المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(سنة تسع وخمسين وستمائة) - السلوك لمعرفة دول الملوك - جـ ١

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌فصل

- ‌ذكر مَا كَانَ عَلَيْهِ الكافة قبل قيام مِلَّة الْإِسْلَام اعْلَم أَن النَّاس كَانُوا بأجمعهم، قبل مبعث نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، مَا بَين عَرَبِيّ وعجمي، سبع أُمَم كبار هم: الصين وهم فِي جنوب مشرق الأَرْض، والهند وهم فِي وسط جنوب الأَرْض، والسودان وَلَهُم جنوب مغرب الأَرْض

- ‌فصل

- ‌ذكر القائمين بالملة الإسلامية من الْخُلَفَاء

- ‌ذكر دولة بني بويه الديلم

- ‌ذكر دولة السلجوقية

- ‌السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين

- ‌سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وخسمائة

- ‌(سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنه تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة تسعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين)

- ‌(سنة سِتّ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة)

- ‌(سنة أَربع وسِتمِائَة)

- ‌(سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة)

- ‌(سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة)

- ‌(سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة)

- ‌(سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة)

- ‌(سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة)

- ‌(وَفِي سَابِع عشر ربيع الأول)

- ‌(سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة)

- ‌(سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة)

- ‌(وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون)

- ‌(سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة)

- ‌(وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله)

- ‌(تَابع سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة)

- ‌(ذكر من مَاتَ فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان)

- ‌(سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة)

- ‌(وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى وَأَن سَعْيه سَوف يرى ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى)

- ‌(سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة)

- ‌(سنة سِتِّينَ وسِتمِائَة)

- ‌(فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم وأسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون)

- ‌(تَابع سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة)

الفصل: ‌(سنة تسع وخمسين وستمائة)

(سنة تسع وَخمسين وسِتمِائَة)

فِيهَا عظم الفأر فِي أَرض حوران أَيَّام البيادر حَتَّى أكل مُعظم الغلال فَيُقَال إِنَّه أكل ثَلَاثمِائَة ألف غرارة قَمح. وفيهَا اجْتمع من التتار سِتَّة آلَاف فَارس وَقَامُوا بحمص. فبرز إِلَيْهِم الْملك الْأَشْرَف مُوسَى شيركوه صَاحب حمص وَالْملك الْمَنْصُور صَاحب حماة وَاجْتمعَ إِلَيْهِمَا قدر ألف وَأَرْبَعمِائَة فَارس. وَقدم زامل بن عَليّ أَمِير الْعَرَب فِي عدَّة من العربان وواقعوا التتر يَوْم الْجُمُعَة خَامِس الْمحرم على الرستن فأفنوهم قتلا وأسراً ووردت الْبشَارَة إِلَى مصر بذلك. وَكَانَت التتار فِي سِتَّة آلَاف والمسلمون ألف وَأَرْبَعمِائَة وحملت رُءُوس الْقَتْلَى إِلَى دمشق وفيهَا اشْتَدَّ الغلاء بِدِمَشْق. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع صفر: ركب الْملك الظَّاهِر بيبرس من قلعة الْجَبَل بشعار السلطنة إِلَى خَارج الْقَاهِرَة وَدخل من بَاب النَّصْر فترجل الْأُمَرَاء وَمَشوا بَين يَدَيْهِ إِلَى بَاب زويلة ثمَّ ركبُوا إِلَى القلعة وَقد زينت الْقَاهِرَة وَنَثَرت الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم على السُّلْطَان وخلع على الْأُمَرَاء والمقدمن وَسَائِر أَرْبَاب الدولة وَكَانَ هَذَا أول ركُوبه وَمن حِينَئِذٍ تَابع الرّكُوب إِلَى اللّعب بالأكرة. وَكتب وفيهَا بعث السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس الْأَمِير جمال الدّين المحمدي إِلَى دمشق وَمَعَهُ مائَة ألف دِرْهَم وحوائص وخلع بألفي دِينَار عينا ليستميل النَّاس على الْمُجَاهِد سنجر.

ص: 525

فَقدم دمشق ثَالِث صفر وَعمل مَا أَمر بِهِ فَأَجَابَهُ الْأُمَرَاء القيمرية وَخَرجُوا عَن دمشق: وَمَعَهُمْ الْأَمِير عَلَاء الدّين إيدكين البندقدار الصَّالِحِي والأمير بهاء الدّين بغدي الأشرفي والأمير قراسنقر الوزيري وعدة من الْأُمَرَاء. وَنَادَوْا باسم الْملك الظَّاهِر بيبرس فارتجت دمشق. وَبعث الْمُجَاهِد سنجر إِلَيْهِم بعسكر فَانْهَزَمَ فَخرج بِنَفسِهِ وَحمل بِأَصْحَابِهِ فَفرُّوا عَنهُ ثمَّ عَادوا عَلَيْهِ فَخرج وَقتل عدَّة من جماعته والتجأ هُوَ إِلَى القلعة فَامْتنعَ بهَا يَوْم السبت حادي عشر صفر. فَدخل الْأَمِير أيدكين البندقدار - أستاذ الْملك الظَّاهِر - إِلَى الْمَدِينَة وملكها وَحلف النَّاس للْملك الظَّاهِر وَقَامَ بأمرها. وَخَافَ الْمُجَاهِد على نَفسه ففر من قلعة دمشق إِلَى بعلبك فَأرْسل إِلَيْهِ الْأَمِير إيدكين وأحضره محتفظاً بِهِ. فَلَمَّا بلغ الْملك الظَّاهِر بيبرس ذَلِك قرر الْأَمِير عَلَاء الدّين طيبرس الْحَاج الوزيري فِي القلعة وَجعل إِلَيْهِ التحدث فِي الْأَمْوَال واستدعى الْأَمِير سنجر الْحلَبِي وَأقَام إيدكين مُدَّة شهر فِي نِيَابَة دمشق ثمَّ صرفه عَنْهَا بالأمير طيبرس الوزيري وَسَار الْأَمِير سنجر مَعَ الْأَمِير بدر الدّين ابْن رحال وأحضر فِي سادس عشر صفر وَهُوَ مُقَيّد إِلَى مصر. فندب الْملك الظَّاهِر إِلَى لِقَائِه الْأَمِير بيسري وَأدْخلهُ لَيْلًا من بَاب القرافة على خُفْيَة واعتقله وفيهَا جهز الْملك الظَّاهِر بيبرس الْأَمْوَال والأصناف صُحْبَة الْأَمِير علم الدّين اليغمري لعمارة الْحرم النَّبَوِيّ بِالْمَدِينَةِ وَبعث الصناع والآلات لعمارة قبَّة الصَّخْرَة بالقدس وَكَانَت هوت. وَأخرج مَا كَانَ فِي اقطاعات الْأُمَرَاء من أوقاف الْخَلِيل عليه السلام ووقف عَلَيْهِ قَرْيَة تعرف باذنا. ورسم للأمير جمال الدّين بن يغمور بعمارة مَا تهدم من قلعة الرَّوْضَة فرم مَا فسد مِنْهَا ورتب بهَا الجندارية وَأعَاد لَهَا حرمتهَا وَفرق أبراجها على الْأُمَرَاء: وهم الْأَمِير قلاوون والأمير عز الدّين الْحلِيّ والأمير عز الدّين أوغان والأمير بيسري وَغَيرهم - لكل أَمِير مِنْهُم برج وَأمرهمْ أَن تكون اصطبلاتهم وَبُيُوتهمْ فِيهَا وسلمهم مَفَاتِيح القلعة. وَأمر بعمارة القناطر بجسر شبرامنت من الجيزية لِكَثْرَة مَا كَانَ يشرق من الْأَرَاضِي فِي كل سنة فانتفعت الْبِلَاد بِهَذِهِ القناطر. وَأمر بعمارة أسوار الْإسْكَنْدَريَّة ورتب لذَلِك جملَة من المَال فِي كل شهر. وَبنى بثغر رشيد مرقباً لكشف الْبَحْر. وَأمر بردم فَم بَحر دمياط فَخرج جمَاعَة الحجارين وألقوا فِيهِ القرابيص حَتَّى تمْتَنع السفن الْكِبَار من دُخُوله وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى الْيَوْم.

