الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يشعر أن «السر المكتوم» ألفه قبل هذا الجواب، ووقف عليه الملك الأشرف، وطلب منه اختصاره، ففعل السخاوي في هذا الجواب، هذا ما بدا لي، والله أعلم بالصواب.
*
نسخة أخرى لهذا الجواب:
وظفرتُ -بعد بحث شديد- في «الفهرس الموجز لمخطوطات مؤسسة علال الفاسي» (2/124-125 رقم 932) على نسخة في المؤسسة المذكورة برقم (4172) في (26) ورقة! ضمن مجموع (ق 11-37) بخط مغربي، سمّاه المفهرس هكذا:
«جواب عن سؤال حول حديث: «اللهم من أحبني فارزقه الكفاف» » ، ولا أدري هل هو نسخة أخرى من «السر المكتوم» (1) ، أم نسخة أخرى من هذا الجواب، أم جواب آخر للسخاوي في الموضوع نفسه، إذ هذا الموضوع أشغل السخاوي كثيراً، وكان له فيه جهود متعددة.
*
عملي في التحقيق:
ويتلخص عملي في هذا الجواب على ضبط نصه، ودقّة مقابلته على المثبت بخط صاحبه السخاوي، وأحلت في تخريج الأحاديث والآثار وتوثيق النصوص على ما علقته على «السر المكتوم» ، فقد بذلتُ في ذلك -ولله الحمد والمنة- جهداً أرجو الله أن يكون مميزاً، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتي، وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، والإحسان في العلم والتعلُّم والبحث، وأن يجنبني الخطأ والزلل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتب
أبو عبيدة
بعد عشاء يوم السبت
12/جمادى الآخرة/1424هـ
(1) إذ عدد ورقاته يحتمل ذلك.
صورة
صورة
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.
برزت الإشارة بالإيماءات مع صريح العبارة من علاّمة مطيق منطيق، وفهّامة متحقق بالتدقيق والتحقيق، مارس كثيراً من العلوم، ونافس بفكره الصافي في فنَّيِّ المنطوق والمفهوم، وظهرت سيادتُه وانتشرت رئاسته، واغتبط الملوك ببهجته ونضارته، وارتبط الغنيُّ فضلاً عن الصعلوك بساحته -زاده الله -تعالى- من فضله، وأبقاه لنشر العلم والتنويه بأهله، وختم له بالحسنى، ورفعه إلى المحل الأسنى- إلى استشكال الجمع بين دعائه صلى الله عليه وسلم لخادمه سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، حسبما اتفق عليه الشيخان بكثرة المال والولد مع كونه -كما روي من أوجه يرتقي بها إلى الحُسن- دعا بذلك على من لم يُؤمن به ولم يُصدّقه، والتُمس من المملوك الجواب فكتب ذلك باختصار لكونه فهم أن الغرض حين سمى القاصد إنما هو بيان مرتبة الحديث الثاني ومَنْ أخرجه، ثم تبين له حقيقة المراد.
فقال على سبيل الغرض على المشار إليه، لا قصداً للتطويل لديه، غير متعرضٍ لما كتبه أولاً في تخريج الحديث:
الجواب كما ظهر لي أنه يقال: ليس المالان في الموضعين على حدٍّ سواء، فالذي دعا لخادمه بالكثرةِ منه هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:«لا خير فيمن لا يُحبُّ المال ليصلَ به رحمه، أو يؤدّي به عن أمانته ويستغني به عن خلق ربه» (1) .
والمعنى في هذا كما قال العسكري: إنه لا خير فيمن يُحبُّ المال لغير هذه الخصال، وإنما يحبُّ المؤمنُ -يعني: الكامل- المالَ لهذه الأشياء (2)، ونحوه قول سعيد بن المسيّب رحمه الله: «لا خير فيمن لا يجمع المالَ فيقضي دينَه
(1) مضى تخريجه (ص 83) .
(2)
نقله عنه السخاوي في «الأجوبة المرضية» -أيضاً- (2/744) .
ويصل رحمَه، ويكفّ به وجهَه» (1) .
ولذلك يروى -كما أخرجه أحمد وابن منيع في «مسنديهما» - من حديث عمرو بن العاصي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو نعمّا بالمال الصالح للمرء الصالح» -وفي لفظ: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (2) .
وأخرج الديلمي عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«نعم العون على تقوى الله المال» (3) .
وعند الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قيل يا رسول الله من السيد؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، قالوا: فما في أمتك من سيد؟ قال: بلى، رجل أعطي مالاً حلالاً، ورزق سماحة، وأدنى الفقير، وقلّت شكاته في الناس» (4) .
