المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه - السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ المال وأحكامه:

- ‌ متى يذم المال

- ‌ متى يمدح المال

- ‌ المال كغيره من الشهوات:

- ‌ فصل النزاع:

- ‌الفصل في المسألة:

- ‌ الصحابة والمال:

- ‌ مراتب الناس في حظوظهم في المال:

- ‌ أهمية التفصيل في التفضيل وثمرته:

- ‌ رسالة السَّخاوي «السِّر المكتوم» :

- ‌ تعريف عام

- ‌ صحة نسبة الرسالة للمصنف:

- ‌ وصف النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق:

- ‌ ترجمة الناسخ:

- ‌ ترجمة المصنِّف

- ‌ اسمه، ونسبه، ولقبه، وكنيته:

- ‌ مولده، ونشأته:

- ‌ رحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، وعلمه:

- ‌ ملازمته للحافظ ابن حجر، واستفادته منه، ومدحه له:

- ‌ مدحه، والثناء عليه:

- ‌ مؤلفاتهُ

- ‌ المطبوع منها

- ‌ ما وقع بينه وبين عصريه السيوطي:

- ‌ وفاته:

- ‌السِّرُ المكتومُ

- ‌جواز الحرص على الاستكثار من المال الحلال لمن وثق من نفسه بالشكر عليه

- ‌قصة الأبرص والأقرع والأعمى

- ‌«الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه

- ‌جواب في الجمع بين حديثين

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ نسخة أخرى لهذا الجواب:

- ‌ عملي في التحقيق:

الفصل: ‌«الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه

‌«الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه

، من جاء بها قُضيت حاجته، ومن لم يجئ بها لم تُقضَ حاجته» (1) إلى غير ذلك، مما ينتشر الكلام بسببه؛ بل يُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنما يخشى المؤمنُ الفقرَ؛ مخافة الآفاتِ على دينه» (2) .

= وانظر: «مجمع الزوائد» (4/65) .

وقال المصنف في «المقاصد الحسنة» (ص 216 رقم 492) : «وهو غريب» ، وقال:

«ومما قيل:

إذا أردت الآن أن تُكرما

فأرْسِل الدِّينار والدِّرهما

فليس في الأرض وما فوقها

أقضى لأمرٍ يُشتَهى منهما»

(1)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/316 رقم 6507) من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، وفيه أحمد بن محمد بن مالك بن أنس، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في «المجمع» (4/ 65) .

ولم يعزه في «كنز العمال» (3/ 238 رقم 6332) إلا للطبراني في «الأوسط» .

وفي الباب نحوه عن وهب بن منبه، أسنده ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 80) ، والدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (2/1117، 1118) ، وهو أشبه، وذكره عنه الذهبي في «السير» (4/ 548) وغيره.

(2)

ليس عليه نور النبوة، ولم أظفر بمن عزاه للنبي صلى الله عليه وسلم، بهذا اللفظ ولكني وجدت نحوه، وهذا التفصيل:

أخرج الرافعي في التدوين في «تاريخ قزوين» (1/434- 435) بسندٍ مظلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله -تعالى- جعل لكل شيء آفة تفسده وأعظم آفة تصيب أمتي حبهم الدنيا وجمعهم الدينار والدرهم، يا أبا هريرة لا خير في كثير، ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق» .

وذكره صاحب الفردوس (رقم 614- ط. الريان أو 641- ط. دار الكتب العلمية) ، وذكره الهندي في «الكنز» ولم يعزه إلا للرافعي عن أبي هريرة، ولـ «الفردوس» عن أنس.

وذكره المتقي الهندي -أيضاً- في «الكنز» (رقم 6251) بلفظ: «لكل شيء آفة تفسده، وأعظم الآفات آفة تصيب أمتي حبهم الدنيا وحبسهم الدينار والدرهم، يا أبا هريرة لا خير في كثير من جمعها، إلا من سلط الله على هلكتها في الحق» .

وعزاه لإسحاق والديلمي عن أبي هريرة، ولم أظفر به في «زهر الفردوس» ، ولا في مطبوع «مسند إسحاق» (مسند أبي هريرة) ، وانفرادات الديلمي أمارة الضعف. =

ص: 173

وكان سعيد بن المسيّب رحمه الله يقول: اللهمّ إنك تعلم أني لم أجمع المال إلا لأصون بها حسَبي وديني (1) .

وعن ابن أبي الزناد وقيل له: أتحبّ الدراهم وهي تُدنيك من الدنيا. فقال: هي وإن أدنتني منها لقد صانتني عنها (2) .

= وظفرتُ بألفاظ أخرى بأسانيد لم تثبت، مثل:

ما أخرجه ابن بشران في «الأمالي» (رقم 412) ضمن حديث عن أبي سعيد الخدري في آخره: «إن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة» .

وما أخرجه الخليلي في «فوائده» (رقم 46) ، و «مشيخته» -كما في «كنز العمال» (43169) - ضمن حديث عن أبي هريرة، في آخره:«الموت الأحمر الحاجة بعد الغنى» .

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 55) -ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (2/173) - عن عبد الرحمن بن زياد -وهو ابن أنعم الإفريقي، ضعيف- عن يحيى بن سعيد، به.

وأخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (رقم 103) عن الليث بن سعد، عن سعيد بن يحيى -كذا- عن سعيد بن المسيب، به، وهو من هذا الطريق عند الدينوري في «المجالسة» (رقم 2211)، إلا أن عنده: عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد.

ويحيى بن سعيد: هو ابن قيس الأنصاري، سمع سعيد، ورواه عنه جماعة غير المذكورين.

ثم ظفرت به على الجادة عن الليث به، عند أبي نعيم في «الحلية» (2/173) ، والبيهقي في «الشعب» (2/92 رقم 1252) .

وأخرجه من طرق عن الثوري به -أيضاً-: الخلال في «الحث على التجارة» (رقم 52) ، والبيهقي في «الشعب» (رقم 1253) ، وابن عبد البر في «الجامع» (2/13) .

وأخرجه الخلال في «الحث على التجارة» (رقم 51)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/173) من طريقين: عن عباد بن عباد، عن يحيى بن سعيد، به.

وإسناده صحيح.

وأورده ابن عبد البر في «بهجة المجالس» (1/169) ، والذهبي في «السير» (4/238) ، وابن حمدون في «تذكرته» (8/98 رقم 227) ، والأصبهاني في «سير السلف» (ق 113/ب) ، والمصنف في «الأجوبة المرضية» (2/744- 745) .

(2)

أخرجه الدينوري في «المجالسة» (رقم 2212) -ومن طريقه ابن عساكر (ص 282- ترجمة عبد الله بن ذكوان أبي الزناد) أو (9/ق 187) -، وأورده الذهبي في «السير» (5/448) ، والمزي =

ص: 174

وأورد الزمخشريُّ في «الكشاف» (1) عند قوله -تعالى-: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] ، شيئاً من هذا.

وروينا في «المجالسة» (2) عن الثوريِّ -أيضاً- أنه قال: «والله ما وضع رجلٌ يده قط في قصعة رجلٍ إلا ذلَّت له رقبته، وما أعرف موضعاً لعشرة دراهم لا، ولا لسبعٍ ولا لخمسٍ ولا لدرهم» .

وقد مال كثيرٌ من الشافعية إلى تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر (3) ،

= في «تهذيب الكمال» (14/482) في ترجمة (أبي الزناد) وأثبت الناسخ قبلها بحرف دقيق (ابن) وكذلك هي بخط المصنف في «جوابه» المرفق بآخر رسالتنا هذه. والخبر -غير معزو- في «الكشاف» (2/247) ، وتحرف فيه إلى (صابتني) بدل (صانتني) فليصحح!

ثم ظفرت به في «الموفقيات» (167) معزواً لابن أبي الزناد! وكذا في «الأجوبة المرضية» (2/745) .

(1)

انظر: الكشاف (1/247) .

(2)

انظر: «المجالسة» (6/330 رقم 2722) ، وأخرجه -أيضاً- أبو نعيم في «الحلية» (7/59) مختصراً، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/243) ، وساقه الزمخشري في «ربيع الأبرار» (4/352) مختصراً مقتصراً على آخره.

(3)

اعتنى العلماء عناية شديدة في (المفاضلة بين الغنيّ الشاكر والفقير الصابر) ، وألفوا في ذلك المؤلّفات، والخلاف في المسألة ليس بمشهور بين المذاهب المتبوعة، وإنما الميل على حسب المشارب، ولجمع من أرباب المعاني والذوق مصنفات مفردة فيها انتصار ظاهر كتفضيل مطلق الفقر! ومن المخطوطات المحفوظة في مكتبة لا له لي للحارث المحاسبي «الرد على بعض العلماء من الأغبياء حيث احتج بأغنياء الصحابة!» . انظر:«تاريخ سزكين» (1/642) .

ولمحمد بن علي المكي: «المفاخرة بين الغني والفقير» محفوظ في مكتبة العباسية بالبصرة، ولابن زبر «تشريف الفقر على الغنى» ، بينما لابن المنذر «تشريف الغني على الفقير» ، ثم ظفرت في «لسان الميزان» (5/28) أن ابن الأعرابي رد عليه بـ «تشريف الفقير على الغني!» ، وللكلاباذي «شرف الفقر على الغنى» ، ذكره في كتابه «معاني الأخبار» (ص 331)، قال: «وقد أفردنا لشرف الفقر وأهله كتاباً جامعاً يشتمل على الأخبار والآثار المروية فيه، والحجج الكثيرة من جهة الخبر والنظر، ومعنى الأخبار التي وردت في الغنى

» ، وللسرمري:«فضل الفقر على الغنى» وكذا لعلي بن محمد المصري، فيما أفاده كحالة في «معجم المؤلفين» (7/179)، وللطرطوشي:«الكلام في الفقر والغنى» ، ولأبي حيان: =

ص: 175

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= «الفصل بين الغنى والفقر» ولأبي يعلى الفراء: «تفضيل الفقر على الغنى» وهو من المفقودات على حسب ما ذكره الدكتور محمد أبو فارس في كتابه: «القاضي أبو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية» (ص 245) .

وطبع في هذا الباب مجموعة من الكتب، من مثل:«عقد الدرر والآلئ في بيان فضل الفقر والفقراء وفضل السؤال!!» للبناني، و «المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر» ، للبيركلي (ت 981هـ) .

ونسب ابن جزَيّ في «القوانين الفقهية» (ص 471) إلى أكثر الفقهاء أنهم ذهبوا إلى أن الغني أفضل، خلافاً لأكثر الصوفية!

وحكي عن أحمد روايتين، ولذا ذكر هذه المسألة أبو الحسين ولد القاضي أبي يعلى في كتابه «التمام» (2/302-305) قال:

«مسألة: الفقير الصابر خير من الغني الشاكر في أصح الروايتين: وفيه رواية ثانية: الغني الشاكر أفضل، وبه قال جماعة منهم ابن قتيبة.

وجه الأوّلة: اختارها أبو إسحاق [ابن] شاقلا، والوالد السعيد، قوله -تعالى-:{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75]، فسرها أبو جعفر محمد بن الحسين: يجزون الغرفة، قال: الجنة بما صبروا، قال: على الفقير في الدنيا.

وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» . فقالت عائشة: ولم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً، يا عائشة، لا تردي المسكين، ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقرِّبيهم، فإنَّ الله يقرِّبك يوم القيامة» .

فمن الخبر دليلان:

أحدهما: أنه سأل الله -تعالى- المسكنة في حياته ووفاته، فلولا أنها أعلى منزلة من الغنى لم يسألها.

والثاني: قوله: «يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً» ، وليس هذا إلا لفضيلتهم على الأغنياء، إذ لو لم يكن كذلك لم يستحقوا السبق.

وروى أبو برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فقراء المسلمين ليدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين خريفاً، حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا فقراء» .

وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في أصحابه، فقال:«أي الناس خير؟» . فقال بعضهم: غني يعطي حق نفسه وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«نِعْم الرجل هذا، وليس به، ولكن خير الناس مؤمن فقير يعطي على جهد» .

ولأن الله -تعالى- خصّ بالفقير من اصطفاه من أهل صفوته، وجعله كرامة لأهل عقد ولايته، وحظاً لمن ارتضاه من أهل معاملته، وسبباً للإقبال عليه بطاعته، فإن الله به اصطفاه من الدناة والأدنا من =

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ربع أوليائه بالصبر عليه -كذا-، والرضا عليه في العلو على سائر الناس لتكون كل أمورهم ومصالحهم راجعة إليه، ليقوم لهم بها على إرادته وعنايته، ويستخرجها من وجوهها إليهم بقدرته، تنزيهاً لجوارحهم عن الحركات عند وقوع الحاجات والفاقات وعن الملك والدنيا، وتركها لغداء أو عشاء.