ص: 526

وَأمر السُّلْطَان بِإِخْرَاج الْأَمِير سيف الدّين الرَّشِيدِيّ إِلَى بَحر أشموم فَتوجه إِلَيْهِ وأحضر الْوُلَاة وحفر هَذَا الْبَحْر وأزال مِنْهُ مَا تربى بِهِ من الأطيان وغرق عدَّة مراكب حَتَّى رد إِلَيْهِ المَاء. وَأمر بعمارة مَا خربه التتر من قلاع الشَّام: وَهِي قلعة دمشق وقلعة الضلت وقلعة عجلون وقلعة صرخد وقلعة بصرى وقلعة شيزر وقلعة الصبيبة وقلعة شميميش وقلعة حمص. فعمرت كلهَا ونظفت خنادقها ووسعت أبراجها وشحنت بِالْعدَدِ وجرد إِلَيْهَا المماليك والأجناد وخزنت بهَا الغلات والأزواد وحملت كَثِيرَة إِلَى دمشق وَفرقت فِي الْبِلَاد لتصير تقاوي الفلاحين. ورتب السُّلْطَان بِدِمَشْق بِعدْل وَبنى مشهداً فِي عين جالوت عرف بمشهد النَّصْر. ورتب السُّلْطَان الْبَرِيد فِي سَائِر الطرقات حَتَّى صَار الْخَبَر يصل من قلعة الْجَبَل إِلَى دمشق فِي أَرْبَعَة أَيَّام وَيعود فِي مثلهَا. فَصَارَت أَخْبَار الممالك ترد إِلَيْهِ فِي كل جُمُعَة مرَّتَيْنِ ويتحكم فِي سَائِر المماليك من الْعَزْل وَهُوَ مُقيم بقلعة الْجَبَل وَأنْفق فِي ذَلِك مَالا عَظِيما حَتَّى تمّ ترتيبه. وَنظر فِي أَمر الشواني الحربية وَكَانَ قد أهمل أَمر الأسطول بِمصْر وَأخذ الْأُمَرَاء رِجَاله واستعملوهم فِي الحراريق وَغَيرهَا فأعادهم إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَيَّام الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب. وَأَنْشَأَ عدَّة شواني بثغري دمياط والإسكندرية وَنزل بِنَفسِهِ إِلَى دَار الصِّنَاعَة ورتب مَا يجب ترتيبه وتكامل عِنْده ببر مصر مَا ينيف على أَرْبَعِينَ قِطْعَة وعدة كَثِيرَة من الحراريق والطرائد وَنَحْوهَا. فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم حضر إِلَيْهِ رجل من أجناد الْأَمِير الصّقليّ وَأخْبرهُ أَن أستاذه فرق مَالا على جمَاعَة من المعزية وَقرر مَعَهم قتل السُّلْطَان: مِنْهُم الْأَمِير علم الدّين الغتمي والأمير بهادر المعزي والأمير شُجَاع الدّين بكتوت فَقبض على الْجَمِيع فِي ثامن ربيع الأول. وفيهَا قبض على الصاحب زين الدّين يَعْقُوب بن الزبير وعوق فِي قاعة الوزارة فشفع فِيهِ الْأَمِير سيف الدّين أنس فَخلع فِي يَوْمه. وَلم يقم سوى أَيَّام وَقبض السُّلْطَان على الْأَمِير أنس فَقبض على الصاحب زين الدّين بن الزبير فِي صَبِيحَة مسكه. ثمَّ طلب قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب ليلى الوزارة فَأبى وَأقَام الْأَمِير فَارس

ص: 527

الدّين أقطاي يراوده زَمَانا وَهُوَ لَا يقبل ثمَّ نزل إِلَى دَاره فَطلب السُّلْطَان بهاء الدّين على سديد الدّين مُحَمَّد بن سليم بن حنا فولى الوزارة وفوض إِلَيْهِ تَدْبِير المملكة وَأُمُور الدولة بأسرها وخلع عَلَيْهِ. فَركب مَعَه جَمِيع الْأَعْيَان والأكابر وعدة من الْأُمَرَاء مِنْهُم سيف الدّين بلبان الرُّومِي الدوادار. وَورد الْخَبَر عَن عكا أَن سبع جزائر من جزائر الفرنج فِي الْبَحْر خسف بهَا وبأهلها بَعْدَمَا نزل عَلَيْهِم دم عشرَة أَيَّام فَهَلَك بهَا خلق كثير وَصَارَ أهل عكا فِي خوف واستغفار وبكاء. وجهز السُّلْطَان الْأَمِير بدر الدّين بيليك الأيدمري فِي جمَاعَة وَلم يعرف مقْصده فِي ذَلِك أحد مِمَّن جرده وَلَا غَيرهم فَسَارُوا إِلَى الشوبك وتسلموها من نواب الْملك المغيث فتح الدّين عمر فِي سادس عشري ربيع الآخر وَاسْتقر فِي نيابتها الْأَمِير سيف الدّين بلبان المختصي واستخدم فِيهَا النُّقَبَاء والجنادرة وأفرد بخاص القلعة مَا كَانَ فِي الْأَيَّام الصالحية. وَفِيه قبض على الْأَمِير بهاء الدّين بغدي وَحبس بقلعة الْجَبَل حَتَّى مَاتَ. وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء عَاشر جُمَادَى الأولى: فوض قَضَاء الْقُضَاة بديار مصر للْقَاضِي تَاج الدّين عبد الْوَهَّاب بن القَاضِي الْأَعَز خلف الْمَعْرُوف بِابْن بنت الْأَعَز عوضا عَن بدر الدّين السنجاري بعد عدَّة شُرُوط اشترطها على السُّلْطَان أغْلظ فِيهَا. وَقصد القَاضِي تَاج الدّين بِكَثْرَة الشُّرُوط أَن يُعْفَى من ولَايَة الْقَضَاء فَأجَاب السُّلْطَان إِلَى قبُول مَا اشْترط عَلَيْهِ رَغْبَة فِيهِ وثقة بِهِ وَصلى بالسلطان صَلَاة الظّهْر وَحكم بعد ذَلِك. وَقبض السُّلْطَان على الْبَحْر السنجاري وعوقه عشرَة أَيَّام ثمَّ أفرج عَنهُ. وفيهَا سَار الْأَمِير أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن الْخَلِيفَة الظَّاهِر أبي نصر مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله أَحْمد بن المستضيئ بِاللَّه العباسي - الَّذِي يُقَال لَهُ الزراتيقي لقب لقبه بِهِ

