإيثار والتقلل، حتى أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصُعٍ من شعير.
وكيف لا يكون كذلك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول:«يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك» . أراد بالفضل: ما فضل عن الحاجة الماسّة، كما فعل صلى الله عليه وسلم.
فمن سلك من الأغنياء هذا الطريق، فبذل الفضل كله مقتصراً على عيشٍ مثل عيشِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا امتراءَ أن غنى هذا خيرٌ من فقره.
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «أتى فقراء المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ذهبَ ذوو الأموال بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، يُعتقون ولا نجدُ ما نُعتق، ويتصدّقون ولا نجد ما نتصدّق، وينفقون ولا نجد ما نُنْفِق؟ فقال: ألا أدلكم علىأمرٍ إذا فعلتموه أدركتم به مَن كان قبلكم، وفُتّم به من بعدكم؟ قالوا: بلى، قال: تُسبِّحون الله -تعالى- وتحمدونه وتكبرونه على إثرِ كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين مرة. فلما صنعوا ذلك سمعَ الأغنياء بذلك، فقالوا مثل ما قالوا، فذهب الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد قالوا مثل ما قُلنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» » . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يومٍ، وهو خمس مئة عام» ، وقوله عليه الصلاة والسلام:«اطّلعت على الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطّلعت على النار، فرأيتُ أكثر أهلها النساء» ، فإن ذلك محمولٌ على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء، إذ لا يتصفُ من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء ويتقرب إلى الله -تعالى- بما فَضَلَ عن عيشه، مُقدّماً لأفضلِ البذلِ فأفضلِهِ إلا الشذوذُ النادرونَ الذين لا يكادون يوجدون، والصابرون على الفقرِ قليلٌ ما هم، والراضونَ أقلّ من ذلك القليل.
وتحقيق هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الغنى قائماً بوظائف الفقر، فلما أغناه الله -تعالى- قام بوظائف الفقراء والأغنياء، فكان غنياً فقيراً، صبوراً شكوراً، راضياً بعيش الفقراء، جواداً بأفضل جود الأغنياء.
ومن أعمال القلوب: احتقار ما حقّره الله من الدنيا وأسبابها، وتعظيم ما عظّمه الله من الفقر والذل والمسكنة والخضوع والخشوع والغربة وعدم الجاهِ والمال؛ لأن الغنى بالمعارف والأحوال أفضل وألذُّ من الغِنى بالجاه والأموال.
والذلُّ لله عز وجل عِزٌّ، والفقرُ له غنى، والغُربة لأجله استيطان؛ لأن العبد إذا كان عند سيده فهو في أفضل الأوطان، وإن أعرض عنه ونأى بجانبه، فأعظِم به من خسران» ، ثم قال تحت عنوان (فائدة) وفيها تفصيل لما أجمله المصنف. قال -رحمه الله تعالى-:
«لا يفضل الغنى من جهة كونه غِنىً، ولا الفقر من جهة كونه فقراً، وإنما الفضل والخلاف فيما يترتبُ عليهما من الآثار.
وقد جمعَ صلى الله عليه وسلم بين آثارهما في آخر عمره، فكان متصفاً بأكمل آثار الفقر وأكمل آثار الغنى، فكان جامعاً بين آثارهما التي وقع فيها الخلاف، فقام بمصلحتي السببين اللذين ليسا بمقصودين ولا قُربة فيهما، بل هما وسيلتان إلى مصالح الغنى والفقر» .
قال أبو عبيدة: الأحاديث التي ساقها العز جميعها تقدّمت، إلا حديث:«يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك» . والحديث أخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب بيان أن اليدَ العليا خير من اليد السُّفلى)(1036) عن أبي أمامة، وله تتمة هي:«ولا تُلامُ على كفافٍ، وابدأ بمن تعول، واليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى» .
وفي لفظ: «إن تُعط الفضلَ فهو خير لك، وإن تُمسكه فهو شرٌّ لك، وابدأ بمن تعول، ولا يلومُ الله على الكفاف» . أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة (2/362) وإسناده حسن.
وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2473) .
وفي هذا الحديث فضل الكفاف، وهو قدر حاجة الإنسان، دون زيادة التي تسبب -في الغالب- الطُّغيان، وسيأتي لاحقاً إن الغنى مغلوب بهذه الخصلة الي لا تكاد تنفك عن الإنسان، ما لم يصل إلى أعلى المراتب وأكملها من التيّقظ والمراقبة وهضم النفس، والحرص على التواضع. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج مسلم (رقم 1053) ، والترمذي (رقم 2348) ، وابن حبان (رقم 670) ، وأحمد (2/ 168) ، والفسوي (2/523) ، والبيهقي (4/196)، وأبو نعيم (6/129) عن عبد الله بن عمرو رفعه:«قد أفلح من أسلم، ورُزِقَ كفافاً [فصبر عليه] وقنعه الله بما أتاه» .
وأخرج البخاري (6460) ، ومسلم (1055، 2969) عن أبي هريرة رفعه: «اللهم ارزق آل محمد قوتاً» لفظ البخاري، ولفظ مسلم:«اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً» ، وعند أحمد (2/232) مثله، إلا «آل محمد» فعنده بدلها:«آل بيتي» . وزاد السيوطي عليه في «الجامع الصغير» -وأورده بلفظ مسلم-: «في الدنيا» ولا أصل لها. انظر: «السلسلة الصحيحة» (130) .
وعند بعضهم: «اللهم اجعل رزقي ورزق آل محمد كفافاً» . وطرقه عند:
وكيع في «الزهد» (119) ، والترمذي (2362) ، والنسائي في «الكبرى» -كما في «التحفة» (10/442) -، وابن ماجه (4139) ، وابن أبي شيبة (13/240) ، وأحمد (2/446، 481) ، وابن السني في «القناعة» (51، 52) ، وأبي الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» (224-225) ، والبيهقي في «الكبرى» (2/150) ، و «الدلائل» (1/339) ، و «الشعب» (1454) .
فهذا الذي أحبّه صلى الله عليه وسلم لمحبّيه.
قال شيخنا العلامة الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الضعيفة» (1/254) -بعد تخريجه لحديثي ابن عمرو وأبي هريرة السابقين- تحت (فائدة الحديث) :
«فيه وفي الذي قبله دليل على فضل الكفاف، وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك؛ رغبة في توفر نعيم الآخرة، وإيثاراً لما يبقى على ما يفنى، فينبغي للأمة أن تقتدي به صلى الله عليه وسلم في ذلك. وقال القرطبي:
معنى الحديث أنه طلب الكفاف؛ فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعاً؛ كذا في «فتح الباري» (11/251-252) .
قلت: ومما لا ريب فيه أن الكفاف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال، فينبغي للعاقل أن يحرص على تحقيق الوضع الوسط المناسب له؛ بحيث لا ترهقه الفاقة ولا يسعى وراء الفضول الذي يوصله إلى التبسط والترفه؛ فإنه في هذه الحال قلما يسلم من عواقب جمع المال، لا سيما في هذا الزمان الذي كثرت فيه مفاتنه، وتيسرت علىالأغنياء سبله. أعاذنا الله -تعالى- من ذلك، ورزقنا الكفاف من العيش» .
قال أبو عبيدة: وانظر في تقرير معنى (الكفاف) عند أحمد (3/102) ، ومن طريقه ابن بشران في «الأمالي» (1073) ، ففيه تحقيق ما خيّر الله نبيه به بين أن يكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً، فاختار =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عبداً، فلزمه أن يفي لله بما اختاره، والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين يستعان به على الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يحتج إلى المال من هذه الوجوه، وكان قد ضمن الله له رزقه بقوله:{نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 32] .
وانظر: «شرح ابن بطال على صحيح البخاري» (10/174) ، وقد خرَّجت تخيير الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في تعليقي على «الموافقات» للشاطبي (1/544) ، فانظره، وانظر:«الصحيحة» (1002) .
ويعجبني كلامٌ للخطابي في «غريب الحديث» (1/711) عند شرحه لحديث أخرجه البخاري (رقم 2842) ، ومسلم (رقم 1052) ، وغيرهما عن أبي سعيد، وفيه:«إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حُلوة خَضِرة» قال:
«قوله: «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حلوة خضرة» مَثلٌ يريد أن جمع المال واكتسابه غير محرم، ولكن الاستكثار منه والخروج من حدّ الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مُسقم والاقتصاد فيه محمود. ونظير هذا من الكلام قول الأحنف بن قيس. وقيل له: الحياءُ خير كله، فقال:«إنّ منه ضعفاً» . يريد أن ما خرج من حدّ الاعتدال لم يكن خيراً، لكن ذلك يستحيل ضعفاً وخوراً، كالجود إذا أفرط صار سرفاً، وكالشجاعة إذا أفرطت صارت تهوراً، وكالحزم إذا أفرط صار جُبناً، إلى ما أشبه هذا» .
قلت: كثرة المال سبب للتنافس في الدنيا، ونسيان الآخرة، وحينئذٍ يقع الهلاك، فليست المفاضلة لكثرة المال لذاته، ولا بجمال الأثاث، وحسن المناظر.
فقد أخرج البزار (3671- زوائده)، من حديث أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم الدنيا، حتى تنجَّدَ الكعبةُ» . قلنا: ونحن على ديننا اليوم، قال: وأنتم على دينكم اليوم، قلنا: فنحن يومئذٍ خير أم اليوم؟ قال: «بل أنتم اليوم خير» ، وإسناده جيد، قاله شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «الصحيحة» (1884، 2486) .
والخيرية ليست في اللذات والأموال والمظاهر الجوفاء!
قال الله -تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} [مريم: 74] . جاءت هذه الآية القرآنية الكريمة تشير إلى الأمم السابقة التي أُهلكت -والتي وردت قصصها في القرآن في مواضع أخرى- رداً على أولئك الذين لم يعرفوا التفريق بين المبادئ والأشياء
…
أو قدّموا الأشياء والأثاث على هداية المبادئ والقيم والأفكار! قال -تعالى- في الآية السابقة لها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ امَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73] فجاء الجواب: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ
…
} الآية.