ولأن الفقر صفة للحق، يصف الفقراء، والغنى صفة للدنيا تصف الأغنياء، فعلى قدر ميلان القلب إلى الفقر وأهله يكون موصوفاً بالحق والإخلاص، وعلى قدر ميلان القلب إلى الغنى وأهله، يكون موصوفاً بالدنيا والإخلاص -كذا-، وحب الفقر وأهله من أخلاق المرسلين، وإتيان مجالسه من علامات الصالحين، ولا يخضع العبد لله إلا مع الفقر، ولا يصيب الإرادة إلا بمجالسة الفقراء، ولا يرى آثار الحقّ إلا مع الفقراء.

وليس من صفة الفقراء موافقة الأغنياء، ولا من صفة أهل المعرفة موالفة أهل الغفلة، فالفقر دواء النبيين، وجلباب المرسلين، وأعلام الصفوة المختارين، وزين المؤمنين، وتاج المتقين، وجمال العابدين، وسرور الزاهدين، ولذة الصابرين، ولباس الراغبين، ورأس مال الصديقين، وغنيمة العارفين، ومعقل الصالحين، وحصن المطيعين، وعون الورعين، وحطّاط للخطيات، ومكفّر للسيئات، ومعظّم للحسنات، ورافع الدرجات، ومبلغ إلى الغايات. ومطفئ الغضب المحبب عن طريق الله الأعظم، ومخوّف الأغنياء من الضر والعدم، حتى ساءت ظنونهم بربهم، وارتابوا بوافي مواعيده بعد تصديقهم، فعبدوا الدنيا خوفاً من زوالها عنهم، وركنوا إليها بكلَّتهم، فعادوا فيها ووالوا، وأحبوا وأبغضوا» .

قال أبو عبيدة: انتهى ما أورده أبو الحسين من تفضيل الفقراء على الأغنياء، ولي ملاحظات:

الأولى: بالنسبة إلى حديث «اللهم أحيني مسكيناً

» فهو حسن لغيره، خلافاً لمن ضعّفه، وليس فيه دلالة على فضل الفقر، وهذا البيان، والله الموفق:

ورد هذا الحديث عن أربعة من الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم: أنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت.

أما حديث أنس: فقد أخرجه الترمذي في «الجامع» (رقم 2352) -ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/141-142) -، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/12) ، و «الشعب» (رقم 1453، 10507) من طريق الحارث بن النعمان الليثي عنه، به.

وعزاه شيخنا الألباني في «الإرواء» (3/359) إلى أبي الحسن الحمامي في «الفوائد المنتقاة» (9/205/251) ، وأبي نعيم في «الفوائد» (5/217/1) .

وعزاه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (2/207) للترمذي عن عائشة!! وليس صحيحاً، وإنما هو من مسند أنس، ولعائشة قصة فيه، وقد ورد عند العراقي في الكتاب نفسه:(3/235 و4/ 193) من مسند أنس، على الجادة. =

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وإسناده ضعيف جدّاً، بسبب الحارث بن النعمان. فقد ضعّفه جهابذة الجرح والتعديل؛ مثل: البخاري، فقال:«منكر الحديث» ، وقال العقيلي:«أحاديثه مناكير» ، وقال النسائي:«ليس بثقة» .

واعتمد ابن الجوزي على مقولة البخاري فحكم بوضع الحديث!! وتعقبه السيوطي بقوله في «الآلئ المصنوعة» (2/325) : «وهذا لا يقتضي الوضع» . وقال -أيضاً-: «وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» فأخطأ» -كما في «كنز العمال» -.

وقال في «التعقبات على الموضوعات» (رقم 44- بتحقيقي) : «حديث أنس أخرجه الترمذي والبيهقي في «الشعب» ، والحارث لم يجرح بكذب، بل قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، ومن يوصف بهذا يحسّن حديثه بالمتابعة» .

والخلاصة أن الحكم على الإسناد السابق، هو ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في «التلخيص الحبير» (3/109) :«إسناده ضعيف» ، ولكنه يقبل الجبر.

وقال الترمذي عنه: «غريب» ، أو «حسن غريب» ، كما نقله ابن حجر في «الأجوبة عن أحاديث المصابيح» (رقم 14) .

وأما حديث أبي سعيد الخدري، فقد رواه عنه عطاء بن رباح، ورواه عن عطاء اثنان، هما:

أولاً: أبو المبارك، ورواه عنه يزيد بن سنان، كما عند: ابن ماجه في «السنن» (رقم 4126) ، وعبد بن حميد في «المسند» (رقم 1000- المُنتخب) ، والرافعي في «التدوين في أخبار قزوين» (1/473) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/111) ، وابن النجار في «ذيل تاريخ بغداد» (3/45) ، والسلمي في «الأربعين» (رقم 5) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/141) ، والذهبي في «الميزان» (4/ 569) ، وأبي بكر بن أبي شيبة -كما قال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (2/324) -، وقال -أيضاً-:

«هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه، وهو مجهول، ويزيد بن سنان التميمي أبو فروة: ضعيف» .

قلت: أما أبو المبارك، فذكره ابن عبد البر في «الاستغنا في الكنى» (1901) -ولم يسمّه- وقال:«ليس بالمشهور» ، وقال الذهبي:«لا يُدرى من هو» ، وقال -أيضاً-:«لا تقوم به حجَّة لجهالته» .

وأما يزيد بن سنان، فقد ضعفه علي بن المديني وأحمد بن حنبل، وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى ابن أيوب المَقْبري:«كان مروان بن معاوية يُثبته» ، ولعل كلمة الفصل فيه ما قاله أبو حاتم:«محلُّه الصدق، وكان الغالب عليه الغفلة، يُكتب حديثه، ولا يحتج به» ، فهذا جرح مفسَّر، وهو الغفلة، وليس لتهمة فيه، وعليه فقوله مقدّم على قول النسائي فيه:«متروك» . ومن الجدير بالذكر أن البخاري قال عنه: «مقارب =

ص: 178

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحديث، إلا أن ابنه محمد يروي عنه مناكير» . وقال تلميذه الترمذي:«ليس بحديثه بأس، إلا رواية ابنه محمد عنه، فإنه يروي عنه المناكير» . وقال ابن عدي: «ولأبي فروة هذا حديث صالح» .

وعليه فإن قول ابن الجوزي في «موضوعاته» : «هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم الرازي: أبو مبارك رجل مجهول، قال يحيى بن معين: ويزيد بن سنان ليس بشيء. وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث» ليس بجيد، إذ نص عبارة أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/446) في أبي المبارك:«هو شِبه مجهول» . ونقلها عنه ابن حجر: «هو شبيهٌ بالمجهول» . أما يزيد بن سنان، فقد سبق تحرير حاله، وعليه فلا يحكم على الحديث بالوضع بمجرد وجود مجهول فيه، وغاية ما يقال عنه:«إسناده ضعيف» . وقد ردّ الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (1/45) ترجمة (الأسود بن عمران البكري) مقولة من قال عن حديث فيه رجل مجهول: «في إسناده مقال» ، ولذا تعقّب الزركشي ابن الجوزي فقال في «تخريج أحاديث الرافعي» :«وأساء ابن الجوزي بذكره له في «الموضوعات» » ، نقله السيوطي في «الآلئ» (2/325)، وقال في «التعقبات» (44- بتحقيقي) :«وحديث أبي سعيد له طريق آخر، أخرجه ابن ماجه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي، والبيهقي في «الشعب» » .

قلت: غاية ما في الحديث السابق أبو المبارك، وهو بين المجهول والمستور، وطبقته من التابعين، وقد حسّن ابن رجب وابن كثير الحديث الذي فيه تابعي، ويكون مستوراً، هذا منهجهم الذي مشوا عليه، ويعلل الحديث -كما هو معروف- بالأعلى لا بالأدنى.

أما الطريق الأخرى التي أشار إليها السيوطي، فهي:

ثانياً: يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، ورواه عنه ابنه خالد، كما عند: الطبراني في «الدعاء» (رقم 1426) ، والحاكم في «المستدرك» (4/322) ، وابن عدي في «الكامل» (3/884) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/13) ، و «الشعب» ، وأبي الشيخ، والديلمي -كما في «المقاصد الحسنة» (ص 153) -. وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، والبيهقي، كما تقدم عن السيوطي.

والحقّ أن خالداً فيه ضعف، قال أحمد فيه:«ليس بشيء» ، وقال النسائي:«غير ثقة» ، وقال أبو داود:«متروك الحديث، ضعيف» ، وقال الدارقطني:«ضعيف» ، وقد اتهمه ابن معين بالكذب، وهو من المتشدّدين بالجرح كما هو معلوم. ومع هذا فقد وثّقه أحمد بن صالح، وأبو زرعة الدمشقي، والعجلي، وله متابعٌ، فقد أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1425)، قال: حدثنا عبد الله بن سعد بن يحيى الرّقي: ثنا أبو فروة يزيد بن محمد بن سنان الرُّهاوي: حدثني أبي، عن أبيه، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد، به. =

ص: 179

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قلت: فيه مجموعة من الضعفاء هم:

1-

عبد الله بن سعد 2- يزيد بن محمد بن سنان 3- محمد بن يزيد 4- يزيد بن سنان، والرابع فيه ضعف كما تقدم. ولعله رواه عن أبي المبارك، ثم سمعه من عطاء نفسه، فإنه ولد سنة تسع وستين، وتوفي سنة خمس وخمسين ومئة، وعطاء ولد سنة سبع وعشرين، وتوفي سنة أربع عشرة ومئة، فسنّه تتحمل السماع منه، لا سيما أنه لم يُرمَ بوصمة التدليس.

وأما الثالث فليس بالقوي؛ والثاني ترجمه ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو إلى الجهالة أقرب؛ وأما الأول فلم أظفر به.

هذا مع أن عطاءً لم يسمع من أبي سعيد شيئاً، وإنما رآه يطوف بالبيت. كما قال ابن المديني في «العلل» (رقم 88) ، ولا يستشكل هذا من تصريح عطاء بالسماع من أبي سعيد في بعض طرق الحديث؛ لأن في الطريق إليه ضعفاً، كما بيّناه.

وقد ذكر شيخنا في «الصحيحة» (308) طريقاً أخرى له، أخرجها عبد بن حميد وحسنها! والحق أنها ليست لهذا الحديث، وقد نبه على ذلك في «الإرواء» (3/363) ، ولهذا حذفها من الطبعة الجديدة.

وأما حديث عبادة بن الصامت، فقد أخرجه تمام في «فوائده» -كما في «الآلئ المصنوعة» (2/325) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (15/ق 128) -، والطبراني في «الدعاء» (رقم 1427) -ومن طريقه الضياء المقدسي في «المختارة» (ق 65/1-2) - من طريق بقية بن الوليد، عن الهِقْل بن زياد، عن عُبيد بن زياد الأوزاعي، عن جُنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، به.

وفيه بقية، وهو مدلّس تدليس التسوية، فلا بد من التصريح بالسماع بطبقات السند كلها. وقد وقع هذا في سند «المختارة» ، وسائر رواته ثقات، ولهذا قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (145) :«رجاله موثوقون» ، وأقره الزّبيدي في «إتحاف السادة المتقين» (6/289) .

قلت: وفيه عُبيد بن زياد الأوزاعي، قال ذهبي العصر المعلِّمي اليماني في تعليقه على «الفوائد المجموعة» (ص 241) :«مجهول» . وكذا قال شيخنا الألباني في «الإرواء» (3/362) .

ونقل السيوطي في «اللآلئ» (2/325) عن أبي سعيد، عليِّ بن موسى السُّكري الحافظ النيسابوري أنه قال عنه:«شامي، عزيز الحديث، قيل: إنه ثقة» . وقال -أيضاً-: «ووجِدَ بخطّ أبي الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الحافظ: حدثنا محمد بن يوسف بن بشر الهَروي: أخبرني محمد ابن عوف بن سفيان الطائي، قال: عُبيد بن زياد الأوزاعي الذي روى عنه الهِقل بن زياد، سألتُ عنه بدمشق، فلم يعرفوه. قلتُ له: فالحديث الذي رواه هو منكر؟ قال: لا، ما هو منكر، ما ينكر إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أمتني مسكيناً» » . =

ص: 180

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقد تابع بقية: موسى بن محمد، فأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/12) من طريق محمد ابن إبراهيم الحلواني: حدثنا موسى بن محمد مولى عثمان بن عفان قال: حدثنا الهِقْل بن زياد به.

ولم أظفر بترجمة لموسى بن محمد هذا.