ص: 528

الْعَامَّة - مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب بني مهتا يُرِيد دمشق. وَكَانَ قد فر من بَغْدَاد لما قتل هولاكو الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه وَنزل عِنْد عرب الْعرَاق فِي هَذِه الْمدَّة ثمَّ أَرَادَ أَن يلْحق بِالْملكِ الظَّاهِر بيبرس بِمصْر. فوردت مُكَاتبَة الْأَمِير عَلَاء الدّين أيدكين البندقدار والأمير عَلَاء الدّين طيبرس الوزيري نَائِب دمشق: بِأَنَّهُ ورد إِلَى الغوطة رجل ادّعى أَنه أَبُو الْقَاسِم أَحْمد الأسمر بن الإِمَام الظَّاهِر بن الإِمَام النَّاصِر وَهُوَ عَم المستعصم وأخو الْمُسْتَنْصر وَمَعَهُ جمَاعَة من عرب خفاجة فِي قريب الْخمسين فَارِسًا وَأَن الْأَمِير سيف الدّين قلج الْبَغْدَادِيّ عرف أُمَرَاء الْعَرَب الْمَذْكُورين وَقَالَ: بهؤلاء يحصل الْمَقْصُود. فَكتب السُّلْطَان إِلَى النواب بِالْقيامِ فِي خدمته وتعظيم حرمته وَأَن يسير مَعَه حجاب من دمشق فَسَار من دمشق بأوفر حُرْمَة إِلَى جِهَة مصر. فَخرج السُّلْطَان من قلعة الْجَبَل يَوْم الْخَمِيس تَاسِع شهر رَجَب إِلَى لِقَائِه وَمَعَهُ الْوَزير الصاحب بهاء الدّين بن حنا وقاضي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز وَسَائِر الْأُمَرَاء وَجَمِيع الْعَسْكَر وَجُمْهُور أَعْيَان الْقَاهِرَة ومصر ومعظم النَّاس من الشُّهُود والمؤذنين. وَخرجت الْيَهُود بِالتَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى بالإنجيل. فَسَار السُّلْطَان بِهِ إِلَى بَاب النَّصْر وَدخل إِلَى الْقَاهِرَة وَقد لبس الشعار العباسي وَخرج النَّاس إِلَى رويته وَكَانَ من أعظم أَيَّام الْقَاهِرَة. وشق القصبة إِلَى بَاب زويلة وَصعد قلعة الْجَبَل وَهُوَ رَاكب فَأنْزل فِي مَكَان جليل قد هيئ لَهُ بهَا وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامه وَإِقَامَة ناموسه. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَالِث عشره: حضر قَاضِي الْقُضَاة ونواب الحكم وعلماء الْبَلَد وفقهاؤها وأكابر الْمَشَايِخ وأعيان الصُّوفِيَّة والأمراء ومقدمو العساكر والتجار ووجوه النَّاس وَحضر أَيْضا الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فمثلوا كلهم بِحَضْرَة الْأَمِير أَحْمد وَجلسَ السُّلْطَان متأدباً بِغَيْر كرْسِي وَلَا طراحة وَلَا مُسْند. وَشهد العربان وخادم من البغاددي بِأَن الْأَمِير أَحْمد هُوَ ابْن الإِمَام الظَّاهِر أَمِير الْمُؤمنِينَ بن الإِمَام النَّاصِر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَشهد بالاستفاضة القَاضِي جمال الدّين يحيى بن عبد الْمُنعم بن حسن الْمَعْرُوف بالجمال يحيى نَائِب الحكم بِمصْر والفقيه علم الدّين مُحَمَّد بن الْحُسَيْن ابْن عِيسَى بن عبد الله بن رَشِيق وَالْقَاضِي صدر الدّين موهوب الْجَزرِي ونجيب الدّين الْحَرَّانِي وسديد الدّين عُثْمَان بن عبد الْكَرِيم بن أَحْمد بن خَليفَة وَأَبُو عَمْرو بن أبي

ص: 529

مُحَمَّد الصنهاجي التزمنتي أَنه أَحْمد بن الإِمَام الظَّاهِر بن الإِمَام النَّاصِر. فَقبل قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين شَهَادَات الْقَوْم وأسجل على نَفسه بالثبوت وَهُوَ قَائِم على قَدَمَيْهِ فِي ذَلِك المحفل الْعَظِيم حَتَّى ضم الإسجال وَالْحكم. فَلَمَّا تمّ ذَلِك كَانَ أول من بَايعه القَاضِي تَاج الدّين ثمَّ بعده قَامَ السُّلْطَان وَبَايع أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبَا الْقَاسِم أَحْمد بن الإِمَام الظَّاهِر على الْعَمَل بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعَلى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله وَأخذ أَمْوَال الله بِحَقِّهَا وصرفها فِي مستحقها. ثمَّ بَايعه بعد السُّلْطَان الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام ثمَّ الْأُمَرَاء وكبار الدولة. فَلَمَّا تمت الْبيعَة قلد الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر الْبِلَاد الإسلامية وَمَا ينضاف إِلَيْهَا وَمَا سيفتحه الله على يَدَيْهِ من بِلَاد الْكفَّار ثمَّ قَامَ النَّاس فَبَايعُوا الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه على اخْتِلَاف طبقاتهم. وَكتب فِي الْوَقْت إِلَى الْمُلُوك والنواب بِسَائِر الممالك أَن يَأْخُذُوا الْبيعَة على من قبلهم للخليفة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي الْقَاسِم أَحْمد بن الإِمَام الظَّاهِر وَأَن يدعى لَهُ على المنابر ثمَّ يدعى للسُّلْطَان بعده وَأَن تنقش السِّكَّة باسمهما. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشرَة: خطب الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه فِي جَامع القلعة فَاسْتَفْتَحَ بِقِرَاءَة صدر سُورَة الْأَنْعَام ثمَّ صلي على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وترضى عَن الصَّحَابَة وَذكر شرف بني الْعَبَّاس ودعا للْملك الظَّاهِر وَقضي الْخطْبَة فَاسْتحْسن النَّاس ذَلِك مِنْهُ واهتم السُّلْطَان بأَمْره ونثر عَلَيْهِ جملا مستكثرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة. فَلَمَّا شرع فِي الخطة تلكأ فِيهَا ثمَّ نزل بعد تَمامهَا وَصلى بِالنَّاسِ الْجُمُعَة. وَكَانَ منصب الْخلَافَة شاغراً ثَلَاث سِنِين وَنصف سنة مُنْذُ قتل الْخَلِيفَة المستعصم فِي صفر سنة سِتّ وَخمسين فَكَانَ الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه هُوَ الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ من خلفاء بني الْعَبَّاس وَبَينه وَبَين الْعَبَّاس أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَبَا. وَكَانَ أسمر اللَّوْن وسيماً شَدِيد القوى عالي الهمة لَهُ شجاعة وإقدام. وَاتفقَ لَهُ مَا لم يتَّفق لغيره وَهُوَ أَنه لقب بالمستنصر لقب أَخِيه باني الْمدرسَة المستنصرية بِبَغْدَاد وَلم يَقع لغيره أَن الْخَلِيفَة لقب بلقب أَخِيه سواهُ. فِي يَوْم الْأَحَد تَاسِع عشره: ركب الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان من قلعة الْجَبَل إِلَى مَدِينَة مصر وركبا فِي الحراريق وسارا فِي النّيل إِلَى قلعة الجزيرة وجلسا فِيهَا وأحضرت الشواني الحربية فلعبت فِي النّيل على هَيْئَة محاربتها الْعَدو فِي الْبَحْر ثمَّ ركبا إِلَى الْبر وَسَار إِلَى قلعة الْجَبَل وَقد خرج النَّاس لمشاهدتهما فَكَانَ من الْأَيَّام المشهودة.

