المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(وما النصر إلا من عند الله) - السلوك لمعرفة دول الملوك - جـ ١

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌ذكر مَا كَانَ عَلَيْهِ الكافة قبل قيام مِلَّة الْإِسْلَام اعْلَم أَن النَّاس كَانُوا بأجمعهم، قبل مبعث نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، مَا بَين عَرَبِيّ وعجمي، سبع أُمَم كبار هم: الصين وهم فِي جنوب مشرق الأَرْض، والهند وهم فِي وسط جنوب الأَرْض، والسودان وَلَهُم جنوب مغرب الأَرْض

- ‌فصل

- ‌ذكر القائمين بالملة الإسلامية من الْخُلَفَاء

- ‌ذكر دولة بني بويه الديلم

- ‌ذكر دولة السلجوقية

- ‌السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين

- ‌سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وخسمائة

- ‌(سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنه تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة تسعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين)

- ‌(سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة أَربع وسِتمِائَة)

- ‌(سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة)

- ‌(سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة)

- ‌(سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة)

- ‌(سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة)

- ‌(سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة)

- ‌(وَفِي سَابِع عشر ربيع الأول)

- ‌(سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة)

- ‌(سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة)

- ‌(وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون)

- ‌(سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة)

- ‌(وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله)

- ‌(تَابع سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة)

- ‌(ذكر من مَاتَ فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان)

- ‌(سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة)

- ‌(وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى)

- ‌(سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة)

- ‌(سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة)

- ‌(فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم وأسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون)

- ‌(تَابع سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة)

الفصل: ‌(وما النصر إلا من عند الله)

7 -

(وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله)

ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها نبشر الْمجْلس السَّامِي الجمالي بل نبشر الْمُسلمين كَافَّة بِمَا من الله بِهِ على الْمُسلمين من الظفر بعدو الدّين فَإِنَّهُ استفحل أمره واستحكم شَره ويئس الْعباد من الْبِلَاد والأهل وَالْأَوْلَاد فنودوا لَا تيأسوا من روح الله. وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل السّنة الْمُبَارَكَة تمم الله على الْإِسْلَام بركتها فتحنا الخزائن وبذلنا الْأَمْوَال وفرقنا السِّلَاح وجمعنا العربان والمطوعة وخلقاً لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله فَجَاءُوا من كل فج عميق وَمَكَان سحيق. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تركُوا خيامهم وَأَمْوَالهمْ وأثقالهم وقصدوا دمياط هاربين. وَمَا زَالَ السَّيْف يعْمل فِي أدبارهم عَامَّة اللَّيْل فيوحل بهم الخزي وَالْوَيْل. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا يَوْم الْأَرْبَعَاء قتلنَا مِنْهُم ثَلَاثِينَ ألفا غير من ألْقى نَفسه فِي اللجج وَأما الأسرى فَحدث عَن الْبَحْر وَلَا حرج. والتجأ الفرنسيس إِلَى الْمنية وَطلب الْأمان فأمناه وأخذناه وأكرمناه وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته وجلاله وعظمته وَذكر كلَاما طَويلا. وَبعث الْمُعظم مَعَ الْكتاب غفارة الْملك الفرنسيس فلبسها الْأَمِير جمال الدّين بن يغمور وَهِي أشكرلاط أَحْمَر بِفَرْوٍ سنجاب فِيهَا بكلة ذهب فَقَالَ الشَّيْخ نجم الدّين بن إِسْرَائِيل: إِن غفارة الفرنسيس الَّتِي جَاءَت جباء لسَيِّد الْأُمَرَاء كبياض القرطاس لوناً وَلَكِن صبغتها سُيُوفنَا بالدماء

ص: 456

وَقَالَ آخر: أسيد أَمْلَاك الزَّمن بأسرهم تنجزت من نصر الْإِلَه وَعوده وَأخذ الْملك الْمُعظم فِي أبعاد رجال الدولة فَأخْرج الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل من قلعة الْجَبَل إِلَى الشوبك واعتقله بهَا. وَأخرج الْملك السعيد فَخر الدّين حسن بن الْملك الْعَزِيز عُثْمَان بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب من مصر إِلَى دمشق فَلَمَّا وصل دمشق قبض عَلَيْهِ ابْن يغمور واعتقله. وَفِي يَوْم الْجُمُعَة لخمس من الْمحرم: ورد إِلَى الْقَاهِرَة كتاب السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير حسام الدّين أبي عَليّ نَائِب السلطنة بالقدوم عَلَيْهِ وَأقَام بدله فِي نِيَابَة السلطة بِالْقَاهِرَةِ الْأَمِير جمال الدّين أقوش النجيبي وَوصل الْأَمِير أَبُو عَليّ إِلَى المعسكر فَنزل بِهِ مطرح الْجَانِب بَعْدَمَا كَانَ عدَّة الْملك الصَّالح وعمدته وَبعث الْمُعظم إِلَى شجر الدّرّ يتهددها ويطالبها بِمَال أَبِيه وَمَا تَحت يَدهَا من الْجَوَاهِر فداخلها مِنْهُ خوف كثير لما بدا مِنْهُ الهوج والخفة وكاتبت المماليك البحرية بِمَا فعلته فِي حَقه من تمهيد الدولة وَضبط الْأُمُور حَتَّى حضر وتسلم المملكة وَمَا جازاها بِهِ من التهديد والمطالبة بِمَا لَيْسَ عِنْدهَا. فأنفوا لَهَا وحنقوا من أَفعَال السُّلْطَان. وَكَانَ السُّلْطَان الْمُعظم قد وعد الْفَارِس أقطاي لما أَتَاهُ فِي حصن كيفا بِأَن يؤمره فَلم يَفِ لَهُ بذلك فتنكر لَهُ أقطاي وكتم الشَّرّ فحرك كتاب شجر الدّرّ مِنْهُ سَاكِنا. وانضاف إِلَى هَذِه الْأُمُور أَن السُّلْطَان الْمُعظم أعرض عَن مماليك أَبِيه الَّذين كَانُوا عِنْده لمهماته واطرح الْأُمَرَاء والأكابر أهل الْحل وَالْعقد وَأبْعد غلْمَان أَبِيه واختص بجماعته الَّذين قدمُوا مَعَه وولاهم الْوَظَائِف السُّلْطَانِيَّة. وَقدم الأراذل: وَجعل الطواشي مَسْرُورا - هُوَ خادمه - أستادار السُّلْطَان وَأقَام صبيحاً - وَكَانَ عبدا حَبَشِيًّا فحلاً - أَمِير جاندار وأنعم عَلَيْهِ بأموال كَثِيرَة وإقطاعات جليلة وَأمر أَن يصاغ لَهُ عَصا من ذهب. وأساء السُّلْطَان إِلَى المماليك وتوعدهم وَصَارَ إِذا سكر فِي اللَّيْل جمع مَا بَين يَدَيْهِ من الشمع وَضرب رءوسها بِالسَّيْفِ حَتَّى تتقطع وَيَقُول: هَكَذَا أفعل بالبحرية وَيُسمى كل وَاحِد مِنْهُم باسمه. واحتجب أَكثر من أَبِيه مَعَ الانهماك على الْفساد بمماليك أَبِيه وَلم يَكُونُوا يألفون هَذَا الْفِعْل من أَبِيه وَكَذَلِكَ فعل بحظايا أَبِيه.