فمن تكون الدنيا في يديه ويؤدِّي الحقوقَ منها، ويتطوَّع بالأمور المستحبة فيها، ولم تكن عائقة له عن الوصول إلى الله تعالى، ولا لها في قلبه مزيَّة، ولا يفخر بها خصوصاً على من دونه، يكون ذلك زيادة له في الخير.
وكم من غنيٍّ مُتَّصفٍ بذلك وأزيد منه مثل سليمان عليه السلام، وعثمان ابن عفّان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة الفياض أحد العشرةِ رضي الله عنهم.
بل قد حُملت خزائنُ الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى صاحبيه أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما، فأخذوها ووضعوها في مواضعها، وما هربوا منها لكونهم قد استوى عندهم الماء والمال، والذهب والحجر، كما عُرف من سيَرهم وأحوالِهم (5) .
(1) مضى تخريجه (ص 84) .
(2)
مضى تخريجه (ص 84) .
(3)
مضى تخريجه (ص 85) .
(4)
مضى تخريجه (ص 86) .
(5)
هذا الكلام منقول عن الغزالي في «الإحياء» (4/204- ط. دار إحياء الكتب العربية) .
على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتصر في الدعاء لأنس رضي الله عنه بالإكثار فقط، بل ضم إليه الدعاء بالبركة الذي صدوره منه صلى الله عليه وسلم يشمل عدم الافتتنان به، بحيث يزول محذوره، إذ الدنيا بلاء وفتنة (1) .
ففي الأحاديث الإلهية يقول الله عز وجل: «ابن آدم ما خلقت هذه الدنيا إلا محنة» (2)، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون» (3) . وقال أيضاً: «إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وأنهما مهلكاكم فانظروا كيف تعملون» (4) .
وقال -أيضاً-: «لكل أمة فتنة، وفتنةُ أمتي المال» (5) .
وكذا يشمل عدم نفادها من بين يديه، واحتياجه إلى اللئام ممن يفخر ويزهو بها عليه (6) .
قال صلى الله عليه وسلم لجرير رضي الله عنه: «يا جرير إني أحذِّرك الدُّنيا، وحلاوةَ رضاعها، ومرارة فطامها» (7) .
ولا شك أن من فاز بشمول البركة في ماله كان ممن يغبط على نواله.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلَّطه على هلكته في الحق،
…
» (8) .
(1) نحوه في «الأجوبة المرضية» (2/745) .
(2)
مضى تخريجه (ص 105) .
(3)
مضى تخريجه (ص 105) .
(4)
مضى تخريجه (ص 106) .
(5)
مضى تخريجه (ص 106) .
(6)
نحوه في «الأجوبة المرضية» (2/745) .
(7)
مضى تخريجه (ص 112) .
(8)
مضى تخريجه (ص 112) .
وأما المال الذي دعا بالكثرة منه على من لم يُؤمن به، وكذا الذي دعا بالتقلُّل منه لمحبِّيه، فهو المباين لما تقدَّم بكل طريق في الحقوق الواجبة، وكذا المستحبة، بل هو المعنيُّ بقوله صلى الله عليه وسلم:«وربَّ متخوضٍ في مال الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ له النار يوم القيامة» (1) .
ولو اتفق صدور صِلةٍ أو نحوها من الكافر فيه كان حظه منه ما خُوِّل فيه من صحَّةٍ، ومالٍ، وشبههما.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة» (2) .
وقال -أيضاً-: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء بمَ أخذ المال، أمِن حلالٍ أم من حرام» (3) .
وإلى قريب من هذا الجواب أشار شيخُنا رحمه الله، فإنه قال في «فتح الباري» (4) :«فإن قيل: كيف دعا لأنس، وهو خادمه بما كرهه لغيره؟! فيحتمل أن يكون مع دعائه له بذلك قرنه بأن لا يناله من قِبَل ذلك ضررٌ، لأن المعنى في كراهية اجتماع المال والولد إنما هو لما يُخشى في ذلك من الفتنة بهما، والفتنة لا تُؤمن معها الهلكة» انتهى كلام شيخِنا.
ويتأيّد بقول أنس رضي الله عنه: «أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك خير آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا له به» (5) .
وإلى الفرق بين المالين -الذين أحدهما: وبالٌ، والآخر: نوالٌ- أشار صلى الله عليه وسلم
(1) مضى تخريجه (ص 112) .
(2)
مضى تخريجه (ص 134) .