ص: 530

وَفِيه قلد السُّلْطَان الْأَمِير علم الدّين سنجر الْحلَبِي - الَّذِي ثار قبلا بِدِمَشْق - نِيَابَة حلب وجهز مَعَه أُمَرَاء لكل مِنْهُم وَظِيفَة وهم: الْأَمِير شرف الدّين قيران الفخري استادار والأمير بدر الدّين جماق أَمِير جاندار والأمير عَلَاء الدّين أيدكين الشهابي شاد الدَّوَاوِين. وَسَار الْأَمِير علم الدّين من الْقَاهِرَة كَمَا تُسَافِر الْمُلُوك فَدخل حلب فِي ثَالِث شعْبَان فَحَضَرَ إِلَيْهِ جمَاعَة من العزيزية والناصرية وسألوا الْأمان كَانَت العزيزية والناصرية قد اخْتلفُوا وَخَرجُوا إِلَى السَّاحِل فأقطعهم السُّلْطَان إقطاعات وأحضر مِنْهُم عدَّة إِلَى مصر. وَفِي يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع شعْبَان: ركب السُّلْطَان إِلَى خيمة ضربت لَهُ فِي الْبُسْتَان الْكَبِير خَارج الْقَاهِرَة وَمَعَهُ أهل الدولة. وحملت الْخلْع صُحْبَة الْأَمِير مظهر الدّين وشاح الخفاجي وخادم الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه. فَدخل السُّلْطَان إِلَى خيمة أُخْرَى. وأفيضت عَلَيْهِ الْخلْع الخليفتية وَخرج بهَا وَهِي: عِمَامَة سَوْدَاء مذهبَة مزركشة ودراعة بنفسجية اللَّوْن وطوق ذهب وَقيد من ذهب عمل فِي رجلَيْهِ وعدة سيوف تقلد مِنْهَا وَاحِدًا وحملت الْبَقِيَّة خَلفه ولواءان منشوران على رَأسه وسهمان كبيران وترس. فَقدم لَهُ فرس أَشهب فِي عُنُقه مشدة سَوْدَاء وَعَلِيهِ كنبوش أسود. وَطلب الْأُمَرَاء وَاحِدًا بعد وَاحِد وخلع عَلَيْهِم وخلع على قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين وعَلى الصاحب بهاء الدّين وَعلي فَخر الدّين بن لُقْمَان صَاحب ديوَان الْإِنْشَاء. وَنصب مُنِير فَصَعدَ عَلَيْهِ ابْن لُقْمَان بَعْدَمَا جلل بِثَوْب حَرِير أطلس أصفر وَقَرَأَ تَقْلِيد الْخَلِيفَة للسُّلْطَان وَهُوَ من إنشائه وَنَصه بعد الْبَسْمَلَة: الْحَمد لله الَّذِي اصْطفى الْإِسْلَام بملابس الشّرف وَأظْهر بهجة درره وَكَانَت خافية بِمَا استحكم عَلَيْهَا من الصدف وشيدها وَهِي من غلائه حَتَّى أنسى ذكر مَا سلف وَقيد لنصره ملوكاً اتّفق على طاعتهم من اخْتلف. أَحْمَده على نعمه الَّتِي رتعت الْأَعْين مِنْهَا فِي الرَّوْض الْأنف وألطافه الَّتِي وقف الشُّكْر عَلَيْهَا فَلَيْسَ عَنْهَا منصرف. وَأشْهد أَن لَا اله إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة توجب من المخاوف أمنا وتسهل من الْأُمُور مَا كَانَ حزنا. وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده الَّذِي جبر من الدّين وَهنا وَرَسُوله الَّذِي أظهر من المكارم فنوناً لَا فَنًّا صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الَّذين أضحت مناقبهم بَاقِيَة لَا تفنى وَأَصْحَابه الَّذين أَحْسنُوا فِي الدُّنْيَا فاستحقوا الزِّيَادَة من الْحسنى.