وأما حديث ابن عباس، فقد أخرجه الشيرازي في «الألقاب» -كما في «الآلئ المصنوعة» (2/326) ، و «التعقبات على الموضوعات» (44) -. وفي إسناده طلحة بن عمرو، وهو متروك، كما قال أحمد والنسائي وابن الجنيد، وبه أعلّه المعلمي في تعليقه على «الفوائد المجموعة» (241) ، وشيخنا الألباني.

والخلاصة: إن سند الحديث ضعيف جداً.

والحديث بمجموع هذه الطرق يصل إلى مرتبة الحسن لغيره، أما من ضعّفه من السابقين فإما بالنظر إلى سندٍ بخصوصه، أو إلى حديث صحابي بعينه، أو استنكار المتن، وظنّ التعارض بينه وسائر النصوص. وإليك طائفة من أقوال المحدثين في الحكم عليه:

- قال العلائي في «النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح» (45) : «وهو حديث ضعيف، لكن لاينتهي إلى أن يكون موضوعاً» ، وهذا مخالف لما قاله شيخنا الألباني في «الإرواء» (3/362) :«وقد جزم العلائي بصحته» !!

- قال ابن تيمية في «أحاديث القصاص» (101) : «يروى لكنه ضعيف لا يثبت» ، وهذا مخالف لما نقله ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/109) ، والسيوطي في «الدرر المنتثرة» (رقم 103) عنه، قالا:«وهذا الحديث سئل عنه الحافظ ابن تيمية، فقال: إنه كذب، لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المرويّة» ، فإن قول ابن تيمية «يروى» يدلل على أن أصلاً له عنده، وهذا ما صرح به في «مجموع الفتاوى» (18/326)، قال:

«هذا الحديث، قد رواه الترمذي، وقد ذكره أبو الفرج في «الموضوعات» وسواء صح لفظه أم لم يصح

» ثم تكلم عن معناه.

- ونقل العجلوني في «كشف الخفاء» (1/181) عن ابن حجر أنه قال في «التحفة» : «إن الحديث ضعيف، ومعارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من المسكنة» .

- وضعّف ابن رجب الحديث في «اختيار الأولى» (ص 113) بقوله: «مع أن في إسناد الحديث ضعفاً» .

- وصحح الحديث الحاكم، ووافقه الذهبي، والبيهقي في «الشعب» كما تقدم. وحسّنه الترمذي، فيما نقل ابن حجر، وكذا الزرقاني في «مختصر المقاصد» (رقم 153) . =

ص: 181

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= - وحكم ابن الجوزي على الحديث بالوضع! فأسرف، ولذا تعقبه الزركشي، والسيوطي، وغيرهما.

- والصواب فيما ظهر لنا من خلال جمع طرق الحديث أنه حسن لغيره، وهذا أدنى أنواع الحديث الذي يستدل به، ويقبل الاحتجاج، وينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الجزم، والله أعلم.

يبقى بعد هذا كله: الكلام على معنى المسكنة الواردة في الحديث، وقد بيّنها جماعة من العلماء، وإليك أقوال بعضهم:

- قال الداودي في «الأموال» (ص 348) بعد سياق الحديث: «فإن ثبت هذا في النقل، فمعناه: أن لا يجاوز به الكفاف، أو يريد الاستكانة إلى الله -تعالى-» .

- وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (18/382) في شرحه لهذا الحديث:

«فالمسكين المحمود هو: المتواضع الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال، بل قد يكون الرجل فقيراً من المال، وهو جبّار، فالمسكنة خُلُق في النفس، وهو التواضع والخشوع، واللَّين ضد الكبر

» .

- وذكر ابن الأثير في «النهاية» (2/385) هذا الحديث، وقال في شرحه:«أراد به التواضع والإخبات، وأن لا يكون من الجبّارين المتكبرين» ، ثم وجدت هذا المعنى عند الخطابي في «شأن الدعاء» (ص 194- 195) .

- وبنحو هذا قال تاج الدين السبكي، فنقل عنه ابنه في «طبقات الشافعية» (3/134) ما نصه:«وكان رحمه الله يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً» : إن المراد به استكانةُ القلب، لا المسكنة التي هي أن يجد ما لا يقع موقعاً من كفايته. وذكر ذلك في باب الوصية من «شرح المنهاج» وسمعتُه منه كذا وكذا مرات، لا أُحصي لها عدداً» .

ثم عقّب عليه بما يُؤيّده بكلامٍ بليغٍ حسن، فقال:«وكان رحمه الله يشدّد النكير على من يعتقد ذلك، والحق معه رضي الله عنه فإن من جاءت إليه مفاتيح خزائن الأرض، وكان قادراً على تناول ما فيها كلّ لحظةٍ، كيف يوصف بالعدم؟ ونحن لو وجدنا من معه مال جزيل في صندوق من جوانب بيته، لوسمناهُ بسمةِ الغَناءِ المفرط، مع العلم بأنه قد يُسرقُ أو تغتاله غوائلُ الزمانِ، فيُصبح فقيراً، فكيف لا يُسمّى من خزائن الأرض بالنسبة إليه أقرب من الصندوق بالنسبة إلى صاحب البيت؟! وهي في يده بحيث لا تتغيّر، بل هو آمن عليها، بخلاف صاحب الصندوق، فما كان صلى الله عليه وسلم فقيراً من المال قط، ولا مسكيناً. نعم، كان أعظم الناس جؤاراً إلى ربه وخضوعاً له، وأشدَّهم في إظهار الافتقار إليه، والتّمسكُن بين يديه» . =

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والخلاصة مما تقدم: إن الحديث حسن، وعليه فمعناه صحيح، لا يخالف أصول الإسلام، ولا سائر النصوص، ولا قواعد الشريعة، والله -تعالى- أعلم.

الثانية: حديث دخول الفقراء قبل الأغنياء الجنة، صحيح ثابت، سبق تخريجه.

الثالثة: حديث ابن عمر الأخير غريب، قال محقق كتاب «التمام» عنه:«لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من كتب الحديث» .

قلت: ورد نحوه في «الأربعين حديثاً في الفقراء» للسّلفي، ولكن النسخة التي وقفت عليها غير مسندة، وهي من محفوظات المكتبة البلدية بالإسكندرية.

وأورده الديلمي في «الفردوس» (2893) من حديث ابن عمر رفعه: «خير الناس مؤمن فقير يُعطي جهده» ، ولم يعزه في «كنز العمال» (6/341، 469 رقم 15947، 16586) إلا له.

الرابعة: لم يذكر أبو الحسين ابن القاضي أبي يعلى سائر أدلة مفضلي الفقر على الغنى، ونقول تتمة لما ساقه:

احتج من فضّل الفقر بعدد من الآيات الكريمة منها قوله -تعالى-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقوله -تعالى-:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، فالآية الأولى تبين أن الصابرين يجزون بغير حساب، والفقير صابر على الحاجة والشدة والعوز.. والآية الثانية تبين أن سبب ذهاب الطيبات والحسنات في اليوم الآخر هو التمتع بالدنيا، وهو الغنى أو لازمه.

وقد أجاب القرافي عن الاستدلال بالآية الأولى: بأن الأغنياء يساوون الفقراء في الصبر على الإيسار، وبذل المال، ومخالفة الأهواء.

ويجاب عن الاستدلال بالآية الثانية بأنها في الكفار واستمتاعهم في الدنيا على وجه غير مشروع، وبقية الآية واضحة في ذلك: «

فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ» [الأحقاف: 20] .

واحتجوا -أيضاً- بأن الفقير أيسر حساباً، وأقل سؤالاً: من أين اكتسب؟ وفيما أنفق؟ وقد سبق بيان تخريج الحديث.

وأجاب القرافي عن هذا الاستدلال بقوله: «إن السؤال يقع نعيماً لقوم، وعذاباً لقوم

فلا يضر الغني الشاكر السؤال، بل ينفعه» . فلا تعني قلة السؤال علو المنزلة، كما لاتعني كثرته نزول الدرجة، فالمهم هو نتيجة الحساب وثمرة السؤال.

واحتجوا -أيضاً- بأن الفقراء أكثر أهل الجنة، ويدخلونها قبل الأغنياء. وأجاب عن ذلك القرافي =

ص: 183

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بقوله: «إن الفقراء أكثر في الدنيا فهم أكثر في الجنة، ولا يلزم من ذلك علو الدرجة، ولا يلزم من سبقهم للدخول أن تكون درجتهم أعلى، أو مساوية» . انظر: «الذخيرة» (13/331-333) .

وأورد السرخسي في «شرح الكسب» (ص 120- 121) مناظرة في المسألة، وجهها على تفضيل (الفقر) على (الغنى)، قال:

«وحكي أن غنياً وفقيراً تناظرا في هذه المسألة، فقال الغنيّ: الغنيُّ الشاكر أفضل، فإن الله -تعالى- اسْتَقْرَضَ من الأغنياء، فقال عز وجل: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] ، وقال الفقير: إن الله -تعالى- إنما استقرضَ من الأغنياء للفقراءِ، وقد يُستقرضُ من الحبيب وغير الحبيب، ولا يُستقرضُ إلَاّ لأجل الحبيب» ، ثم وجه التفضيل بقوله:

«يوضِّحه أن الغني يحتاج إلى الفقير، والفقيرَ لا يحتاج إلى الغني؛ لأن الغنيّ يلزمه أداء حقّ المال، فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئاً من ذلك، لم يُجبروا على الأخذ، ويُحمدون شرعاً على الامتناع عن الأخذ، فلا يتمكن الأغنياءُ من إسقاطِ الواجب عليهم عن أنفسهم، والله -تعالى- يُوصلُ إلى الفقراء كفايتهم على حسب ما ضَمِنَ لهم.

فبهذا تبيّن أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء، والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنّه من يعتبرُ الظاهر، ولا يتأمّلُ في المعنى.

فاتَّضح بما قررنا أن الفقيرَ الصابرَ أفضلُ من الغنيِّ الشاكر، وفي كلٍّ خير» انتهى.

ويجاب عليه: بأنه عند احتمال وقوع هذه الصورة الخيالية، يضعُ الغنيُّ زكاتَه في بيت المال، وتبرأ ذمته بذلك تمام البراءة، وكم في الدنيا من فقراء يتلهفون على الفَلْس والدرهم؟! ولا يتعيّن في الزكاة تقديمُها لفقيرِ بلدِ المال. فالصورة هنا خيال في خيال، لا يصح أن تُساق في ترجيح دليل أو استدلال؟!

وأمّا من فضّل الغنى على الفقر، فقد احتج -أيضاً- بمجموعة من النصوص، أسوق أولاً تتمة كلام القاضي أبي الحسين في «التمام» (2/305) . قال:

«ووجه الثانية: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من غنى يبطر، ومن فقر مترب» . وقال عليه السلام: «من طلب الدنيا حلالاً واستعفافاً عن المسألة، وسعياً على عياله، وتعطفاً على جاره، جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان» » . انتهى كلامه.

قال أبوعبيدة: الحديثان -عندي- لم يثبتا، والثاني منهما أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (4/330 رقم 3465) ، وأبو نعيم في «الحلية» (3/110 و 8/215) ، والبيهقي في «الشعب» (7/298 =

ص: 184

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= رقم 10374) ، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 328) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو كما قال أبو نعيم على إثره:«غريب من حديث مكحول، لا أعلم له راوياً عنه إلا الحجاج» .

قلت: الحجاج هو ابن فُرافِصة، صدوق عابد يهم، والراوي عنه محمد بن صبيح بن السّماك الواعظ، قال ابن نمير: صدوق، وقال مرة: ليس حديثه بشيء، كذا في «الميزان» (3/584) .

ومكحول لم يسمع أبا هريرة، فهو منقطع. وعزاه العراقي في «تخريج الإحياء» (5/414- مع «إتحاف السادة» ) إلى أبي الشيخ في «الثواب» -أيضاً- وضعفه، ولم يعزه في «كنز العمال» (4/13 رقم 9255) إلا لأبي نعيم في «الحلية» !

وأخرج الديلمي والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/68) من حديث أبي هريرة رفعه: «من طلب مكسبة من باب الحلال، يكفّ بها وجهه عن مسألة الناس وولده وعياله، جاء يوم القيامة مع النبيين والصديقين» هكذا -وأشار بأصبعه السبابة والوسطى-.

وإسناده ضعيف جدّاً، فيه أبو مقاتل حفص بن سلم الفزاري واهٍ بمرة، وكذّبه وكيع بن الجراح.

وضعّفه العراقي في «تخريج الإحياء» (2/89) ، وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» (1/799) إلى الخطيب والديلمي فقط، وكذا في «إتحاف السادة المتقين» (5/414) . وانظر:«زوائد تاريخ بغداد» (6/269- 270) .

وأما الحديث الأول، فقد ظفرتُ به عند الخطابي: أورده في «شأن الدعاء» (ص 194) -دون إسناد- هكذا: «اللهم إني أعوذ بك من فقرٍ مُربٍّ أو مُلبٍّ» .