ص: 457

وَصَارَ مَعَ هَذَا جَمِيع الْحل وَالْعقد وَالْأَمر وَالنَّهْي لأَصْحَابه الَّذين قدمُوا مَعَه فنفرت قُلُوب البحرية مِنْهُ وَاتَّفَقُوا على قَتله وَمَا هُوَ إِلَّا أَن مد السماط بعد نُزُوله بفارسكور فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشري الْمحرم وَجلسَ السُّلْطَان على عَادَته تقدم إِلَيْهِ وَاحِد من البحرية - وَهُوَ بيبرس البندقداري الَّذِي صَار إِلَيْهِ ملك مصر - وضربه بِالسَّيْفِ: فَتَلقاهُ الْمُعظم بِيَدِهِ فَبَانَت أَصَابِعه والتجأ إِلَى البرج الْخشب الَّذِي نصب لَهُ بفارسكور وَهُوَ يَصِيح: من جرحني. قَالُوا: الحشيشة فَقَالَ: لَا وَالله إِلَّا البحرية! وَالله لَا أبقيت مِنْهُم بَقِيَّة واستدعى المزين ليداوي يَده. فَقَالَ البحرية بَعضهم لبَعض: تمموه وَإِلَّا أبادكم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ. ففر الْمُعظم إِلَى أَعلَى البرج وأغلق بَابه وَالدَّم يسيل من يَده فأضرموا النَّار فِي البرج ورموه بالنشاب فَألْقى نَفسه من البرج وَتعلق بأذيال الْفَارِس أقطاي واستجار بِهِ فَلم يجره وفر الْمُعظم هَارِبا إِلَى الْبَحْر وَهُوَ يَقُول: مَا أُرِيد ملكا دَعونِي أرجع إِلَى الْحصن يَا مُسلمين مَا فِيكُم من يصطعني ويجيرني هَذَا وَجَمِيع الْعَسْكَر واقفون فَلم يجبهُ أحد والنشاب يَأْخُذهُ من كل نَاحيَة. وسبحوا خَلفه فِي المَاء وقطعوه بِالسُّيُوفِ قطعا حَتَّى مَاتَ جريحاً حريقاً غريقاً وفر أَصْحَابه واختفوا. وَترك الْمُعظم على جَانب الْبَحْر ثَلَاثَة أَيَّام منتفخاً لَا يقدر أحد أَن يتجاسر على دَفنه إِلَى أَن شفع فِيهِ رَسُول الْخَلِيفَة فَحمل إِلَى ذَلِك الْجَانِب وَفِي فن فَكَانَت مُدَّة ملكه أحدا وَسبعين يَوْمًا. وَقيل مرّة لِأَبِيهِ فِي الْإِرْسَال إِلَيْهِ ليحضر من حصن كيفا إِلَى مصر فَأبى وألح عَلَيْهِ الْأَمِير حسام الدّين أَبُو عَليّ فِي طلب حُضُوره فَقَالَ: مَتى حضر إِلَى هُنَا قتلته. وَكَانَ الْمُبَاشر لقَتله أَرْبَعَة من مماليك أَبِيه وَكَانَ الْملك الصَّالح نجم الدّين لما أَرَادَ أَن يقتل أَخَاهُ الْعَادِل قَالَ الطواشي محسن: اذْهَبْ إِلَى أخي الْعَادِل فِي الْحَبْس وَخذ مَعَك من المماليك من يخنقه فَعرض محسن ذَلِك على جمَاعَة من المماليك وَكلهمْ يمْتَنع إِلَّا أَرْبَعَة مِنْهُم فَمضى بهم حَتَّى خنقوا الْعَادِل. فَقدر الله أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة هم الَّذين باشروا قتل ابْنه الْمُعظم أقبح قتلة. وَرُوِيَ فِي النّوم الْملك الصَّالح نجم الدّين بعد قتل ابْنه الْملك الْمُعظم تورانشاه وَهُوَ يَقُول: لم يراعوا فِيهِ إِلَّا لَا وَلَا من كَانَ قبله ستراهم عَن قريب لأَقل النَّاس أكله فَكَانَ مَا يَأْتِي ذكره من الْوَاقِعَة بَين المصريين والشاميين بَين الْمعز أيبك والناصر