ص: 531

وَبعد فَإِن أولي الْأَوْلِيَاء بِتَقْدِيم ذكره وأحقهم أَن يصبح الْقَلَم رَاكِعا وساجداً فِي تسطير مناقبه وبره من سعى فأضحى بسعيه الحميد مُتَقَدما ودعا إِلَى طَاعَته فَأجَاب من كَانَ منجداً ومتهماً وَمَا بَدَت يَد من المكرمات إِلَّا كَانَ لَهَا زنداً ومعصماً وَلَا استباح بِسَيْفِهِ حمى وغي إِلَّا أضرمه نَارا وأجراه دَمًا. وَلما كَانَت هَذِه المناقب الشَّرِيفَة مُخْتَصَّة بالْمقَام العالي المولوي السلطاني الملكي الظَّاهِرِيّ الركني شرفه الله وَأَعلاهُ ذكره الدِّيوَان الْعَزِيز النَّبَوِيّ الإمامي المستنصري أعز الله سُلْطَانه تنويهاً بشريف قدره واعترافاً بصنعه الَّذِي تنفد الْعبارَة المسهبة وَلَا تقوم بشكره. وَكَيف لَا وَقد أَقَامَ الدولة العباسية بعد أَن أقعدتها زمانة الزَّمَان وأذهبت مَا كَانَ من محَاسِن وإحسان وأعتب دهرها الْمُسِيء لَهَا فأعتب وأرضي عَنْهَا زَمَنهَا وَقد كَانَ صال عَلَيْهَا صولة مغضب. فَأَعَادَهُ لَهَا سلما بعد أَن كَانَ عَلَيْهَا حَربًا وَصرف إِلَيْهَا اهتمامه فَرجع كل متضايق من أمورها وَاسِعًا رحباً ومنح أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْد الْقدوم عَلَيْهِ حنواً وعطفاً وَأظْهر من الْوَلَاء رَغْبَة فِي ثَوَاب الله مَا لَا يخفى وَأبْدى من الاهتمام بِأَمْر الشَّرِيعَة والبيعة أَمر لَو رامه غَيره لامتنع عَلَيْهِنَّ وَلَو تمسك بحبله متمسك لانقطع بِهِ قبل الْوُصُول إِلَيْهِ. لَكِن الله تَعَالَى ادخر هَذِه الْحَسَنَة ليثقل بهَا ميزَان ثَوَابه ويخفف بهَا يَوْم الْقِيَامَة حسابه والسعيد من خفف من حسابه. فَهَذِهِ منقبة أَبى الله إِلَّا أَن يخلدها فِي صحيفَة صنعه ومكرمة قَضَت لهَذَا الْبَيْت الشريف بجمعه بعد أَن حصل الْإِيَاس من جمعه. وأمير الْمُؤمنِينَ يشْكر لَك هَذِه الصَّنَائِع ويعترف أَنه لَوْلَا اهتمامك لاتسع الْخرق على الْوَاقِع. وَقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية وَمَا يَتَجَدَّد من الفتوحات غوراً ونجماً وفوض أَمر جندها ورعاياها إِلَيْك حِين أَصبَحت بالمكارم فَردا وَلَا جعل مِنْهَا بَلَدا من الْبِلَاد وَلَا حصناً من الْحُصُون يسْتَثْنى وَلَا جِهَة من الْجِهَات تعد فِي الْأَعْلَى فلاحظ أُمُور الْأمة فقد أَصبَحت لَهَا حَامِلا وخلص نَفسك من التَّبعَات الْيَوْم فَفِي غَد تكون مسئولاً لَا سَائِلًا ودع الاغترار بِأَمْر الدُّنْيَا فَمَا نَالَ أحد مِنْهَا طائلاً وَمَا رَآهَا أحد بِعَين الْحق إِلَّا رَآهَا خيالاً زائلاً فالسعيد من قطع مِنْهَا آماله الموصولة وَقدم لنَفسِهِ زَاد التَّقْوَى فتقدمة غير التَّقْوَى مَرْدُودَة لَا مَقْبُولَة. وابسط يدك بِالْإِحْسَانِ وَالْعدْل فقد أَمر الله بِالْعَدْلِ وحث على الْإِحْسَان وَكرر ذكره فِي مَوَاضِع من

ص: 532

الْقُرْآن وَكفر بِهِ عَن الْمَرْء ذنوباً كتبت عَلَيْهِ وآثاماً وَجعل يَوْمًا وَاحِدًا مِنْهَا كعبادة العابد سِتِّينَ عَاما. وَمَا سلك أحد سَبِيل الْعدْل إِلَّا واجتنبت ثماره من أفنان وَرجح الْأَمر بِهِ بعد بعد تداعى أَرْكَانه وَهُوَ مشيد الْأَركان وتحصن بِهِ من حوادث زَمَانه والسعيد من تحصن من حوادث الزَّمَان وَكَانَت أَيَّامه فِي الْأَيَّام أبهى من الأعياد وَأحسن فِي الْعُيُون من الْغرَر فِي أوجه الْجِيَاد وَأحلى من الْعُقُود إِذا حلى بهَا عاطل الأجياد. وَهَذِه الأقاليم المنوطة بك مُحْتَاج إِلَى نواب وحكام. وَأَصْحَاب رَأْي من أَصْحَاب السيوف والأقلام فَإِذا استعنت بِأحد مِنْهُم فِي أمورك فَنقبَ عَلَيْهِ تنقيباً وَاجعَل عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاته رقيباً. وسل عَن أَحْوَاله فَفِي يَوْم الْقِيَامَة تكون عَنهُ مسئولاً وَبِمَا أجرم مَطْلُوبا وَلَا تول إِلَّا من تكون مساعيه حَسَنَات لَك لَا ذنوباً. وَأمرهمْ بالأناة. الْأُمُور والرفق وَمُخَالفَة الْهوى إِذا ظَهرت أَدِلَّة الْحق وَأَن يقابلوا الضُّعَفَاء فِي حوائجهم بالثغر الباسم وَالْوَجْه الطلق وَألا يعاملوا أحدا على الْإِحْسَان والإساءة إِلَّا بِمَا يسْتَحق وَأَن يَكُونُوا لمن تَحت أَيْديهم من الرعايا إخْوَانًا وَأَن يوسعوهم برا وإحساناً وَألا يستحلوا حرماتهم إِذا اسْتحلَّ الزَّمَان لَهُم حرماناً فالمسلم أَخُو الْمُسلم وَلَو كَانَ أَمِيرا عَلَيْهِ وسلطاناً. والسعيد من نسج ولاته فِي الْخَيْر على منواله واستنوا بسنته فِي تَصَرُّفَاته وأحواله وتحملوا عَنهُ مَا تعجز قدرته عَن حمل أثقاله. وَمِمَّا تؤمرون بِهِ أَن يمحى مَا أحدث من سيئ السّنَن وجدد من الْمَظَالِم الَّتِي هِيَ من أعظم المحن وَأَن يشترى بإبطالها المحامد فَإِن المحامد رخيصة بأغلى ثمن. رمهما جبي مِنْهَا من الْأَمْوَال فَإِنَّمَا هِيَ بَاقِيَة فِي الذمم حَاصِلَة وأجياد الخزائن وَإِن أضحت بهَا حَالية فَإِنَّمَا هِيَ على الْحَقِيقَة مِنْهَا عاطلة وَهل أشق مِمَّن احتقب إِثْمًا واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً وَجعل السوَاد الْأَعْظَم لَهُ يَوْم الْقِيَامَة خصما وَتحمل ظلم النَّاس فِيمَا صدر عَنهُ من أَعماله وَقد خَابَ من حمل ظلما. وحقيق بالْمقَام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظَّاهِرِيّ الركني أَن تكون ظلامات الْأَنَام مَرْدُودَة بِعَمَلِهِ وعزائمه تخفف ثقلاً لَا طَاقَة لَهُم بِحمْلِهِ فقد أضحى على الْإِحْسَان قَادِرًا وصنعت لَهُ الْأَيَّام مَا لم تصنع لغيره مِمَّن تقدم للملوك وَإِن جَاءَ آخرا. فَأَحْمَد الله على أَن وصل إِلَى جَانِبك أَمَام هدي أوجب لَك مزية التَّعْظِيم وَنبهَ الْخَلَائق على مَا خصك الله بِهِ من هَذَا الْفضل الْعَظِيم. وَهَذِه أُمُور يجب أَن تلاحظ وترعى وَأَن توالي عَلَيْهَا حمد الله فَإِن الْحَمد يجب. عَلَيْهِ عقلا وَشرعا، وَقد تبين أَنَّك صرت فِي الْأُمُور أصلا وَصَارَ غَيْرك فرعا.