وقد يمثل القرن الذي نعيش فيه أبعاد هاتين الآيتين الكريمتين
…
فأنت إذا دعوت الناس بهداية =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= القرآن حدّثك البعض عن حضارة الآخرين
…
ورفاهيتهم. حتى لقد أصبح هذا القرن عند الجميع قرن الرفاهية المادية والتكاثر الشيئي والتسابق في المقتنيات والتطاول في البنيان! بل «لقد غدا فيه الإعلان عن (الأشياء) عِلماً له أصوله ومناهجه
…
وغدت أحاديث الناس في المجتمعات اليومية تنصب في معظمها على التزود بالحاجيات المستجدة، وملاحقتها واصطيادها، والتباهي بتكديسها في غرف البيوت وصالاتها حتى ولو لم يكن وراءها أي منفعة! بل غدا «الديكور» هو الآخر علماً له أصوله ومناهجه
…
يتهافت الناس على أصحابه من أجل أن يبدوا أحسن أثاثاً ورئياً!!
إن الجانب المادي من الحياة ليس سوى تراكم شيئي
…
تكديس أثاث بعضه فوق بعض
…
ولم يكن بمقدور الأثاث يوماً -مهما كان جميلاً ومتقدماً ومتقناً- أن يقف في مواجهة المصير
…
أن يخلّص أمة لم تحسن التعامل مع القيم التي هي أكبر من الأشياء والأثاث و «الديكورات» يخلّصها من مصائرها المفجعة
…
من الهلاك النفسي والأخلاقي والصحي والاجتماعي والأدبي الذي يقتحم عليها جدرانها الشيئية كالطاعون، ويكتسحها وأثاثها ورواءها الخارجي من مسرح التاريخ» .
وانظر مقالاً قيماً بهذا الخصوص بعنوان: «إشارات قرآنية» للدكتور عماد الدين خليل، في مجلة العربي، العدد (247) رجب (1399هـ)(ص 14-17) ، و «علوم القرآن» (ص 374) للزرزور.
إذاً، العبرة في المال بثمرته والنتيجة المترتبة عليه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «مجموع الفتاوى» (20/143-144) بعد كلام:
وقال فيه (20/144) مؤكِّداً أن شأن (المال) تحصيلاً وعدماً يخرَّج على قاعدة (الأمور بمقاصدها) ونصّ كلامه:
«فالشرف والمال لا يحمد مطلقاً ولا يذم مطلقاً، بل يحمد منه ما أعان على طاعة الله، وقد يكون ذلك واجباً، وهو ما لا بد منه في فعل الواجبات، وقد يكون مستحباً، وإنما يحمد إذا كان بهذه النية، ويذم ما استعين به على معصية الله أو صد عن الواجبات، فهذا محرم.
وينتقص منه ما شغل عن المستحبات وأوقع في المكروهات. والله أعلم» . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وانظر: «القواعد الفقهية الخمس الكبرى والقواعد المندرجة تحتها من مجموع فتاوى ابن تيمية» (ص 129، 158) .
وقرر ابن تيمية -أيضاً- في «مجموع الفتاوى» (20/148) أن الزهد الشرعي ليس هو ترك الدنيا، وقد يكون ذمُّها عند الكثيرين من باب الحب الزائد لها، قال -رحمه الله تعالى- بعد كلام:
قال أبو عبيدة: ولذا من الخطإ (ذم المال) بإطلاق، وسيأتي التدليل على ذلك في غير موطن من كلام المصنّف، وقد غالى الصوفية -قديماً وحديثاً- بذلك، وتعقّبهم مجموعة من الأعلام، ومنهم القرطبي في مواطن من «تفسيره» ، منها (3/417-420) ، ونقل كلاماً لابن الجوزي، وسأعمل على ذكر كلامه بتمامه لأهميته، وأضع زياداتي عليه بين معقوفتين، والله المستعان، قال:
«لما أمر الله -تعالى- بالكتْب والإشهاد، وأخذ الرهان، كان ذلك نصاً قاطعاً على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، ورداً على الجهلة المتصوفة ورِعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم، ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج وافتقر عياله، فهو إما أن يتعرّض لمِنَن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلَمتهم، وهذا فعلٌ مذموم منهيٌّ عنه.
قال أبو الفرج الجوزي [في «تلبيس إبليس» (ص 176) ] :
قال المحاسبي في كلامٍ طويل له [في كتابه «النصائح» (ص 21) ] :
«ولقد بلغني أنه لما توفِّي عبد الرحمن بن عوف قال ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنما نخاف على عبد الرحمن فيما ترك. فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن؟ كسب طيباً، وأنفق طيباً، وترك طيباً. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فبلغ ذلك أبا ذر، فخرج مُغضَباً يريد كعباً، فمرّ بلحي بعيرٍ، فأخذه بيده، ثم انطلق يطلب كعباً، فقيل لكعب: إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان، يستغيث به، وأخبره الخبر.
فأقبل أبو ذر يقصُّ الأثر في طلب كَعب، حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب، فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، تزعم ألاّ بأس بما تركه عبد الرحمن! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال:«الأكثرون هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا» [الحديث صحيح، دون القصة، كما سيأتي مفصلاً] » .
قال المحاسبي:
«فهذا عبد الرحمن -مع فضله- يوقف في عَرصة يوم القيامة، بسبب ما كسبه من حلال، للتعفف وصنائع المعروف، فيمنع السعي إلى الجنّة مع الفقراء، وصار يحبو في آثارهم حَبْواً» . إلى غير ذلك من كلامه.
ذكره أبو حامد وشيّده وقوّاه بحديث ثعلبة، وأنه أعطي المال فمنع الزكاة [سيأتي قول المصنف عن حديث ثعلبة: إسناده ضعيف جدّاً، وتخريجه هناك] .
قال أبو حامد:
«فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم، لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده، وإن صرف إلى الخيرات، إذ أقل ما فيه، اشتغال الهمّة بإصلاحه عن ذكر الله.
فينبغي للمريد أن يخرج عن ماله، حتى لا يبقى له إلا قدر ضرورته، فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه، فهو محجوب عن الله -تعالى-» .
قال ابن الجوزي [في «تلبيس إبليس» (ص 178) ] :
وهذا كله خلاف الشرع والعقل، وسوء فهم للمراد بالمال، وقد شرّفه الله، وعظّم قدره، وأمر بحفظه إذ جعله قِواماً للآدمي، وما جعل قِوماً للآدمي الشريف فهو شريف، فقال -تعالى-:{وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] ، ونهى -جلَّ وعزَّ- أن يسلم المال إلى غير رشيد، فقال:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، قال لسعد:«إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» [أخرجه البخاري (56، 2744، 3936، 5668، 5659، 6373، 6733) ، ومسلم (1628) ] . وقال: «ما نفعني مال كمال أبي بكر» [الحديث صحيح، وخرجته بتفصيل في تعليقي على «المجالسة» (151) ] . وقال لعمرو بن العاص: «نعم المال الصالح، للرجل الصالح» . ودعا لأنس، وكان في آخر دعائه:«اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه» . وقال كعب: يا رسول الله! إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. فقال: «أمسك عليه بعض مالك، فهو خير لك» . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال ابن الجوزي [في المصدر السابق] :
هذه الأحاديث مخرّجة في الصحاح [وهي عند السخاوي، وخرجناها جميعاً في محالها من رسالتنا هذه، ولله الحمد والمنة] ، وهي على خلاف ما تعتقده الصوفية من أن إكثار المال حجاب وعقوبة، وأن حبسه ينافي التوكل، ولا ينكر أنه يخاف من فتنته، وأن خلقاً كثيراً اجتنبوه لخوف ذلك، وأن جمعه من وجهه ليعز، وأن سلامة القلب من الافتتان به تقلّ، واشتغال القلب مع وجوده بذكر الآخرة يندر، فلهذا خيف فتنته.
فأما كسب المال، فإن من اقتصر على كسب البُلَغةَ من حلِّها، فذلك أمر لا بدّ منه، وأما من قصد جمعه والاستكثار منه من الحلال نُظِرَ في مقصوده، فإن قصد نفس المفاخرة والمباهاة، فبئس المقصود، وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته، وادّخر لحوادث زمانه وزمانهم، وقصد التوسعة على الإخوان، وإغناء الفقراء، وفعل المصالح، أُثيِبَ على قصده، وكان جمعه بهذه النيّة، أفضل من كثير من الطاعات.
وقد كانت نيات خلق كثير من الصحابة في جمع المال سليمة، لحسن مقاصدهم بجمعه، فحرصوا عليه، وسألوا زيادته.
ولما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حُضر فرسه، أجْرَى الفرس، حتى قام [أي: وقف وانقطع عن الجري] ، ثم رمى سوطه، فقال:«أعطوه حيث بلغ سوطه» [أخرجه أحمد (2/156) ، وأبو داود (3072) ، وإسناده ضعيف] .
وكان سعد بن عبادة، يقول في دعائه:«اللهم وسّع علي» [سيأتي تخريجه (ص 140) ] .
وقال إخوة يوسف: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] .
وقال شعيب لموسى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] .
وإن أيوب لما عُوفي نُثِر عليه رِجْل من جراد من ذهب، فأخذ يحثي في ثوبه ويستكثر منه، فقيل له: أما شبعت؟ فقال: يا رب! فقير يشبع من فضلك؟ [سيأتي تخريجه] .
وهذا أمر مركوز في الطباع.
وأما كلام المحاسبي فخطأ، يدل على الجهل بالعلم، وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال، من وضع الجهال، وخفيت عدم صحته عنه للحُوقه بالقوم. وقد روي بعض هذا، وإن كان طريقه لا يثبت؛ لأن في سنده ابن لَهِيعة، وهو مطعون فيه. قال يحيى: لا يحتجّ بحديثه.
والصحيح في التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين، وعبد الرحمن بن عوف توفي سنة اثنتين وثلاثين، فقد عاش بعد أبي ذر سبعَ سنين. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ثم لفظ ما ذكروه من حديثهم، يدل على أن حديثهم موضوع، ثم كيف تقول الصحابة: إنا نخاف على عبد الرحمن!!