وقال: «المُلِبُّ: المُقْعِدُ المُلْزِق بالأرض. يقال: أَرَبَّ بالمكان، وأَلَبَّ به، إذا أقام، وهذا كقول الناس: قد لَزِق فلان بالتراب، إذا افتقر. قلت: وليس هذا بخلاف» .

ونحوه في «النهاية» (2/181) لابن الأثير (مادة: ربب)، وأورد الحديث هكذا:«اللهم إني أعوذ بك من غنى مبطر، وفقر مُرِبٍّ» . أو قال: «مُلبٍّ» .

وهناك أدلة مبسوطة عند من فضّل (الغنى) عدا ما ذكره أبو الحسين، ونجمل ذلك بقولنا:

وقد احتج من فضل الغنى بعدد من الآيات الكريمة منها قوله -تعالى-: {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32]، وقوله -سبحانه-:{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8]، وقوله -جل من قائل-:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، وقوله سبحانه وتعالى:{تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] ، فهذه الآيات تبين أن الغنى فضل من الله ونعمة، ووسيلة للإنفاق في سبيل الله، وأن الفقر من الشيطان. وليس هذا فقط، فقد سمى الله المال خيراً في =

ص: 185

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قوله -تعالى-: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ

} [البقرة: 180] ، والخير يسعى إليه، ويحرص عليه

بل إن الآيات الكريمة تقرر أن إيتاء المال والإمداد به من نعم الله على عباده المؤمنين، يؤتيه لهم عندما يقبلون عليه بالعبادة والتوبة والاستغفار

قال -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10-12] .

واحتجوا -أيضاً- بعدد من الأحاديث النبوية منها نهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، واستعاذته من الفقر، وقوله صلوات الله عليه وسلامه:«نعما المال الصالح للرجل الصالح» ، وسبق تخريجه.

ثم قالوا: إن كل ما يتصور في الفقر من الصبر والرضا يتصور في الغنى بالإيثار، والصبر على بذل المال وإنفاقه والتضحية به. وليس كل ما يتصور في الغنى من القربات يتصور في الفقر.

قال أبو عبيدة: كلٌّ من الطرفين قال حقاً، اللهم إن استثنينا الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يكثر ذكرها في هذه المسألة، وكان ينقص كلٌّ منها العدلَ! والصواب التفصيل.

قال ابن جزي في «القوانين الفقهية» (ص 472) : «ولا يصح التفضيل إلا بعد تفصيل، وهو أن من كان يقوم بحقوق الله في الغنى، ولا يقوم بها في الفقر، فالغنى أفضل له اتفاقاً، ومن كان بالعكس فالفقر أفضل له اتفاقاً

وإنما محل الخلاف فيمن كان يقوم بحقوق الله في الحالتين. والحقوق في الغنى هي أداء الواجبات، والتطوع بالمندوبات، والشكر لله، وعدم الطغيان بالمال. والحقوق في الفقر هي الصبر عليه، وعدم التشوف للزيادة، واليأس مما في أيدي الناس، ولله در غنيّ شاكر، أو فقير صابر، وقليل ما هم» .

وهذا التفصيل هو الصواب. قال ابن القيم في «بدائع الفوائد» (3/162) : «وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل» قال: «فأجاب فيها بالتفصيل الشافي

» وذكر مسألتنا، وقال:«فأجاب بما يشفي الصدور، فقال: أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى، استويا في الدرجة» .

قال أبو عبيدة: وفصّل ابن القيم هذا الإجمال في مجموعة من كتبه، مثل:«المدارج» (2/ 442) ، و «طريق الهجرتين» (ص 626) ، و «عدة الصابرين» (ص 125، 142، 146، 230) من (الباب العشرين) حتى (الباب الرابع والعشرين) ، وهو الأخير من الكتاب، ولا يتسع المقام للبسط أكثر من هذا، ولكني سأقتصر على زبد من كلامه فيها ذكره لأمثلة تؤكد ما رجحناه من أن (التفضيل في التفصيل)، قال -رحمه الله تعالى-:

«مَثلُ الدنيا مثلُ البحر، الذي لا بد للخلق كلهم من ركوبه، ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه =

ص: 186

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= دورهم وأوطانهم ومستقرهم، ولا يمكن قطعه إلَاّ في سفينة النجاة. فأرسل الله رسله لتعرف الأممُ اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، وهي: طاعة رسله، وعبادته وحده، وإخلاص العمل له، والتشمير للآخرة وإرادتها، والسعي لها.

فنهض الموفَّقون وركبوا السفينة، ورغبوا عن خوض البحر، لما علموا أنه لا يُقطع خوضاً ولا سباحة. وأما الحمقاء، فاستصعبوا عمل السفينة وآلاتها والركوب فيها، وقالوا: نخوض البحر، فإذا عجزنا قطعناه سباحة -وهم أهل الدنيا- فخاضوه، فلما عجزوا عن الخوض أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق. ونجا أصحاب السفينة، كما نجوا مع نوح عليه السلام وغرق أهل الأرض.

ومثالها: مثال إناء مملوء عسلاً، رآه الذباب، فأقبل نحوه، فبعضه قعد على حافة الإناء، وجعل يتناول من العسل، حتى أخذ حاجته ثم طار. وبعضه حمله الشَّرَه فرمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه، فلم يدعه انغماسه فيه أن يتهنَّأ به إلَاّ قليلاً، حتى هلك في وسطه.

ومثل الدنيا مثل حبّ نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حول ذلك الحَب حَبٌّ ليس في فخاخ، فجاءت الطير، فمنها من قنع بالجوانب ولم يرم نفسه في وسط الحب، فأخذ حاجته ومضى، ومنها من حمله الشَّره على اقتحام معظم الحب، فما استتم اللقط إلَاّ وهو يصيح من أخذه الفخ له» . وقال -رحمه الله تعالى-:

«وقد خلق الله الغنى والفقر ليبتلي بهما عباده أيهم أحسن عملاً، وجعلهما سبباً للطاعة والمعصية، والثواب والعقاب، قال -تعالى-: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] » . وقال بعد كلام:

«

فالذهب، والفضة، والمساكن، والملابس، والمراكب، والزروع، والثمار، والحيوان، والنساء، والبنون، وغير ذلك، كل ذلك خلقه للابتلاء والامتحان، ليختبر خلقه أيهم أطوع له وأرضى، فهو الأحسن عملاً.

وهذا هو الحق الذي خلق به وله السماوات والأرض وما بينهما، وغايته الثواب والعقاب، وفواته وتعطيله هو العبث الذي نزَّه الله نفسه عنه، وأخبر أنه يتعالى عنه. فقال عزَّ من قائل:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116] .

والمقصود أنه -سبحانه- جعل الغنى والفقر ابتلاء وامتحاناً للشكر والصبر، والصدق والكذب، والإخلاص والشرك. قال -تعالى-:{لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [المائدة: 48]، وقال عز وجل:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] . =

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والمال إن لم ينفع صاحبه ضرَّه ولا بد. وكذلك العلم والملك والقدرة، كل ذلك إن لم ينفعه ضرَّه، فإن هذه الأمور وسائلُ المقاصد يتوسَّل بها إليها في الخير والشر، فإن عطلت عن التوسل بها إلى المقاصد والغايات المحمودة توسل بها إلى أضدادها. فأربح الناس من جعلها وسائل إلى الله والدار الآخرة، وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده. وأخسر الناس من توسَّل بها إلى هواه ونيل شهواته وأغراضه العاجلة، فخسر الدنيا والآخرة

» . وقال -أيضاً- بعد كلام طويل:

«ومسألة المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر مسألة كثر فيها النزاع بين الأغنياء والفقراء، واحتجَّت كل طائفة على الأخرى بما لم يمكنها دفعه من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. ولذلك يظهر للمتأمل تكافؤ الطائفتين، فإن كلاًّ منهما أدلت بحجج لا تُدفع. والحق لايعارضُ بعضه بعضاً، بل يجب اتباع موجب الدليل أين كان.

وقد أكثر الناس في المسألة من الجانبين، وصنفوا فيها من الطرفين، وتكلم الفقهاء والفقراء والأغنياء والصوفية وأهل الحديث والتفسير، لشمول معناها وحقيقتها للناس كلهم، وحكوا عن الإمام أحمد فيها روايتين، ذكرهما أبو الحسين في كتاب «التمام» فقال: مسألة الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر في أصح الروايتين. وفيه رواية ثانية: الغني الشاكر أفضل. وبها قال جماعة، منهم ابن قتيبة. ووجّه الأولى واختارها أبو إسحاق بن شاقلا، والوالد السعيد.

والتحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله -تعالى-.

فإن فُرض استواؤهما في التقوى: استويا في الفضل.

فإن الله -سبحانه- لم يفضِّل بالفقر والغنى، كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضَّل بالتقوى، كما قال -تعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

} [الحجرات: 13] .

والتقوى مبنية على أصلين: الصبر والشكر.

وكلٌّ من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم، كان أفضل.

فإن قيل: فإذا كان صبر الفقير أتم، وشكر الغني أتم، فأيهما أفضل؟

قيل: أتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله.

ولا يصحُّ التفضيل بغير هذا ألبتة.

فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره. وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره.

فلا يصح أن يقال: هذا بغناه أفضل؛ ولا هذا بفقره أفضل. ولا يصح أن يقال: هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر، ولا بالعكس؛ لأنهما مطيتان للإيمان لا بد منهما. =

ص: 188

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بل الواجب أن يقال: أقومهما بالواجب والمندوب هو الأفضل. فإن التفضيل تابع لهذين الأمرين، كما قال -تعالى- في الأثر الإلهي:«ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه. وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه» . فأيُّ الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل، كان أفضل.

فإن قيل: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمس مئة عام» .

قيل: هذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة وإن سبقوهم بالدخول؛ فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع، كسبق الفقير الخفيف في المضائق وغيرها، وتأخر صاحب الأحمال بعده.

فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه مفاتيح كنوز الدنيا فردَّها وقال: «ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً

» .

قيل: احتجّ بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحدة من الطائفتين.

والتحقيق أن الله سبحانه وتعالى جمع له بين كليهما على أتم الوجوه. وكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين.

فحصل له الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، ومن الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه.

فمن تأمل سيرته وجد الأمر كذلك؛ فكان أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر» . وقال -أيضاً- بعد كلام طويل جداً ما نصه:

«وأي غنيّ أعظمُ مِن غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض، وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهباً، وخُيِّر بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً. ومع هذا فجُبيت إليه أموال جزيرة العرب واليمن، فأنفقها كلها ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمَّل عيال المسلمين ودَيْنهم.

فإذا احتجَّ الغني الشاكر بحاله صلى الله عليه وسلم، لم يمكنه ذلك إلا بعد أن يفعل فعله.

كما أن الفقير الصابر إذا احتجَّ بحاله صلى الله عليه وسلم، لم يمكنه ذلك إلَاّ بعد أن يصبر صبره، ويترك الدنيا اختياراً لا اضطراراً.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم وفَّى كل مرتبة من مرتبتي الفقر والغنى حقها وعبوديتها. وأيضاً فإن الله -سبحانه- أغنى به الفقراء، فما نالت أمَّته الغنى إلا به. وأغنى الناس من صار غيره به غنياً» . وتكلَّم -أيضاً- على الآفات التي تعترض كلاً من (الفقير) و (الغني)، فقال: =

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= «وسرُّ المسألة: أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر، وطريق الغنى والسَّعَة في الغالب طريق عطب.

فإن اتَّقى الله في ماله، ووصل به رحمه، واخرج منه حق الله -وليس مقصوراً على الزكاة، بل من حقه إشباع الجائع، وكسوة العاري، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج والمضطر- فطريقه طريق غنيمة، وهي فوق السلامة.

ومَثَل صاحب الفقر كمثل مريض قد حُبِس بمرضه عن أغراضه، فهو يُثاب على حسن صبره على حبسه. وأما الغني فخطره عظيم في جمعه وكسبه وصرفه. فإذا سلم كسبه وحسن أخذه من وجهه وصرفه في حقه، كان أنفع له.

فالفقير كالمتعبِّد المنقطع عن الناس، والغني المنفق في وجوه الخير كالمعين والمعلم والمجاهد.

والمقصود بهذا الفصل، أنه ليس الفقراء الصابرون بأحق به صلى الله عليه وسلم من الأغنياء الشاكرين، وأحقُّ الناس به أعلمهم بسنته، وأتبعهم لها، وبالله التوفيق» .