(3)
مضى تخريجه (ص 136) .
(4)
انظره: (11/138) .
(5)
مضى تخريجه (ص 136) .
بقوله: «إن المكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة» ، وفي رواية:«هم الأخسرون» (1) .
وفي لفظٍ: «هلك المُثرُون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -فحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله- وقليلٌ ما هم» (2) .
وأيضاً فالناس مُختلفون، فمنهم من تُصلِحه الدنيا ويصلُح عليها، ولا يزدادُ بها إلا فضلاً وتواضعاً، كما نشاهده في أفرادٍ.
وقد كان قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنهما يقول: اللهم ارزقني مالاً وفِعالاً، فإنه لا يَصلح المالُ إلا بالفِعال، ولا الفِعالُ إلا بالمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه (3) .
وهذا هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «إن الجود من شيمةِ أهل ذلك البيت» (4) .
ويُروى عن الحسن والحسين أنهما قالا لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: بأبي أنتما وأمي، إن الله قد عوَّدني أن يتفضّل عليَّ، وعوّدتُه أن أتفضّل على عباده، فأخاف أن أقطعَ العادةَ فيقطع عني (5) .
وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: أنت مِتلافٌ، فقال: مَنْعُ الجودِ سُوءُ الظنِّ بالمعبود (6) .
وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: «ذلِّلوا أخلاقَكم للمطالِب، وقودوها للمحامل، وعلِّموها المكارم، ولا تقيموا على خُلقٍ تذمَّونه من غيركم، وصِلوا من
(1) مضى تخريجه (ص 136) .
(2)
مضى تخريجه (ص 137) .
(3)
مضى تخريجه (ص 141) .
(4)
مضى تخريجه (ص 141) .
(5)
مضى تخريجه (ص 143) .
(6)
مضى تخريجه (ص 143) .
رغِب إليكم، وتحلّوا بالجود يُلبسكم المحبة، ولا تعتقدوا البخل فتستعجلوا الفقرَ» (1) .
ومنهم دنيء الأصل، رديء الطباع، واثق بما في يديْه، فهذا لا يُصلحُه المال، ولا يصلح عليه.
كما يُروى عن أنس وعمرَ وغيرهما من الصحابة -رضوان الله عليهم-، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله عز وجل: «إن من عِبادي من لا يَصلح إيمانُه إلا بالغنى، ولو أفقرتُه لأفسده ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يَصلح إيمانُه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك» (2)
…
الحديث.
على أنه يمكن الفرق بين المالين بخلاف هذا -أيضاً-، وذلك بأن يقال: لا يلزم من الكثرة التي دعا بها لأنسٍ وجود مال مدّخر، بل لعلها مالٌ يتجدّدُ له في كلِّ يوم من ربحٍ وغيرِه، وهو ينفده أوَّلاً فأوَّلاً، بخلاف التي دعا بها لغيره نفياً وإثباتاً.
أو يكون المدعو بها لأنس هي الكثرة من المواشي، وكذا من الزرع والغرس، الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه -كما في «صحيح مسلم» وغيرِه- من حديث جابرٍ وغيرِه:«ما من مسلمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو بهيمة أو شيء -وفي لفظٍ: «أو طائر» - إلا كان له به صدقةً» (3) .
وذلك كان أكثر أموال الأنصار، الذي قال رضي الله عنه وعنهم-: أنه من أكثرهم مالاً.
ويستأنس له بما ورد أنه كان له بستانٌ يحمل في السنة مرتين، وكان فيه رَيحان يجيء منه ريح المسك.
(1) مضى تخريجه (ص 145) .
(2)
مضى تخريجه (ص 147) .
(3)
مضى تخريجه (ص 163) .
وجاءه قيّمُه في أرضه فقال: يا أبا حمزة عطِشَت أرضك، فتردَّى -أي: لبس رداءَه- ثم خرج إلى البرية، ثم صلى ما قضى الله له، ثم دعا فثارت سحابة فجاءت وغشيَت أرضَه، ومطَرت حتى ملأت صهريزة له، وذلك في الصيف فأرسل بعض أهله، فقال: انظروا أين بلغت، فإذا هي لم تَعدُ أرضه (1) .
والمال الآخر، هو: النقد المدّخر وغيره، ثم إن من كره المال إنما كرهه للحساب عليه، وكون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يومٍ، وهو خمس مئةِ عامٍ (2)، ولكن كان سفيان الثوريُّ رحمه الله يقول: لأن أخلف عشرة آلاف درهمٍ يحاسبني اللهُ عليها أحبُّ إليَّ من أن أحتاجَ إلى الناس (3)، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم:«إنك إن تذرَ ورثتك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس» (4) .