ص: 458

صَلَاح الدّين يُوسُف بن عبد الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين يُوسُف وَهُوَ صَاحب حلب وَعدم فِيهَا عدَّة من الْأَعْيَان. وبقتل الْمُعظم انقرضت دولة بني أَيُّوب من أَرض مصر وَكَانَت مدتهم إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة وعدة مُلُوكهمْ ثَمَانِيَة كَمَا مر ذكرهم. فسبحان الْبَاقِي وَمَا سواهُ يَزُول. الملكة عصمَة الدّين أم خَلِيل شجر الدّرّ كَانَت تركية الْجِنْس وَقيل بل أرمنية اشْتَرَاهَا الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب وحطت عِنْده بِحَيْثُ كَانَ لَا يفارقها سفرا وَلَا حضرا. وَولدت مِنْهُ ابْنا اسْمه خَلِيل مَاتَ وَهُوَ صَغِير. وَهَذِه الْمَرْأَة شجر الدّرّ هِيَ أول من ملك مصر من مُلُوك التّرْك المماليك وَذَلِكَ أَنه لما قتل الْملك الْمُعظم غياث الدّين تورانشاه ابْن الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب كَمَا تقدم ذكره اجْتمع الْأُمَرَاء المماليك البحرية وأعيان الدولة وَأهل المشورة بالدهليز السلطاني وَاتَّفَقُوا على إِقَامَة شجر الدّرّ أم خَلِيل زَوْجَة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب فِي مملكة مصر وَأَن تكون العلامات السُّلْطَانِيَّة على التواقيع تبرز من قبلهَا وَأَن يكون مقدم الْعَسْكَر الْأَمِير عز الدّين أيبك الزكماني الصَّالِحِي أحد البحرية. وحلفوا على ذَلِك فِي عَاشر صفر وَخرج عز الدّين الرُّومِي من المعسكر إِلَى قلعة الْجَبَل وأنهى إِلَى شجر الدّرّ مَا جرى من الِاتِّفَاق فأعجبها وَصَارَت الْأُمُور كلهَا معقودة بهَا والتواقيع تبرز من قلعة الْجَبَل وعلامتها عَلَيْهَا وَالِدَة خَلِيل. وخطب لَهَا على مَنَابِر مصر والقاهرة وَنقش اسْمهَا على السِّكَّة ومثاله المستعصمة الصالحية ملكة الْمُسلمين وَالِدَة الْملك الْمَنْصُور خَلِيل أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ الخطباء يَقُولُونَ فِي الدُّعَاء: اللَّهُمَّ أَدَم سُلْطَان السّتْر الرفيع والحجاب المنيع ملكة الْمُسلمين وَالِدَة الْملك الْخَلِيل وَبَعْضهمْ يَقُول بعد الدُّعَاء للخليفة: واحفظ اللَّهُمَّ الْجُبَّة الصالحية ملكة الْمُسلمين عصمَة الدُّنْيَا وَالدّين أم خَلِيل المستعصمية صَاحِبَة الْملك الصَّالح.

ص: 459

وَلما حلف الْأُمَرَاء والأجناد واستقرت الْقَاعِدَة ندب الْأَمِير حسام الدّين - مُحَمَّد بن أبي عَليّ للْكَلَام مَعَ الْملك ريدافرنس فِي تَسْلِيم فِي دمياط فَجرى بَينه وَبَين الْملك مفاوضات ومحاورات ومراجعات آلت إِلَى أَن وَقع الِاتِّفَاق على تَسْلِيمهَا من الفرنج وَأَن يخلى عَنهُ ليذْهب إِلَى بِلَاده بَعْدَمَا يُؤَدِّي نصف مَا عَلَيْهِ من المَال الْمُقَرّر. فَبعث الْملك ريدافرذس إِلَى من بهَا من الفرنج يَأْمُرهُم بتسليمها فَأَبَوا وعاودهم مرَارًا إِلَى أَن دخل الْعلم الإسلامي إِلَيْهَا فِي يَوْم الْجُمُعَة لثلاث مضين من صفر وَرفع على السُّور وأعلن بِكَلِمَة الْإِسْلَام وَشَهَادَة الْحق. فَكَانَت مُدَّة اسْتِيلَاء الفرنج عَلَيْهَا أحد عشر شهرا وَتِسْعَة أَيَّام. وَأَفْرج عَن الْملك ريدافرنس بَعْدَمَا فدى نَفسه بأربعمائة ألف دِينَار وَأَفْرج عَن أَخِيه وَزَوجته وَمن بَقِي من أَصْحَابه وَسَائِر الأسرى الَّذين بِمصْر والقاهرة مِمَّن أسر فِي هَذِه الْوَاقِعَة وَمن أَيَّام الْعَادِل والكامل والصالح وَكَانَت عدتهمْ اثْنَي عشر ألف أَسِير وَمِائَة أَسِير وَعشر أُسَارَى وَسَارُوا إِلَى الْبر الغربي ثمَّ ركبُوا الْبَحْر فِي يَوْم السبت تاليه وأقلعوا إِلَى جِهَة عكا. فَقَالَ الصاحب جمال الدّين بن مطروح فِي ذَلِك: قل للفرنسيس إِذا جِئْته مقَال نصح من قؤول فصيح آجرك الله على مَا جرى من قتل عباد يسوع الْمَسِيح أتيت مصرا تبتغي ملكهَا تحسب أَن الزمر يَا طبل ريح فساقك الْحُسَيْن إِلَى أدهم ضَاقَ بِهِ عَن ناظرتك الفسيح وكل أَصْحَابك أودعتهم بِحسن تدبيرك بطن الصَّرِيح سَبْعُونَ ألفا لَا يرى مِنْهُم إِلَّا قَتِيل أَو أَسِير جريح إِن يكن الْبَاب بذا رَاضِيا فَرب غش قد أَتَى من نصيح فاتخذوه كَاهِنًا إِنَّه أنصح من شقّ لكم أَو سطيح وَقل لَهُم إِن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أَو لفعل قَبِيح دَار ابْن لُقْمَان على حَالهَا والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح وَاتفقَ أَن الفرنسيس هَذَا بعد خلاصه من أَيدي الْمُسلمين عزم على الْحَرَكَة إِلَى تونس من بِلَاد أفريقية لما كَانَ فِيهَا من المجاعة والموتان. وَأرْسل يستنفر مُلُوك النَّصَارَى وَبعث إِلَى البابة خَليفَة الْمَسِيح بزعمهم. فَكتب البابة إِلَى مُلُوك النَّصَارَى بِالْمَسِيرِ مَعَه وَأطلق يَده فِي أَمْوَال الْكَنَائِس يَأْخُذ مِنْهَا مَا شَاءَ. فَأَتَاهُ من الْمُلُوك

