الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة)
وَدخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ: فَسَار السُّلْطَان عَن عكا وَدخل دمشق أول صفر فورد عَلَيْهِ فِي ثَانِي عشره ضِيَاء الدّين عبد الْوَهَّاب بن سكينَة رَسُول الْخَلِيفَة النَّاصِر بِالْخطْبَةِ لِابْنِهِ ولي الْعَهْد عدَّة الدُّنْيَا وَالدّين أبي نصر مُحَمَّد فأقيمت لَهُ. وجهز الرَّسُول وَمَعَهُ ضِيَاء الدّين الْقَاسِم بن يحيى الشهرزوري وَبعث مَعَه بِهَدَايَا وتحف وأسارى من الفرنج للخليفة وَمَعَهُمْ تَاج ملك الفرنج والصليب الَّذِي كَانَ فَوق صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس وَأَشْيَاء كَثِيرَة. فَدفن الصَّلِيب تَحت عتبَة بَاب النوبى بِبَغْدَاد وديس عَلَيْهِ وَكَانَ من نُحَاس مَطْلِي بالنهب. وَخرج السُّلْطَان من دمشق فِي ثَالِث ربيع الأول ونازل شقيف أرنون وَهُوَ منزعج لانقضاء الْهُدْنَة مَعَ صَاحب أنطاكية ولاجتماع الفرنج بصور واتصال الأمداد بهم فَكَانَت للْمُسلمين مَعَ الفرنج فِي بِلَادهمْ الساحلية عدَّة وقائع قتل فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ عدَّة وَكثر الْقَتْل فِي الْمُسلمين واشتدت نكاية الفرنج فيهم فَرَحل السُّلْطَان إِلَى عكا وَقد سبقه الفرنج ونزلوا عَلَيْهَا. وَنزل السُّلْطَان بمرج عكا وَصَارَ محاصرا للفرنج والفرنج محاصرين للبلد. وتلاحقت بِهِ العساكر الإسلامية والأمداد تصل إِلَى الفرنج من الْبَحْر. فَلم يقدر السُّلْطَان على الْوُصُول إِلَى الْبَلَد وَلَا اسْتَطَاعَ أهل عكا أَن يصلوا إِلَى السُّلْطَان. وَشرع السُّلْطَان فِي قتال الفرنج من أول شعْبَان إِلَى أَن تمكن من عكا ودخلها فِي ثَانِيه فَمَا زَالَت الْحَرْب قَائِمَة إِلَى رَابِع رَمَضَان. فتحول إِلَى الخروبة وأغلق من فِي عكا من الْمُسلمين أَبْوَابهَا وحفر الفرنج خَنْدَقًا على معسكرهم حول عكا من الْبَحْر إِلَى الْبَحْر وأداروا حَولهمْ سورا مَسْتُورا بالستائر ورتبوا عَلَيْهِ الرِّجَال فَامْتنعَ وُصُول الْمُسلمين إِلَى عكا. وَقدم الْعَادِل بعسكر مصر فِي نصف شَوَّال وَقدم الأسطول من مصر إِلَى عكا فِي
خمسين قِطْعَة وَعَلِيهِ الْحَاجِب لُؤْلُؤ فِي منتصف ذِي الْقعدَة فبدد شَمل مراكب الفرنج وظفر ببطستين للفرنج. فاستظهر الْمُسلمُونَ الَّذين بعكا وَقَوي جأشهم بالأسطول وَكَانُوا نَحْو الْعشْرَة آلَاف. وَبعث السُّلْطَان إِلَى الْأَطْرَاف يحث النَّاس على الْجِهَاد وَأرْسل إِلَى أَخِيه سيف الْإِسْلَام طغتكين بِالْيمن يطْلب مِنْهُ الْإِعَانَة بِالْمَالِ وَإِلَى مظفر الدّين قر أرسلان صَاحب الْعَجم وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة. ووصلت الأمداد إِلَى الفرنج وَورد الْخَبَر من حلب بِخُرُوج ملك الألمان من الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي عدَّة عَظِيمَة تتجاور الْألف ألف يُرِيدُونَ الْبِلَاد الإسلامية فَاشْتَدَّ الْأَمر على السُّلْطَان وَمن مَعَه من الْمُسلمين. وَتُوفِّي فِي هَذِه السّنة حسام الدّين سنقر الخلاطي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سَابِع عشري رَجَب والأمير حسام الدّين طمان يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر شعْبَان والأمير عز الدّين موسك بن جكو فِي شعْبَان وَهُوَ ابْن خَال السُّلْطَان صَلَاح الدّين. وَمَات شرف الدّين أَبُو سعد عبد الله بن أبي عصرون بِدِمَشْق يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشر رَمَضَان ومولده أول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة. وَمَات ضِيَاء الدّين عِيسَى الهكاري يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع ذِي الْقعدَة بِمَنْزِلَة الخروبة.
سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَدخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَالسُّلْطَان بالخروبة على حِصَار الفرنج وقدمت عَسَاكِر الْمُسلمين من الشرق وَمن بَقِيَّة الْبِلَاد فَرَحل من الخروبة لِاثْنَتَيْ عشرَة بقيت من ربيع الأول إِلَى تل كيسَان وتتابع مَجِيء العساكر. وكملت أبراج الفرنج الثَّلَاثَة الَّتِي بنوها تجاه عكا فِي مُدَّة سَبْعَة أشهر حَتَّى علت على الْبَلَد وامتلأت بِالْعدَدِ وَالْعدة وطموا كثيرا من الخَنْدَق وضايقوا الْبَلَد. وَاشْتَدَّ خوف الْمُسلمين واشتدت الْحَرْب بَين الْفَرِيقَيْنِ حَتَّى احترقت الأبراج الثَّلَاثَة وَخرج أهل عكا مِنْهَا فنظفوا الخَنْدَق وسدوا الثغر وغنموا مَا كَانَ فِي الأبراج من الْحَدِيد فَتَقووْا بِهِ. وَكَانَ بَين أسطول المصريين وَبَين مراكب الفرنج عدَّة معارك فتل فِيهَا كثير من الفرنج. وَدخل ملك الألمان بجيوشه إِلَى حُدُود بِلَاد الْإِسْلَام وَقد فني مِنْهُم كثير فواقعهم الْملك عز الدّين قلج بن أرسلان السلجوقي فانكسر مِنْهُم فلحق بِهِ الفرنج إِلَى قونية وهاجموها وأحرقوا أسواقها وَسَارُوا إِلَى طرسوس يُرِيدُونَ بَيت الْمُقَدّس واسترجاع مَا أَخذ مِنْهُم السُّلْطَان من الْبِلَاد والحصون فَمَاتَ بهَا ملكهم. وَقَامَ من بعده ابْنه فَسَار إِلَى أنطاكية. وَندب السُّلْطَان كثيرا مِمَّن كَانَ مَعَه على حَرْب
عكا إِلَى جِهَة أنطاكية وَوَقع فِيمَن بَقِي مَعَه مرض كثير وَأمر بتخريب سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل فخرب ذَلِك وَنقل من كَانَ فِيهَا إِلَى بيروت وطمع الفرنج فِي السُّلْطَان لقلَّة من بَقِي مَعَه فَرَكبُوا لحربه ونهبوا وطاق الْملك الْعَادِل. وَكَانَت للْمُسلمين مَعَهم حَرْب انْكَسَرَ فِيهَا الفرنج إِلَى خيامهم وَقتل مِنْهُم آلَاف فوهت قواهم. غير أَن المدد أَتَاهُم ونصبوا المجانيق على عكا فتحول السُّلْطَان إِلَى الحزوبة فَوَافى كتاب ملك الرّوم بقسطنطينية يخبر بوصول الْمِنْبَر من عِنْد السُّلْطَان وَكَذَلِكَ الْخَطِيب والمؤذنين والقراء وَأَن الْخطْبَة أُقِيمَت وَسَار ابْن ملك الألمان عَن أنطاكية إِلَى طرابلس فِي جيوشه وَركب مِنْهَا الْبَحْر إِلَى عكا فوصل إِلَيْهَا سادس رَمَضَان فَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى أَن هلك ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة بَعْدَمَا حَارب الْمُسلمين فَلم ينل مِنْهُم كَبِير عرض. وَدخل الشتَاء وَقد طَالَتْ مُدَّة البيكار وضجرت العساكر من كَثْرَة الْقِتَال فَرَحل صَاحب سنجار وَصَاحب الجزيرة وَصَاحب الْموصل. وفيهَا تولى سيف الدولة أَبُو الميمون مبارك بن كَامِل بن منقذ شدّ الدَّوَاوِين بديار مصر وباشر الأسعد بن مماتي مَعَه الدِّيوَان فِي محرم.
سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَدخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ: فَسَار الظَّاهِر صَاحب حلب إِلَيْهَا وَسَار المظفر إِلَى حماة. وَبَقِي السُّلْطَان فِي جمع قَلِيل وَالْحَرب بَين أهل عكا وَأمرهمْ بهاء الدّين قراقوش وَبَين الفرنج. وَدخل فصل الرّبيع فوافت العساكر السُّلْطَان وَوصل إِلَى الفرنج مددهم فضايقوا عكا وجدوا فِي حصارها ونصبوا عَلَيْهَا المجانيق. وتوالت الحروب إِلَى أَن ملكهَا الفرنج يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة وأسروا من فِيهَا من الْمُسلمين وَكَانُوا ألوفا. وَخَرجُوا يُرِيدُونَ الْحَرْب فواقعهم السُّلْطَان وكسرهم وَوَقع كَلَامه فِي فَلَمَّا كَانَ فِي سَابِع عشري رَجَب برز الفرنج بخيامهم وأحضروا أُسَارَى الْمُسلمين وحملوا عَلَيْهِم حَملَة وَاحِدَة قتلوا فِيهَا بأجمعهم فِي سَبِيل الله صبرا واليزك الإسلامي ينظر إِلَيْهِم. فَحمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وَجَرت بَينهمَا حَرْب شَدِيدَة قتل فِيهَا عدَّة من الْفَرِيقَيْنِ. وَلما أهل شعْبَان: سَار الفرنج إِلَى عسقلان ورحل السُّلْطَان فِي أَثَرهم وواقعهم فِي رَابِع عشره بأرسوف فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ وَثَبت السُّلْطَان إِلَى أَن اجْتمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَعَاد إِلَى الْقِتَال حَتَّى التجأ الفرنج إِلَى جدران أرسوف. ورحل السُّلْطَان فِي تَاسِع عشره وَنزل على عسقلان يُرِيد تخريبها لعَجزه عَن حفظهَا فَفرق أبراجها على الْأُمَرَاء وو قع الضجيج والبكاء فِي النَّاس أسفا وغما لخرابها وَكَانَت من أحسن الْبِلَاد بِنَاء وأحكمها أسوارا وأطيبها سكنا فَلم يزل التخريب والحريق فِيهَا إِلَى سلخ شعْبَان. قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ فِي المعجم المترجم: سَمِعت الْأَمِير الْأَجَل أياز بن عبد الله يعْنى أَبَا الْمَنْصُور البانياسي الناصري يَقُول: لما هدمنا عسقلان أَعْطَيْت أَنا برج الداوية وَهدم خطلج برجا وجدنَا عَلَيْهِ مَكْتُوبًا عمر على يَدي خطلج وَهَذَا من الْكَاتِب قَالَ: رَأَيْت بعسقلان برج الدَّم وخطلج المعزى يهدمه يَعْنِي فِي شعْبَان.
وَرَأَيْت عَلَيْهِ مَكْتُوبًا: مِمَّا أَمر بعمارته السَّيِّد الْأَجَل أَمِير الجيوش يعْنى بَدْرًا الجمالي على يَد عَبده ووليه خطلج فِي شعْبَان فعجبت من هَذَا الِاتِّفَاق كَيفَ عمر فِي شعْبَان على يَد خطلج وَهدم فِي شعْبَان على يَد خطلج. ثمَّ رَحل السُّلْطَان عَن عسقلان وَقد خربَتْ فِي ثَانِي رَمَضَان وَنزل على الرملة فخرب حصنها وسم كَنِيسَة لد وَركب إِلَى الفدس جَرِيدَة ثمَّ عَاد وَهدم حصن النطرون. وَكَانَت بَين الْمُسلمين والفرنج عدَّة وقائع فِي الْبر وَالْبَحْر فَعَاد السُّلْطَان إِلَى الْقُدس فِي آخر ذِي الْقعدَة. وَقدم أَبُو الهيجاء السمين بعسكر مصر وَوَقع الاهتمام فِي عمَارَة سور بَيت الْمُقَدّس وحفر الخَنْدَق. وفيهَا مَاتَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر فِي آخر ذِي الْحجَّة. وَمَات الْملك المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أَيُّوب بن شادي صَاحب حماة وَهُوَ الَّذِي أوقف منَازِل الْمعز بِمصْر مدرسة فِي لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع رَمَضَان وَدفن بحماة. وَمَات نجم الدّين مُحَمَّد بن الْمُوفق بن سعيد بن عَليّ بن حسن بن عبد الله الخبوشاني الْفَقِيه الشَّافِعِي الصُّوفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشري ذِي الْقعدَة وَدفن بالقرافة.