ص: 533

وَمِمَّا يجب أَيْضا تَقْدِيم ذكره أَمر الْجِهَاد الَّذِي أضحى على الْأمة فرضا وَهُوَ الْعَمَل الَّذِي يرجع بِهِ مسود الصحائف مبيضاً. وَقد وعد الله الْمُجَاهدين بِالْأَجْرِ الْعَظِيم وَأعد لَهُم عِنْده الْمقَام الْكَرِيم وخصهم بِالْجنَّةِ الَّتِي لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم. وَقد تقدّمت لَك فِي الْجِهَاد بَيْضَاء أسرعت فِي سَواد الحساد وَعرفت مِنْك عَزمَة هِيَ أمضى مِمَّا تجنه ضمائر الأغماد وأشهى إِلَى الْقُلُوب من الأعياد. وَبِك صان الله حمى الْإِسْلَام من أَن يتبدل وبعزك حفظ على الْمُسلمين نظام هَذِه الدول وسيفك أثر فِي قُلُوب الْكَافرين قروحا لَا تندمل وَبِك يُرْجَى أَن يرجع مقرّ الْخلَافَة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَيَّام الأول. فأيقظ لنصرة الْإِسْلَام جفناً مَا كَانَ غافياً وَلَا هاجعاً وَكن فِي مجاهدة أَعدَاء الله إِمَامًا متبوعاً لَا تَابعا وأيد كلمة التَّوْحِيد فَمَا تَجِد فِي تأييدها إِلَّا مُطيعًا سَامِعًا. وَلَا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تَبَسم لَهُ الثغور واحتفال يُبدل مَا دجى من ظلماتها بِالنورِ. وَاجعَل أمرهَا على الْأُمُور مقدما وشيد مِنْهَا كل مَا غَادَرَهُ الْعَدو مِنْهُمَا فَهَذِهِ حصون بهَا يحصل الِانْتِفَاع وَهِي على الْعَدو دَاعِيَة افْتِرَاق لَا اجْتِمَاع. وأولاها بالاهتمام مَا كَانَ الْبَحْر لَهُ مجاوراً والعدو لَهُ ملتفتاً نَاظرا لاسيما الديار المصرية فَإِن الْعَدو وصل إِلَيْهَا رابحاً وَرَاح خاسراً واستأصلهم الله فِيهَا مَا أقَال مِنْهُم عاثراً. وَكَذَلِكَ أَمر الأسطول الَّذِي تزجي خيله كالأهلة وركائبه سَابِقَة بِغَيْر سائق مُسْتَقلَّة. وَهُوَ أَخُو الْجَيْش السُّلَيْمَانِي فَإِن ذَاك غَدَتْ الرِّيَاح لَهُ حاملة وَهَذَا تكلفت بِحمْلِهِ الْمِيَاه السائلة. وَإِذا لحظها جَارِيَة فِي الْبَحْر كَانَت كالأعلام وَإِذا شبهها قَالَ هَذِه لَيَال تقلع بِالْأَيَّامِ. وَقد سني الله لَك من السَّعَادَة كل مطلب وأتاك من أَصَالَة الرَّأْي الَّذِي يُرِيك الْمَعِيب وَبسط بعد الْقَبْض مِنْك الأمل ونشط بالسعادة مَا كَانَ من كسل وهداك إِلَى مناهج الْحق وَمَا زلت مهتدياً إِلَيْهَا وألزمك المراشد وَلَا تحْتَاج إِلَى تَنْبِيه عَلَيْهَا. وَالله يمدك بِأَسْبَاب نَصره ويوزعك شكر نعمه فَإِن النِّعْمَة ستتم بشكره. وَلما فرغ من قِرَاءَته ركب السُّلْطَان بالخلعة والطوق الذَّهَب والقيد الذَّهَب وَكَانَ الطالع برج السنبلة. وَحمل التَّقْلِيد الْأَمِير جمال الدّين التجِيبِي أستادار السُّلْطَان ثمَّ حمله الصاحب بهاء الدّين وَسَار بِهِ بَين يَدي السُّلْطَان وَسَائِر الْأُمَرَاء وَمن دونهم مشَاة سوي الْوَزير. وَدخل السُّلْطَان من بَاب النَّصْر وشق الْقَاهِرَة وَقد زينت وَبسط أَكثر الطَّرِيق بِثِيَاب فاخرة مَشى عَلَيْهَا فرس السُّلْطَان. وضج الْخلق بِالدُّعَاءِ. بإعزاز أَيَّامه وإعزاز

ص: 534

نَصره وَأَن يخلعها خلع الرضى إِلَى أَن خرج من بَاب زويلة وَسَار إِلَى القلعة فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً تقصر الْأَلْسِنَة عَن وَصفه. وَشرع السُّلْطَان فِي تجهيز الْخَلِيفَة للسَّفر واستخدم لَهُ عَسَاكِر وَكتب للأمير سَابق الدّين بوزنا أتابك الْعَسْكَر الخليفتي بِأَلف فَارس وَجعل الطواشي بهاء الدّين سندل الشرابي الصَّالِحِي شرابياً بِخَمْسِمِائَة فَارس والأمير نَاصِر الدّين بن صيرم خازنداراً بِمِائَتي فَارس والأمير الشريف نجم الدّين أستاداراً بِخَمْسِمِائَة فَارس وَسيف الدّين بلبان الشمسي دواداراً بِخَمْسِمِائَة فَارس والأمير فَارس الدّين أَحْمد بن أزدمر اليغموري دواداراً أَيْضا وَالْقَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عز الدّين السنجاري وزيراً وَشرف الدّين أَبَا حَامِد كَاتبا وَأقَام عدَّة من العربان أُمَرَاء وَحمل السُّلْطَان إِلَى الْجَمِيع الخزائن وَالسِّلَاح وَغَيره من الصناجق والطبلخاناه وانفق أَمْوَالًا كَثِيرَة وَاشْترى مائَة مُلُوك كبارًا وصغاراً ورتبهم سلَاح دارية وجامدراية وَأعْطى كلا مِنْهُم ثَلَاثَة أرؤس من الْخَيل وجلا لعدته ورتب سَائِر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْخَلِيفَة: من صَاحب ديوَان وَكَاتب إنْشَاء ودواوين وأئمة وغلمان وجرائحية وحكاء وبيوتات وكملها كلهَا مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ ورتب الجنائب وخيول الإصطبلات واستخدم الأجناد وَعين لخاص الْخَلِيفَة مائَة فرس وَعشر قطر بغال وَعشر قطر جمال وطشتخاناه وحوائج خاناه وَكتب لمن وَفد مَعَه من الْعرَاق تواقيع ومناشر بالإقطاعات. فَلَمَّا تهَيَّأ ذَلِك كُله برز الدهليز الخليفتي والدهليز السلطاني إِلَى الْبركَة ظَاهر الْقَاهِرَة وَركب الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان من قلعة الْجَبَل فِي السَّادِسَة من نَهَار الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شهر رَمَضَان وَسَار إِلَى الْبركَة فَنزل كل مِنْهُمَا فِي دهليزه واستمرت النَّفَقَة فِي أجناد الْخَلِيفَة وَفِي يَوْم عيد الْفطر ركب السُّلْطَان مَعَ الْخَلِيفَة تَحت المظلة وصليا صَلَاة الْعِيد وَحضر الْخَلِيفَة إِلَى خيمة السُّلْطَان بالمنزلة وَألبسهُ سَرَاوِيل الفتوة بِحَضْرَة الأكابر ورتب السُّلْطَان الْأَمِير عز الدّين أيدمر الْحلِيّ نَائِب السلطنة بديار مصر وَأقَام مَعَه الصاحب بهاء الدّين بن حنا. وَفِي يَوْم السبت سادس شَوَّال: رَحل الْخَلِيفَة وصحبته الْملك الظَّاهِر بِجَمِيعِ العساكر فَسَارُوا إِلَى الْكسْوَة ظَاهر دمشق وَخرج إِلَى لقائهم عَسْكَر دمشق فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع ذِي الْقعدَة فَنزل الْخَلِيفَة بالتربة الصالحية فِي سفح قاسيون وَنزل السُّلْطَان بقلعة دمشق.