قال أبو عبيدة: ونختم كلامنا على هذه المسألة بملاحظات:

الأولى: كلام ابن تيمية في (التفضيل) هو (التفصيل) . نقله عنه تلميذه البار ابن القيم، وتقدم ذلك عنه، ونحيل الأخ القارئ على «مجموع الفتاوى» (11/21، 69، 119-121، 195) ، و (14/ 305-306) ، فانظره فإنه مفيد.

الثانية: أخرج أبو نعيم في «الحلية» (7/283) أثراً فيه بيان الخلاف في هذه المسألة، وهو أقدم ما وقفت عليه فيها، مع التنويه إلى أنّ ابن تيمية قال في «مجموع الفتاوى» (11/119) :«وأما الصحابة والتابعون فلم يُنقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر» .

أخرج ابن المبارك في «الزهد» (رقم 564) ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» (ص 273)، وابن الأعرابي في «الزهد» (رقم 90) بسنده إلى الفضل بن ثور قال: قلت لأبي سعيد

-يعني: الحسن البصري-: رجلان طلب أحدهما الدنيا بحلالها، فوصل بها رحمه، وقدم فيها لنفسه، ورجل رفض الدنيا؟ قال: أحبهما إليّ الذي رفض الدنيا. قلت: يا أبا سعيد هذا طلبها بحلالها، فأصابها، فوصل بها رحمه، وقدم فيها لنفسه. قال: أحبهما إليَّ الذي جانبها.

وأسند أبو نعيم في «الحلية» (7/283) : «عن عمر بن السكن قال: كنتُ عند سفيان بن عيينة، فقام إليه رجل من أهل بغداد فقال: يا أبا محمد! أخبرني عن قول مطرِّف: لأن أعافى فأشكر أحبُّ إليَّ من أن ابتلى فأصبر، أهو أحبُّ إليك أم قول أخيه أبي العلاء: اللهم رضيتُ لنفسي ما رضيتَ لي؟

قال: فسكت سكتة ثم قال: قول مطرِّف أحبُّ إلي. فقال الرجل: كيف وقد رضي هذا لنفسه ما =

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= رضيه الله له؟ فقال سفيان: إني قرأت القرآن، فوجدت صفة سليمان عليه السلام مع العافية التي كان فيها:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، ووجدت صفة أيوب عليه السلام مع البلاء الذي كان فيه:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ، فاستوت الصفتان. وهذا معافى، وهذا مبتلى. فوجدت الشكر قد قام مقام الصبر، فلما اعتدلا؛ كانت العافية مع الشكر أحبَّ إليَّ من البلاء مع الصبر» انتهى.

وأورد القرطبي في «تفسيره» (15/215-216) مثله، وقرر قولة سفيان، وردَّ على صاحب «قوت القلوب» فيما عكر به عليه بكلام جيّد، ينظر.

ونقل ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/468-469) من «تاريخ نيسابور» مناظرة لصاحبه

-وهو أبو عبد الله الحاكم- مع شيخه عبيد الله بن محمد بن نافع بن مكرم الزاهد (ت 384هـ) حول الفقر والغنى، أيهما أفضل، وفيها:«إنما يتفاضل الناس بإيمانهم» ، وهذا الذي تبناه ابن تيمية، فيما نقلناه لك.

وانظر لمن فضّل (الغنى) الآيات: النساء: 95-96، سبأ: 37، ص:44، وتفسيرها -على الترتيب- عند القرطبي:(5/343، 14/306، 15/215، 216) .

ولمن فضّل (الفقر) الآيات: البقرة: 268، ص: 24، عبس: 1-4، وتفسيرها -على الترتيب- عند القرطبي:(3/329، 15/215، 216، 19/213) .

الثالثة: سبق أن ذكرنا مصادر الشافعية وغيرهم في (المفاضلة) عند تقديمنا لهذا الجزء. وانظر «فتاوى ابن الصلاح» (ص 47-50، 52) ، «الفتاوى الحديثية» (ص 44-45) لابن حجر الهيتمي، وللعز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام» (2/362-365) ، كلمة مهمة في (المسألة) تقدمت بتمامها في التعليق على (ص 118)، وقال في «شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال» (ص 255-256) في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو. ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» أخرجه البخاري (6427) وغيره، قال:

«مدح صلى الله عليه وسلم المال في حق من صرفه في جهات القُربات؛ لأنه صار وسيلة إلى القُرب من الله، ولأن الصدقات تكفر الخطيئات، وترفع الدرجات. فمدح المال بـ «نِعم» : الحاوية للمدح العام لما ذكرته، وما جاء من ذم الدنيا ومتاعها وزينتها وزخرفها، فإنما جاء لأنه شاغل عن طاعة الله، مُلْهٍ عن ذكر الله وشكره، حاملٌ على الطغيان في أغلب الأحيان. فلذلك غلب ذم الدُّنيا ومتاعها لغلبة أدائها إلى ذلك. وندر مدحها لندرة من يصرفها في مصارفها. وقد جعل الله إنفاق ذلك قربة إليه ومُزلفاً لديه فقال:{أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} [التوبة: 99]، وقال:{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] » . =

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الرابعة: وللشاطبي في «الموافقات» (5/366-367- بتحقيقي) كلمة قوية جداً، فيها تأكيد للقول بالتفصيل من خلال جمع ما ورد في الباب حول المال، ثم ذكر حال الصحابة في ذلك، وجعل هذه المسألة تحصيل حاصل ثمرة لهذا الأصل، قال بعد كلامٍ عن الدنيا وملذّاتها بما فيها المال: «ولأجله كان الصحابة طالبين لها، مشتغلين بها، عاملين فيها؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها، وعلى اتخاذها مركباً للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيها، وأورع الناس في كسبها؛ فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار، وحاش لله من ذلك، إنما طلبوها من الجهة الثانية؛ فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى؛ فكان ذلك -أيضاً- من جملة عباداتهم، رضي الله عنهم، وألحقنا بهم، وحشرنا معهم، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه.

فتأمل هذا الفصل؛ فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة؛ فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه؛ كما يفهمون طلبها على غير وجهه؛ فيمدحون ما لا يمدح شرعاً، ويذمون ما لا يذم شرعاً.

وفيه -أيضاً- من الفوائد: فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا الغنى أفضل بإطلاق، بل الأمر في ذلك يتفصل؛ فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموماً، وكان الفقر أفضل منه، وإن أمال إلى إيثار الآجلة؛ بإنفاقه في وجهه، والاستعانة به على التزود للمعاد؛ فهو أفضل من الفقر، والله الموفق بفضله» .

قال أبو عبيدة: ينبغي للمؤمن العاقل الفهم عن الله -تعالى- وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتشبه بالسلف الصالح في أخذ المال والتمتع بملذات الدنيا، ولا يتشبه بالبهائم التي لا تعقل.

الخامسة: وأخيراً، من أجمع ما وقفتُ عليه في هذه المسألة مبحث عزيز، فيه تأصيل وتدليل، ينصر (التفصيل) في (التفضيل) ، وضعه العلاّمة أحمد بن نصر الداودي في آخر كتابه «الأموال» (ص 171- 178- ط. المغربية، أو ص 341-352- ط. دار السلام- القاهرة) وعليه مؤاخذة، سيتعقبه المصنف (السخاوي) في كلامه الآتي، وصدر كلامه بقوله على المسألة:

«أتى من النص في ذكر الكفاف، وذكر الفقر والغنى، ما فيه لمتأمله من العلماء بيان وشفاء أن الفضل في الكفاف، وأن الفقر والغنى محنتان من الله، وبليتان يبلو بهما أخيار عباده ليبدي صبر الصابرين، وشكر الشاكرين، وطغيان المبطرين، واستكثار الأشرين. وإنما فيه إشكال على الجاهلين والمقصرين، ومن لم يتأمله من الراسخين.

يقول الله -تعالى-: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ =

ص: 192

فهذا ما فتح الله عز وجل به في الجمع بين هذين الحديثين.

وقد استروح الدّاودي المالكي (1)

رحمه الله فقال في حديث الدعاء لأنس

= الْقُرْانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فوضع قوم الكتب على تفضيل الغنى على الفقر.

وألّف آخرون على تفضيل الفقر على الغنى، وأغفلوا الحض على الوجه الذي يجب الحض عليه والندب إليه، وأطنبوا في ذلك، وعنف بعضهم بعضاً، وطعن بعضهم على بعض.

وأرجو لمن صحت نيته، وخلصت لله طويته، وكانت لوجهه مقالته، وكان معه من العلم ما يسوغ له المقال والاستنباط أن يتغمده الله بعفوه، ويجازيه على نيته، ويصفح عن غفلته. إذ الناس ليسوا بمعصومين، ولا بد لهم من السهو والغفلة في بعض الأحايين، والله -جل وعلا- يؤيد بالتوفيق من يشاء فيما يشاء، ولن تجتمع بفضله هذه الأمة على ضلالة» .

وأخذ في سياق الآيات والأحاديث والآثار، في كلام بديع له، يأتي طرف منه في الهامش الآتي، والله الهادي.

وانظر: «فتح الرحيم الرحمن شرح لامية ابن الوردي، المسماة «نصيحة الإخوان ومرشد الخُلاّن» » (ص 100-103) .

(1)

قال في كتابه «الأموال» (176- ط. مركز إحياء التراث المغربي أو ص 349 -350-ط. دار السلام) :

«ولم يأت في شيء من الحديث فيما علمناه أن النبي عليه السلام كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو بذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف، ويستعيذ من فتنة الفقر، ومن فتنة الغنى. ولم يكن يدعو لأحد بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه» .

ثم قال -رحمه الله تعالى-:

«وما روي أنه قال: «اللهم من آمن بي وصدق بما جئت به، فأقلل له من المال والولد» ، فهذا لايصح (!!) في النقل، ولا في الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك في المال وحده لكان محتملاً أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه بالولد، فكيف يدعو أن يقل المسلمون؛ لأن في ذهاب النسل قلتهم وذهابهم، وما يدفعه العيان فمدفوع عنه صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فأحاديثه لاتتناقض، فيكف يذم فقر معاوية، ويأمر كعب بن مالك وسعداً، أن يبقيا ما ذكر من المال ويقول «إنه خير» ثم يخالف ذلك» .

وقد ثبت أنه دعا لأنس بن مالك فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته» . قال أنس: فلقد أحصت ابنتي أني قدّمتُ من ولدي مقدم الحجاج البصرة مئة وبضعاً وعشرين نسمة لدعوة رسول الله وعاش بعد ذلك سنتين وولد له، وبقي نعم ذريته بعده، فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد قرن =

ص: 193

أنه يدل على بطلان الحديث الآخر قال: «وكيف يصحُّ ذلك وهو صلى الله عليه وسلم يحضُّ على النكاح والتماس الولد» ؟ ! انتهى.

والحكم عليه بالبطلانِ مع ما أسلفتُه من طرقه باطلٌ، نعم هو لا يقاوِم حديث

_= ذلك بقوله: وبارك له فيما أعطيته، فإن قيل: فأي الرجلين أفضل؟ المبتلى بالفقر أو المبتلى بالغنى، إذا صلحت حالةُ كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه، ويكون لصاحبه أعمال يفضل بها من يساويه في تلك الحالة، وقد يكون هذا الذي صلح حاله على الفقر قد لا يصلح حاله على الغنى، ويصلح حاله الآخر على الفقر والغنى، وقد تختلف حالتهما في غير ذلك.

فإن قيل: فإن كان كل واحدٍ منهما تصلح حالته في الأمرين وهما في غير ذلك من الأعمال متساويان، وأدى الفقير ما يجب عليه في فقره من الصبر والعفاف والرضى، وأدى الغني ما يجب عليه من الإنفاق والبذل والشكر والتواضع، فأي الرجلين أفضل؟ فعِلْم هذا عند الله، مع أن قوماً ذهبوا إلى تفضيل الفقير لحديث:«إن الفقراء يدخلون الجنة وأصحاب الجدّ محبوسون للحساب» . وقالوا: إنما يحبس هذا للتفاخر والتكاثر، وأما من أدى حقَّ الله في ماله، ولم يرد به التفاخر والتكاثر، وأهلك منه ما قدر له في حقه، وأرصد بباقيه الحاجة إليه؛ فليس أولئك منه السبق لشيء. ويدل على هذا ما ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحقِّ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها» . وفي حديثٍ آخر: «رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحقِّ، ورجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار» . فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أنه لا شيء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبيِّن عن الله معنى ما أراد، ولو كان من كانت هذه حالته مسبوقاً في الآخرة لما حضَّ الرسول عليه السلام على أن يتنافس في عمله ولا وصفه بهذه الصفة» .