ص: 460

الإنكتار وَملك اسكوسنا وَملك ثورل وَملك برشلونة واسْمه ريداركون وَجَمَاعَة أخر من مُلُوك النَّصَارَى فاستعد لَهُ السُّلْطَان أَبُو عبد الله مُحَمَّد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه بن الْأَمِير أبي زَكَرِيَّا يحيى بن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن الشَّيْخ أبي حَفْص عمر ملك تونس وَبعث إِلَيْهِ رسله فِي طلب الصُّلْح وَمَعَهُمْ ثَمَانُون ألف دِينَار فَأَخذهَا الفرنسيس وَلم يصالحهم وَسَار إِلَى تونس آخر ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَنزل بساحل قرطاجنة فِي سِتَّة آلَاف فَارس وَثَلَاثِينَ ألف راجل. وَأقَام الفرنسيس

ص: 461

هُنَاكَ سِتَّة أشهر فقاتله الْمُسلمُونَ - لِلنِّصْفِ من محرم سنة تسع وَسِتِّينَ - قتالاً شَدِيدا قتل فِيهِ من الْفَرِيقَيْنِ عَالم عَظِيمَة وَكَاد الْمُسلمُونَ أَن يغلبوا فَأَتَاهُم الله بالفرج وَأصْبح ملك الفرنجة مَيتا فجرت أُمُور آلت إِلَى عقد الصُّلْح ومسير النَّصَارَى. وَمن الْغَرِيب أَن رجلا من أهل تونس اسْمه أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الزيات قَالَ: يَا فرنسيس هَذِه أُخْت مصر فتأهب لما إِلَيْهِ تصير لَك فِيهَا دَار ابْن لُقْمَان قبراً وطواشيك مُنكر وَنَكِير فَكَانَ هَذَا فألا عَلَيْهِ وَمَات وَكَانَ ريدافرنس هَذَا عَاقِلا داهياً خبيثاً مفكراً. وَلما استولى الْمُسلمُونَ على دمياط سَارَتْ البشائر إِلَى الْقَاهِرَة ومصر وَسَائِر الْأَعْمَال فَضربت البشائر وأعلن النَّاس بالسرور والفرح وعادت العساكر إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع صفر. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشره: خلعت شجر الدّرّ على الْأُمَرَاء وأرباب الدولة وأنفقت فيهم الْأَمْوَال وَفِي سَائِر الْعَسْكَر. وَوصل خبر قتل الْملك الْمُعظم وَإِقَامَة شجر الدّرّ فِي السلطنة إِلَى دمشق بمسير الْخَطِيب أصيل الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر الإسعردي لاستخلاف الْأُمَرَاء بهَا. وَكَانَ فِيهَا الْأَمِير جمال الدّين بن يغمور نَائِب السلطنة والأمراء القيمرية فَلم يُجِيبُوهُ وَأخذُوا فِي مغالظته. وَاسْتولى الْملك السعيد حسن بن الْعَزِيز عُثْمَان بن الْعَادِل أبي بكر ابْن أَيُّوب على مَال مَدِينَة غَزَّة وَصَارَ إِلَى قلعة الصبيبة فملكها. فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك إِلَى قلعة الْجَبَل فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث لَيْلَة خلت من صفر أحيط بداره من الْقَاهِرَة وَأخذ مَا كَانَ لَهُ بهَا. وثار الطواشي بدر الدّين لُؤْلُؤ الصوابي الصَّالِحِي - نَائِب الكرك والشوبك وَركب إِلَى الشوبك وَأخرج الْملك المغيث عمر بن الْعَادِل بن الْكَامِل الصَّغِير من الْحَبْس وَملكه الكرك والشوبك وأعمالها وَحلف لَهُ النَّاس وَقَامَ يدبر أمره لصِغَر سنه. وَكتب الْأُمَرَاء القيمرية من دمشق إِلَى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب صَاحب حلب يحذرونه بامتناعهم من الْحلف لشجر الدّرّ ويحثونه على الْمسير إِلَيْهِم حَتَّى يملك دمشق. فَخرج من حلب فِي عساكره مستهل شهر ربيع الآخر وَوصل إِلَى دمشق يَوْم السبت