وفيهَا سلم أَمر الأسطول بِمصْر للْملك الْعَادِل فاستخدم فِيهِ من قبله وأفرد برسمه الزَّكَاة بِمصْر وَالْحَبْس الجيوشي بالبرين والنطرون وَالْخَرَاج وَمَا مَعَه من ثمن الْقرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية وإشنين وطنبذة فاستناب الْعَادِل فِي مُبَاشرَة ذَلِك واستخدم فِي ديوَان الأسطول صفي الدّين عبد الله بن عَليّ بن شكر. وأحيل الْوَرَثَة الجيوشية على غير الْحَبْس الَّذِي لَهُم. وعظمت زِيَادَة النّيل وغرق النواحي وَكثر رخاء الأسعار بِمصْر فأبيع الْقَمْح كل مائَة أردب بِثَلَاثِينَ دِينَارا وَالْخبْز البائت سِتَّة أَرْطَال بِربع دِرْهَم وَالرّطب الْأُمَّهَات سِتَّة أَرْطَال بدرهم والموز سِتَّة أَرْطَال بدرهم وَالرُّمَّان الْجيد مائَة حَبَّة بدرهم وَحمل الْخِيَار بِدِرْهَمَيْنِ والتين ثَمَانِيَة أَرْطَال بدرهم وَالْعِنَب سِتَّة أَرْطَال بدرهم فِي شهر بَابه بعد انْقِضَاء موسمه الْمَعْهُود بشهرين والياسمين خَمْسَة أَرْطَال بدرهم وثمر الْحِنَّاء عشرَة أَرْطَال بدرهم والبسر الْجيد عشرَة أَرْطَال بدرهم وَمَا دونه خَمْسَة عشر رطلا بدرهم. وكثربمصر والقاهرة التجاهر بمعاصي الله وظفر الأسطول بمركب فِيهِ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ ألف جبنة كل جبنة قدر الرَّحَى لَا يقلها الراجل. وحصلت بِمصْر زَلْزَلَة وهبت سموم حارة فِيهَا إعصار ثَلَاثَة أَيَّام أتلفت الخضروات الَّتِي فضلت من الْغَرق. وانشقت زريبة جَامع المقس لقُوَّة الزِّيَادَة وَخيف على الْجَامِع أَن يسْقط، فَأمر بعمارتها.
فارغة
سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وأهلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ: وَالسُّلْطَان بالقدس مُجْتَهد فِي عِمَارَته. وَفِي ثَالِث الْمحرم: نزل الفرنج على ظَاهر عسقلان لقصد عمارتها فَمَا مكنوا وواقعهم جمَاعَة من الأَسدِية مِنْهُم يازكج وَغَيره وتوالت الوقائع بَينهم. وَفِي صفر: سَار الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بن السُّلْطَان إِلَى الْبِلَاد الشرقية على مَا كَانَ بيد الْملك المظفر تَقِيّ الدّين عمر من الْبِلَاد الَّتِي هِيَ قَاطع الْفُرَات وَأطلق لَهُ السُّلْطَان عشْرين ألف دِينَار سوى الْخلْع والتشريفات. ثمَّ نزل الْملك الْعَادِل أَبُو بكر عَن كل مَاله فِي الشَّام ماخلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء وَنصف خَاصَّة بديارمصر وَعوض الْبِلَاد الشرقية. وَسَار السُّلْطَان من الْقُدس فِي أَوَائِل جُمَادَى الأولى وَكتب بِعُود الْملك الْأَفْضَل فَعَاد منكسر الْقلب إِلَى السُّلْطَان. وَلحق الْعَادِل بحران والرها وَقرر أَمرهمَا ثمَّ عَاد إِلَى السُّلْطَان فِي أخر جُمَادَى الْآخِرَة. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة: ملك الفرنج قلعة الداروم وَخرج الْعَسْكَر الْمصْرِيّ يُرِيدُونَ السُّلْطَان فكبسهم الفرنج وَأخذُوا جَمِيع مَا مَعَهم وتبدد النَّاس فِي الْبَريَّة. وَأسر الفرنج مِنْهُم خَمْسمِائَة رجل وَأخذُوا نَحْو ثَلَاثَة آلَاف جمل وعادوا إِلَى خيمهم وَقد طمعوا فقصدوا الْمسير إِلَى الْقُدس ثمَّ اخْتلفُوا ونزلوا بالرملة وبعثوا رسلهم فِي طلب الصُّلْح فبرز السُّلْطَان من الْقُدس فِي عَاشر رَجَب وَسَار إِلَى يافا فحاصرها وَلم يزل يُقَاتل من فِيهَا من الفرنج إِلَى أَن أَخذ الْبَلَد عنْوَة وغنم النَّاس مِنْهَا شَيْئا عَظِيما. وتسلم السُّلْطَان القلعة وَأخرج من كَانَ فِيهَا من الفرنج فَقدم من الفرنج نجدة كَبِيرَة فِي خمسين مركبا فغدر أهل يافا بِجَمَاعَة من الْمُسلمين وَعَاد الْقِتَال والمراكب فِي الْبَحْر لم تصل إِلَى الْبر فسارع أهل المراكب إِلَى الْبر وحملوا على السُّلْطَان فَرَحل إِلَى يازور وَأمر بتخريبها وَسَار إِلَى الرملة وَمِنْهَا إِلَى الْقُدس وعزم على لِقَاء الفرنج فَاخْتلف عَلَيْهِ أَصْحَابه وأسمعه بَعضهم كلَاما جَافيا فانثنى عَن ذَلِك. وَقدم عَسْكَر مصر فَخرج إِلَى
الرملة وَوَقع الصُّلْح بَين السُّلْطَان والفرنج لثمان بَقينَ من شعْبَان. وعقدت هدنة عَامَّة فِي الْبر وَالْبَحْر مُدَّة ثَلَاث سِنِين وَثَلَاثَة أشهر أَولهَا حادي عشر شعْبَان وَهُوَ أول شهر أيلول على أَن يكون للفرنج من يافا إِلَى عكا إِلَى صور وطرابلس وأنطاكية. وَنُودِيَ فِي الوطاقات وأسواق الْعَسْكَر: أَلا إِن الصُّلْح قد انتظم فَمن شَاءَ من بِلَادهمْ يدْخل بِلَادنَا فَلْيفْعَل وَمن شَاءَ من بِلَادنَا يدْخل بِلَادهمْ فَلْيفْعَل. وَكَانَ يَوْم الصُّلْح يَوْمًا مشهودا عَم فِيهِ الطَّائِفَتَيْنِ الْفَرح وَالسُّرُور لما نالهم من طول الْحَرْب. فاختلط عَسْكَر الفرنج بعسكر الْمُسلمين ورحل جمَاعَة من الْمُسلمين إِلَى يافا للتِّجَارَة وَدخل خلق عَظِيم من الفرنج إِلَى الْقُدس بِسَبَب الزِّيَارَة فأكرمهم السُّلْطَان وَمد لَهُم الْأَطْعِمَة وباسطهم. ورحل مُلُوك الفرنج إِلَى نَاحيَة عكا ورحل السُّلْطَان إِلَى الْقُدس وَسَار مِنْهَا إِلَى دمشق ملقيه الْأَمر بهاء الدّين قراقوش وَقد تخلص من الْأسر على طبرية. وَدخل السُّلْطَان إِلَى دمشق لخمس بَقينَ من شَوَّال فَكَانَت غيبته عَنْهَا أَربع سِنِين. وَأذن للعساكر فِي التَّفَرُّق إِلَى بِلَادهمْ فَسَارُوا إِلَيْهَا