فما أورده المصنف عن الداودي هو لفظ نقل ابن حجر في «الفتح» (11/138) عنه، ولعله منقول من «شرحه على صحيح البخاري» ، وهو من مصادر ابن حجر كما في «معجم المصنفات الواردة في فتح الباري» (ص 232 رقم 680)، ومما كتبته في التعريف به فيه:

«صرح عبد السلام المباركفوري في «سيرة الإمام البخاري» (196) أنه رأى نسخة قديمة منه، كان يملكها الشيخ نذير حسين الدهلوي» ، ولعله من تصرف ابن حجر -كعادته- في النقل، إذ وجدتُ ابن بطال في «شرحه على صحيح البخاري» (10/171) ساقه كما أثبتناه، وعنده كلام الداودي برمته، وقال عنه:«أحسن ما رأيت في هذه المسألة» ، أي: التفصيل بين الغني والفقير.

ص: 194

أنسٍ في الصحة، ولو لم يمكن الجمع بينهما بحيث زال التضاد -إن شاء الله- بين الخبرين وأُعمِلا معاً، كان القول بأن أحدَهما كافٍ أصح.

ولذلك تعقّب الداوديَّ شيخُنا رحمه الله وقال: «إنه لا مُنافاةَ بينهما -يعني بين الحضِّ على النكاح والتماسِ الولد، وبين الدعاء بعدم حصُول الولد والمال معاً- لاحتمال أن يكون وردَ في حصول الأمرين معاً» .

قال: «لكن يعكِّر عليه كراهيتُه لغير أنس ما دعا به له

» (1) ، ثم أجاب عنه بما أسلفتُه معزوّاً إليه.

فإن استُشكِل -أيضاً- دعاؤه صلى الله عليه وسلم على من لم يؤمن به بكثرةِ المال والولد وطول العمر بمن يشاهَدُ من الكفار والمُقلّين منهما معاً، بحيث يكون أشقى الأشقياءِ، فهو من اجتمع عليه فقرُ الدنيا وعذاب الآخرة، وهو الذي خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

وكذا بمن يهلك قبل الطعن في السنِّ -أيضاً-، والحالُ أن دعاءَه صلى الله عليه وسلم مجابٌ، أمكن أن يقال: لعلّه صلى الله عليه وسلم لم يقصد حقيقة الدعاء عليهم، إنما أراد منه تنفير من يحبهما معاً من محبيه على الوجه المذموم كما تقدم.

ونحوه القول في غالبِ من دعا عليهم صلى الله عليه وسلم من الكفار ممن تخلّف دعاؤه فيهم بأنه لم يُرد بذلك إهلاكهم، وإنما أراد ردعهم ليتوبوا.

وقد قيل في «عقرى حلقى» : أن ظاهره الدعاء لكنه غير مراد، وكذا قيل في «ويل أمه» و «لا أبا له» ، و «ترِبت يداه» ، و «قاتله الله» ونحو ذلك.

ويحتمل أن يقال: لعله أراد قوماً مخصوصين في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو يقال بالفرق بين من صدر منه الدعاء عليه بطريق التعيين وبين من اندرج في العموم، لا سيما بعد نزول قولِه -تعالى-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ

(1) انظر: «فتح الباري» (11/138) .

ص: 195

فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، فقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده:«ربنا لك الحمدُ، اللهم أنج الوليدَ بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيَّاش بن [أبي] ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشْدُدْ وطْأَتَك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (1) يجهرُ بذلِك.

وكان يقول في بعض صلاتِه في صلاة الفجر: «اللهمّ العن فلاناً وفلاناً» لأحياء من العرب، حتى أنزل اللهُ عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران: 128] (2) .

ويستأنس له بقول شيخِنا رحمه الله في حديث: «أيّما مؤمن سببتُه أو جلدتُه؛ فاجعل ذلك كفارةً له يوم القيامة» (3) ، ما أظنه يشمل ما وقع منه بطريق

(1) أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/94) ، وابن أبي شيبة (2/316) ، والحميدي (939) ، وأحمد (2/239، 418) ، والبخاري (1006، 2932، 3386، 6200) ، ومسلم (675) ، وابن ماجه (1244) ، والنسائي (2/201) ، وأبو يعلى (5873) ، وابن خزيمة (615) ، وأبو عوانة (2/283) ، والبيهقي (2/197، 244) ، والبغوي (636) من حديث أبي هريرة.

ومعنى: «واجعلها» ؛ أي: العقوبة، سنين، أي: القحط سبع سنين، دعا عليهم بالقحط دون الهلاك، طمعاً في إيمانهم رحمة عليهم، وما بين المعقوفتين سقط من الأصل ومن «الجواب» المرفق -وهو بخط السخاوي-، وأثبتُّه من مصادر التخريج.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4027) ، وفي «التفسير» (1/132) ، وأحمد (2/93، 104، 118، 147) ، والبخاري (4070) ، والترمذي (3004) ، والنسائي (2/203) ، وفي «الكبرى» (578، 11075) ، وأبو يعلى (5547) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (1389، 1392) ، والطبري في «التفسير» (7818) ، والطحاوي في «المشكل» (567، 568) ، و «شرح معاني الآثار» (1/242) ، والطبراني في «الكبير» (13113) ، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (303) ، والواحدي في «أسباب النزول» (ص 116، 117) ، وابن خزيمة (622) ، وابن حبان (1987، 1988) ، والبيهقي (2/198) من حديث ابن عمر.

(3)

أخرجه الحميدي (1041) ، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (6/71) ، وعبد الرزاق في «مصنفه» (20294) ، وأحمد (2/243) ، والدارمي (2765) ، والبخاري (6361) ، وفي «التاريخ =

ص: 196

التعميم لغير معيّن، حتى يتناول مَن لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم.

بل قال شيخُنا (1) -أيضاً- في قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل فناءَ أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون» (2) ،

إذ استُشكل بأن أكثر الأمة إنما يموتون بغير الطعن

= الكبير» (4/109-110) ، ومسلم (2601) ، وعبد بن حميد (998) ، وأبو يعلى (6313) ، وابن حبان (6515) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6006-6010) ، والطبراني في «الأوسط» (2330، 8775) ، والبيهقي (7/60 -61) ، والبغوي في «شرح السنة» (1239) ، والخطيب في «الموضح» (1/294) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/205- 206) ، وعبد الغني بن سعيد الأزدي في «الأوهام التي في مدخل أبي عبد الله الحاكم» (ص 90-91) من حديث أبي هريرة.

(1)

كلامه الآتي في «بذل الماعون في فضل الطاعون» (الفصل الرابع: ذكر الجواب عن إشكال أورده بعضهم على هذا الحديث يريد القدح فيه، مستنداً إلى أن أكثر الأمة يموتون بغير الطعن والطاعون، فلو ثبت الحديث لماتوا كلهم بأحد الأمرين) ، منه (ص 123 وما بعد) .

(2)

أخرجه أحمد (3/43 و4/238) ، والبخاري في «الكنى» (9/14) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2503) ، و «الجهاد» (189) ، وابن حبان في «الثقات» (7/357) والدولابي في «الكنى» (1/18) ، والحربي في «الغريب» (1/274) ، والطبراني في «الكبير» (22/992، 793) ، والحاكم (2/93) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/384) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/2057 رقم 5170 و5/2839 رقم 6702) ، وابن منده في «الصحابة» -ومن طريقه ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 120-121) ، من حديث أبي بردة أخي أبي موسى الأشعري.

ونقل ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 121) عن شيخه العراقي قوله: «هذا حديث رجاله ثقات، وكريب بن الحارث ذكره ابن حبان في «الثقات» وروى له هذا الحديث، إلا أنه جعله عن أبي بردة، عن أبي موسى، وظن أنه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وإنما هو أخوه، ولذا ذكره في (الطبقة الثالثة) من «الثقات» فوهم» .

قال أبو عبيدة: نعم، رجاله ثقات، سوى كريب بن الحارث، لم يوثقه غير ابن حبان، وترجمه البخاري (4/1/231) ، وابن أبي حاتم (3/2/168) وسكتا عنه.

وأخرجه -أيضاً- أحمد (4/395) ، والطيالسي (534) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 211) ، والبزار (3040- زوائد) ، والطبراني في «الأوسط» (1418) ، والصغير (351) ، وابن بشران في «الأمالي» (3/ ق 18) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/384) من حديث أبي موسى الأشعري، على =

ص: 197

والطاعون:

«يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم دعا لأمته بطريق التعميم، فاستجاب الله دعاءَه في بعضهم فيكون من العامّ المخصوص، ويحتمل أن يكون أراد صلى الله عليه وسلم بلفظ «أمتي» طائفةً مخصوصةً كأصحابه مثلاً، أو صفةً مخصوصةً كالخيار مثلاً، فيكون من العامّ الذي أُريد به الخصوص.

والأول قد يوجّه بأنَّ الصَّحابة لم يموتوا كلُّهم بالأمرين ولا بأحدهما فقط، وكذلك الخيار؛ فإنَّ الكثير منهم يموتون بغيرِهما، وقريبٌ من الأول دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالمغفرة، مع أنه ثبت بالأدلة القطعية عند أهل السنة أن طائفةً منهم يُعذّبون، ثم يخرجون من النار بالشّفاعة.

وفي عكس ذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم أن لا يُهلِك أمتَه (1) بالغرق، وأن يرفع عنهم الرّجم من السماء والخسف من الأرض، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أُجيب إليها ثم وقعت بعدُ، فدلّ على أن المراد بنفي ذلك عن الأمة نفيه عن الجميع، وأن وقوعه لبعضهم لا يقدح في صحة الحديث؛ لصلاحيّة اللفظ لإرادة الكلِّ والبعض.

وكذا يقال في الحديث المسؤول عنه، وحديث الطاعون (2) -أيضاً-: اللفظ صالحٌ لإرادة الكلِّ والبعض، فدل الواقع على أن المراد البعض فيهما، كما دلَّ الواقع في حديث الغرق ونحوه على أن المراد الكلّ، ثم إنه ليس المراد بالكلِّ

= اختلاف شديد في إسناده، تكلم شيخنا الألباني في «الإرواء» (6/70) على بعضها، وصحح الحديث بمجموع طرقه، وفي الباب عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم، وصرح ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 323) في موطن آخر بصحته.

(1)

بعدها في «بذل الماعون» (ص 124) -ومنه ينقل المصنف-: «بِسَنة عامة، وأن لا يهلكهم

» ، وقد سقطت على ناسخ أصل كتابنا هذا، وتصرف المصنف في كلام شيخه ابن حجر الآتي على وجه فيه اختصار، وتقديم وتأخير، فاقتضى التنويه، وسيأتي سياق الأحاديث الدالة على ما ذكره هنا، وما سيذكره قريباً، والله الموفق.

(2)

المذكور قريباً: «اللهم اجعل فناء أمتي

» .

ص: 198

جميع الأمة من أولها إلى آخرها، وإنما المراد به جميع من يكون موجوداً في عصرٍ من الأعصار في جميع البلاد من الأمة المحمدية، بحيث تنقرض أمة الإجابة ولا يبقى مثلاً من الناس إلا أمة الدعوة.

وهذا لا يقع إلا بعد وقوع الآيات ونزول عيسى ابن مريم، وقبض أرواح من يوحّد إذ ذاك من أهل التوحيد، فلا يبقى على وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله، فأولئك تقوم عليهم الساعة، كما ثبت في الحديث الصحيح (1) .

وأما ما قبل ذلك فللعلماء فيه اختلافٌ في مسألة: «هل تخلو الأرض من قائم لله بالحجّةِ؟» (2) ، ليس هذا موضع إيراده.

وممن نحى إلى أن المراد بالأمة في حديث الطاعون الصحابة أبو العباس القرطبي في «شرح صحيح مسلم» (3) ،

وتُعقب بأنه قد مات جمع كثيرٌ من الصحابة

(1) أخرج مسلم (148) عن أنس رفعه: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» .

وأخرج البخاري (7067)، ومسلم (131) وغيرهما من حديث ابن مسعود:«من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء» ، وأورد ابن حجر في «الفتح» (13/85) ألفاظاً عديدة تدلل على ما ذكره المصنف، وأفرد أبو عمرو الداني في «الفتن» (4/807) :(باب ما جاء أن الساعة تقوم على أشرار الناس) ، فانظره.

(2)

تجد جواز الخلو عند أشراط الساعة آخر الزمان عند الكرماني في «شرحه على صحيح البخاري» (2/38 و4/194 و13/92) ، وسبقه الجويني في «البرهان» (2/1346) ، وأجاز الخلو الجماهير، والصواب أنه فرض لكل عصر، وتحمس له السيوطي في رسالته «الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض» وهي مطبوعة، انظر منها (ص 67، 97 وما بعد)، وراجع التفصيل وتأصيل المسألة:«مجموع فتاوى ابن تيمية» (20/204) ، «المسودة» (472) ، «إعلام الموقعين» (4/32- بتحقيقي) ، «الاعتصام» (3/313- بتحقيقي) ، «الإحكام» (4/233) للآمدي، «جمع الجوامع» (2/398- مع «شرح المحلي» ) ، «تيسير التحرير» (4/240) ، «إرشاد الفحول» (ص 253) ، وغيرها كثير.

