الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شكر الله عليه، وعلى جهة اتخاذه مركباً للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيه، وأورع الناس في كسبه.
فربما سمع أخبارهم في طلبه من يتوهم أنهم طالبون له من جهة ملذاته وشهواته فحسب، وهذا جهل بالاعتبار الذي طلبوه، وحاش ÷ أن يطلبوه على علاته، إنما طلبوه من جملة عباداتهم -رضوان الله عليهم، وألحقنا بهم، وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنّه وكرمه-.
فلا نعرف أحداً اجتمع له مال كما اجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما سيق إليه جعله لأصحابه، وإقامة الدين، فكأني به -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم مع كونه المتسبِّب يرى أن ما وصل ليده من محض الفضل، وأنه كوكيل على تصريفه فقط، وليس له منه شيء، وهذه أعلى المراتب، وكان الواحد من أصحابه كالوكيل، يأخذ منه ما احتاج، وهو أقل مرتبة من هذا.
•
مراتب الناس في حظوظهم في المال:
ولا شك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب، وأن الأسوة لهم في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا يهضمون نفوسهم، ويطرحون حظوظها، بفضل قوة يقينهم بالله؛ لأنهم عالمون بصفاته، وبيده -سبحانه- ملكوت السموات والأرض، وهو حسيبهم لا يخيبهم، فصارت الشهوة والنزوة والحظوة عندهم من قبيل ما قد ينسى، ويأنف الواحد منهم إلى الالتفات إليها على وجه ما فيها مزاحمة لحق الله -تعالى-، وهذه نماذج للتدليل على ذلك:
- صح عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي: أراه ثمانين ومئة ألف-، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت:«يا جارية! هلُمّي أفطري» ، فجاءتها بخبز وزيت. فقيل لها: أما استطعت فيما قسمت أن تشتري
بدرهم لحماً تفطرين عليه؟ فقالت: لا تُعنِّيني، لو كنتِ ذكرتني لفعلت (1) .
- وخرَّج مالك أن مسكيناً سأل عائشة وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه. فقالت: ليس لك ما تُفطرين عليه. فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلتُ. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهلُ بيت أو إنسانٌ -ما كان يُهدي لنا- شاةً وكَفَنَها (2) ؛ فدعتني عائشة، فقالت: كُلي من هذا. هذا خير من قرْصِكِ (3) .
- وروي عنها أنها قسمت سبعين ألفاً وهي ترقع ثوبها (4) ، وباعت ما لها بمئة ألف وقسمته، ثم أفطرت على خبز الشعير (5) ، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة؛ فلا يأخذ إلا من المَلِك؛ لأنه قام له اليقين بقسْم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه (6) ، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم؛ فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيراً
(1) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (8/67) ، والدارقطني في «المستجاد» (رقم 36، 37) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (16/ق 738) -، والحاكم في «المستدرك» (4/13) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/47، 49) ، والبغوي في «الجعديات» (1673) بإسناد صحيح، بألفاظ مقاربة.
ووقع في بعض طرقه أن معاوية هو الذي بعث إليها بالمال، اشترى به منها داراً. ولا تعارض؛ فهو المرسِل، وابن الزبير المرسَل؛ إلا إذا حمل على تعدد القصة، والله أعلم. وانظر ما سيأتي عند المصنف (ص 158) ، وتعليقنا عليه.
(2)
إن العرب- أو بعض وجوههم- كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف، فإذا سلخوه غطوه كلَّه بعجين دقيق البُرّ، وكفّنوه فيه، ثم علَّقوه في التنّور، فلا يخرج من ودكِه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيِّب الطعام عندهم، قاله ابن عبد البر في «الاستذكار» (27/407) .
(3)
أخرجه مالك في «الموطأ» (2/997- رواية يحيى، ورقم 2105- رواية أبي مصعب) بلاغاً عن عائشة.
(4)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/47) .
(5)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/47- 48) ، وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف.