وقال الثوريُّ مرةً لمن عاتبه في تقليب الدنانير: دعنا عنك فإنه لولا هذه لتمندلَ الناس بنا تمندلاً (5) .
بل جاء عنه أنه قال: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن (6) .
ونحوه قولُ ابن عيينةَ رحمه الله: من كان له مال فليُصْلحه، فإنكم في زمانٍ مَنْ احتاج فيه إلى الناس؛ فإنَّ أول ما يبذله دِينه (7) .
وكأنَّ السُفيانَين رحمهما الله أشارا إلى ما يُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان آخر الزمان لا بدَّ للناس فيها من الدراهم والدنانير، يُقيم الرجل فيها دينه
(1) مضى تخريجه (ص 164) .
(2)
مضى تخريجه (ص 24) .
(3)
مضى تخريجه (ص 169) .
(4)
مضى تخريجه (ص 169) .
(5)
مضى تخريجه (ص 170) .
(6)
مضى تخريجه (ص 170) .
(7)
مضى تخريجه (ص 171) .
ودنياه» (1) .
ونحوه: «يأتي على الناس زمانٌ من لم يكن معه أصفر ولا أحمر (2) لم يتهنَّ بالعيش» (3) .
«الدنانير والدراهم خواتيم الله في أرضه، من جاء بها قُضيت حاجته، ومن لم يجىء بها لم تُقضَ حاجته» (4) . إلى غير ذلك، مما ينتشر الكلامُ بسببه.
بل يُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما يخشى المؤمنُ الفقرَ؛ مخافةَ الآفات على دينه» (5) .
وكان سعيد بن المسيّب رحمه الله يقول: اللهمّ إنك تعلم أني لم أجمع المال إلا لأصون بها حسَبي وديني (6) .
وعن ابن أبي الزناد وقيل له: أتحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟! فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها (7) .
وقد جنح إمامنا الشافعي رضي الله عنه إلى تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر (8) ، فهذا ما فتح الله عز وجل به في الجمع بين هذين الحديثين.
وقد استروح الدّاودي المالكي (9) رحمه الله فقال في حديث الدعاء
(1) مضى تخريجه (ص 171) .
(2)
كذا بخط السخاوي، وفي مصادر التخريج:«ولا أبيض» ، وانظر تعليقنا (ص 172) .
(3)
مضى تخريجه (ص 172) .
(4)
مضى تخريجه (ص 173) .
(5)
مضى تخريجه (ص 173) .
(6)
مضى تخريجه (ص 174) .
(7)
مضى تخريجه (ص 174) .
(8)
فصَّلت الكلام على هذه المسألة على وجه حسن -إن شاء الله تعالى- في تعليقي على «السر المكتوم» انظره (ص 175 وما بعد) .
(9)
في كتابه «الأموال» (ص 176- ط. مركز إحياء التراث المغربي، أو ص 349-350- ط. =
لأنس: أنه يدل على بطلان الحديث الآخر، قال: وكيف يصحُّ ذلك وهو صلى الله عليه وسلم يحضُّ على النكاح والتماس الولد؟!
ولذلك تعقّب الداوديَّ شيخُنا (1) -رحمَهما الله- وقال: «إنه لا مُنافاةَ بينهما، يعني بين الحضِّ على النكاح والتماسِ الولد، وبين الدعاء بعدم حصُول الولد والمال معاً، لاحتمال أن يكون وردَ في حصول الأمرين معاً» .
قال: لكن يعكر عليه كراهيتُه لغير أنس ما دعا به له، ثم أجاب عنه بما أسلفتُه معزوّاً إليه.
فإن استُشكِل دعاؤه صلى الله عليه وسلم على من لم يؤمن به بكثرةِ المال والولد بمن يشاهَدُ من الكفار المُقلّين منهما معاً، والحالُ أن دعاءَه صلى الله عليه وسلم مجابٌ، أُمكِنَ أن يقال: لعلّه صلى الله عليه وسلم لم يقصد حقيقة الدعاء عليهم، إنما أراد منه تنفير من يحبهما معاً من محبيه على الوجه المذموم كما تقدم.
ونحوه القول في غالبِ من دعا عليهم صلى الله عليه وسلم من الكفار، ممن تخلّف دعاؤه فيهم، بأنه لم يُرِدْ بذلك إهلاكَهم، وإنما أراد ردعَهم؛ ليتوبوا.