وَبَقِي عِنْد السُّلْطَان ابْنه الْأَفْضَل عَليّ وَالْقَاضِي الْفَاضِل. وفيهَا انْتقل سعر الفول بديار مصر من خَمْسَة عشر دِينَارا إِلَى ثَلَاثِينَ دِينَارا الْمِائَة أردب بِحكم ان المُشْتَرِي لعلوفة الوسية العادلية خَمْسُونَ ألف أردب. وفيهَا عثر على رجل اسْمه عبد الْأَحَد من أَوْلَاد حسن ابْن الْخَلِيفَة الفاطمي الْحَافِظ لدين الله وأحضر إِلَى الْملك الْعَزِيز بِالْقَاهِرَةِ فَقيل لَهُ: أَنْت تَدعِي أَنَّك الْخَلِيفَة قَالَ: نعم. فَقيل لَهُ: أَيْن كنت فِي هَذِه الْمدَّة فَذكر أَن أمه أخرجته من الْقصر فتاه وَوصل إِلَى طنبذة فاختفى بهَا ثمَّ خرج إِلَى مصر فأواه رجل وَشرع يتحدث لَهُ فِي الْخلَافَة وَأَنه وَقع بعدة بِلَاد وأقطع أُنَاسًا مِمَّن بَايعه فسجن. وعثر على بعض أقَارِب الْوَزير شاور وَقد ثار بِالْقَاهِرَةِ فسجن وفيهَا انْعَقَد ارْتِفَاع الدِّيوَان الْخَاص السلطاني على ثَلَاثمِائَة ألف وَأَرْبَعَة وَخمسين ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعَة وَأَرْبَعين دِينَارا. وَمَات فِيهَا جمال الْملك مُوسَى بن الْمَأْمُون البطائحي جَامع السِّيرَة المأمونية وهوبقية بَيته فِي سادس عشر جُمَادَى الأولى بِالْقَاهِرَةِ. وفيهَا وَقع الشُّرُوع فِي حفر الخَنْدَق من بَاب الْفتُوح إِلَى المقس. وَكتب بِنَقْل جمَاعَة من أَتبَاع الدولة الفاطمية المحبوسين فِي الإيوان وَدَار المظفر لَيْلًا
بِحَيْثُ لَا يشْعر بهم أحد حَتَّى يوصلهم الْمُكَلف بذلك إِلَى صرخد. وفيهَا كتب بإخلاء مَدِينَة تنيس وَنقل أَهلهَا إِلَى دمياط وَقطع أَشجَار بساتين دمياط وَإِخْرَاج النِّسَاء مِنْهَا. فخلت تنيس إِلَّا من الْمُقَاتلَة وحفر خَنْدَق دمياط وَعمل جسر عِنْد سلسلة البرج بهَا. وفيهَا كثرت الأراجيف بِالْقَاهِرَةِ ومصر وعظمت الشناعات وَارْتَفَعت الأسعار. وفيهَا ورد الْخَبَر فِي كتاب من الْيمن بِأَن ثَلَاثَة أَنهَار بِالْحَبَشَةِ تَغَيَّرت بَعْدَمَا كَانَت عذبة فَصَارَ أَحدهَا أجاجا وَالْآخر لَبَنًا وَالْآخر دَمًا. وفيهَا مَاتَ قلج ارسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان صَاحب قونية وَقد تغلب عَلَيْهِ ابْنه قطب الدّين صَاحب سيواس وأقصرا وَزَاد فِي أَن حجر عَلَيْهِ. وَكَانَ مَوته فِي شعْبَان فولى تونية بعده ابْنه غياث الدّين كيخسرو بن قلج أرسلان وَبقيت أخوته على ولاياتهم من عهد أَبِيهِم فَاخْتَلَفُوا وثار عَلَيْهِ أَخُوهُ ركن الدّين سُلَيْمَان صَاحب ووقاط وَملك سيواس وأقصرا وقيسارية وَهِي أَعمال أَخِيه قطب الدّين ثمَّ ملك قونية من غياث الدّين ففر غياث الدّين وَنزل حلب.