ص: 535

وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عاشره: دخل الْخَلِيفَة الْجَامِع الْأمَوِي بِدِمَشْق من بَاب الْبَرِيد وَجَاء السُّلْطَان من بَاب الزِّيَادَة واجتمعا بمقصورة الْجَامِع حَتَّى فرغا من صَلَاة الْجُمُعَة وخرجا إِلَى بَاب الزِّيَادَة فَمضى الْخَلِيفَة وَعَاد السُّلْطَان. وَكَانَ قد قدم إِلَى السُّلْطَان وَهُوَ بقلعة الْجَبَل الْملك الصَّالح ركن الدّين إِسْمَاعِيل بن الْملك الرَّحِيم بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل وَولده الْملك السعيد عَلَاء الْملك وَأَهله فِي شعْبَان إِلَى الْقَاهِرَة فَأقبل السُّلْطَان عَلَيْهِ وَأحسن إِلَيْهِ وَأمر لَهُ وَلمن مَعَه بالإقامات وَالْأَمْوَال من دمشق إِلَى الْقَاهِرَة وتلقاه وأنزله بدار تلِيق بِهِ. ثمَّ وصل أَخُوهُ الْملك الْمُجَاهِد سيف الدّين إِسْحَاق صَاحب الجزيرة فَتَلقاهُ السُّلْطَان كَمَا تلقى أَخَاهُ. وَكَانَ أخوهما الْملك السعيد عَلَاء الدّين على صَاحب سنجار قد رتبه الْملك المظفر قطز فِي نِيَابَة حلب فَقَبضهُ العزيزية واعتقلوه فَسَأَلَ إخْوَته الْملك الظَّاهِر فِيهِ فأفرج عَنهُ وَبَالغ فِي إكرامهم وعطائهم. وَكَانَ السُّلْطَان لما نزل بِالْبركَةِ خَارج الْقَاهِرَة قد جهز إِلَيْهِم خيل النّوبَة والعصاب والجدمارية وَالْخلْع وَكتب لَهُم التقاليد ببلادهم الَّتِي فوضت إِلَيْهِ من الْخَلِيفَة فَكتب للْملك الصَّالح بالموصل ونصيبين وعقر وشوش وداراً والقلاع الْعمادِيَّة وَكتب للمجاهد بالجزيرة وَكتب للمظفر بسنجار. فقبلوا الأَرْض عِنْد لبس الْخلْع وسير السُّلْطَان إِلَيْهِم الكوسات والسناجق وَالْأَمْوَال وأعفوا من الْحُضُور والخدمة. فَسَارُوا إِلَى دمشق وحضروا مجْلِس الشَّام بقلعة دمشق ولبسوا الْخلْع وقبلوا الأَرْض وَخَرجُوا والأتابك فِي خدمتهم بشعار السلطنة وَأَعْطَاهُمْ السُّلْطَان فِي لعب الكرة شَيْئا كثيرا. وَوصل إِلَى دمشق الْملك الْأَشْرَف مظفر الدّين مُوسَى صَاحب حمص وَالْملك الْمَنْصُور صَاحب حماة. فوصل السُّلْطَان كلا مِنْهُمَا بِثَمَانِينَ ألف دِرْهَم وحملين من الثِّيَاب وخيول وَركب كل مِنْهُمَا بِدِمَشْق والأمراء مشَاة فِي خدمته بشعائر السلطنة وَكتب السُّلْطَان لَهما التقاليد باستقرارهما على مَا بأيديهما وزادهما ثمَّ عادا إِلَى بِلَادهمْ.

ص: 536

وَكَانَ السُّلْطَان قد عزم أَن يبْعَث مَعَ الْخَلِيفَة عشرَة آلَاف فَارس حَتَّى يسْتَقرّ بِبَغْدَاد وَيكون أَوْلَاد صَاحب الْموصل فِي خدمته. فَخَلا أحدهم بالسلطان وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَلا يفعل: فَإِن الْخَلِيفَة إِذا اسْتَقر أمره بِبَغْدَاد نازعك وأخرجك من مصر. فَرجع إِلَيْهِ الوسواس وَلم يبْعَث مَعَ الْخَلِيفَة سوي ثَلَاثمِائَة فَارس. وجرد السُّلْطَان الْأَمِير سيف الدّين بلبان الرَّشِيدِيّ والأمير شمس الدّين سنقر الرُّومِي إِلَى حلب وَأَمرهمَا بِالْمَسِيرِ إِلَى الْفُرَات وَإِذا ورد عَلَيْهِمَا كتاب الْخَلِيفَة بِأَن يسير أَحدهمَا إِلَيْهِ سَار. وَركب السُّلْطَان لوداع الْخَلِيفَة وسافر الْخَلِيفَة فِي ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة وَمَعَهُ أَوْلَاد صَاحب الْموصل الثَّلَاثَة ففارقوه فِي أثْنَاء الطَّرِيق وَتوجه كل مِنْهُم إِلَى مَمْلَكَته فوصل الْخَلِيفَة إِلَى الرحبة وَأَتَاهُ الْأَمِير عَليّ بن حُذَيْفَة من آل فضل بأربعمائة فَارس من الْعَرَب وانضاف إِلَيْهِ من مماليك المواصلة نَحْو السِّتين مَمْلُوكا وَلحق بِهِ الْأَمِير عز الدّين بركَة من حماة فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا ورحل الْخَلِيفَة من الرحبة إِلَى مشْهد عَليّ فَوجدَ رجلا ادّعى أَنه من بني الْعَبَّاس قد اجْتمع إِلَيْهِ سَبْعمِائة فَارس من التركمان كَانَ الْأَمِير شمس الدّين أقومش البرلي قد جهزهم من حلب. فَبعث الْخَلِيفَة إِلَى التركمان واستمالهم ففارقوه وَأتوا الْخَلِيفَة فَبعث إِلَيْهِ الْخَلِيفَة يستدعيه وأمنه ورغبه فِي اجْتِمَاع الْكَلِمَة على إِقَامَة الدولة العباسية ولاطفه حَتَّى أجَاب وَقدم إِلَيْهِ فوفى لَهُ وأنزله مَعَه. وَسَار الْخَلِيفَة إِلَى عانة ثمَّ إِلَى الحنيشة وَخرج يُرِيد هيت وَكتب إِلَى الْملك الظَّاهِر بيبرس بذلك. وَأما حلب فَإِن الْأَمِير سنجر الْحلَبِي فَارقهَا وَسَار إِلَى دمشق فاستولى عَلَيْهَا الْأَمِير شمس الدّين أقوش البرلي وَبعث بِالطَّاعَةِ إِلَى السُّلْطَان فَأبى إِلَّا حُضُوره فَلَمَّا سَار الْأَمِير سيف الدّين الرَّشِيدِيّ والأمير سنقر الرُّومِي من دمشق رَحل أقوش عَن حلب فدخلاها وسارا مِنْهَا إِلَى الْفُرَات وأغارا على بِلَاد أنطاكية وَكسب الْعَسْكَر وغنم وَحرق غلال الفرنج ومراكبهم وَعَاد. فولى السُّلْطَان الْأَمِير عَلَاء الدّين بندقدار نِيَابَة حلب فَأَقَامَ بهَا فِي شدَّة من غلاء الأسعار وَعدم الْقُوت ثمَّ رَحل عَنْهَا.

