الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبوات
الإيمان بسائر الأنبياء وأثره:
يهتم الإسلام بتوجيه أتباعه نحو النظرة الإنسانية الواسعة، ونحو استشراف التاريخ واختراق الجدران بين الثقافات والحضارات والإفادة من الحصيلة الثقافية العالمية لخير المجتمع الإسلامي. وفي قوله تعالى:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) يوضح القرآن عقيدة المسلمين في الإيمان الشامل بأنبياء الله وأمنائه على وحيه، فالدين في نظر المسلم واحد من لدن آدم عليه السلام وحتى محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، والإيمان بالأنبياء واجب حتى إن إنكار نبوة أحدهم تفضي بالمنكر إلى الردة عن الإسلام، بل إن تعاليم الأديان ومناسك العبادة أحيانا تبقى ثابتة، تشير عمليا إلى وحدة المصدر الإلهي لهذه الأديان جميعاً
…
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أفاض جبريل بإبراهيم صلى الله عليهما، فصلى به بمنى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ثم غدا من منى إلى عرفة، فصلى به الصلاتين: الظهر والعصر، ثم وقف له حتى غابت الشمس، ثم دفع حتى أتى المزدلفة، فنزل بها فبات وصلى، ثم صلى كأعجل ما يصلى أحد من المسلمين، ثم وقف به كأبطأ ما يصلى أحد من المسلمين، ثم دفع منه إلى منى فرمي وذبح، ثم أوحى الله تعالى إلى محمد أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين"(2). وهو يدل على وحدة مناسك الحج في تعاليم إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو مصداق قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
(1) آل عمران 84، 85.
(2)
تفسير ابن أبي حاتم للآية 95 من سورة آل عمران، وإسناد الحديث حسن وله حكم الرفع لأنه من أمور الغيب.
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1).
إن التشابه وأحيانا التماثل بين الأديان في العقيدة خاصة ثم في بعض المناسك التعبدية والتشريعات الاجتماعية لا يبعث على الشك في صحتها، كما هو منحى بعض العلماء المعاصرين من الأنثروبولوجيين والمؤرخين، والذي يدرسون الدين على نفس منهجهم في دراسة الفولكلور والأساطير الشعبية، فهم يرصدون أوجه التماثل بين الديانة اللاحقة والديانة السابقة ليصلوا إلى نتيجة قد حددوها - خلافا للمنهج العلمي - وهي أن الإسلام ليس مصدره الوحي الإلهي، بل هو نسيج من تعاليم سابقة بعضها استمد من التوراة مثل قصص الأنبياء، وبعضها من الأنجيل، وبعضها من القانون الروماني، وهكذا متناسين أن التماثل سببه وحدة المصدر الإلهي، وأثر الأديان السابقة في المجتمعات البشرية المتنوعة عبر التاريخ الإنساني، فهذا ما يتغافله الأنثروبولوجيون والمؤرخون، وبذلك يخونون الحقيقة عندما يغفلون هذا الوجه منها. لقد حاول بعضهم ربط معاني الآيات القرآنية بالأساطير السومرية والبابلية والآشورية والفرعونية واليونانية والرومانية لإسقاط فكرة الوحي الإلهي، والقول بأن مصادر الدين - كما يثبتها العلم الذي يدعونه - هي الفولكلور والأساطير الشعبية وليس الوحي الإلهي (2). وبالطبع فليس العيب في علم الأنثربولوجي -وهو علم الإنسان وبيئته الثقافية التاريخية - بل هو في التوجيه المنحرف الذي سعى اللادينيون لإقحام هذا العلم فيه تحقيقا لأهداف عقدية بعيدة عن العلم المجرد ومتطلبات البحث العلمي، ومن هنا صار لزاما على المؤمنين في هذا العصر أن يعيدوا لهذا العلم وجهته الصحيحة في الكشف عن فطرة الإنسان، وحقيقة الأديان، وصلة البشر بالخالق الرحيم الرحمن، مستشرفين التاريخ باحثين في جذور الحياة وأول الآثار، وعندما يقود
(1) الشورى: آية 13.
(2)
محمود سليم الحوت: في طريق المثيولوجيا عند العرب 146 - 162.