ص: 462

ثامنه ونازلها إِلَى أَن كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ عاشره زحف عَلَيْهَا. فَفتح الْأُمَرَاء القيمرية لَهُ أَبْوَاب الْبَلَد وَكَانَ الْقَائِم بذلك من القيمرية الْأَمِير نَاصِر الدّين أَبُو الْمَعَالِي حُسَيْن بن عَزِيز بن أبي الفوارس القيمري الْكرْدِي. فَدَخلَهَا النَّاصِر صَلَاح الدّين هُوَ وَأَصْحَابه بِغَيْر قتال وخلع على الْأُمَرَاء القيمرية وَعلي الْأَمِير جمال الدّين بن يغمور وَقبض على عدَّة من الْأُمَرَاء المماليك الصالحية وسجنهم. وَملك النَّاصِر صَلَاح الدّين قلعة دمشق وَكَانَ بهَا مُجَاهِد الدّين إِبْرَاهِيم أَخُو زين الدّين أَمِير جندار مسلمها إِلَى النَّاصِر وَبهَا من المَال مائَة ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم سوى الأثاث. فَفرق النَّاصِر جَمِيع ذَلِك على الْمُلُوك والأمراء وَأعْطى شمس الدّين لُؤْلُؤ من خزائنه عشرَة آلَاف دِينَار وخلعة وفرساً وثلاثمائة ثوب فَرد شمس الدّين ذَلِك إِلَّا الخلعة وَالْفرس. وَكَانَ الْخَبَر قد ورد إِلَى قلعة الْجَبَل - فِي سادس ربيع الآخر - بِخُرُوج النَّاصِر من حلب فجمد الْأُمَرَاء والمماليك وَغَيرهم الْأَيْمَان لشجر الدّرّ ولعز الدّين أيبك بالتقدمة على العساكر ودارت النُّقَبَاء على الأجناد وَأمرُوهُمْ بِالسَّفرِ إِلَى الشَّام. وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء ثَانِي عشره رسم أَن يسير الْأَمِير أَبُو عَليّ بالعسكر. وَفِي رَابِع عشره ورد الْخَبَر بمنازلة النَّاصِر لدمشق فَوَقع الْحَث على خُرُوج الْعَسْكَر. وَفِي حادي عشريه ورد الْخَبَر بِأَن النَّاصِر ملك دمشق بِتَسْلِيم القيمرية الْبَلَد لَهُ فَقبض على عدَّة من أُمَرَاء مصر الَّذين لَيْسُوا من التّرْك وَوَقع اضْطِرَاب كثير فِي الْقَاهِرَة وَقبض على القَاضِي نجم الدّين ابْن قَاضِي نابلس وعدة مِمَّن يتهم بالميل إِلَى النَّاصِر وَتزَوج الْأَمِير عز الدّين أيبك بشجر الدّرّ فِي تَاسِع عشري شهر ربيع الآخر وخلعت شجر الدّرّ نَفسهَا من مملكة مصر وَنزلت لَهُ عَن الْملك فَكَانَت مُدَّة دولتها ثَمَانِينَ يَوْمًا. الْملك الْمعز عز الدّين أيبك كَانَ تركي الأَصْل وَالْجِنْس فانتقل إِلَى ملك السُّلْطَان الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب من بعض أَوْلَاد التركماني فَعرف بَين البحرية بأيبك التركماني وترقي عِنْده فِي الخدم حَتَّى صَار أحد الْأُمَرَاء الصالحية وَعَمله جاشنكيرا إِلَى أَن مَاتَ الْملك الصَّالح وَقتل بعده ابْنه الْملك الْمُعظم. فَصَارَ أيبك أتابك العساكر مَعَ شجر الدّرّ وَوصل الْخَبَر بذلك إِلَى بَغْدَاد فَبعث الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه من بَغْدَاد كتابا إِلَى مصر وَهُوَ يُنكر

ص: 463

على الْأُمَرَاء وَيَقُول لَهُم: إِن كَانَت الرِّجَال قد عدمت عنْدكُمْ فأعلمونا حَتَّى نسير إِلَيْكُم رجلا. وَاتفقَ وُرُود الْخَبَر باستيلاء الْملك النَّاصِر على دمشق فَاجْتمع الْأُمَرَاء والبحرية للمشور وَاتَّفَقُوا على إِقَامَة الْأَمِير عز الدّين أيبك مقدم الْعَسْكَر فِي السلطنة ولقوه بِالْملكِ المعزة وَكَانَ مَشْهُورا بَينهم بدين وكرم وجودة رَأْي. فأركبوه فِي يَوْم السبت آخر شهر ربيع الآخر وَحمل الْأُمَرَاء بَين يَدَيْهِ الفاشية نوباً وَاحِدًا بعد آخر إِلَى قلعة الْجَبَل وجلسوا مَعَه على السماط وَنُودِيَ بالزينة فزينت الْقَاهِرَة ومصر. فورد الْخَبَر فِي يَوْم الْأَحَد تاليه تَسْلِيم الْملك المغيث عمر الكرك والشوبك وبتسلم الْملك السعيد قلعة الصبيبة فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك تجمع الْأُمَرَاء وَقَالُوا: لابد من إِقَامَة شخص من بَيت الْملك مَعَ الْمعز أيبك ليجتمع الْكل على طَاعَته ويطيعه الْمُلُوك من أَهله. فاتفقوا على إِقَامَة الْملك شرف مظفر الدّين مُوسَى بن الْملك المسعود - وَيُقَال لَهُ النَّاصِر صَلَاح الدّين - يُوسُف بن الْملك المسعود يُوسُف - الْمَعْرُوف باسم القسيس - ابْن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَله من الْعُمر نَحْو سِتّ سِنِين شَرِيكا للْملك الْمعز أيبك وَأَن يقوم الْملك الْمعز بتدير الدولة. فأقاموه سُلْطَانا فِي ثَالِث جُمَادَى الأولى وَجلسَ على السماط وَحصر الْأُمَرَاء فِي خدمه يَوْم الْخَمِيس خَامِس جُمَادَى الأولي. فَكَانَت المراسيم والمناشير تخرج عَن الْملكَيْنِ الْأَشْرَف والمعز إِلَّا أَن الْأَشْرَف لَيْسَ لَهُ سوى الِاسْم فِي الشّركَة لَا غير ذَلِك وَجَمِيع الْأُمُور بيد الْمعز أيبك. وَكَانَ بغزة جمَاعَة من الْعَسْكَر عَلَيْهِم الْأَمِير ركن الدّين خَاص ترك فَرَجَعُوا إِلَى الصالحية وَاتَّفَقُوا مَعَ عدَّة من الْأُمَرَاء على إِقَامَة الْملك المغيث عمر بن الْعَادِل الصَّغِير صَاحب الكرك وخطوا لَهُ بالصالحية يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة. فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك نُودي فِي الْقَاهِرَة ومصر أَن الْبِلَاد للخليفة المستعصم بِاللَّه العباسي وَأَن الْملك الْمعز عز الدّين أيبك نَائِبه بهَا وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد سادسه. وَوَقع الْحَث فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ على خُرُوج العساكر وجددت الْأَيْمَان للْملك الْأَشْرَف مُوسَى وَالْملك الْمعز أيبك وَأَن يبرز اسهما على التواقيع والمراسيم وينقش اسهما على