أو ليس الإجماع منعقداً على إباحة جمع المال من حِلِّه، فما وجه الخوف مع الإباحة؟ أو يأذن الشرع في شيءٍ ثم يعاقب عليه؟
هذا قلّة فهم وفقه.
ثم أينكر أبو ذر على عبد الرحمن، وعبد الرحمن خير من أبي ذر، بما لا يتقارب؟ ثم تعلقه بعبد الرحمن وحده، دليل على أنه لم يسبر سير الصحابة، فإنه قد خلف طلحة ثلاث مئة بُهار، في كل بُهار ثلاثة قناطير. والبُهار: الحمل.
وكان مال الزبير خمسين ألفاً ومئتي ألف. [انظر في تحقيق مقدار ماله وتركته في تعليقي على «المجالسة» (رقم 2200) ] .
وخلّف ابن مسعود تسعين ألفاً.
وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلّفوها، ولم ينكر أحد منهم على أحد.
وأما قوله: «إن عبد الرحمن يحبو حبواً يوم القيامة» . فهذا دليل على أنه ما عرف الحديث، وأعوذ بالله أن يحبو عبد الرحمن في القيامة، أَفَتَرَى من سبق، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر والشورى يحبو؟ ثم الحديث يرويه عُمارة بن زاذان، وقال البخاري [في «التاريخ الكبير» (3/2/505) ] :«ربما اضطرب حديثه» . وقال أحمد: «يروي عن أنس أحاديث مناكير» [وهذه رواية الأثرم عنه. انظر: «الجرح والتعديل» (3/1/366) و «التهذيب» (7/417) ، و «بحر الدم» (رقم 731) ] . وقال أبوحاتم الرازي [في «الجرح والتعديل» (3/1/366) ] : «لا يحتج به» . وقال الدارقطني: «ضعيف» . [كذا في «سؤالات البرقاني» (رقم 401) وزاد: «لا يعتبر به» ، وترجمه في «الضعفاء والمتروكين» (رقم 382) . وانظر: «الميزان» (3/79) ، وفي «التقريب» : «صدوق، كثير الخطأ» ] .
وقوله: «تركُ المال الحلال أفضل من جمعه» ليس كذلك، ومتى صحَّ القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء.
وكان سعيد بن المسيب يقول: «لا خير فيمن لا يطلب المال، يقضي به ديْنه، ويصون به عِرضه، فإن مات تركه ميراثاً لمن بعده» [سيأتي تخريجه] .
وخلّف ابن المسيب أربع مئة دينار، وخلّف سفيان الثوري مئتين، وكان يقول:«المال في هذا الزمان سلاح» [سيأتي عند المصنف] . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وما زال السلف يمدحون المال، ويجمعونه للنوائب، وإعانة الفقراء، وإنما تحاماه قوم منهم،
…
إيثاراً للتشاغل بالعبادات، وجمع الهمّ، فقنعوا باليسير، فلو قال هذا القائل:
إن التقليل منه أولى، قرب الأمر، ولكنه زاحم به مرتبة الإثم.
قلت [القائل القرطبي المفسر] : «ومما يدل على حفظ الأموال ومراعاتها، إباحة القتال دونها وعليها.
قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» [أخرجه البخاري (2452، 3198) ، ومسلم (1610) من حديث سعيد بن زيد رفعه] » .
قال أبو عبيدة: بالنسبة إلى قصة دخول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الجنة زحفاً، فلم تثبت، وهذا التفصيل:
ورد ذلك في حديث أخرجه أحمد في «المسند» (6/115) ، وعبد بن حميد في «المسند» (3/178 رقم 1381- المنتخب) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (1/129 رقم 264) ، والبزار في «المسند» (3/209 رقم 2586- زوائده) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/384) ، و «الحلية» (1/98) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (10/117) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/13) في طريق عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس، وذكره.
وهذا إسناد ضعيف جدّاً، قال المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/579- 580) :«ومداره على عمارة بن زاذان، وقد ضعفه النسائي، والدارقطني، وأحمد في رواية الأثرم، بل ذكر ابن الجوزي الحديث في «موضوعاته» من «مسند أحمد» ونقل عنه أنه كذب منكر، قال:«وعمارة يروي أحاديث مناكير» .
قلت: عبارة ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/13) :
«قال أحمد بن حنبل: هذا الحديث كذب منكر، قال: وعمارة يروي أحاديث مناكير.
وقال أبو حاتم الرازي: عمارة بن زاذان لا يحتج به، وقد روى الجراح بن منهال إسناداً عن عبد الرحمن بن عوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يا ابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك لا تدخل الجنة إلا زحفاً فأقرض ربك يطلق قدميك» . قال النسائي: «هذا حديث موضوع، والجراح متروك الحديث» . وقال يحيى: «ليس حديث الجراح بشيء» . وقال ابن المديني: «لا يكتب حديثه» . وقال ابن حبان: «كان يكذب» . وقال الدارقطني: «روى عنه ابن إسحاق، فقلب اسمه فقال منهال بن الجراح: وهو متروك» » ا. هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في «القول المسدد» (ص 28) : «والذي أراه عدم التوسع في الكلام فإنه يكفينا شهادة الإمام أحمد بأنه كذب، وأولى محامله أن نقول هو من الأحاديث التي أمر الإمام أحمد أن يضرب عليها» . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (ج 7ص 164) : «تفرد به عُمارة بن زاذان الصيدلاني، وهو ضعيف» .
وانظر ترجمة (عمارة بن زاذان) في «الجرح والتعديل» (6/365) ، و «الضعفاء والمتروكين» (رقم 382) ، و «الضعفاء الكبير» (3/315) ، و «بحر الدم» (ص 310) ، و «الضعفاء» لابن الجوزي (2/203) ، و «تهذيب الكمال» (21/243) ، و «تهذيب التهذيب» (7/365) ، و «الميزان» (3/79) ، ولقصة عبد الرحمن بن عوف طرق مدارها على واهين ومتروكين وكذابين، وسأعمل -إن شاء الله تعالى- على ذكرها وبسطها بالتفصيل في جزء لاحق من كتابي «قصص لا تثبت» .
وقد ذكرها المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/577-581) وقال في خاتمتها: «وبالجملة؛ فقد قال الهيثمي [في «كشف الأستار» (3/209 عقب رقم 2587) ] وأقره العراقي [في تخريج أحاديث الإحياء» (5/2409) ]-رحمهما الله- أنه لا يثبت في دخوله زحفاً حديث» . انتهى.
وقد شهد رضي الله عنه بدراً والحديبية، ومعلوم أن الله عز وجل قال في أهل بدر:«اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فلو ارتكب امرؤ منهم ما لا يجوز -وقد عصمهم الله إن شاء الله من ذلك- فهو مغفور له، هذا مع أن كسبه حلال من تجارته ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال:«بارك الله لك» ، وفعل ما فعله للفقراء من الخير. ورواية من تقدم ممن طعن فيه لا يقدح في أهل بدر، والله الموفق» . وسبق ضعفها عن ابن الجوزي فيما نقله عنه القرطبي -رحمهما الله- وتكلمت عليها في تعليقي على «المستجاد» للتنوخي (ص 20-21 رقم 9) .
قال أبوعبيدة: المهم الآن -وقد طال بك الكلام، فأرجو المعذرة، فإنه لا يخلو من فائدة- أن أُكِّد لك التفصيل، وأنّ (المال) قد يحمد، وقد يذمّ من خلال تحقيق معانٍ كثيرة واردة في أحاديث شهيرة عديدة، وجمعها على وجهٍ حسن مع تعليق متين: العز في (الباب العاشر: الإحسان ببذل الأموال) من كتابه: «شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال» (ص 235- 260) ، والتفصيل يطول، والإحالة المذكورة مُغنية مُشبعة فيما يخص المسألة.
بقي بعد هذا كلّه:
التأكيدُ على صحة ما قاله المصنف -وهو لبّ رسالته وخلاصتها- مهم، وهو الصواب بلا شك، إذ يستحيل الوقوف على وجه الجمع بين المدح والذم إلَاّ بأن تعرف حكمة المال ومقصوده، وآفاته، وغوائله، حتى ينكشف لك أنه خيرٌ من وجه، وشرٌّ من وجه، وأنه محمودٌ من حيث هو خيرٌ، ومذمومٌ من حيث هو شر، وأنه ليس بخير محض، ولا هو شر محض، بل هو سبب الأمرين جميعاً، وما هذا وصفه فيمدح لا محالة مرّة، ويذم أخرى، ولكن البصير المميّز يدرك أن المحمود منه غير المذموم، وبيانها الاستمداد منه بما يصلح الحال لحفظ الدّين والقوة على الطاعة المفضية به إلى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم، والملك المقيم، ولا بدّ من مطعم، ومشرب، ومسكن، ومنكح، وملبس، فمن المطاعم إبقاء البدن، ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والخُلق، ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال، ووجه شرفه، وأنه من حيث ضرورة البدن إلى هذه الأسباب لتصح العبادة.
فمن عرف فائدة ذلك وغايته ومقصده؛ استعمله لتلك الغاية، ملتفتاً إليها غير ناسٍ لها، فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له من الغرض محموداً في حقّه، فإذاً المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتّخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، وهي المقاصد الصادّة عن سعادة الآخرة، ويسدّ سبيل العلم والعمل، فهو إذ ذاك محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصود المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصود المذموم، فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه، وهو لا يشعر.
ولمّا كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله، وكان المال مسهّلاً لها وآلة إليها عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية، فاستعاذ بعض الزهاد من شره.
واعلم أن المال مثل حيّة فيها سمٌ وترياق، ففوائدها ترياقها، وغوائلها سمومها، فمن عرف غوائلها وفوائدها أمكنه أن يحترز من شرّها، ويستدرّ منها خيرها.
أمّا الفوائد فهي تنقسم إلى: دنيوية ودينية، أما الدنيوية؛ فلا حاجة في ذكرها، فإن معرفتها مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها، وأما الدينية فنحصر جميعها في ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على العبادة.