ص: 537

وقدمت الإقامات من الفرنج إِلَى السُّلْطَان وسألوا الصُّلْح فتوقف وَطلب مِنْهُم أموراً لم يجيبوا إِلَيْهَا فأهانهم. وَكَانَ الْعَسْكَر قد خرج للغارة على بِلَادهمْ من جِهَة بعلبك فسألوا رُجُوعه. وَاتفقَ الغلاء بِبِلَاد الشَّام فتقرر الصُّلْح على مَا كَانَ الْأَمر عَلَيْهِ إِلَى آخر أَيَّام الْملك النَّاصِر وَإِطْلَاق الْأُسَارَى من حِين انْقَضتْ الْأَيَّام الناصرية. فسارت رسل الفرنج لأخذ العهود وَتَقْرِير الْهُدْنَة لصَاحب يافا ومتملك بيروت فكاسر الفرنج فِي أَمر الْأُسَارَى فَأمر السُّلْطَان بِنَقْل أسرى الفرنج من نابلس إِلَى دمشق واستعملهم فِي العمائر. فتعلل الفرنج بِالْعِوَضِ عَن زرعين فأجيبوا: بأنكم أَخَذْتُم الْعِوَض عَنْهَا فِي الْأَيَّام الناصرية مرج عُيُون وقايضتم صَاحب تبنين والمقايضة فِي أَيْدِيكُم. فَكيف تطلبون الْعِوَض مرَّتَيْنِ. فَإِن بَقِيتُمْ على الْعَهْد وَإِلَّا فَمَا لنا شغل إِلَّا الْجِهَاد. وَخرج الْأَمِير جمال الدّين المحمدي فِي عَسْكَر وأغار على بِلَاد الفرنج وَعَاد غانماً سالما. وسارت عدَّة من الْعَسْكَر فأوقعوا بعرب زبيد لِكَثْرَة فسادهم وَقتلُوا مِنْهُم جمَاعَة وعادوا غَانِمِينَ. واحضر السُّلْطَان أُمَرَاء العربان وَأَعْطَاهُمْ وأقطعهم الإقطاعات وسلمهم دَرك الْبِلَاد وألزمهم حفظ الحروب إِلَى حُدُود الْعرَاق وَكتب منشور الإمرة على جَمِيع العربان للأمير شرف الدّين عِيسَى بن مهنا. وفوض السُّلْطَان إِلَى الْأَمِير عَلَاء الدّين الْحَاج طيبرس الوزيري نِيَابَة دمشق وفوض قضاءها للْقَاضِي شمس الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي بكر بن خلكان - وَكَانَ قد خرج مَعَه من مصر - عوضا عَن نجم الدّين أبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى ابْن السّني ووكل بِهِ وسفره إِلَى الْقَاهِرَة. وَقُرِئَ تَقْلِيد ابْن خلكان يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع

ص: 538

ذِي الْحجَّة وفوض إِلَيْهِ الحكم من الْعَريش إِلَى الْفُرَات وَالنَّظَر فِي جَمِيع أوقاف الشَّام من الْجَامِع والمارستان والمحارس والأحباس وتدريس سبع مدارس. وَخرج السُّلْطَان من دمشق يَوْم السبت سَابِع عشره يُرِيد مصر. وَصرف قَاضِي الْقُضَاة تَاج الدّين ابْن بنت الْأَعَز فِي سلخ شَوَّال عَن قَضَاء مصر وَالْوَجْه القبلي وَاسْتقر مَكَانَهُ قَاضِي الْقُضَاة برهَان الدّين السنجاري وَبَقِي قَضَاء الْقَاهِرَة وَالْوَجْه البحري بيد ابْن بنت الْأَعَز. وَأمر السُّلْطَان بِبِنَاء مشْهد على عين جالوت. وفيهَا كتب السُّلْطَان إِلَى الْملك بركَة خَان يغريه بِقِتَال هولاكو ويرغبه فِي ذَلِك وَسَببه تَوَاتر وفيهَا أغار التتار الَّذين تحلفُوا على أَعمال حلب وعاثوا وَنزل مقدمهم بيدرا على حلب وضايقها حَتَّى غلت أسعارها وتعتر وجود الْقُوت فَلَمَّا بَلغهُمْ توجه عَسْكَر السُّلْطَان إِلَيْهِم رحلوا. وفيهَا استولى الْأَمِير شمس الدّين أقوش البرلي العزيزي على حلب وَجمع مَعَه التركمان وَالْعرب فَأَقَامَ نَحْو أَرْبَعَة أشهر. ثمَّ توجه إِلَى البيرة وَأَخذهَا وَمضى إِلَى حران فَأَقَامَ بهَا وَصَارَ يقرب من حلب وَيبعد عَنْهَا خوفًا من السُّلْطَان وفيهَا عدى بَنو مرين العدوة لقِتَال الفرنج فظفروا. وفيهَا حج الْملك المظفر يُوسُف بن عمر رَسُول ملك الْيمن وكسا الْكَعْبَة وَتصدق بِمَال. وَمَات فِي هَذِه السّنة من الْأَعْيَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر غَازِي بن النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بن شادي صَاحب حلب ودمشق - وَهُوَ آخر مُلُوك بني أَيُّوب - بعد أَرْبَعَة وَعشْرين عَاما من ملكه واثنتين وَثَلَاثِينَ سنة من عمره مقتولاً بِأَمْر هولاكو. وَمَات الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْمُجَاهِد شيركوه بن القاهر مُحَمَّد بن الْمَنْصُور أَسد الدّين شيركوه بن شادي صَاحب حمص مقتولاً بِأَمْر هولاكو أَيْضا. وَتُوفِّي الأديب مخلص الدّين أَبُو الْعَرَب إِسْمَاعِيل بن عمر بن يُوسُف بن قرناص الْحَمَوِيّ.

ص: 539

فارغة

ص: 540