ص: 464

السِّكَّة ويخطب لَهما على المنابر وأقيم شرف الدّين أَبُو سعيد هبة الله بن ساعد الفائزي المنعوت بالأسعد فِي وتسحب من الصالحية الطواشيان شهَاب الدّين رشيد الْكَبِير وشهاب الدّين الصَّغِير وركن الدّين خَاص ترك وأقش المشرف فَقبض على الطواشي شهَاب الدّين رشيد الصَّغِير وأحضر إِلَى الْقَاهِرَة فاعتقل بهَا وَنَجَا الْبَاقُونَ. وسارت الْخلْع لمن بَقِي بالصالحية وعفي عَنْهُم وأمنوا وَأرْسل إِلَيْهِم بِنَفَقَة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس عاشره: ركب الْملكَانِ الْأَشْرَف والمعز بالصناجق السُّلْطَانِيَّة وشقا الْقَاهِرَة والمعز يحجب الْأَشْرَف والأمراء تتناوب فِي حمل الغاشية وَاحِدًا بعد وَاحِد. وقدمت عَسَاكِر الْملك النَّاصِر إِلَى غَزَّة فَخرج الْأَمِير فَارس الدّين أقطاي الجمدار - وَكَانَت إِلَيْهِ تقدمة المماليك البحرية - من الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْخَمِيس خَامِس شهر رَجَب بألفي فَارس وَسَار إِلَى غَزَّة وَقَاتل أَصْحَاب النَّاصِر وَهَزَمَهُمْ. وَفِي يَوْم الْخَمِيس لخمس بَقينَ من رَجَب: اتّفق أهل الدولة على نقل تَابُوت الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب من قلعة جَزِيرَة الرَّوْضَة إِلَى تربته الَّتِي بنيت لَهُ بجوار مدارسه الصالحية من بَين القصرين. فَخرج النَّاس يَوْم الْجُمُعَة إِلَى قلعة الرَّوْضَة وحملوا السُّلْطَان مِنْهَا وصلوا عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْجُمُعَة وَجَمِيع الْعَسْكَر قد لبسوا الْبيَاض وَقطع المماليك شُعُورهمْ وأقيم عزاؤه وَدفن لَيْلًا. وَنزل الْملكَانِ الْأَشْرَف والمعز من قلعة الْجَبَل إِلَى التربة الصالحية فِي يَوْم السبت ومعهما سَائِر المماليك البحرية والجمدارية والأمراء وَالْقَضَاء والأعياد. وغلقت الْأَسْوَاق بِالْقَاهِرَةِ ومصر وأقيم المأتم بِالدُّفُوفِ بَين القصرين وَاسْتمرّ الْحُضُور للعزاء إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ. وَجعل عِنْد الْقَبْر سناجق السُّلْطَان وبقجه وقوسه وتركاشه وترتبت الْقُرَّاء يقرءُون عِنْد قَبره. وَفِي هَذِه السّنة: عزل بدر الدّين أَبُو المحاسن يُوسُف بن الْحسن السنجاري عَن قَضَاء الْقَاهِرَة وَولي بعده عماد الدّين أَبُو الْقَاسِم بن المقنشع بن القطب الْحَمَوِيّ. فَلَمَّا مَاتَ أفضل الدّين الخونجي ولي ابْن القطب الْحَمَوِيّ بعده قَضَاء مصر. ثمَّ ولي صدر الدّين موهوب الْجَزرِي قَضَاء مصر عِنْد انْتِقَال ابْن القطب إِلَى قَضَاء الْقَاهِرَة.

ص: 465

وَفِي آخر شهر رَجَب: أُعِيد الْبَدْر السنجاري إِلَى قَضَاء الْقَاهِرَة وَابْن القطب إِلَى قَضَاء مصر. ثمَّ جمع قَضَاء مصر والقاهرة للسنجاري وَصرف ابْن القطب عَن مصر. وَعَاد الْفَارِس أقطاي من غَزَّة إِلَى الْقَاهِرَة فِي رَابِع شعْبَان. وَفِي خامسه قبض على الْأَمِير زين الدّين أَمِير جاندار الصَّالِحِي وعَلى القَاضِي صدر الدّين قَاضِي آمد - وَكَانَ من كبراء الدولة الصالحية واعتقلا. ولاثنتي عشرَة بقيت من شعْبَان: وَقع الْهدم فِي مَدِينَة دمياط بِاتِّفَاق أهل الدولة على ذَلِك وَخرج الحجارون والصناع والفعلة من الْقَاهِرَة فأزيلت أسوارها ومحيت آثارها وَلم يبْق مِنْهَا سوى الْجَامِع. وَسكن طَائِفَة من ضعفاء النَّاس فِي أخصاص على شاطئ النّيل من قبليها وسموها المنشية وَهُوَ مَوضِع دمياط الْآن. وَلست بَقينَ قبض على الْأَمِير جمال الدّين النجيبي واعتقل وَبعده بِيَوْم قبض على أقش العجمي. وَأخذ الْملك النَّاصِر صَاحب الشَّام فِي الْحَرَكَة لأخذ مصر بتحريض الْأَمِير شمس الدّين لُؤْلُؤ الأميني لَهُ على ذَلِك. وَخرج النَّاصِر من دمشق بعساكره يَوْم الْأَحَد النّصْف من شهر رَمَضَان وَمَعَهُ الْملك الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَالْملك الْأَشْرَف مُوسَى بن الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم بن شيركوه وَالْملك الْمُعظم تورانشاه بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين الْكَبِير وَأَخُوهُ نصْرَة الدّين الظَّاهِر شادي بن النَّاصِر دَاوُد وَأَخُوهُ الْملك الأمجد حسن وَالْملك الأمجد تَقِيّ الدّين عَبَّاس بن الْعَادِل وَعَمه مُلُوك. فَلَمَّا ورد الْخَبَر بذلك اضْطَرَبَتْ الدولة ورسم بِجمع العربان من الصَّعِيد وَقبض على جمَاعَة من الْأُمَرَاء اتهموا بالميل مَعَ الْملك النَّاصِر فِي ثَانِي شَوَّال عِنْدَمَا ورد الْخَبَر بوصوله إِلَى غَزَّة. وَفِي غده كثر الإرجاف وَوَقع التهيؤ للحرب وأحضرت الْخُيُول من الرّبيع.