أمّا العبادة كالاستعانة على الحج، والصدقة؛ فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمّهات القربات، والفقير محرومٌ عن فضلهما.
وأما فيما يقويه على العبادة، وذلك هو المطعم والملبس والمنكح، فإنّ هذه الضرورات إذا لم تتيسّر كان القلب منصرفاً إلى تدبيرها، فلا يتفرّغ للدّين، وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، وأخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية، فلا يدخل في هذه التنعّم والزيادة على الحاجة، فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.
النوع الثاني: ما تصرفه إلى الناس من صدقة واستخدام ومرؤة ووقاية العرض.
أما الصدقة فلا يخفى ثوابها، وأنها لتطفئ غضب الرب، وفضائلها معروفة فلا نطوِّل بذكرها.
وأما المرؤة فنعني بها: صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة، وهدية، وإعانة، وما يجري مجراه، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما تسلم إلى المحتاج إلا أن هذا -أيضاً- من الفوائد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الدينية، إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء، وبه يكتسب صفة السّخاء، ويلتحق بزمرة الأسخياء، فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف، ويسلك سبيل المرؤة، وهذا -أيضاً- مما يعظم الثواب فيه، فقد وردت أخبار كثيرة فيها الحث على الهدايا، والضيافات، وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها، وبيّنتُ قسماً حسناً منها في كتابي «المرؤة وخوارمها» .
وأمّا وقاية العرض فنعني به بذل المال لدفع هجو الشعراء، وثلب السفهاء، ودفع شرّهم، وقطع ألسنتهم، وهذا -أيضاً- مع فائدته في العاجلة فهو من الحظوظ الدينية- أيضاً-.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما وقي به المرء عرضه؛ فهو له صدقة» ، فكيف ولا؟ وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة، واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكاره والانتقام على مجاوزة الحدّ في الشرع، وبيّنت هذا في مقدمة كتابي «شعر خالف الشرع» يسر الله إتمامه بمنه وكرمه.
وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاّها بنفسه ضاعت أوقاته، وتعذّر عليه سلوك سبيل الآخرة، بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له افتقر إلى أن يتولىّ بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام، وطبخه، وكنسه البيت، حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكلّ ما يتصور أن يقوم به غيرك، ويحصل غرضك، فأنت مغبون إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والفكر والذكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك، فتضييع الوقت في غيره خسران.
واعلم أن الزائد من المال الذي يفضل عما يحتاج إليه من الكفاف يجرّ إلى المعاصي فإن الشهوات متقاضية والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يقدر ومتى كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليه انبعثت، والمال نوع من القدرة يحرّك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك، وإن صبر وقع في شدّة، إذ الصبر مع القدرة أشد و (فتنة السراء أشد من فتنة الضراء) .
النوع الثالث: أنه يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أقلّ الدرجات فمتى يقدر صاحب المال أن يتناول خبز الشعير، ويلبس الثوب الخشن، ويترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان عليه السلام في ملكه، وأحسن أحواله أن يترك التنعّم بالدنيا لما يعلم من سرعة انقضائها لئلا يمرن عليه نفسه، فيصير التنعّم مألوفاً عنده، ومحبوباً إليه لا يصبر عنه، ويجرّه البعض منه إلى البعض، وإذا اشتد أنسه به ربّما لا يقدر على التوصّل إليه بالكسب الحلال، فيقتحم الشبهات، ويخوض في المراءاة، والمداهنة، والكذب، والنفاق، وسائر الأخلاق المردية، لينتظم له أمر دنياه، ويتيسّر له تنعُمُه، فإنَّ من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بدّ أن ينافقهم ويعصي الله في طلب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رضاهم، فإن سلم الإنسان من مباشرة المحظورات فلا يسلم عن هذا أصلاً، ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة ويبتني عليه الحسد، والحقد، والرّياء، والكبر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وسائر المعاصي التي تخصّ القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي -أيضاً- إلى سائر الجوارح، وكل ذلك يلزم من شؤم المال، والحاجة إلى حفظه وإصلاحه، وهذا لاينفك عنه أحد من أصحاب المال. ثم إنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله -تعالى- وكل ما شغل عن ذكر الله فهو خسرانٌ.
ولذلك قال عيسى عليه السلام: «في المال ثلاث خصال: أن يأخذه من غير حله. فقيل: إن أخذه من حله؟ فقال: يضعه في غير حقه. فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: يشغله إصلاحه عن ذكر الله -تعالى-» .
وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخّها وسرّها ذكر الله -تعالى- والفكر في جلاله ومصنوعاته، ويحتاج ذلك إلى قلب فارغ، وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وخصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء في التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم، وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل، وتضييعه للمال، وكذلك صاحب المواشي، وهكذا سائر أصناف الأموال، وأبعدها عن كثرة الاشتغال النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه، وفي كيفية حفظه، وفي الخوف ممن يعثر عليه، وفي دفع أطماع الناس عنه، وأودية أفكار أهل الدنيا لا نهاية لها، والّذي معه قوت يومه في سلامة عن جميع ذلك، وما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن، والغمّ والهمّ، والتعب في دفع الحساد، وتجشّم المصاعب في حفظ الأموال وكسبها، فإذا ترياق الأموال أخذ الضرورة من ذلك مما بيّناه فيما تقدّم ما لا غنى عنه لإصلاح البدن، بتوفيره على العبادة، وصرف الزائد إلى الجيران في الخيرات من الصدقات وغيره، وماعداه آفات.
قال أبو عبيدة: يتضح مما مضى أنّ خيرية المال بثمرته، وأنه يراد لغيره ولا يراد لعينه. وقد كشف عن ذلك ابن الجوزي في كلام نقله عنه ابن مفلح الحنبلي في كتابه «الآداب الشرعية» (3/ 469-470)، قال:
«قال ابن الجوزي: وأما التفضيل بين الغني والفقير؛ فظاهر النقل يدل على تفضيل الفقير، ولكن لا بد من تفصيل فنقول: إنما يتصور الشك والخلاف في فقير صابر ليس بحريص بالإضافة إلى غني شاكر ينفق ماله في الخيرات، أو فقير حريص مع غني حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص، فإن كان الغني متمتعاً بالمال في المباحات فالفقير القنوع أفضل منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكشف الغطاء في هذا إنما يراد لغيره ولا يراد لعينه، ينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها بل لكونها عائقة عن الوصول إلى الله -تعالى-، والفقر ليس مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله -تعالى- وعدم التشاغل عنه، وكم من غني لا يشغله الغنى عن الله -تعالى- كسليمان عليه السلام، وكذلك عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. وكم من فقير شغله فقره عن المقصود وصرفه عن حب الله -تعالى- والأنس به، وإنما التشاغل له حب الدنيا، إذ لا يجتمع معه حب الله -تعالى-؛ فإن المحب للشيء مشغول به، سواء كان في فراقه أو في وصاله، بل قد يكون شغله في فراقه أكثر، والدنيا مشوقة الغافلين، فالمحروم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها.
وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر، فالفقير عن الخطر أبعد؛ لأن فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا تجد، ولما كان ذلك في طبع الآدميين إلا القليل منهم جاء الشرع بذم الغنى وفضل الفقر، وذكر كلاماً كثيراً» .
وقال القرطبي في «تفسيره» (5/343)[سورة النساء: 95]-ونقل طرفاً منه ابن مفلح في «الآداب الشرعية» على إثر كلام ابن الجوزي السابق وفات المحققان توثيق النَّصين-:
ألا عائذ بالله من عدم الغِنى
…
ومن رغبةٍ يوماً إلى غير مرغبِ»
قال أبو عبيدة: وكلام الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (ص 197- ط. الأميرية، سنة 1344هـ- 1925م) وكلامه من نقل القرطبي السابق: «وقد اختلف الناس
…
» إلى آخره بالحرف دون ما يوهمه أنه المعزو له فقط.
وانظر: «سياسة النفوس» لسنان بن قرة (ت 331هـ)(ص 55- تحقيق عبد الفتاح الغاوي) ، وسيأتيك في التعليق على (ص 155 وما بعد) تفصيل مطوّل محرّر -إن شاء الله- في التفضيل يؤكد المنوّه به هنا، فانظره فإنه مفيد، والله الموفق للخيرات، والهادي إلى الصالحات.
صدور صِلةٍ أو نحوها من الكافر فيه كان حظه فيه ما خُول فيه من صحة ومال وشبههما.
وقد رُوي عن كعب الأحبار قال: «إني لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكلَّلت رأسَ الكافر بالأكاليل، فلا يصدع ولا ينبض منه عرق» (1) .
وفي التنزيل: {وَلَوْلآ (2) أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
(1) أخرجه هناد في «الزهد» (رقم 428) ، وابن أبي الدنيا في «المرض والكفارات» (رقم 103) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/381) ، والواحدي في «الوسيط» (4/483) ، وأورده القرطبي في «تفسيره» (16/88) .
وظفرت عند ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/ 303-304 رقم 515) بجملة أقوال لكعب في موضوع (المال) وبعضها شاهد لما في هذا الأثر، أسند -رحمه الله تعالى- عنه ما نصّه: المؤمن الزّاهد، والمملوك الصالح آمنان من الحساب، وطُوبى لهم، كيف يحفظهم الله في ديارهم!.
وقال كعب: إن الله إذا أحب عبده المؤمن زَوَى عنه الدنيا ليرفعه درجات في الجنة، وإذا أبغض عبده الكافر أو المنافق بسط له في الدُّنيا حتى يسفِّله درجات في النار.
وقال كعب: إن الله -تعالى- يقول لعباده الصابرين الراضين بالفقر: أبشروا ولا تحزنوا، فإن الدنيا لو وَزنت عند الله جناح بعوضةٍ مما لكم عندي، ما أعطيتهم منها شيئاً.
وقال كعب: إذا اشتكى إلى الله عبادُه الفقرَ أو الحاجة، قيل لهم: أبشروا ولا تحزنوا، فإنكم سادة الأغنياء، والسابقون إلى الجنة يوم القيامة.