(3)

المسمى: «المفهم لما أُشكل من تلخيص كتاب مسلم» (5/612- ط. دار ابن كثير)، قال:

«إن الطاعون مرضٌ عامٌ يكون عنه موت عام، وقد يُسمّى بالوباء، ويرسله الله نقمة وعقوبة لمن يشاء من عصاة عبيدِه، وكَفرتهم. وقد يُرسله شهادةً، ورحمة للصالحين من عباده، كما قال معاذ =

ص: 199

بغير الطعن والطاعون، وأُجيب: بأنه إذا ساغ تخصيص عموم الأمة بالصحابة، ساغ تخصيص الصحابة بطائفة منهم، ولكن قد استَبعد التقيُّ ابنُ تيمية أصل الجواب في

_= في طاعون الشام: إنه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم. قال أبو قلابة: يعني بدعوة نبيكم: أنه صلى الله عليه وسلم دعا أن يجعل فناءَ أمته بالطّعن والطّاعون. كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو. قال بعض علمائنا: والصحيح بالطعن، أو الطاعون، بأو التي هي لأحد الشيئين. أي: لا يجتمع ذلك عليهم.

قلتُ: ويظهر لي: أن الراويتين صحيحتا المعنى، وبيانه: أن مُرادَ النبي صلى الله عليه وسلم بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لجميع أمته ألاّ يهلكهم بسَنة عامة، ولا بتسليط أعدائهم عليهم، فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم، ولا معظمهم بموتٍ عامٍ، ولا بعدوٍّ على مقتضى هذا الدعاء. والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام. فتعيّن أن يصرفَ الأول إلى أصحابه؛ لأنهم هم الذين اختار الله لمعظمهم الشهادةَ بالقتل في سبيل الله، وبالطاعون الذي وقع في زمانهم، فهلك به بقيتُهم. فعلى هذا: قد جمع الله لهم كلا الأمرين. فتبقى الواو على أصلها من الجمع، أو تحمل (أو) على التنويعية والتقسيمية. والله -تعالى- أعلم» .

قال أبو عبيدة: لي تعليقات:

الأولى: العالم الذي أبهمه أبو العباس القرطبي في «شرحه تلخيصه صحيح مسلم» -وليس كتابه شرحاً لأصل «الصحيح» كما توهمه عبارة المصنف- هو القاضي عياض، وعبارته في «إكمال المعلم» (7/133) هذا نصها:

«الصحيح من الرواية أنه عليه السلام أخبره جبريل أن فناء أمته «بطعن أو طاعون» ، فقال:«اللهم فناء بطاعون» ، قال:«وهذا الذي يوافق حديثه الآخر: «أن لا يجعل بأسهم بينهم، وأن لايسلط عليهم عدواً من غيرهم» » .

الثانية: قول المصنف الآتي: «وقد يعترض عليه، بأنه قد مات جمع كثير من الصحابة بغير

» إلى آخره هو بالحرف في «بذل الماعون» (ص 128) لابن حجر.

الثالثة: مقولة أبي قلابة «يعني بدعوة نبيكم

» فيها: «أو» بين «بالطعن» و «الطاعون» بالتنويع والتقسيم لا بالجمع! أخرج ذلك أحمد (5/248) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 9)، ولفظه:

«قال أبو قلابة: فلم أدر ما دعوة نبيكم؟ حتى بلغني الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني سألت ربي أن لا يجمع أمتي على ضلالة، ولا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فأبى عليّ، فقلت: فحُمّىً إذاً أو طاعون» . قال أبو قلابة: فعرفتُ تأويل دعوة نبيكم» .

ص: 200

حمله على الصحابة فقط، وقال (1) :«متى سلِّم ذلك، تطرَّق إلى كلِّ حديث أضيف إلى الأمة» ، نعم قد جزَم به شيخُنا (2) . فقال:«والحقُّ أن أصل الدَّعوة للصَّحابة، ولا منْع (3) من إلحاق غيرهم بهم في الفضل المذكور» ، وأيَّده بما يضيق المحلُّ عن إيراده (4) .

وحديث الغرَق المشار إليه هو في «صحيح مسلم» من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع ركعتين، وصلّينا معه، ودعا ربّه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال:«سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً، فسألتُ ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسَهم بينهم فمنعنيها» (5) .

(1) فيما نقله المنبجي في «الجزء الذي جمعه في الطاعون» ، أفاده ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 129) ، وجزء المنبجي هذا محفوظ في الظاهرية، وهو في (27) ورقة، وقال عنه ابن قاضي شهبة:«وهو يدل على حفظ وفضل، وفيه فوائد كثيرة» ، وسبب تأليفه لما رأى في طاعون سنة 764هـ حدوث بدعة، وهي أدعية مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، أفاده حاجي خليفة في «كشف الظنون» (876، 1574) .

وانظر: «الأعلام» (7/41-42) للزركلي.

(2)

يريد الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-.

(3)

كذا في الأصل! وفي مطبوع «بذل الماعون» (ص 129) : «يمانع» .

(4)

انظر: «بذل الماعون» (ص 129 وما بعد) .

(5)

أخرجه أحمد في «مسنده» (1/175، 181- 182) ، ومسلم (2890) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/320-321، 11/459) ، و «المسند» ، وعمر بن شبة في «تاريخ المدينة» (1/68) ، وأبو يعلى في «المسند» (734) ، والبزار (3/328) برقم (1125) ، والدورقي في «مسند سعد» (39) ، وابن حبان (7237) ، والمفضل الجندي في «فضائل المدينة» (ص 42) ، وابن خزيمة، وابن مردويه، وأبو الشيخ -كما في «الدر المنثور» (3/17- 18) ، والواحدي في «الوسيط» (2/284) ، والبيهقي في «الدلائل» (6/526) ، والبغوي في «شرح السنة» (4014) ، وفي «تفسيره» (2/104) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 7) من طرق عن عثمان بن حكيم الأنصاري، قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص.

ص: 201

وفي الباب عن أنس (1) ، وثوبان (2) ، وخبّاب بن الأرتّ (3) ، وابن عباسٍ (4) ، ومعاذ بن جبل (5) ، وأبي بصرة الغفاري (6)

رضي الله عنهم.

(1) أخرجه أحمد (3/146، 156) ، والنسائي في «الكبرى» -كما في «تحفة الأشراف» (1/242) -، وابن خزيمة (1228) ، والطبراني في «الصغير» (1/8) ، والحاكم (1/413) ، وأبو نعيم (8/326) ، والضياء في «المختارة» (2220) ، وهو صحيح.

(2)

سيأتي لفظه عند المصنف قريباً، وهناك تخريجه.

(3)

أخرجه أحمد (5/108-109) ، وعبد الرزاق في «التفسير» (2/210) ، والنسائي في «المجتبى» (3/216-217) ، و «الكبرى» (1241، 1242) ، والترمذي (2175) ، وابن حبان (7236) ، وابن جرير في «التفسير» (7/144) ، والطبراني في «الكبير» (3621) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (13/319) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 8) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (14/321) ، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (3/18) إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه.

(4)

سيأتي لفظه عند المصنف قريباً، وهناك تخريجه.

(5)

أخرجه أحمد (5/240، 243، 248) ، وابن أبي شيبة (10/318-319) ، وابن ماجه (3951) ، وابن خزيمة (1218) ، والحربي في «غريب الحديث» (3/960) ، والطبراني في «الكبير» (20 رقم 306) ، وفي «مسند الشاميين» (1131) ، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص 380-381) ، وإسناده صحيح.

وعزاه ابن كثير في «تفسيره» (3/267) إلى ابن مردويه.

(6)

أخرجه أحمد (6/396) ، والطبراني في «الكبير» (2171) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/24) من طريق أبي هانئ الخولاني، عن رجل، عن أبي بصرة الغفاري، رفعه.

قال الهيثمي في «المجمع» (1/177 و7/222) : «وفيه راوٍ لم يُسمَّ» .

قال أبو عبيدة: وفي الباب عن جمع آخرين، هذا ما وقفتُ عليه منهم على عجلة، والله الموفق:

* حديث خالد الخزاعي:

أخرجه البزار (3289) ، وابن جرير (7/144) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2333) ، والطبراني في «الكبير» (4112-4114) ، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2 رقم 2446، 2447) .

وعزاه ابن حجر في «الإصابة» (2/257) إلى أبي يعلى، والحسن بن سفيان، وقال:«رجاله ثقات» ، وحسنه في «مختصر زوائد البزار» (2/164-165) .

وانظر: «المجمع» (7/222) . =

ص: 202

= * حديث أبي هريرة:

أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (4 رقم 7415) ، والبزار (3290) ، والطبراني في «الأوسط» (1883) ، وعزاه ابن كثير في «تفسيره» (3/269-270) إلى ابن مردويه.

وقال الهيثمي في «المجمع» (7/222) : «رجاله ثقات» .

وقال ابن حجر في «مختصر زوائد البزار» (2/164) : «صحيح» .

* حديث حذيفة بن اليمان:

أخرجه ابن أبي شيبة (10/318 و11/459) بسندٍ حسن إلا أن فيه تدليس ابن إسحاق.

وعزاه ابن كثير (3/266) لابن مردويه في «تفسيره» .

* حديث عبد الله بن عمر:

أخرجه أحمد (5/445) ، والبغوي في «شرح السنة» (4013)، وقال:«هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه» ، وعزاه في «الدر المنثور» (3/18) للحاكم، قال:«وصححه» .

وقال ابن كثير (3/266) : «إسناده جيد قوي» .

(1)

أخرجه الطيالسي (991) ، وابن أبي شيبة (11/458) ، وأحمد (5/278، 284) ، ومسلم (2889) ، وأبو داود (4252)، والترمذي (2176) -وقال:«حديث حسن صحيح» -، وابن ماجه (3952) ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (456) ، و «السنّة» (1/125) ، والطبري في «التفسير» (7/144) ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «جزء فيه أحاديث أيوب السختياني» (رقم 19، 21، 22) ، وابن حبان (7238) ، والطبراني في «الأوسط» (8392) ، وفي «مسند الشاميين» (2691) ، والحاكم (4/449) ، والبيهقي (9/181) ، وفي «الدلائل» (6/526- 527) ، والبغوي في «شرح السنة» (4015) ، وأبو نعيم في «الدلائل» (ص 469- 470) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1113) ، وأبو عمر الداني في «الفتن» (4) من حديث ثوبان.

وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (3/17) إلى عبد بن حميد في «تفسيره» . =

ص: 203

وعند ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام من «تفسيره» في هذه الآية من حديث ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دعوت اللهَ عز وجل أن يرفعَ عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوتُ اللهَ أن يرفع عنهم الرَّجم من السماء، والخسفَ من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً ويذيقَ بعضَهم بأس بعضٍ، فرفع الله عنهم الخسف والرَّجم، وأبى أن يرفع الآخَرتَين» (1) .

ونحوه عند البخاري عن جابر قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذُ بوجهك» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هاتان أهون وأيسر» (2) .

= وكان معمراً يرويه بسند حديث ثوبان، إلا أنه يجعله من (مسند شداد بن أوس) ، كما عند عبد الرزاق في «التفسير» (2/210-211) ، وأحمد (4/123) ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي في «جزء فيه أحاديث أيوب السختياني» (رقم 18، 23) ، وإبراهيم الحربي في «غريب الحديث» (3/ 957) ، والطبري في «التفسير» (7/144) ، والبزار (3291- زوائده) ، وأبي عمرو الداني في «الفتن» (رقم 6) ، وعزاه ابن كثير إلى «تفسير ابن مردويه» ، وقال:«إسناده جيد قوي» .

وقال ابن حجر في «الفتح» (8/293) : «إسناده صحيح» .

وقال الهيثمي في «المجمع» (7/221) : «رجال أحمد رجال الصحيح» .

وانظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم 2) .

(1)

عزاه ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 124- 125) إلى ابن مردويه، ومنه نقله المصنف، وهو في «الفتح» (8/293) ، و «الكافي الشاف» (2/32) -أيضاً- معزواً له -وسكت عنه-، وكذا فعل كل من: ابن كثير في «تفسيره» (3/269) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (7/284) .

وظفرت به -مختصراً- عند الطبراني في «الكبير» (11 رقم 12274) بسند فيه محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ.

وانظر: «المجمع» (7/222) ، وصح عنه بعضه موقوفاً عند ابن أبي حاتم في «التفسير» (رقم 7412) .