العلم رجال يتسمون بالوعي والتجرد فإنهم سيقبلون النتائج التي أعلنها اللادينيون من المتلبسين بثياب العلم زورا وبهتانا.
لقد بين القرآن بوضوح التشابه بين الأديان ولم ينكره، فقال تعالى مخاطباً رسوله:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} (1) فالقرآن تصديق لرسالات الأنبياء السابقين وليس نقيضاً لها.
وقد اختار الله تعالى الرسل الكرام من بين الناس، وجعلهم أئمة يهدون العباد إلى توحيد الله وتحكيم شرائعه، وهم أمثلة عالية في عمل الخير وتنفيذ أوامر الله، لذلك فإن الإسلام ينظر إليهم بوصفهم أمثل الناس وأفضلهم وأعلاهم درجة وقدرا، وأسماهم تصورا وسلوكا. كيف لا وقد اختارهم الله تعالى رسلاً {اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (2).
وهو {يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (3) لذلك فهم منزهون عن المعاصي، معصومون من الخطايا، ليصح الاقتداء بهم في سائر سلوكهم وجميع أحوالهم. قال تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (4).
من أجل ذلك كانت صورة الأنبياء السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة أمثل وأجل وأسمى من الصور التي ترسمها الكتب الدينية الأخرى كالتوراة - وشرحه التلمود - والإنجيل، لما نال الكتب الأخرى من تحريف على أيدي أتباعها.
والأنبياء أوحي إليهم بشرع دون أن يكلفوا بتبليغه، لكنهم يعملون بموجبه، وأما الرسل فأوحى إليهم بشرع وكلفوا بتبليغه. وقد سمى القرآن منهم خمسة وعشرين رسولاً، وهم: آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب
(1) آل عمران: 3.
(2)
الأنعام:124.
(3)
الحج:75 ،
(4)
الأنبياء:73.
وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحي وإدريس ويونس وهود وشعيب وصالح ولوط وإلياس واليسع وذو الكفل وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (1). وهؤلاء الرسل يجب الإيمان برسالاتهم على تعيين أسمائهم وأشخاصهم، وإنكار واحد منهم كفر بصريح القرآن، وهم يتفاضلون، وأفضلهم أولو العزم من الرسل لشدة ابتلائهم وعظيم جهادهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (2) وأفضل الرسل جميعا محمد صلى الله عليه وسلم كما في الحديث (ما من نبي، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي)(3)، ولا يتنافى هذا التفضيل مع قوله تعالى:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (4) لأن المراد عدم التفريق بالإيمان برسالاتهم جميعا وليس في التفاضل بينهم. والأنبياء والمرسلون من البشر، لا يخرجون من البشرية بالوحي، بل هم يحافظون على طبيعتهم، وقد حرَّف النصارى وحي الله، وخالفوا عيسى عليه السلام عندما أضفوا عليه صفات الألوهية، وقد بين القرآن بوضوح أن أفضل المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم هو بشر لم تكسبه الرسالة صفات الألوهية قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (5) فالوحي هو الذي يميز الرسول، ويكشف له الغيب، ويعرفه بالله وبصفاته وبأسمائه، وما يحب وما يكره، وبأوامر ونواهيه، وبشريعته التي يريد إنفاذها في الحياة، وبأسرار الخلق والأمر، والقضاء والقدر. ولم يكن الأنبياء من أرباب الفلسفات أو علماء الطبيعيات، ولم يكن علمهم كسباً، بل كان أفضل الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم أميا لا
(1) تشير رواية ضعيفة إلى أن عدد الأنبياء 24،000 نبي وعدد الرسل 315 رسولا. انظر مسند أحمد 5/ 266 وفي إسناده معان بن رفاعة السلامي لين الحديث كثير الإرسال كما في التقريب وعلي بن يزيد الألهاني ضعيف والقاسم بن عبد الرحمن صدوق يغرب كثيراً.
(2)
البقرة:253.
(3)
أخرجه الترمذي: سنن 5/ 587 وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه أحمد في المسند 1/ 5.
(4)
البقرة: 136.
(5)
فصلت:6.