وقال كعب: كانت الأنبياء بالفقر والبلاء أشد فرحاً منكم بالرخاء، وكان البلاء عليهم مضعفاً، حتى إنْ كان أحدُهم ليَقْتُلُه القملُ، فإذا رأى رخاءً ظن أنه قد أصاب ذنباً.
وقال كعب: من تضعْضَع لصاحب الدنيا والمال تضعضَع دينه، والتمس الفَضْل عند غير المُفْضِل، ولم يصب من الدُّنيا إلا ما كتب الله له، وإن الله ليُبْغِض كل جَمَّاع للمال مَنَّاع للخير مستكْبِر، ويبغض كل حَبْرٍ سمين.
وقال كعب: قال موسى: يا بني إسرائيل! تلبسون ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الجبارين والذئاب الضواري، فإن أحببتم أن تبلغوا ملكوت السماء، فأميتوا قلوبكم لله.
وانظر: «الحلية» (6/5) ، «مدح التواضع» (رقم 22) لابن عساكر.
(2)
في المخطوط: «ولا» !!
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، ومعناها: لولا أن تميل الدنيا بالناس فيصير الخلق كفاراً لأعطى الله الكافرَ في الدنيا غاية ما يتمنى منها، لقلَّتها عنده، ولكنه عز وجل لم يفعل ذلك لعلمه أن الغالب على الخلق حب العاجلة (1)، وقال صلى الله عليه وسلم:«لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة؛ ما سقى كافراً منها شربة» (2) .
(1) نقل المصنف تفسير الآية من «الوسيط» للواحدي (4/71-72) .
(2)
أخرجه أحمد في «الزهد» (129) ، وابن ماجه (4110) ، والترمذي (2320) ، والطبراني في «الكبير» (5820) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1439) ، والعقيلي في «الضعفاء» (3/46) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/253) ، والحاكم (4/306) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (رقم 128) ، وابن عدي في «الكامل» (5/1956) ، والبيهقي في «الشعب» (10465، 14066) من حديث سهل ابن سعد، وقال الترمذي:«هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه» . وفي إسناده عند الترمذي: عبد الحميد بن سليمان، وهو ضعيف، وتابعه زكريا بن منظور كما عند ابن ماجه، وهو ضعيف -أيضاً-.
وعزاه المصنِّف في «المقاصد الحسنة» (رقم 897) للطبراني، والضياء في «المختارة» من حديث سهل، وتكلم على طرقه، وبيان ما فيه، وقال:«ولو صح الحديث لكان متوجّهاً» .
قلت: يريد أنه صحيح باعتبار طرق أخرى، وهو كذلك، منها:
ما أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (509) عن عثمان بن عبد الله بن رافع أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدّثوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
وذكره، وإسناده لا بأس به في الشواهد.
ومنها: حديث ابن عباس، عند أبي نعيم (3/304 و8/290) بسند فيه الحسن بن عمارة، وهو متروك.
ومنها: مرسل عمرو بن مرة، أخرجه هناد رقم (800) ، وإسناده صحيح.
ومنها مرسل الحسن البصري، أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (620) ، وإسناده حسن.
ومنها حديث ابن عمر، أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (رقم 1439) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/92) بسند صحيح غريب.
ومنها حديث أبي هريرة، أخرجه ابن عدي (6/2235) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (رقم 1440) بسند فيه صالح مولى التوأمة.
وأخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/299 رقم 504) عن أبي الدرداء قوله، وفيه:«فرعون» ، بدل:«كافر» ، ورجاله ثقات. =
وقال -أيضاً-: «إن الله عز وجل يحمي عبدَه المؤمن الدنيا، كما يحمي أحدُكم مريضَه الطعامَ والشراب» (1) .
= وانظر: «السلسلة الصحيحة» (686، 943)، وشواهد أخرى له في:«زهد هناد» (رقم 578) ، و «الشعب» للبيهقي (10469- 10470) .
(1)
أخرجه أحمد (5/427) ، وفي «الزهد» له (ص 11) ، وابن أبي شيبة (14/57) ، والترمذي عقب (2036) ، وأبو يعلى (6865) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1397) ، وابن حبان (669) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 483) ، والطبراني في «الكبير» (19/17) ، والحاكم (4/207) ، والبغوي في «شرح السنة» (4065) ، والبيهقي في «الشعب» (10450) من حديث محمود بن لبيد، مرفوعاً، وإسناده قوي.
وأخرجه -أيضاً- البخاري في «التاريخ الكبير» (7/185) ، والترمذي (2107) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» (ص 11) ، وابن حبان (668) ، وابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (38) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 483) ، والطبراني في «الكبير» (19/17) ، والحاكم (4/207، 309) ، والبيهقي في «الشعب» (10448) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/52) من حديث محمود بن لبيد، عن قتادة بن النعمان.
وقال الترمذي عقبه: «هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن محمود بن لبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلاً» . وقال الحاكم: «والإسنادان عندي صحيحان» .
وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (1397) ، والطبراني في «الكبير» (4296) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (1/288 رقم 484) ، والبيهقي في «الشعب» (10449) من حديث محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، وإسناده ضعيف.
وأخرجه الحاكم (4/208) عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، مرفوعاً.
وأخرجه أبو يعلى (6865) -ومن طريقه ابن الأثير في «أسد الغابة» (4/52) - عن محمود ابن لبيد، عن عقبة بن رافع، وإسناده ضعيف، فيه ابن لهيعة.
وصح لفظه عن حذيفة قوله -أيضاً-، أخرجه هناد في «الزهد» (593) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/276، 276-277) .
وبعضهم رفعه. أخرجه ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (رقم 210) .
وانظر: «مجمع الزوائد» (10/285) ، و «العلل» (2/108) لابن أبي حاتم، وقال المصنف في «الأجوبة المرضية» (2/742) : «وثبت من طرق
…
» وذكره.
وقال -أيضاً-: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء بمَ أخذ المال، أمِن حلالٍ أم من حرام» (1) .
وإلى قريب من هذا الجواب أشار شيخُنا رحمه الله فإنه قال في «فتح الباري» : «فإن قيل كيف دعا لأنس وهو خادمه بما كرهه لغيره، فيحتمل أن يكون مع دعائه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قِبَل ذلك ضررٌ؛ لأن المعنى في كراهية اجتماع كثرة المال والولد إنما هو لما يُخشى في ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا تُؤمن معها الهلكة» ، انتهى كلام شيخِنا (2) .
ويتأيّد بقول أنس رضي الله عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك خير آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا له به» .
وإلى الفرق بين المالين الذين أحدهما وبالٌ، والآخر نوالٌ؛ أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:«إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة» . وفي رواية: «هم الأخسرون» (3) .
(1) أخرجه بنحوه: أحمد (2/435) ، والدارمي (2536) ، والبخاري (2059) ، والنسائي (7/243) ، والمروزي في «السنة» (214) ، وابن حبان (6726) ، والبيهقي (5/264) ، وفي «الدلائل» (6/535) ، وفي «الشعب» (5566) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (12/327) ، والبغوي في «شرح السنة» (2033) من حديث أبي هريرة.
(2)
انظر: «فتح الباري» (11/138) .
(3)
أخرجه الدارمي (1619) ، وأحمد (5/152، 157، 166) ، وابن أبي شيبة 13/244، والبخاري (1460) ، ومسلم (990) ، والنسائي في «الكبرى» (10958- 10964) ، وابن ماجه (4130) ، ووكيع في «الزهد» (166) ، والطيالسي (444) ، وابن منده في «الإيمان» (1/222- 223) ، والبزار في «مسنده» (3975- 3977، 3993، 4071) ، وابن خزيمة (2251) ، وابن حبان (3331) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 395- 407) ، والطبراني في «الأوسط» (4049) ، وابن بشران في «الأمالي» (رقم 136) ، والبيهقي (4/97، و10/189) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 330)، من حديث أبي ذرّ بلفظ:«الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا مَن قال بالمال: هكذا وهكذا وهكذا» .
وفي الباب عن أبي هريرة عند: أحمد (2/309، 340، 358، 391، 399، 525) ، وابن ماجه (4131) ، وهناد (608) . =
وفي لفظٍ: «هلك المُثْرُون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -فحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله- وقليلٌ ما هم» (1) .
وإلى هذا الفرق أشار القاضي عياض في «الشفا» (2) ، فإنه عقد فصلاً (3) لما يختلف الحالان في المدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله، ومثّل لذلك بكثرة المال، وقال:«فصاحبه على الجملة معظّم عند العامة لاعتقادها تَوَصُّلَه به إلى حاجته، وتمكن أغراضه بسببه، وإلا فليس فضيلةً في نفسه» .
فمتى كان المال بهذه الصورة، وصاحبه منفقاً له في مهمّاته، ومهمَّات من اعتراه وأمّله، وتصريفه في مواضعه، مشترياً به المعالي، والثناء الحسن، والمنزلة من القلوب، كان فضيلةً في صاحبه عند أهل الدنيا.
وإذا صرفه في وجوه البرِّ، وأنفقه في سُبُل الخير، وقصد بذلك الله -تعالى- والدار الآخرة، كان فضيلة [في صاحبِه](4) عند الكلّ بكل حالٍ.
ومتى كان صاحبه ممسكاً له، غير موجّهه وجوهه، حريصاً على جمعه؛ عاد
= وعن ابن مسعود عند ابن حبان (3217) ، وهناد في «الزهد» (609) .
وانظر: «العلل» للدارقطني (6/239-241) .
(1)
أخرجه أحمد (3/31 و52) ، وعبد بن حميد (888) ، وابن ماجه -مختصراً- (4129) ، وأبو يعلى (1083) ، وهناد في «الزهد» (609) من حديث أبي سعيد الخدري، وفي إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف.
ويشهد له ما عند أحمد (2/309، 525) من حديث أبي هريرة. والحديث حسن بهذا الشاهد، قاله شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في «السلسلة الصحيحة» (2412) .
(2)
انظر: «الشفا» (ص 110- ط. ابن رجب و1/201- ط. الفارابي و1/216- شرح القاري و1/468- شرح الخفاجي) .