ص: 466

وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ ثامنه: برز الْأَمِير حسام الدّين أَبُو عَليّ من الْقَاهِرَة وَكَانَ الْوَقْت شتاء. وَفِي تاسعه برز الْأَمِير فَارس الدّين أقطاي الجمدار - مقدم البحرية - فِي جُمْهُور الْعَسْكَر من التّرْك. وَفِي يَوْم السبت ثَالِث عشره: استناب الْملك الْمعز أيبك بديار مصر الْأَمِير عَلَاء الدّين البندقدار فواظب الْجُلُوس بالمدارس الصالحية مَعَ نواب دَار الْعدْل لترتيب الْأُمُور وكشف الْمَظَالِم وَنُودِيَ يَوْم السبت الْعشْرين مِنْهُ بِإِبْطَال الْخُمُور والجهة المفردة. وَفِيه كثر الإرجاف بوصول النَّاصِر الداروم. وَفِي تَاسِع عشريه: خلع الْملك الْمعز على الْملك الْمَنْصُور مَحْمُود وعَلى أَخِيه الْملك السعيد عبد الْملك وَلَدي الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل عماد الدّين - وَكَانَا فِي حبس الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب - وأركبهما فِي الْقَاهِرَة ليوهم النَّاس أَن الْملك الصَّالح أباهما مباطن لَهُ على الْملك النَّاصِر حَتَّى يَقع بَينهمَا. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء أول ذِي الْقعدَة: نُودي بِالْقَاهِرَةِ أَن الصُّلْح انتظم بَين الْملك الْمعز والبحرية وَبَين الْملك المغيث عمر بن الْعَادِل صَاحب الكرك وَلم يكن لما نُودي بِهِ حَقِيقَة وَإِنَّمَا قصد بذلك أَن يقف الْملك النَّاصِر عَن الْحَرَكَة. وَفِي يَوْم الْخَمِيس ثالثه: نزل الْملك الْمعز من قلعة الْجَبَل فِيمَن بَقِي عِنْده من العساكر وَسَار إِلَى الصالحية وَبهَا العساكر الَّتِي خرجت قبله وَترك بقلعة الْجَبَل الْملك الْأَشْرَف مُوسَى فاستقرت عَسَاكِر مصر بالصالحية إِلَى يَوْم الِاثْنَيْنِ سابعه فوصل الْملك النَّاصِر بعساكره إِلَى كرَاع - وَهِي قريبَة من العباسية فتقارب مَا بَين العسكرين وَكَانَ فِي ظن كل أحد أَن النُّصْرَة إِنَّمَا تكون للْملك النَّاصِر على البحرية لِكَثْرَة عساكره ولميل أَكثر عَسْكَر مصر إِلَيْهِ. فاتفق أَنه كَانَ مَعَ النَّاصِر جمع غير من ممالك أَبِيه الْملك الْعَزِيز وهم أتراك يميلون إِلَى البحرية لعِلَّة الجنسية ولكراهتهم فِي الْأَمِير شمس الدّين لُؤْلُؤ مدير المملكة. فعندما نزل النَّاصِر بِمَنْزِلَة الكراع قَرِيبا من الخشبي بالرمل رَحل الْمعز أيبك بعساكر مصر من الصالحية وَنزل اتجاهه بسموط إِلَى يَوْم الْخَمِيس عاشره. فَركب

ص: 467

الْملك النَّاصِر فِي العساكر ورتب ميمنة وميسرة وَقَلْبًا وَركب الْمعز ورتب أَيْضا عساكره. وَكَانَت الْوَقْعَة فِي السَّاعَة الرَّابِعَة فاتفق فِيهَا أَمر عَجِيب قل مَا اتّفق مثله فَإِن الكرة كَانَت أَولا على عَسَاكِر مصر ثمَّ صَارَت على الشاميين: وَذَلِكَ أَن ميمنة عَسْكَر الشَّام حملت هِيَ والميسرة على من بازائها حَملَة شَدِيدَة فَانْكَسَرت ميسرَة المصريين وولوا منهزمين وزحف أبطال الشاميين وَرَاءَهُمْ وَمَا لَهُم علم بِمَا جرى خَلفهم. وانكسرت ميمنة أهل الشَّام وَثَبت كل من القلبين واقتتلوا. وَمر المنهزمون من عَسْكَر مصر إِلَى بِلَاد الصَّعِيد وَقد نهبت أثقالهم. وعندما مروا على الْقَاهِرَة خطب بهَا للْملك النَّاصِر وخطب لَهُ بقلعة الْجَبَل ومصر وَبَات الْأَمِير جمال الدّين بن يغمور بالعباسية وأحمي الْحمام للْملك النَّاصِر وجهز لَهُ الْإِقَامَة. هَذَا والناصر على منزلَة كرَاع لَيْسَ عِنْده خبر وَإِنَّمَا هُوَ وَاقِف بسناجقه وخزائنه وَأَصْحَابه. وَأما ميمنة أهل الشَّام فَإِنَّهَا لما كسرت قتل مِنْهُم عَسْكَر مصر خلقا كثيرا فِي الرمل وأسروا أَكثر مِمَّا قتلوا. وَتعين الظفر للناصر وَهُوَ ثَابت فِي الْقلب واتجاهه الْمعز أيبك أَيْضا فِي الْقلب فخاف أُمَرَاء النَّاصِر مِنْهُ أَن لمجنيهم إِذا تمّ لَهُ الْأَمر وخامروا عَلَيْهِ وفروا بأطلابهم إِلَى الْملك الْمعز وهم الْأَمِير جمال الدّين أيدغدي العزيزي والأمير جمال الدّين أقوش الحامي والأمير بدر الدّين بكتوت الظَّاهِرِيّ والأمير سُلَيْمَان العزيزي وَجَمَاعَة غَيرهم. فخارت قوى النَّاصِر من ذهَاب الْمَذْكُورين إِلَى الْملك الْمعز فَحمل الْمعز بِمن مَعَه على سناجق النَّاصِر ظنا مِنْهُ أَن النَّاصِر تحتهَا. وَكَانَ النَّاصِر - لما فَارقه الْأُمَرَاء إِلَى عِنْد الْمعز - قد خرج من تَحت السناجق فِي شردمة قَليلَة فخاب مَا أمله الْمعز أيبك وَعَاد إِلَى مركزه خائباً وَقد قوى الشاميون بذلك وتبعوه يقتلُون مِنْهُ وينهبون. وسر الْأُمَرَاء القيمرية بذلك وقصدوا الحملة على الْمعز ليأخذوه فوجدوا أَصْحَابهم قد تفَرقُوا فِي طلب الْكسْب والنهب. فَحمل الْمعز عَلَيْهِم وثبتوا لَهُ ثمَّ انحاز إِلَى جَانب يُرِيد الْفِرَار إِلَى جِهَة الشوبك. ووقف النَّاصِر فِي جمع من العزيزية وَغَيرهم تَحت سناجقه وَقد اطْمَأَن فَخرج عَلَيْهِم الْمعز - وَمَعَهُ الْفَارِس أقطاي - فِي ثَلَاثمِائَة من البحرية وَقرب مِنْهُ فخامر عدَّة مِمَّن كَانَ مَعَ النَّاصِر عَلَيْهِ ومالوا مَعَ الْمعز والبحرية فولى النَّاصِر فَارًّا يُرِيد الشَّام فِي خاصته وغلمانه. وَاسْتولى وسَاق الْمعز يُرِيد الأطلاب فَوَقع بِطَلَب الْأَمِير شمس الدّين لُؤْلُؤ والأمير حسام الدّين القيمري والأمير ضِيَاء الدّين القيمري وتاج الْمُلُوك بن الْمُعظم والأمير شمس