يحسن القراءة والكتابة، وعاش في بيئة خالية من الدراسات الفلسفية والطبيعية المعقدة، كالتي عرفها اليونان والفرس والهنود ومع ذلك فإن تعاليمه رسمت طريق السعادة والفلاح، وأثرت في مئات الملايين من البشر الذين اتبعوها، ونظمت حياتهم الخاصة والعامة، وحكمت اجتماعهم واقتصادهم وسياستهم وأخلاقهم وقيمهم قرونا طويلة، وأثمرت حضارة عالمية سامقة كان لها دور كبير في الحضارة العالمية، ولا شك أن هذا ما كان ليحدث لولا الوحي الإلهي. وكان تكليف الرسل بحمل الوحي الإلهي وتبليغه مما يجر عليهم الأخطار، لأن الرسالات التي يدعون إليها تقتضي أحداث تغيير كبير في أطر الحياة العقدية والاجتماعية، فكانوا يلقون مقاومة كبيرة من أصحاب النفوذ والمصالح، ومن الجمهور الذي تنتشر فيه العقائد المخالفة لرسالاتهم، وهذا عرَّضهم للأخطار. ولم يكن بوسع الأنبياء أن يتخذوا مواقف وسطاً أو حلولاً توفيقية، لأن الرسالة ليست نابعة من اجتهادهم فيغيروا ويبدلوا، بل لابد لهم من الالتزام بنص الوحي الإلهي وبمضامينه، قال تعالى في حق سيد المرسلين {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (1). فلابد للرسول إذاً من التزام أمانة التبليغ مهما كابد من البلاء والمقاومة ومن هنا جاءت محن الأنبياء. فهذا نوح عليه السلام أول رسول إلى الناس - كما أن آدم أول نبي - عمر طويلا، فدعا قومه ليلا ونهارا سرا وجهرا إلى توحيد الله، فما استجاب له بعد إقامته فيهم ودعوتهم إلا قليل، هم الذين نجوا من الغرق. قال تعالى {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (2) وقد اتهمه قومه بالسفه والضلال والجنون وكثرة الجدل بالافتراء على الله، وهددوه بالرجم، وقابلوه بالسخرية والتهكم، وهو يقابل ذلك بالصبر والاستمرار في دعوتهم حتى أدرك أنهم لا يستجيبون -بعد أن دعاهم قرونا-، فدعا عليهم كما يحكي القرآن
(1) الحاقة:46.
(2)
هود:40.
الكريم: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (1). فعاقبهم الله تعالى بالطوفان ونجَّى نوحا ومن آمن معه.
وهذا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وخليل الرحمن نشأ في بابل التي يحكمها النمرود الذي أدعى الألوهية، وكان قومه يعبدون الأصنام، وقد عصم الله إبراهيم وآتاه الحجة منذ صغره، فدعا قومه واحتج عليهم وكسر أصنامهم ليثبت لهم عجزها عن الدفاع عن ذاتها فكيف تدافع عن غيرها!! فما كان منهم إلا أن ألقوه في النار فحفظه الله ونجاه. قال تعالى:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (2).
وهاجر إبراهيم في الأرض يدعو إلى الله، فنزل حران حيث تعبد الكواكب، ثم مصر الفراعنة، وهو يتعرض لأنواع الابتلاء والمحن في نفسه وأهله وولده.
وهذا موسى - كليم الله عليه السلام -واجه طغيان فرعون مصر وهو يدعي الإلوهية، ويستعبد بني إسرائيل، يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم، فدعاه إلى عبادة الله وحده، فتمادى فرعون في كفره، واعتزم قتل موسى وقومه لولا أن نجاهم الله وأغرق فرعون وجنده.
وقد لقى موسى من بني إسرائيل أنفسهم من العنت والكبرياء والجدل والاستعداد للانحراف عن العقيدة حتى توفاه الله.
وهذا عيسى عليه السلام دعا اليهود إلى دين الحق الذي انحرفوا عنه، وأجرى الله عليه يديه المعجزات الباهرة، فعارضه الكهنة واجمعوا على قتله، فأنجاه الله منهم ورفعه.
وهذا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقع عليه من أنواع الابتلاء من أذى المشركين بمكة ودعايتهم وتحديهم وحصارهم له ولأتباعه في شعب أبي طالب
(1) نوح:26.