(3)
هو (الفصل التاسع) وعنونه بـ: (ما يتعلّق بالمال والمتاع) .
(4)
ما بين المعقوفتين ساقط من «الشفا» بطبعاته وشروحه، وأثبته ناسخ الأصل في الهامش، وبعده (صح) ، ولم يشر شراحه إلى وجوده في بعض النسخ، كعادتهم.
كثره كالعدم (1) ، وكان منقصةً في صاحبه، ولم يقف به على جَدَد السَّلامة (2) ،
بل أوقعه في هُوَّة (3) رذيلة البُخل، ومذمة النَّذالة.
(1) كذا في طبعة ابن رجب والشروح، قال القاري:«كثره: بضم الكاف وتكسر، أي: رجع كثيره، وفي نسخة: كثرته -بفتح الكاف وتكسر- وأما قول التلمساني: ويصح بفتح الكاف والراء، وضم الثاء، فلا يصح. (كالعدم) بمنزلة يسيره، أو مشبَّهاً بعدمه، حيث لم ينتفع به، فيكون كمن لا مال له» . وقال: «يعني: إن المال الذي لم ينفقه ولم يتصدق به قد تساوى فيه مع غيره ممن لا مال بيده، إذ لا فائدة في عين المال، بل فيه الوبال في المآل» .
قلت: لأنّ صاحبه بمثابة الخازن لغيره، الحارس لنعمته، يستعجل الفقر الذي هرب منه، ويفوته الغنى الذي طلبه، فيعيش عيش الفقراء، ويحاسب عليه حساب الأغنياء.
يفني البخيل بجمع المال مدته
…
وللحوادث والوارث ما يدعُ
كدودة القزِّ ما تبنيه يهلكها
…
وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ
أفاده الخفاجي في «نسيم الرياض» (1/470) .
(2)
أي: لم يحصل له ما يسلم به من النقص والوبال والذم، و (الجَدَد) -بفتح الجيم ودالين مهملتين، أولاهما مفتوحة-: وهي الأرض الصلبة.
وفي المثل: (من ملك الجدد أمن العشار) ، فالمراد به الطريق المسلوكة، وهكذا هو مضبوط في النسخ، وارتضاه البرهان -رحمه الله تعالى-، فمن قال أنه وهم؛ فقد وهم، وأما ضبط بعضهم له بضم الجيم والدال على أنه جمع جديد؛ فلا وجه له، وفي بعض الحواشي: أنه بضم الجيم وفتح الدال على أنه جمع جدّة كمدة ومدد؛ أي: طرق، ومنه قوله -تعالى-:{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} [فاطر: 27] ؛ أي: طريق، وهو صحيح -أيضاً-، ومنه: ركب فلان جده في الأمر؛ أي: رأى فيه رأياً ظاهراً، ولم يقف على أمر يوصله للسلامة، وهو عدم الجمع، أو صرف ما جمعه في مصارفه، فعدل عن طريق السلامة، فهلك.
(3)
(في هوة) بضم الهاء، وتشديد الواو، وهي: الأهوية بالحفرة العميقة، وهو مضاف لقوله:(رذيلة البخل) ؛ أي: أوقعه في وهدة دنائته وخسته التي حفرها لنفسه، وفيه استعارة مكنية وتخييلية، فشبه السماحة بطريق يسلم سالكها، ويأمن من كل عثرة، وشبه ضده بحفرة يقع فيها من أتاها. من «نسيم الرياض» (1/471) .
قلت: والمثل (من ملك الجدد
…
) : من كلام أكثم بن صيفي في خطبة بديعة له لبني تميم، أوردها ابن حمدون في «تذكرته» (3/343) ، وهي في «البصائر والذخائر» (1/154) ، «نثر الدر» (6/391) .
فإذاً التمدح بالمال وفضيلته عند مفضِّليه ليست لنفسه، وإنما هو للتوصل به إلى غيره، وتصريفه (1) في متصرفاته، فجامعه إذا لم يضعه مواضعَه، ولا وجّهه وجوهه غير مليء (2) بالحقيقة، ولا غني بالغنى (3) ، ولا مُتَمدَّحٍ (4) عند أحدٍ من العقلاء، بل هو فقير أبداً (5) ، غير واصل إلى غرضٍ من أغراضه، إذ ما بيده من المال الموصِّل إليها (6) لم يسلَّط عليه، فأشبه خازنَ مالِ غيرِه ولا مال له، فكأنه ليس في يده منه شيء (7) ،
والمنفق مليءٌ غنيٌّ بتحصيله فوائدَ المال، وإن لم يبقَ في يده من المال شيء» (8) .
(1) تحرفت في ط الفارابي إلى: «وتعريفه» !
(2)
أي: غير غني، أو: غير ثقة.
(3)
كذا أثبتها الناسخ، وصوابه:«بالمعنى» ، وكذا في جميع النسخ والشروح، والمراد: أنه غني بمجرد الصورة والمبنى لا المعنى، فكأنه فاقد لا واجد.
(4)
كذا في الأصل وشرح الخفاجي «نسيم الرياض» (1/471) وقال: «بفتح الدال» وفي سائرها: «ممتدح» ، قال القاري (1/217) :«وفي نسخة: ولا متمدح، أي: ولا ممدوح» .
(5)
على حد قول المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
…
مخافة فقر فالذي فَعَلَ الفقرُ
(6)
بتشديد الصاد أو تخفيفها، مع الكسر، وعندهما:«لها» ، وأفاد القاري: أنه في نسخة، كما هو مثبت.
(7)
كما قيل:
إذا كنت جماعاً لمالك ممسكاً
…
فأنت عليه خازن وأمينُ
تؤدّيه مذموماً إلى غير حامد
…
فيأكله عفواً وأنت دفينُ
ولمحمود الوراق:
تمتع بمالك قبل الممات
…
وإلا فلا مال إن أنتَ متا
شقيتَ به ثم خلفته
…
لغيرك بُعداً وسُحقاً ومقتا
فجادوا عليك بزور البكاء
…
وجدتَ عليهم بما قد جمعتا
وأرهنتهم كل ما في يديكا
…
وخلُّوك رهناً بما قد كسبتا
(8)
هذا كله توطئة لبيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمال عدماً ووجوداً.
وأيضاً فالناس مُختلفون، فمنهم من تُصلِحه الدنيا ويصلُح عليها، ولا يزدادُ بها إلا فضلاً وتواضعاً، كما نشاهده في أفرادٍ.
وقد كان قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنهما يقول: اللهم ارزقني مالاً وفِعالاً، فإنه لا يَصلح المالُ إلا بالفِعال، ولا الفِعالُ إلا بالمال، اللهم إنه لا
(1) كذا في الأصل، وفي جميع النسخ والشروح:«فانظر» .
(2)
اليمن فتحها علي -رضي الله تعالى عنه- في سنة عشر من الهجرة، والشام فتح منها دومة الجندل فتحها عبد الرحمن، والعراق فتح منها البحرين، وقدم أهلها على النبي صلى الله عليه وسلم على ما فصل في السير والتواريخ، ومن لم يقف على هذا قال: إنها إنما فتحت في زمن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيحها ووعد بفتحها، وذكرت في غير ما حديث، بينتُ ذلك بتطويل في دراسة مفردة لي عن (العراق وأحاديث الفتن) ، وستنشر -إن شاء الله تعالى- قريباً.
(3)
كذا في الأصل، وفي سائر النسخ والشروح:«وجلبت» .
(4)
أي: أهدت إليه صلى الله عليه وسلم، وليس المراد المفاعلة، وفي نسخة «وهادته» فيما أفاد القاري.
(5)
أخرجه بنحوه الطيالسي (2372) ، وهناد في «الزهد» (رقم 628) ، وأحمد في «مسنده» (2/ 256 و349) ، والبخاري (2389، 6445، 7228) ، وفي «التاريخ الكبير» (1/255) ، ومسلم (991) ، وابن ماجه (4132) ، وابن حبان (6350) ، وابن جرير في «تهذيب الآثار» (رقم 408، 412، 413، 414، 434) ، والبيهقي في «الشعب» (10432) ، وفي «الدلائل» (1/338) من حديث أبي هريرة.
وادخار المال لقضاء الدَّين إحسان إلى الغريم بإعداد حقه، قاله العز في «شجرة المعارف والأحوال» (ص 247) .
يصلحني القليل، ولا أصلح عليه (1) ،
وكذا هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «إن الجود من شيمةِ أهل ذلك البيت» (2) .
(1) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (14/ق456-457) من طريق الدينوري في «المجالسة» (رقم2210) قال: ثنا ابن أبي الدنيا: نا محمد بن سلام قال: كان قيس
…
وذكره.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 54) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/ق124) - حدثنا عبد الرحمن بن صالح العجلي، وأبو بكر الشافعي في «الغيلانيات» (رقم1085) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» (7/ق 125 أو 20/264- ط. دار الفكر) -؛ كلاهما عن أبي أسامة -وهو حماد بن أسامة- عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن سعد بن عبادة كان يدعو
…
وذكره.
وأخرجه الطبراني في «مكارم الأخلاق» (رقم 176) .
وأخرجه من طرق عن أبي أسامة به: ابن أبي الدنيا في «قرى الضيف» (رقم 21) ، والدارقطني في «المستجاد من فعلات الأجواد» (رقم 41، 43) ، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/614) ، والحاكم في «المستدرك» (3/253) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/ق 124 أو 20/125، 263- ط. دار الفكر) .
وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع، عروة لم يدرك سعداً، فإن عروة ولد في أوائل خلافة عمر.
وأخرجه ابن حبان في «روضة العقلاء» (262- 263) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه
…
وذكره.
وأخرجه الدارقطني في «المستجاد» (رقم42) عن أحمد بن بشير مولى عمرو بن حُريث: نا هشام، به.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 53) ، و «قرى الضيف» (رقم 21) ، وأبو بكر الشافعي في «الغيلانيات» (رقم 1087) -ومن طريقه الدارقطني في «المستجاد» (رقم 44) -، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى -وهو ابن أبي كثير-، به.