فارغة
سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة أهلت: وَالسُّلْطَان بِدِمَشْق فَخرج الْعَادِل إِلَى الكرك وَقدم من الْيمن الْملك الْمعز إِسْمَاعِيل ابْن سيف الْإِسْلَام ظهير الدّين طغتكين فِي نصف صفر فسربه السُّلْطَان. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة السبت سادس عشره: نزل بالسلطان مرض فَأمر يَوْم السبت وَلَده الْفضل أَن يجلس على الطَّعَام فَجَلَسَ فِي مرضع السُّلْطَان. وتزايد بِهِ الْمَرَض إِلَى الْيَوْم الْحَادِي عشر من مَرضه فَحلف الْأَفْضَل النَّاس وَاسْتمرّ السُّلْطَان فِي تزايد من الْمَرَض إِلَى لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشري صفر وهى لَيْلَة الثَّانِي عشر من الْمَرَض فاحتضر وَمَات بعد صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَرْبَعَاء الْمَذْكُور. فَركب الْأَفْضَل وَدَار فِي الْأَسْوَاق وَطيب قُلُوب الْعَامَّة. وَكَانَ رحمه الله كثير التَّوَاضُع قَرِيبا من النَّاس كثير الِاحْتِمَال شَدِيد المداراة محبا للفقهاء وَأهل الدّين وَالْخَيْر محسنا إِلَيْهِم مائلا إِلَى الْفَضَائِل يستحسن الشّعْر الْجيد ويردده فِي مَجْلِسه. ومدحه كثير من الشُّعَرَاء وانتجعوه من الْبلدَانِ. وَكَانَ شَدِيد التَّمَسُّك بالشريعة سمع الحَدِيث من أبي الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن الْمُسلم بن بنت أبي سعد وَأبي مُحَمَّد بن بري النَّحْوِيّ وَأبي الْفَتْح مَحْمُود بن أَحْمد الصَّابُونِي وَأبي الطَّاهِر السلَفِي وَابْن عَوْف وَجَمَاعَة غَيرهم. وَكَانَ كَرِيمًا: أطلق من الْخَيل بمرج عكا لمن مَعَه اثْنَي عشر ألف رَأس سوى أَثمَان الْخَيل الَّتِي أُصِيبَت فِي الْجِهَاد. وَلم يكن لَهُ فرس يركبه إِلَّا وَهُوَ موهوب أَو مَوْعُود بِهِ وَصَاحبه ملازم فِي طلبه وَتَأَخر عَنهُ الْأَمِير أَيُّوب بن كنان فِي بعض سفراته لدين لزمَه فَتقبل لغرمائه بِاثْنَيْ عشر ألف دِينَار مصرية. وَكَانَ ورعا رأى يَوْمًا الْعِمَاد الْكَاتِب يكْتب من دَوَاة محلاة بِالْفِضَّةِ فأنكرها وَقَالَ هَذَا حرَام فَلم يعد يكْتب مِنْهَا عِنْده. وَكَانَ لَا يصلى إِلَّا فِي جمَاعَة وَله إِمَام راتب ملازم وَكَانَ يُصَلِّي قبيل الصُّبْح رَكْعَات إِذا اسْتَيْقَظَ وَكَانَ يُسَوِّي فِي المحاكمة بَين أكبر النَّاس وَبَين
خَصمه. وَكَانَ شجاعا فِي الحروب يمر فِي الصُّفُوف وَلَيْسَ مَعَه سوى صبي. وقرىء عَلَيْهِ جُزْء من الحَدِيث بَين الصفين وَهُوَ على ظهر فرسه وَكَانَ ذَاكِرًا لوقائع الْعَرَب وعجائب الدُّنْيَا ومجلسه طَاهِر من المعايب رحمه الله وَغفر لَهُ. وَلما مَاتَ جلس الْأَفْضَل للعزاء وَكثر بكاء النَّاس عَلَيْهِ. وغسله الْفَقِيه خطيب دمشق أخرج بعد صَلَاة الظّهْر وَصلى النَّاس عَلَيْهِ أَرْسَالًا وَدفن بداره الَّتِي مرض فِيهَا بالقلعة ثمَّ نقل فِي يَوْم عَاشُورَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة إِلَى تربة بنيت لَهُ بجوار جَامع بني أُميَّة. وَكتب بوفاته إِلَى الْعَزِيز بِمصْر وَإِلَى الْعَادِل بالكرك. وَكَانَ عمره يَوْم مَاتَ نَحوا من سبع وَخمسين سنة مِنْهَا مُدَّة ملكه بعد موت العاضد اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وَأَيَّام. وَترك من الْأَوْلَاد سَبْعَة عشر ذكرا وبنتا وَاحِدَة صَغِيرَة وَلم يخلف فِي خزائنه سوى سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما وَلم يتْرك دَارا وَلَا عقارا. وَكَانَ القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ البيساني صَاحب سره وبمنزلة الْوَزير مِنْهُ. وفيهَا قتل طغرل بن أرسلان بن طغرل بن السُّلْطَان مُحَمَّد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن جغري بك دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق فِي رَابِع عشري شهر ربيع الأول وَهُوَ أخر من ملك بِلَاد الْعَجم من السلاطين السلجوقية وَابْتِدَاء دولتهم فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وأولهم طغرلبك بن مِيكَائِيل بن سلجوق فَتكون مُدَّة دولتهم مائَة سنة وثمانيا وَخمسين سنة. السُّلْطَان الْملك الْعَزِيز عماد الدّين أَبُو الْفَتْح عُثْمَان ابْن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب ولد بِالْقَاهِرَةِ فِي ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَمَات أَبوهُ بِدِمَشْق وَهُوَ على سلطنة ديار مصر مُقيم بِالْقَاهِرَةِ وَعِنْده جلّ العساكر والأمراء من الأَسدِية والصلاحية والأكراد. فَلَمَّا بلغه موت أَبِيه جلس للعزاء وَأخذ بالحزم وَقرر أُمُور دولته وخلع على الْأُمَرَاء وأرباب الدولة يعد انْقِضَاء العزاء. فَقَامَ أَخُوهُ الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بِدِمَشْق وَكتب إِلَى الْخَلِيفَة النَّاصِر يطالعه بوفاة أَبِيه من إنْشَاء الْعِمَاد الْكَاتِب. وَبعث بذلك مَعَ القَاضِي ضِيَاء الدّين أبي الْفَضَائِل الْقَاسِم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري وَمَعَهُ عدد وَالِده وملابسه وخيله وهدية نفيسة. وَسَار الْعَادِل من الكرك إِلَى بِلَاد الْمشرق فَأَقَامَ بقلعة جعبر وَبعث نوابه إِلَى حران والرها واستوزر الْأَفْضَل الْوَزير
ضِيَاء الدّين نصر الله بن مُحَمَّد بن الأئير وفوض إِلَيْهِ أُمُوره كلهَا فَحسن لَهُ إبعاد أُمَرَاء أَبِيه وأكابر أَصْحَابه وَأَن يستجد أُمَرَاء غَيرهم ففارقه جمَاعَة مِنْهُم الْأَمر فَخر الدّين جهاركس وَفَارِس الدّين مَيْمُون القصري وشمس الدّين سنقر الْكَبِير وَكَانُوا عُظَمَاء الدولة فصاروا إِلَى الْملك الْعَزِيز بِالْقَاهِرَةِ فأكرمهم وَولى فَخر الدّين أستاداره وفوض إِلَيْهِ أمره وَجعل فَارس الدّين وشمس الدّين على صيداء وأعمالها وَكَانَ ذَلِك لَهما وزادهما نابلس وبلادها وَسَار القَاضِي الْفَاضِل أَيْضا من دمشق وَلحق بِالْقَاهِرَةِ فَخرج الْعَزِيز إِلَى لِقَائِه وَأجل قدومه وأكرمه فشرع الْقَوْم فِي تَقْرِير قَوَاعِد ملك الْعَزِيز وَالْأَفْضَل فِي شغل عَنْهُم وَكَانَت مَدِينَة الْقُدس مُضَافَة للأفضل فَكتب إِلَى أَخِيه الْعَزِيز يرغب عَنْهَا لَهُ. وَكَانَ ذَلِك من تَدْبِير وزيره ابْن الْأَثِير لِأَنَّهَا كَانَت تحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى أَمْوَال وَرِجَال لمدافعة الفرنج فسر الْعَزِيز بذلك وجهز عشرَة آلَاف دِينَار إِلَى عز الدّين جرديك النوري مُتَوَلِّي الْقُدس لينفقها فِي عَسْكَر الْقُدس فَخَطب لَهُ بِهِ. وخشي الْعَزِيز من نقض الهدنه بَينه وبن الفرنج فَبعث عسكرا إِلَى الْقُدس احْتِرَازًا من الفرنج. ثمَّ بدا للأفضل أَن يعود فِيمَا رغب عَنهُ لِأَخِيهِ من الْقُدس وَرجع عَن ذَلِك فَتغير الْعَزِيز من هَذَا وَأخذ الْأُمَرَاء فِي الإغراء بَينهمَا وحسنوا للعزيز الاستبداد بِالْملكِ وَالْقِيَام مقَام أَبِيه فَبلغ ذَلِك الْأَفْضَل.
فارغة