(2)
الأنبياء:69
واضطرارهم لأتباعه للهجرة إلى الحبشة، ثم تركه صلى الله عليه وسلم موطنه وهجرته إلى المدينة، ثم استمرارهم في حربه والتأليب عليه حتى نصره الله عليهم وأظهر دينه في الأرض.
وهذه السيرة النبوية تشير إلى حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم تعرضوا للابتلاء والامتحان بسبب تبليغهم لرسالات الله تعالى، ولم ينتفعوا في الحياة الدنيا بالنعيم والراحة، بل كانت حياتهم شديدة يلحقهم الأذى في أنفسهم وأهليهم، ويهجرون مواطنهم، ويتعرضون للقتل، فما يصدهم ذلك عن تبليغ دعوة الله وتغيير الواقع الجاهلي. ومن أجل ذلك النهج العملي في الدعوة والتربية للأتباع كان أثر رسالات الأنبياء في حياة البشرية أثرا عميقا شاملا، في حين بقيت آراء الفلاسفة قابعة في كتبهم ولم تتحول إلى واقع عملي .. ولكل عاقل أن يقارن بين أثر القرآن والسنة وبين جمهورية أفلاطون أو مدينة الله لأوغسطين أو المدينة الفاضلة للفارابي، ليدرك أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي النهج العملي المؤثر في حركة التاريخ ومصير الأحياء.
إن إيمان المسلمين بالأنبياء جميعا أعطاهم نماذج روحية متنوعة وعظيمة القيمة، تتمثل فيها القيم الخلقية بأرفع سلوكيات التي يمثلها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهكذا فإن المسلم يجد في نوح عليه السلام مثالا للداعية الصامد، فرغم تنكر قومه لدعوته بما فيهم ابنه وزوجه، فإن ذلك لم يقعده عن الاستمرار في دعوته، وتهيئة العوامل اللازمة لنجاحها ثم لنجاة أصحابه.
كما يجد المسلم في أيوب عليه السلام مثالا للصبر على الأمراض والأسقام وجفوة الناس والخلطاء حتى الزوجة، فلم يزده ذلك إلا احتسابا وإيمانا، ودعاء وتضرعا حتى رفع الله عنه البلاء. وإذا كان الإيمان الشامل بالأنبياء يوسع من مجال الاقتداء، ويعبر عن وحدة الرسالات الإلهية، فإنه يورث المسلمين التسامح الديني ويوجد بينهم وبين أهل
الكتاب بعض عناصر الالتقاء، ويكسبهم مرونة عالية في التعامل معهم داخل المجتمع الإسلامي بمنح الأقليات الدينية حرية المعتقد، وحق الحماية. وإمكان التعايش السلمي معهم، بل تلطيف هذه العلاقة مع الأقليات الدينية عندما تسمح عقائد المسلمين ببرهم ومهاداتهم.
ولو افترضنا على سبيل الجدل أن المسلمين ينكرون نبوات الأنبياء السابقين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لتغير موقفهم من الأقليات الدينية التي ما كانت لتتمكن من المحافظة على وجودها لولا التسامح الديني الذي لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلا حتى اعتبرت الدولة الإسلامية مسئولة عن حماية أماكن العبادة للديانات الإلهية الأخرى مثل حمايتها للمساجد الإسلامية قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (1).
ولا مانع من الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بشرط أن يتقيد الجميع بأدب المناظرة. قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2). وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3).
وقد اعترف عديد من الباحثين الغربيين بتسامح الإسلام والمسلمين فقال غوستاف لوبون: "إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم".
ويقول توماس أرنولد: "كان المسلمون -على خلاف غيرهم- إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جدها في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحين بالعدل والقسطاس".
(1) الحج:40.
(2)
العنكبوت:46.
(3)
الأنعام: 108.
إن عالم اليوم بحاجة أشد إلى أن تسود روح التسامح ويتقرر العدل ويقضى على العصبيات والعنف الذي يمكن أن يحول التقدم التقني إلى كارثة خطيرة تعصف بالبشر وحضاراتهم.
وليس كالإسلام في غرس روح الخير وبذر التعاون في ظلال الإيمان والسماحة الدينية.