الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طلائع حركة الجهاد
تتمثل طلائع حركات الجهاد في غزوات وسرايا صغيرة اتجهت إلى مواقع غربي المدينة واستهدفت ثلاثة أمور، تهديد طريق تجارة قريش إلى الشام، وهي ضربة خطيرة لاقتصاد مكة التجاري.
والثاني: عقد المحالفات والموادعات مع القبائل التي تسكن المنطقة لضمان تعاونها أو حيادها على الأقل - في الصراع بين المسلمين وقريش وهي خطوة هامة يعتبر تحقيقها نجاحًا للمسلمين، لأن الأصل أن هذه القبائل تميل إلى قريش وتتعاون معها، إذ بينها محالفات تاريخية سماها القرآن الكريم بالايلاف، سعت قريش من خلالها لتأمين تجارتها مع الشام واليمن، ثم إن هذه القبائل لها مصالح وثيقة مع قريش سادنة البيت الحرام حيث يحج العرب جميعًا إلى الأصنام حوله هذا فضلًا عن وحدة العقيدة بين هذه القبائل وقريش واشتراك الجميع في معاداة الإسلام، فلا شك إذًا في أن تمكن المسلمين من موادعة هذه القبائل وتحييدها خلال الصراع يعتبر نجاحًا كبيرًا لهم في تلك المرحلة.
والثالث: إبراز قوة المسلمين في المدينة أمام اليهود وبقايا المشركين، فالمسلمون صاروا لا يقتصرون على السيادة في المدينة بل يتحركون لفرض سيطرتهم على أطرافها وما حولها من القبائل، ويؤثرون في مصالحها وعلاقتها.
وأولى الغزوات هي غزوة الأبواء (1)، تسمى بغزوة ودّان أيضًا، وهما موقعان متجاوران بينهما ستة أميال أو ثمانية، والأبواء تبعد عن المدينة حوالي أربعة وعشرين ميلًا، ولم يقع قتال في هذه الغزوة بل تمت موادعة بني ضمرة (من كنانة)، وكانت هذه الغزوة في 12 صفر سنة اثنتين. وقد عاد الجيش إلى
(1) ورد في صحيح البخاري من حديث زيد بن أرقم أن أول غزوة العشيرة، ووفق الحافظ ابن كثير بينه وبين رواية ابن إسحق بأن المقصود أول غزوة غزاها زيد بن أرقم مع الرسول هي العشيراء (البداية والنهاية 3/ 246).
المدينة (1) بعد أن مكث خارجها إلى بداية شهر ربيع الأول في رواية المدائني (2) ويذكر عروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية من الأبواء تضم ستين رجلًا بقيادة عبيدة بن الحارث (3)، في حين يذكر ابن إسحاق أن السرية أرسلت إلى سيف البحر بعد العودة إلى المدينة، وأن ثمة سرية أخرى من ثلاثين رجلًا بقيادة حمزة بن عبد المطلب اتجهت إلى سيف البحر أيضًا في نفس الوقت للتعرض إلى قافلة قرشية لكن السريتين لم تشتبكا مع القرشيين في قتال، فقد حالت القبائل الموادعة للطرفين دون ذلك في سرية حمزة، وجرى تراشق بالسهام فقط بين سرية عبيدة والقرشيين (4).
ولا شك أن السريتين استهدفتا تهديد تجارة قريش بالدرجة الأولى، وهو تحذير أولى لقريش بأن تجارتها أصبحت في خطر ما لم تغير موقفها المتعنت من الإسلام، وفي ربيع الثاني استمر المسلمون في حملاتهم باتجاه الطريق التجاري أيضًا، فكانت غزوة بواط إلى رضوى قرب ينبع في مائتي مقاتل لاعتراض قافلة تجارية قرشية، ثم غزوة العشيرة (بينبع) في جمادى الأولى ولم يقع قتال في رضوى والعشيرة لكنه جرت موادعة بني مدلج في العشيرة (5)، وقد تعرض كرز بن جابر الفهري في جمادى الآخرة في أعقاب العشيرة إلى أطراف المدينة ونهب بعض الإبل والمواشي فطارده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سفوان من نواحي بدر فسميت الغزوة ببدر الأولى. وقد تمكن كرز من الإِفلات من حملة المطاردة (6)، لكن الحادث أكد للمسلمين ضرورة تأمين العلاقة مع جيران المدينة فاستمرت الحملات، ولم
(1) فتح الباري 7/ 279 وتاريخ خليفة بن خياط 56 من رواية ابن إسحاق دون إسناد.