(6)
إنفاق الأموال في وجوه الخير عظيم، وهو عنوان الثقة بالله وتفويض الأمر إليه، وهذا ما كان السلف الصالح يفعله، وأما السعي في اكتساب الرزق من طرقه المشروعة؛ فهو ما يحث عليه الشرع ويستدعيه الاحتفاظ بعزة النفس وشرفها، ولا يحق للرجل أن ينكث يده من العمل وهو قادر =
من تدبيره لنفسه، فإذا دبّر لنفسه، انحط عن رتبته إلى ما هو دونها.
- ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم (1) ؛ إن استغنى استعفَّ، وإن احتاج أكل بالمعروف، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه؛ فقد يكون في الحال غنياً عنه؛ فينفقه حيث يجب الإنفاق، ويمسكه حيث يجب الإمساك، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار، وهذا -أيضاً- براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب؛ فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره، وهو لم يفعل، بل جعل نفسه كآحاد الخلق، فكأنه قسّام في الخلق يعدُّ نفسه واحداً منهم.
وفي «الصحيح» عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعَرِيِّين إذا أرمَلوا في الغَزوِ أو قلَّ طعامُ عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد؛ فهم منِّي وأنا منهم» (2) .
= عليه بدعوى أن تدبير الله له خير من تدبيره، ومن يفعل ذلك؛ فليس من الفضيلة في شيء، وليست هذه الدعوى إلا من مظاهر الكسل والإخلاد إلى الرضا مما تجود به أنعم العاملين؛ فترجع في الحقيقة إلى معنى أن تدبير الخلق له خير من تدبير نفسه.
(1)
أخرج ابن شبة في «تاريخ المدينة» (2/694-695، 701) ، وسعيد بن منصور في «السنن» (4/1538 رقم 788 -ط. الصميعي) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (12/324 رقم 12960) ، وابن جرير في «التفسير» (7/582 رقم 8597) ، وابن سعد في «الطبقات» (3/276) ، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 112) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (6/ 4-5، 354)، وابن الجوزي في «مناقب عمر» (ص 105) من طرق عن عمر؛ قال:«إني أنزلتُ نفسي من مال الله منزلة والي مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف، ثم قضيتُ» ، وهو صحيح بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى. وفي رواية أنه قال ذلك لعمار وابن مسعود رضي الله عنهم حين ولاهما أعمال الكوفة، وفيها: «إني وإياكم في مال الله
…
» وذكر نحوه.
(2)
أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الأشعريين (باب الشركة في الطعام والنَّهد والعروض)(5/128 رقم 2483) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب فضائل الصحابة (باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم)(4/1944- 1945 رقم 2500) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا (1) ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور (2) ؛
فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام: «ابدأ بنفسكَ ثم بمن تعُولُ» (3) ، بل يحمل على الاستقامة في حالتين.
فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة، وما أخذوا
(1) أخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب مناقب الأنصار (باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار)(رقم 3782) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخيل. قال: لا. قال: يكفوننا المئونة، ويشركوننا في الثمر. قالوا: سمعنا وأطعنا» .
وأخرج البخاري في «صحيحه» (رقم 3781) ، في الكتاب والباب السابقين، وفي (باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه) من الكتاب نفسه (رقم 3937) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب النكاح (باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن
…
) (رقم 1427)، وغيرهما من حديث أنس؛ قال: «قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق؛ فربح شيئاً من إقط وسمن
…
» .
(2)
قلت: أكتفي هنا بذكر مثالٍ واحدٍ وقع في غزوة تبوك؛ فقد أخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب الإيمان (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً)(1/55- 56 رقم 27) بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها، قال: ففعل، فجاء ذو البُرِّ ببُرِّه، وذو التمر بتمره. قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه. قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها. قلت: حتى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: «أشهد أن لا إله إلا الله، لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» .
وأخرجه أحمد في «مسنده» (3/11)، وقد تكلم بعضهم في صحة هذا الحديث بكلامٍ متعقب. انظر:«شرح النووي على صحيح مسلم» (1/221-223) .
(3)
أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى)(4/294 رقم 1427) ، ومسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة (باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى)(2/717 رقم 1034) عن حكيم بن حزام، رفعه.