(2)

أخرجه أحمد في «مسنده» (3/309) ، وعبد الرزاق في «تفسيره» (2/211) ، والحميدي =

ص: 204

ولعبد الرزاق من حديث أُبيِّ بن كعبٍ، في قوله تعالى:{عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قال: الرّجم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الغرق (1) .

وبحديث سعدٍ تَعقَّب شيخُنا رحمه الله قولَ بعضِ شرّاح «المصابيح» أن جميعَ دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مستجابةٌ، وقال:«إن في قوله غفلة عن الحديث الصحيح، وهو «سألت اللهَ ثلاثاً» وذكرَه» .

ونحوه قولُ القاضي عِياض في «الشفا» : «قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين والدنيا، أُعطي بعضَها ومُنِع بعضها» (2) . انتهى.

ويُساعِد شيخَنا من أجاب عن استشكالِ ظاهِر قوله صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ» (3)

بما وقع لكثيرٍ من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم

= في «مسنده» (1259) ، ونعيم بن حماد في «الفتن» (1730) ، والبخاري (4628، 7313، 7406) ، والنسائي في «التفسير» (1/470-471) ، وفي «الكبرى» (7731) ، والترمذي (3065) ، وابن خزيمة في «التوحيد» (1/27) ، والطبري في «تفسيره» (11/422) ، وابن أبي حاتم في «التفسير» (4/1311 رقم 7410، 7411) ، وابن حبان (7220) ، وأبو يعلى (1829) و (1967) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (3000) ، والإسماعيلي في «مستخرجه» -كما في «الفتح» (8/292) -، والكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص 313) ، والبغوي في «شرح السنة» (4016) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/26) ، وفي «الاعتقاد» (ص 89) ، وأبو عمرو الداني في «الفتن» (رقم 14) من حديث جابر بن عبد الله.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (4/1309 رقم 7398) مطولاً، وعزاه ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 125) إلى عبد الرزاق -ومنه ينقل المصنف- وهو غير موجود في مطبوع «تفسيره» .

(2)

الشفا (1/433- مكتبة الفارابي، أو 2/365- مع «نسيم الرياض» ) .

(3)

أخرجه مالك (1/214- تنوير) ، وأحمد في «مسنده» (2/275، 381، 409، 426) ، والبخاري (6304، 7474) ، ومسلم (199) ، والترمذي (3602) ، وابن ماجه (4307) ، والدارمي (2806) ، وهناد في «الزهد» (182) ، وابن المبارك في «الزهد» (1621، 1624) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (رقم 1173) ، وابن راهويه في «المسند» (68، 69) ، والآجري في «الشريعة» (ص 341) ، وابن منده في «الإيمان» (892، 913) ، وابن خزيمة في «التوحيد» (2/265) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1039-1041) ، والطبراني في «الأوسط» (1748) ، وتمام في «فوائده» (1123) ، =

ص: 205

بقوله: أن المرادَ بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة، فحالهم فيها بينَ الرجاء والخوفِ (1) .

وكذا من قال: إن المراد بأنَّ لكلٍّ منهم دعوةً عامةً مستجابةً في أمته، إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة فمنها ما يُستجاب، ومنها ما لا يُستجاب.

وبالجملة فالمقام خطِرٌ، وإذا كان ورَد في حقِّ المسلمين قوله صلى الله عليه وسلم:«ما من رجلٍ مسلمٍ دعا اللهَ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةٌ، إلا أعطاه بها إحدى خصالٍ ثلاثٍ: إما أن يُعجّل له دعوَته، وإما أن يدّخر له في الآخرةِ، وإما أن يدفعَ عنه من السوء مثلها» (2) .

= والجركاني في «جزئه» (رقم 12) ، وأبو عوانة (1/90) ، والبغوي (1235- 1237) ، والفسوي (1/400) ، والبيهقي (8/17) ، وفي «الشعب» (313) ، و «الأسماء والصفات» (ص 213) ، واللالكائي في «السنة» (رقم 1767- 1768، 2039- 2041) من حديث أبي هريرة.

(1)

انظر في تقرير معنى الحديث: «لكل نبي

» : «مجموع فتاوى ابن تيمية» (8/336) ، «الموافقات» (5/310-314- بتحقيقي)، وفيه تقرير الشاطبي بناءً على رواية صحيحة للحديث بلفظ: «اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي

» . أخرجه أحمد (1/281، 295) ، والطيالسي (2711) ، وأبو يعلى (2328) في «مسانيدهم» ، وابن شاهين في «جزء من حديثه» (رقم 15) ، والبيهقي في «لدلائل» (5/481) بسندٍ جيد من حديث ابن عباس. صحة الإيثار في أمور الآخرة، إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أُعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا، ويعكر على هذا أن دعوته صلى الله عليه وسلم ليست مخصوصة به، بل لأمته، فلا يحصل فيها معنى الإيثار المذكور.

وانظر لتأكيد توجيه المصنف: «الأجوبة المرضية» للمصنف (3/1121- 1122) ، «السلسلة الصحيحة» (2538) .

(2)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد « (710) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/201)، ومن طريقه وغيره: ابن عبد البر في «التمهيد» (5/343-344، 344، 345) ، وأحمد (3/18) ، وعبد ابن حميد في «المنتخب» (937) ، والطحاوي في «المشكل» (2/336 رقم 882- ط. مؤسسة الرسالة) ، وأبو يعلى في «المسند» (1019) ، والطبراني في «الدعاء» (35، 36، 37) ، و «المعجم الصغير» (2/92) ، وأبو القاسم البغوي في «الجعديات» (3406) ، وابن شاهين في «الترغيب والترهيب» =

ص: 206

وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أذِن الله لعبدٍ في الدعاء حتى أذِن له في الإجابة» (1) ،

فكيف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فضلاً عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم.

= (رقم 142) ، والبزار في «مسنده» (3143، 3144- زوائده) ، والحاكم في «المستدرك» (1/493) ، والبيهقي في «الدعوات الكبير» (329) ، و «الشعب» (1129، 1130) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 311، 312) ، وعبد الغني المقدسي في «الترغيب في الدعاء» (رقم 22) ، والمزي في «تهذيب الكمال» (21/75) من حديث أبي سعيد الخدري. وإسناده جيد.

(1)

أخرجه الطبراني في الدعاء (39) ، وأبو نعيم في الحلية (3/263) من حديث أنس بن مالك، وقال عقبه:«هذا حديث غريب، تفرد به حبيب كاتب مالك، عن محمد [بن عمران] ، عنه» .

وأورده الديلمي في الفردوس (6269) من حديث أنس.

وحبيب بن أبي حبيب بن إبراهيم كاتب مالك، متروك. انظر ترجمته في:«تهذيب التهذيب» (1287) لابن حجر، وفيه:«قال النسائي وأبو حاتم: متروك الحديث، وقال ابن حبان: أحاديثه كلها موضوعة، وقال أبو داود: كان يضع الحديث» .

وانظر له: «الكامل» (2/411- 414) ، و «الكاشف» (1/145) .

ثم ظفرت له بطريق أُخرى عن أنس:

أخرجه ابن عدي في «الكامل» (2/322) ، والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/242) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (3/171) ، وعبد الغني المقدسي في «الترغيب بالدعاء» (رقم 15)، ولفظه:«ما كان الله عز وجل ليفتح لعبد بالدعاء، فيغلق عنه باب الإجابة، الله عز وجل أكرم من ذلك» .

وسند واهٍ بمرة، فيه الحسن بن محمد البلْخي، قال العقيلي:«منكر الحديث» ، وقال عن هذا الحديث:«ليس له أصل» ، وأقره السيوطي في «اللآلئ» (2/354) .

وقال ابن عدي عن البلخي: «ليس بمعروف، منكر الحديث عن الثقات» ، وقال ابن حبان:«يروي عن حميد الطويل وعوف الأعرابي الأشياء الموضوعة» .

انظر: «المجروحين» (1/238) ، «الميزان» (1/519) ، «تنزيه الشريعة» (2/321) .

ثم وجدت له عن أنس طريقاً ثالثة ضمن حديث فيه: «من أُلهم الدعاء لم يحرم الإجابة» .

أخرجه عبد الغني المقدسي في «الترغيب في الدعاء» (رقم 17) وفيه أبو نصر الليث بن محمد المروزي، أحد المجاهيل.

وفي الباب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعطى الذّكر، ذكره الله -تعالى-....» ، وفيه: =

ص: 207

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= «ومن أعطى الدُّعاءَ أُعطي الإجابة، لأن الله -تعالى- يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 90]

» وله تتمة.

أخرجه الطبراني في «الصغير» (2/92) ، و «الأوسط» (رقم 7023- ط. الحرمين) -ومن طريقه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/247- 248) ، ومن طريقهما ابن الجوزي في «الواهيات» (2/ 355) -، والبيهقي في «الشعب» (8/434-435 رقم 4211) من طريق محمد بن إسحاق المروزي: حدثنا محمود بن العباس: ثنا هشيم، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عنه رضي الله عنه.

وأوله عند الطبراني: «من أعطىأربعاً أُعطي أربعاً

» .

وضعّفه البيهقي، وفصل الهيثمي في «المجمع» (10/149) بقوله:«فيه محمود بن العباس، ضعيف» . وقال ابن الجوزي على إثره: «هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفرَّد به محمود بن العباس، وهو مجهول» .

قلت: إسناده واهٍ جداً، ولذا قال الذهبي في «الميزان» (4/77-78) في ترجمة (محمود بن العباس) :«عن هشيم بخبر كذب، لعله واضعه» .

وأقره ابن حجر في «اللسان» (6/3) .

وأما محمد بن إسحاق بن موسى المروزي فقد أورد الخطيب الحديث في ترجمته، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.

وأخرجه البيهقي في «الشعب» (8/433-434 رقم 4210) بنحوه، وفيه عبد العزيز بن أبان، قال البيهقي عنه:«متروك» .

وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «ما كان الله ليأذن لعبده في الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة» .

أخرجه ابن شاهين في «الترغيب والترهيب» (رقم 152) .

وإسناده واهٍ -أيضاً-، فيه بكر بن خنيس، يروي الموضوعات، واتّهمه ابن حبان بالوضع، وفيه ضرار بن عمرو، لا شيء، وكان يجعله عن يزيد الرقاشي، عن أنس، كما عند الكلاباذي في «معاني الأخبار» (ص34) .

وأرجى ما وجدته في هذا الباب: ما أخرجه ابن أبي شيبة (6/22) ، وعبد الرزاق (10/442 رقم 19644) ، والبيهقي في «الشعب» (1142، 1143)، وعبد الغني المقدسي في «الترغيب في الدعاء» (رقم 16) من طريقين عن أبي الدرداء قال:«أكثروا من الدعاء، فإنه من يُكثر قرع الباب أوشك أن يُفتح له» ، وهذا حسن بمجموع الطريقين عن أبي الدرداء قوله، والله أعلم.

وظفرت بنحوه عن ابن مسعود قوله -أيضاً-.

ص: 208

ولا يدفع ذلك ما ورَد التصريحُ منه بعدم الإجابة فيه، وعلى كلِّ حالٍ فقد استُغْنِيَ بما أبديتُه من الأجوبة عن التقيُّد في ورطةِ هذا، والله الموفق (1) .

تمَّ الكتاب بحمد الله وعونِه وحُسن توفيقِه، وذلك على يد الفقير المعترف بالتقصير، أبو الفضل الأعرَج (2) ، له ولمن دعا له بالمغفرة، ولجميع المسلمين.

وكان الفراغُ منه عام ثمانين وثماني مئة، وصلى الله على سيدنا محمد، وآلِه وعترته الطيبين الطاهرين، وسلّم تسليماً أبداً (3) .

*****

(1) للمصنف في مواطن من «الأجوبة المرضية» كلام فيه نحو ما قرره هنا، قال في (2/ 743- 745) بعد أن أورد النصوص:«لا معارضة بين دعائه صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه بكثرة المال وبين دعائه لمن يحب بقلّة المال؛ لإمكان أن يقال: ليس المالان في الموضعين على حد سواء» .

وذكر فوائد المال المعتبرة، قال:«وإنما يحب المؤمن المال لهذه الأشياء» ، قال:«وإذا تأمّلت قوله صلى الله عليه وسلم: «وبارك له فيه» ظهر لك به تقوية ما قررته خصوصاً. ومن جملة استمرار البركة: عدم إنفاذها من بين يديه واحتياجه إلى اللئام ممن يفخر ويزهو بها عليه، وبالله التوفيق» .

(2)

تقدمت ترجمته عند التعريف بالنسخة المعتمدة بالتحقيق.

(3)

فرغتُ من النظر فيه والتعليق عليه ضحى يوم الأربعاء السابع من جمادى الآخر، سنة 1424هـ. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 209