(2)
تاريخ خليفة 56.
(3)
فتح الباري 7/ 279.
(4)
تاريخ خليفة 61 - 62 وسيرة ابن هشام 1/ 591 - 592 من رواية ابن إسحاق دون إسناد، ومغازي الأموي دون إسناد أيضًا كما في فتح الباري 7/ 279.
(5)
تاريخ خليفة 57 من طريق ابن إسحاق دون إسناد.
(6)
تاريخ خليفة 57 من طريق ابن إسحاق دون إسناد.
يقتصر تعرض المسلمين لتجارة قريش مع الشام بل تعرضوا لطريق تجارتها مع اليمن أيضًا، فأرسلت سرية عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر رجب للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها وقتلوا قائدها وأسروا اثنين من رجالها وعادوا بها إلى المدينة (1)، ونظرًا لأن هذه الحادثة وقعت في الشهر الحرام فقد أثار المشركون ضجة كبيرة بدعوى أن المسلمين ينتهكون حرمة الأشهر الحرم، وكان لذلك وقع خطير في الحواضر والبوادي، فهو خرق لعرف عام ساد الجزيرة العربية مدة طويلة قبل الإسلام. والواقع أن عبد الله بن جحش كان يدرك خطورة الأمر، فقد اختار قرار القتال بعد مشاورة لأصحابه، ولما رجع إلى المدينة وأراد تسليم الغنائم أبى الرسول صلى الله عليه وسلم تسلمها وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وانتشرت داعية قريش أن قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال!!
وقد نزلت آيات من كتاب الله توضح سلامة موقف المسلمين، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم وفادى الأسيرين مع قريش، والآيات هي {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (2) وهكذا بينت الآيات أن ما فعلته قريش من فتنة المسلمين عن دينهم وإخراجهم من مكة أكبر من قتال المسلمين في الشهر الحرام (3) -مع إقرار مطلع الآية لحرمة "الأشهر الحرم"- فهلا التزمت قريش بالقيم والأعراف فيما فعلته مع المسلمين حتى يحق لها أن تعلن عن نفسها وكأنها القيم على الأعراف والمقدسات!!
(1) تاريخ خليفة 63 من رواية عروة المرسلة، والإسناد إليه حسن.
(2)
سورة البقرة: آية 217.
(3)
ابن هشام: سيرة 1/ 59 - 60 من مراسيل عروة. والبيهقي: سنن 9/ 12، 58 - 59 بسند صحيح إلى عروة. وله شواهد مسندة عند الطبراني بإسناد حسن وغيره (انظر الإصابة 2/ 278 وابن كثير 3/ 251 والهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 66 - 67). والحديث يرقي بمجموع طرقه إلى الصحيح لغيره.
وقد تعرض الشبهة للبعض فيظن أن تعرض المسلمين لقوافل المشركين يشبه أعمال قطاع الطرق، فرد هذه الشبهة بأن المسلمين كانوا في حالة حرب مع قريش فإضعافها اقتصاديًا وبشريًا من مقتضيات حالة الحرب، هذا فضلًا عما قامت به قريش من مصادرة أموال المسلمين عند هجرتهم من مكة، وما زالت حالة الحرب حتى الوقت الحاضر تسمح بضرب الطاقات البشرية والاقتصادية للعدو.
* * *
وفي شهر رجب أيضًا، وقع حادث مهم لابد من التنويه به لأثره في التأكيد على تمييز المسلمين واستقلالهم في وجهة صلاتهم، وهو تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.
* * *