وإسناده ضعيف؛ لأنه مرسل.
والخبر في: «البيان والتبيين» (2/147و3/284 و4/77- 78) ، «العقد الفريد» (2/336) ، و «التهذيب» (3/475) ، و «الإصابة» (2/30) .
(2)
ساقه المصنف في كتابه: «الجواهر المجموعة» (ص 78- 80 رقم 149، 150) مطولاً، قال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكان قيس بن سعد بن عبادة في سرية الخبط مع أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، فحصل لهم جَهد، فنحر لهم قيسٌ تسع ركائب!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجود لمن شيم ذلك البيت» ، ثم قال:
«وروينا هذه القصة مطوَّلة، ولفظها: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في سرية فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلاث مئة رجل إلى ساحل البحر، إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمراً بجُزُرٍ يوفيني الجزر ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: واعجباه لهذا الغلام! لا مال له يدين في مال غيره. فوجد رجلاً من جهينة، فقال قيس: بعني جَزوراً أوفيك وسقةً من تمرٍ بالمدينة. فقال الجهني: والله ما أعرفك، فمن أنت؟ فقال: أنا سعد بن عبادة بن دُليم. فقال الجهني: ما أعرفني بنسبك! وذكر كلاماً.
فابتاع منه خمسَ جزائر، كُل جَزورٍ بوَسقٍ من تمرٍ، يشترط عليه البدويُّ تمر ذَخرةٍ مصلَّبة من تمر آل دُليم، يقول قيس: نعم.
قال: فأشهد لي. فأشهد له نفراً من الأنصار، ومعهم نفر من المهاجرين.
قال قيس: أَشْهِدُ من تُحب.
وكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: ما أشهدُ بهذا، يدين ولا مال له، إنما المال لأبيه.
فقال الجهني: والله ما كان سعد ليحبسنَّ ابنه في وسقةٍ من تمر وأرى وجهاً حسناً، وفعالاً شريفاً.
فكان بين عمر وقيس كلام، حتى أغلظ لقيس. وأخذ الجُزر، فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كلَّ يوم جزوراً. فلما كان اليومُ الرابع نهاه أميره، قال: أتريد أن تخفر ذمَّتك ولا مال لك؟
فقال قيس: يا أبا عبيدة، أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يقضي عني وسقةً من تمرٍ لقومٍ مجاهدين في سبيل الله عز وجل؟
فكاد أبو عبيدة أن يلين له، وجعل عمر يقول: اعزم، فعزم عليه، فأبى أن ينحر. وبقيت جزوران، فقدم بهما قيس المدينة ظهراً يتعاقبون عليها. وبلغ سعداً ما أصاب القوم من المجاعة، فقال: إن يكن قيس كما أعرف فسينحر للقوم.
فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت. قال: أصبت. قال ثم ماذا؟ قال: نحرتُ، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نُهيت. قال: من نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، وإنما المال لأبيك. فقلت: أبي =
ويُروى عن الحسن والحسين أنهما قالا لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله قد عودني أن يتفضّل عليَّ وعوّدتُه أن أتفضّل على عباده، فأخاف أن أقطعَ العادةَ فيقطع عني (1) .
وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: أنت مِتلافٌ، فقال: مَنعُ الجودِ سوءُ الظنِّ بالمعبود (2) .
= يقضي عن الأباعد، ويحمل الكلَّ، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي؟
قال: فلك أربع حوائط، أدناها حائط منه خمسين وسقاً.
قال: وقدم البدوي مع قيس، فأراه وسقته، وحمله، وكساه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل قيس فقال:«إنه من بيت جُود» .
وقال الأعرابي لسعد حين قدم: والله ما مثل ابنك ضيَّعت ولا تركت بغير مال، فإنك سيدٌ من سادات قومك. نهاني الأمير أن أبيعه فقلت: لِمَ؟ قال: لا مال له. فلما انتسب عرفته، وتقدمت لما أعرف أنك تسمو إلى معالي الأخلاق وجسيمها، وأنك غير مذمومٍ لمن لا معرفة له لديك» . انتهى.
قال أبو عبيدة: أخرج هذا الحديث -مطولاً ومختصراً-: الواقدي في «المغازي» (2/775) وابن أبي الدنيا في «قرى الضيف» (رقم 19) ، والدارقطني في «المستجاد» (رقم 47، 48، 50) ، وابن جرير في «التاريخ» (2/147) ، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/1290) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (49/409-410، 411، 411-412، 414، 415) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (24/43) من عدة مخارج، وطرقه لا تسلم من كلام، وبمجموعها ينهض هذا الحديث للاحتجاج، ويصل لدرجة الحسن لغيره.
وانظر كلام العلماء عليه في: «تخريج العراقي على أحاديث الإحياء» (3/362) ، «الإصابة» (5/476) ، «فتح الباري» (8/81) ، وفي «زاد المعاد» (2/159) تنبيه على عدم ثبوت ما ورد من كثرة نحر قيس بن سعد للجزر، وعبارته:«ولا يعقل أن تصل رواحله وحده إلى هذا العدد الكثير» .
قلت: اللهم إلا أن يكون اشترى ذلك من غير العسكر، كما نبه عليه ابن حجر.
(1)
أخرجه البيهقي في «الشعب» (7/437 رقم 10884) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (27/292) .
(2)
الخبر ذكره الغزالي في «الإحياء» (8/190- مع «الإتحاف» ) ، والقلعي في «تهذيب الرياسة» (372) ، والجهشياري في «الوزراء والكتاب» (ص 215) ، والنويري في «نهاية الأرب» (3/205) ، والتنوخي في «المستجاد» (رقم 97- بتحقيقي) . =
وقال أكثم بن صيفي -حكيم العرب-: «ذلِّلوا أخلاقَكم للمطالِب، وقودوها للمحامل (1) وعلّموها المكارم، ولا تقيموا على خُلق تَذُمُّونه من غيركم، وصِلوا من
وأورده أبو الوفاء ريحان الخوارزمي في «المناقب والمثالب» (ص 180 رقم 583) بمثل ما عند المصنف، وفيه:«الموجود» بدل: «الجود» .
وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (2647- بتحقيقي) : حدثنا أحمد بن عبدان: نا محمد بن منصور قال: «قال المأمون لمحمد بن عبد الله بن طاهر: بلغني أن فيك سرفاً
…
» وذكره بنحوه، والخبر أورده ابن عبد ربه في «العقد الفريد» (1/188- 189) ، وابن قتيبة في «عيون الأخبار» (3/196) ، والبيهقي في «المحاسن والمساوئ» (ص 188) ، والجاحظ في «المحاسن والأضداد» (ص 57) ، وابن حمدون في «التذكرة الحمدونية» (2/317) ، والزمخشري في «ربيع الأبرار» (3/703) ، والأبي في «نثر الدر» (7/184) ، وكلهم أورده بنحوه، من كلام محمد بن عباد المهلبي للمأمون، وليس من كلام أبيه.
والخبر أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (33/319) -ومن طريقه ابن كثير في «البداية والنهاية» (10/304) - وهو بين المأمون ومحمد بن عباد -أيضاً-، وفيه مبالغة في المقدار الذي أعطاه المأمون لمحمد بن عباد المهلبي، ففيه: أنه أعطاه ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وبعد أن أعجب المأمون قوله، أعطاه ألف ألف، وألف ألف، وألف.
والخبر في «البصائر والذخائر» (5/ 179) ، و «الفاضل» للمبرد (35) ، و «محاضرات الراغب» (1/586) ، و «غرر الخصائص» (284) ، و «كتَّاب بغداد» (51) .
وورد القول «منع الموجود سوء ظن بالمعبود» من قول جعفر، وفي «محاضرات الراغب» (1/750) حديث نبوي!! وفي «غرر الخصائص» (284) ، و «التمثيل والمحاضرة» (440) ، و «الفصول المهمة» (1/113) من قول علي رضي الله عنه، وهكذا كتب الأدب، الأخبار فيها مضطربة، والآثار مع الأحاديث متداخلة، وما اعتنيت ببعضها إلا بسبب هذا الأمر، وينبغي للفطن والحريص على دينه أن يحسن الأخذ منها، مع التنبّه والتيقّظ والتحفظ، فلمشارب أصحابها أثر بارز في الغلو والمدح والقدح، فليكن ذلك على بالك، والله الهادي.
(1)
كذا في الأصل، وفي «العقد الفريد» :«للمحامد» .
رغِب إليكم وتحلّوا بالجود يُلبسكم (1) المحبة، ولا تعتقدوا البخل فَتَسْتَعجلوا (2) الفقرَ» (3) .
ومنهم دنيء الأصل رديء الطباع، واثق بما في يديه، فهذا لا يُصلحُه المال، ولا يصلح عليه.
ولذلك لما سأل ثعلبةُ بن حاطبٍ- وليس هو بالبدري، إنْ صحَّ الحديث- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله! ادعُ الله أن يرزقني مالاً، قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«ويحك يا ثعلبةُ! أما تحبُّ أن تكون مثلي، فلو شئتُ أن يُسيّر ربي معي هذه الجبال ذهباً لسارت» . فقال: ادع الله أن يرزقني مالاً، فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، قال:«ويحك يا ثعلبة! قليلٌ تطيق شكرَه، خيرٌ من كثيرٍ لا تؤدي حقّه» . أو قال: لا تطيقه-. فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال:«اللهم ارزقه مالاً» . قال: فاتخذ غنماً فبورك له فيها، ونمت حتى ضاقت به المدينة، فتنحَّى بها، وكان يشهد مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالنهار، ولا يشهد صلاة الليل، ثم نمَت، وكان لا يشهد إلا من الجمعة إلى الجمعة، ثم نمَت، فكان لا يشهد جمعة ولا جماعة.
(1) كذا في الأصل، وفي «العقد الفريد» :«يكسبكم» .
(2)
كذا في الأصل، وفي «العقد الفريد» :«فتتعجَّلوا» .
(3)
نعت الجاحظ في «البيان والتبيين» (1/365)(أكثماً) بأنه: «من الخطباء البلغاء، والحكّام الرؤساء» .