ص: 468

الدّين الْحميدِي والأمير بدر الدّين الزرزاري وَجَمَاعَة غَيرهم. فبدد الْملك الْمعز كلهم وَأسر الْمُعظم تورانشاه بن صَلَاح الدّين وأخاه نصْرَة الدّين مُحَمَّد وَالْملك الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل وَالْملك الْأَشْرَف صَاحب حمص وَالْملك الزَّاهِر والأمير شهَاب الدّين القيمري والأمير حسام الدّين طرنطاي العزيزي والأمير ضِيَاء الدّين القيمري والأمير شمس الدّين لُؤْلُؤ مُدبر المملكة الحلبية وأعيان الحلبيين وخلقاً كثيرا وَقتل الْأَمِير شمس الدّين الْحميدِي والأمير بدر الدّين الزرزاري وَجَمَاعَة غَيرهم. وَكَانَ الْأَمِير حسام الدّين أَبُو عَليّ الهذباني على ميسرَة عَسْكَر المصرين فَلَمَّا وَقعت الكسرة على الميسرة تفرق عَنهُ أَصْحَابه وتقنطر عَن فرسه وَكَاد يُؤْخَذ لَوْلَا أَنه وقف مَعَه من أركبه فلحق بالمعز أيبك فَأمر الْملك بِضَرْب عنق الْأَمِير شمس الدّين لُؤْلُؤ فَأَخَذته السيوف حَتَّى قطع وَضربت عنق الْأَمِير ضِيَاء الدّين القيمري وَأتي بِالْملكِ الصَّالح إِسْمَاعِيل وَهُوَ رَاكب فَسلم عَلَيْهِ الْملك الْمعز وَأَوْقفهُ إِلَى جَانِبه وَقَالَ للأمير حسام الدّين أبي عَليّ: مَا تسلم على الْمولى الصَّالح فَدَنَا مِنْهُ الْأَمِير حسام الدّين وعانقه وَسلم عَلَيْهِ. وجرح الْملك الْمُعظم وَابْنه تَاج الْمُلُوك وَضرب وتمزق أهل الشَّام كل ممزق وَمَشوا فِي الرمل أَيَّامًا وَصَارَ الْملك النَّاصِر وَمَعَهُ نَوْفَل الزبيدِيّ وَعلي السَّعْدِيّ إِلَى دمشق. وَأما الْعَسْكَر الشَّامي الَّذِي كسر ميسرَة المصريين فَإِنَّهُ وصل إِلَى العباسية وَنزل بهَا وَضرب الدهليز الناصري هُنَاكَ وَفِيهِمْ الْأَمِير جمال الدّين بن يغمور نَائِب السلطنة بِدِمَشْق وعدة من أُمَرَاء النَّاصِر وهم لَا يَشكونَ أَن أَمر المصريين قد بَطل وَزَالَ وَأَن الْملك النَّاصِر مقدم عَلَيْهِم ليسيروا فِي خدمته إِلَى الْقَاهِرَة. فَبينا هم كَذَلِك إِذْ وصل إِلَيْهِم الْخَبَر بهروب الْملك النَّاصِر وَقتل الْأُمَرَاء وَأسر الْمُلُوك وَغَيرهم. فهم طَائِفَة مِنْهُم أَن يَسِيرُوا إِلَى الْقَاهِرَة ويستولوا عَلَيْهَا وَمِنْهُم من رأى الرُّجُوع إِلَى الشَّام ثمَّ اتَّفقُوا على الرُّجُوع. وَأما من انهزم من عَسْكَر مصر أَولا فَإِنَّهُم وصلوا إِلَى الْقَاهِرَة فِي يَوْم الْجُمُعَة حادي عشره غَد يَوْم الْوَقْعَة فَمَا شكّ فِي أَن الْأَمر تمّ للْملك النَّاصِر وَأَن أَمر البحرية قد زَالَ. وَكَانَ بقلعة الْجَبَل الْأَمِير نَاصِر إِسْمَاعِيل بن يغمور أستادار الْملك الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل فِي جب وَهُوَ أَمِين الدولة أَبُو الْحسن بن غزال - المتطبب الْمَعْرُوف بالسامري وَزِير الصَّالح الْمَذْكُور والأمير سيف الدّين القيمري وَجَمَاعَة غَيرهم

ص: 469