وقد قيل في (عقرى) و (حلقى) أن ظاهره الدعاء لكنه غير مراد، وكذا قيل في (ويل أمه) و (لا أبا له) ، و (ترِبت يداه) ، و (قاتله الله) ونحو ذلك.
ويحتمل أن يقال: لعله أراد قوماً مخصوصين في زمنه صلى الله عليه وسلم أو يقال بالفرق بين من صدر منه الدعاء عليه بطريق التعيين، وبين من اندرج في العموم، لا سيما بعد نزول قولِه -تعالى-:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ، فقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على
= دار السلام) ، وانظر ما نقلناه عنه في هامش (ص 193) .
(1)
يريد: الحافظ ابن حجر، وكلامه في «فتح الباري» (11/138) .
أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده:«اللهم أنج الوليدَ بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن [أبي] (1) ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها [عليهم] سنين كسني يوسف» (2) يجهرُ بذلِك.
وكان يقول في بعض صلاتِه في صلاة الفجر: «اللهمّ العن فلاناً وفلاناً» لأحياء من العرب، حتى أنزل اللهُ عز وجل:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية (3) .
ويستأنس له بقول شيخِنا (4) رحمه الله في حديث: «أيّما مؤمن سببتُه أو جلدتُه، فاجعل ذلك كفارةً له يوم القيامة» (5) : «ما أظنه يشمل ما وقع منه بطريق التعميم لغير معيّن، حتى يتناول مَن لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم» . انتهى.
على أنه قد جاء في «صحيح مسلم» من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنَه صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يومٍ من العالية حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع ركعتين، وصلّينا معه، ودعا ربّه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال:«سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً، فسألتُ ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسَهم بينهم فمنعنيها» (6) .
(1) سقط من الأصل، وهو بخط المصنف، وأثبته من مصادر التخريج، وانظر التعليق على (ص 196) .
(2)
مضى تخريجه (ص 196) .
(3)
مضى تخريجه (ص 196) .
(4)
في «بذل الماعون» (ص 132 وما بعد) .
(5)
مضى تخريجه (ص 196) .
(6)
مضى تخريجه (ص 201) .
وفي الباب عن أنس (1) ، وثوبان (2) ، وخبّاب بن الأرتّ (3) ، وابن عباسٍ (4) ، ومعاذ بن جبل (5) ، وأبي بصرة الغفاري (6) رضي الله عنهم.
وبه تَعقَّب شيخُنا (7) رحمه الله قولَ بعض شرّاح «المصابيح» أن جميعَ دعوات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مستجابةٌ، وقال:«إن في قوله غفلة عن الحديث الصحيح، وهو «سألت اللهَ ثلاثاً» (8)
…
» وذكرَه.
ويُساعِد شيخَنا من أجاب مَنِ استشكل ظاهِر قولِه صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ» (9) بما وقع لكثيرٍ من الأنبياء من الدعوات المجابة، ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: إن المرادَ بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة.
وكذا مَنْ قال أن المراد بأنَّ لكلٍّ منهم دعوةً عامةً مستجابةً في أمته، إما بإهلاكهم وإما بنجاتهم، وأما الدعواتُ الخاصة فمنها ما يُستجاب، ومنها ما لا يُستجاب.
وبالجملة فالمقام خطِرٌ، وما قلتُه أوّلاً من الاحتمالات أنسب، وآخرها أحسنها، وليس المسؤول بأعلم من السائل، والله الموفق.
قاله وكتبه محمد السخاوي الشافعي غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، آمين.
*****
(1) وضع المصنف فوقه حرف (س) : إشارة إلى أنه عند النسائي. وسبق تخريجه (ص 202) .
(2)
وضع المصنف فوقه حرف (م) : إشارة إلى أنه عند مسلم. وسبق تخريجه (ص 203) .
(3)
وضع المصنف فوقه حرف (ت) : إشارة إلى أنه عند الترمذي. وسبق تخريجه (ص 202) .
(4)
وضع المصنف فوقه رمز (طب) : إشارة إلى أنه عند الطبراني في «الكبير» . وسبق تخريجه (ص204) .
(5)
وضع المصنف فوقه حرف (ق) : إشارة إلى أنه عند ابن ماجه. وسبق تخريجه (ص 202) .
(6)
أهمله المصنف، لم يضع عليه حرفاً أو رمزاً كالذي قبله! وسبق تخريجه (ص 202) .
(7)
في «بذل الماعون» (ص 132 وما بعد) .
(8)
وهو المتقدم قريباً.
(9)
مضى تخريجه (ص 205) .