قلت: وهو أحد المعمّرين، أدرك الإسلام، وذهب في قومه إلى المدينة ليسلم، لكنه مات في الطريق، له ترجمة في «الإصابة» (1/110) ، «المعمرين» (14) ، «الوافي بالوفيات» (9/199) .
والخبر المذكور موجود في «العقد الفريد» (1/189- ط. دار الكتب العلمية)، وقال:
«أخذه الشاعر، فقال:
أَمِنْ خَوْفِ فَقْرٍ تعجَّلْتَه
…
وأخَّرْتَ إنفاقَ ما تَجْمعُ
فَصِرْتَ الفقيرَ وأنتَ الغَنِيُّ
…
وما كنتَ تَعْدو الذي تَصنعُ»
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويح ثعلبة بن حاطب» . ثم إنه أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقة، فبعث رجلين فمرّا على ثعلبة، فقالا: الصدقة، فقال: ما هذا إلا جزية، فقدما المدينة، فلما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم قال -قبل أن يكلماه-:«ويحَ ثعلبة بن حاطب» . قال: فأنزل الله في ثعلبة: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} الآية [التوبة: 75] . أخرجه الطبراني والبيهقي في «الدلائل» و «الشعب» ، وابن أبي حاتم، والطبري، وابن مردويه، والباوردي، وابن السكن وابن شاهين، والعسكري، وآخرون من حديث علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامةَ الباهلي رضي الله عنه، وسنده ضعيف جدّاً (1) .
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/250) ، والطبري في «تفسيره» (10/189) ، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (6/1847-1849 رقم 10408) ، والطبراني في «الكبير» (7873) ، والبغوي في «معالم التنزيل» (3/84-85) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/494 رقم 1402) ، والواحدي في «الوسيط» (2/513-514) ، و «أسباب النزول» (ص 252) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/280، 290) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/9) ، وعلقه الثعلبي في «الكشف والبيان» (5/71-72) من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد الألهاني، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، رفعه.
وإسناده ضعيف جدّاً، كما قال المصنف رحمه الله.
فيه معان بن رفاعة: لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. وعلي بن يزيد الألهاني: قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالثقة. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال الدارقطني: متروك.
والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن: قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قِبَل القاسم. وقال الأثرم: ذكر لأبي عبد الله حديث عن القاسم الشامي عن أبي أمامة: أن الدباغ طهور؛ فأنكره وحمل على القاسم. وقال ابن حبان: كان القاسم أبو عبد الرحمن يزعم أنه لقي أربعين بدرياً، كان ممن يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات، ويأتي عن الثقات بالمقلوبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها. قال الذهبي: قد وثقه ابن معين من وجوه عنه. وقال الجوزجاني: كان خياراً فاضلاً، أدرك أربعين من المهاجرين والأنصار. وقال الترمذي: ثقة. وقال يعقوب بن شيبة: منهم من يضعفه. =
ويؤيد كون الناس مختلفين ما يُروى عن عمرَ، وأنسٍ، وغيرهما من الصحابة -رضوان الله عليهم-، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يقول الله عز وجل: إن من عِبادي من لا يصلح إيمانُه إلا بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» (1)
الحديث.
= وقد أنكر كثير من العلماء هذه القصة وقالوا ببطلانها، وهذا ما وقفت عليه، سارداً أسماءهم ومراجع كلامهم طلباً للاختصار:
ابن حزم في «المحلى» (11/208) ، والبيهقي، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (1/284- ط. دار الكتب العلمية) ، والقرطبي في «تفسيره» (8/210) ، والذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 66) ، والعراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (4/1954) ، والسهيلي في «الروض الأنف» ، والزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (2/85-86) ، والهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/35) ، وابن حجر في «الفتح» (3/266) ، و «الإصابة» (1/198) ، و «تخريج الكشاف» (4/77 رقم 133) ، والسيوطي في «لباب النقول» (ص 173) ، والمناوي في «فيض القدير» (4/527) ، وشيخنا الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1607، 4081) .
وعزاه السيوطي في «الجامع الصغير» للباوردي، وابن قانع، وابن السكن، وابن شاهين، وزاد في «الدر المنثور» (4/246) عزوه إلى الحسن بن سفيان، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والعسكري في «الأمثال» ، وابن منده، وعزاه الزيلعي إلى ابن مردويه، وكذا ابن كثير.
(1)
أخرجه ابن أبي الدنيا مطولاً في أول كتابه «الأولياء» رقم (1) ، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/232) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/319) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/31) من طريق أبي عبد الملك الخشني بن يحيى، عن صدقة، عن هشام الكناني عن أنس، رفعه، وإسناده ضعيف جدّاً.
أبو عبد الملك الخشني اسمه: الحسن بن يحيى، قال ابن الجوزي عقب الحديث عنه -وسمّاه-:«قال يحيى بن معين: ليس بشيء» . وقال الدارقطني: «متروك، وصدقة فمجروح» .
ورواه الخشنيُّ به، وقال في أوله:
«قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً
…
» ، وفيه مثل اللفظ السابق.
أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص 121) ، وأبو صالح الحربي في «الفوائد العوالي» (ق 17/2) ، والبغوي في «شرح السنة» (5/23) ، وأبو بكر الكلاباذي في «مفتاح المعاني» =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (ص 377- 378) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/96) ، والضياء في «المنتقى من مسموعاته بمرو» (ق 76- 77) .
وتوبع الخشني على هذا اللفظ، فأخرجه البغوي (5/21- 23 رقم 1249) من طريق عمر بن سعيد الدمشقي: نا صدقة، به.
ولفظهما: «
…
وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانَه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يُصلح إيمانَه إلا الفقرُ، ولو أغنيته لأفسده ذلك» ، وهو الذي أورده المصنف بحروفه، والحديث في الدواوين المذكورة مطول جداً.
وعزى ابن حجر في «الفتح» (11/342) حديث أنس إلى أبي يعلى، والبزار، والطبراني، وقال:«في سنده ضعف» .
قلت: ضعفه شديد، فمداره على صدقة بن عبد الله السمين.
قال البخاري وأحمد: «ضعيف جداً» .
وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/188) -وعزى الحديث للطبراني-: «والخشني، وصدقة: ضعيفان، وهشام الكُناني: لا يُعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا: من هو؟ قال: لا أحد. يعني: أنه لا يعتبر به» .
واضطرب فيه عمر بن سعيد -وهو متروك-، فكان يقول مرة: عن صدقة، أخبرني عبد الكريم الجزري، عن أنس، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (609) مختصراً، وقال:«لا يرو هذا الحديث عن عبد الكريم إلا صدقة، تفرد به عمر» .
ولم يعزه في «المجمع» (10/270) من حديث أنس إلا للطبراني في «الأوسط» .
وعزو ابن حجر له إلى أبي يعلى، والبزار؛ فيه نظر، فالذي عند أبي يعلى حديث ميمونة، وليس فيه هذا اللفظ.
وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (7/95) من طريق سلامة بن بشر -وهو صدوق-: نا صدقة، عن إبراهيم بن أبي كريمة، عن هشام الكناني، عن أنس، بنحوه.
وإبراهيم هذا، ترجمه ابن عساكر، وأورد الحديث في ترجمته، واقتصر على قوله:
«حدث عن هشام الكناني، روى عن صدقة بن عبد الله السمين» ، وقال على إثر الحديث:
«رواه الحسن بن يحيى الخشني البلاطي، عن صدقة، عن هشام، ولم يذكر فيه (إبراهيم بن أبي كريمة) » .
قلت: فهو مجهول. =
وفي لفظٍ في حديث أوّله: «من عادى لي ولياً
…
» : «يقول الله عز وجل: وربما سألني وليي المؤمن الغنى فأصرفه عنه إلى الفقر، ولو صرفته إلى الغنى كان
_= وفي الباب عن ابن عباس، سيأتي في الذي يليه، وهو الذي عند الطبراني.
بقي التنبيه على حديث عمر الذي أشار إليه المصنف، فأقول -وبالله المستعان-:
أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ دمشق» (6/15) -ومن طريقه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/31) - ولفظه: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد! ربُّك يقرأ عليك السلام، ويقول: إنّ من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفْقرتُه لكفر، وإنّ من عبادي من لا يصلُح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لكفر،....» .
وهو عند الديلمي في «الفردوس» (8098) من حديث عمر -أيضاً-.
وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن عيسى النَّهشليّ الفاخوري الجرَّار الرَّمليّ، قال ابن معين في «تاريخ الدوري» (2/651) :«ليس بشيء» ، وقال ابن حبان في «المجروحين» (3/126- 127) :«كان ممن ساء حفظه، وكثر وهمُه، حتى جعل يخالف الأثبات فيما يروي عن الثقات، فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به» .
وقال ابن عدي في «الكامل» (7/2673) : «عامة رواياته مما لا يتابع عليه» واللذان دونه، قال شيخنا الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1774) عنهما:«لم أجد من ترجمهما» .
وعلَّق الكلاباذي (ت 384هـ) في «بحر الفوائد» المشهور بـ «معاني الأخبار» (ص 382- 383) على الحديث، ففصل ما أجمله المصنف لما قال:«ويؤيّد كون الناس مختلفين» ، فقال:
«وقوله: «إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، لو أفقرته لأفسده ذلك» هذا
-أيضاً- من نصيحته له، وذلك أن الله -تعالى- إنما أحب المؤمن لإيمانه؛ لأنه لما أحبه كتب في قلبه الإيمان، وحببه إليه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فهو عز وجل يصرفه عما يخل بإيمانه؛ لئلا يخرج في حبه إياه شيء، وقد خلق الله عباده على طبائع مختلفة وأوصاف متفاوتة، فمنهم القوي، ومنهم الضعيف، ومنهم الرقيق، ومنهم الكثيف، ومنهم الوضيع، ومنهم الشريف. فمن علم الله -تعالى- من قلبه ضعفاً لا يحتمل الفقر أغناه، إذ لو أفقره إياه فهو عز وجل يغنيه، فيقربه بذلك منه، ويدنيه، فيصونه بغناه من أن ينصرف بحاجته إلى سواه
…