الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحويل القبلة إلى الكعبة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه في صلاته بمكة قبل الهجرة مستقبلًا بيت المقدس تاركًا الكعبة المشرفة بينه وبين بيت المقدس. هكذا ورد في رواية صحيحة الإسناد إلى عبد الله بن العباس (1). وذهب بعض العلماء إلى أنه كان يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس. وقد مال إلى هذا الرأي الأخير الحافظ أبو عمرو بن عبد البر القرطبي (2)، وانتقد الحافظ ابن حجر هذا الرأي وضعَّفه فقال:"وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره"(3) وقد بين سعيد بن المسيب أن الأنصار كانوا يصلون إلى بيت المقدس قبل الهجرة بثلاث سنوات (4).
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة استمر في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا (5) وفي منتصف رجب سنة اثنتين للهجرة أمره الله تعالى بالتحول في صلاته إلى الكعبة قبلة إبراهيم وإسماعيل، وقد حدّد سعيد بن
(1) ابن سعد: الطبقات 1/ 243 وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس وكأن البخاري -في ترجمة الباب- أراد الإشارة إلى أن الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس (فتح الباري 1/ 95 - 96).
(2)
فتح الباري 1/ 97.
(3)
فتح الباري 1/ 96.
(4)
تفسير الطبري 2/ 4 بإسناد حسن لولا عنعنة قتادة وهو مدلس، وقد ضعف ابن المديني مرواياته عن سعيد بن المسيب إذا لم يصرح بالسماع كما في ترجمة قتادة في تهذيب التهذيب وقال بذلك أيضًا من المفسرين ابن جريج مثل قول سعيد بن المسيب (تفسير الطبري 2/ 5) ويلاحظ أن عبارة ابن المسيب فيها "ثلاث حجج" بدل "ثلاث سنوات".
(5)
روى ذلك عدد من الصحابة هم معاذ بن جبل وأنس بن مالك والبراء بن عازب كما روى ذلك سعيد بن المسيب مرسلًا، والأسانيد إليهم صحيحة (صحيح مسلم 1/ 374 وجزم به وصحيح البخاري (فتح الباري 1/ 95) لكن رواية البخاري تذكر "ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا" -على الشك- وتاريخ خليفة بن خياط 64 وتفسير الطبري 2/ 3).
المسيب تاريخ تحويل القبلة إلى الكعبة بشهرين قبل بدر (1)، فيكون في 17 رجب سنة اثنتين إذا توخينا الدقة أو منتصف رجب كما هو قول الجمهور إذا لم نعتبر اليومين (2).
وقد أرخ ابن إسحاق تحويل القبلة في رجب بعد سبعة عشر شهرًا من قدومه (3) وورد عنه أيضًا رواية شاذة أن التحويل في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة (4).
وأما الواقدي فأرخ ذلك للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرًا (5).
وهناك روايات شاذة فقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة، وقال آخرون: ثلاثة عشر شهرًا، وتسعة أشهر، وعشرة، وشهرين (6) وسنتين (7).
وإذا أسقطنا الروايات الشاذة، فإن ظاهر التعارض بين "ستة عشر شهر" و "سبعة عشر شهرًا" يسهل إزالته بالجمع بين القولين بأن يكون من جزم بستة عشر شهر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معًا، ومن شك تردد في ذلك (8).
(1) تاريخ خليفة 64 وطبقات ابن سعد 1/ 242 بإسناد إليه صحيح لكنه مرسل ومراسيل سعيد بن المسيب قوية. وانظر تفسير الطبري 2/ 3.
(2)
ابن حجر: فتح الباري 1/ 97 وقد اعتمدوا على أن تاريخ الهجرة في شهر ربيع الأول بلا خلاف فأضافوا ستة عشر شهرًا فيكون تحويل القبلة في منتصف شهر رجب على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
(3)
تاريخ خليفة 64 بدون إسناد.
(4)
سيرة ابن هشام 2/ 243 بدون إسناد.
(5)
طبقات ابن سعد 1/ 242 والواقدي متروك.
(6)
فتح الباري 1/ 97 وتفسير الطبري 2/ 3 - 4 وتاريخ خليفة 64 في إسنادهما عثمان بن سعد الكاتب ضعيف.
(7)
من مرسل الحسن البصري، ومراسيله ضعيفة (تاريخ خليفة بن خياط 65).
(8)
فتح الباري 1/ 96.
ولا شك أن استمرار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في الصلاة إلى بيت المقدس لقي ترحيباً من اليهود الذين كانوا قد عاهدوه. ولعل ما يذكره مجاهد من أنهم استغلوا ذلك قائلين: "يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا"(1) صحيح، فكأنهم يرون أن الدين الجديد يتابعهم في قبلتهم ويأخذ عنهم في التقاليد والطقوس وقد يطمحون في جره إليهم، وقد ذهب البعض إلى القول بأن تغيير القبلة إلى بيت المقدس كان أول الهجرة إلى المدينة تأليفاً ليهود (2) وقد تبين أن الصحيح خلاف ذلك وأن الصلاة إلى بيت المقدس كانت استمراراً لما كانت عليه الحال بمكة قبل الهجرة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الوحي ويرغب في التوجه إلى الكعبة .. عودة إلى قبلة إبراهيم عليه السلام حيث أول بيت مبارك بني لتوحيد الله وعبادته، ورغبة في تمييز المسلمين بقبلة مستقلة تقطع على يهود دعايتهم فاستجاب الله تعالى له وحقق أمنيته {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (3).
وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة كانت صلاة الظهر في بني سلمة، وأول صلاة صلاها في المسجد النبوي العصر، وأول صلاة صلاها أهل قباء في مسجدهم الفجر عندما بلغهم خبر تحويل القبلة (4). وكان وقع ذلك على اليهود شديداً، فقد غضبوا للأمر وقاموا بدعاية واسعة، فنزل القرآن الكريم في تفنيد مزاعمهم، فلما زعموا أن البر في الاتجاه بالصلاة إلى بيت المقدس نزل قوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (5) وعندما يتساءلون عن سبب التحول عن
(1) تفسير الطبري 2/ 20.
(2)
قد وردت في ذلك روايات ضعيفة في تفسير الطبري 2/ 4 من طريق محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف والمثنى بن إبراهيم الآملي وهو مجهول.
(3)
سورة البقرة: آية 144.
(4)
فتح الباري 1/ 97.
(5)
سورة البقرة: آية 177.
القبلة الحق - في نظرهم - يعلم نبيه أن يجيبهم: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1).وقد أوضح القرآن الكريم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة امتحان وابتلاء للمؤمنين لتظهر قوة عقيدتهم وتختبر سرعة استجابتهم لأوامر الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2).
يعني: وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها وهي بيت المقدس إلا للاختبار وإنما يظهر وجه الابتلاء عندما تطالعنا الأخبار التي تعكس صدى تحويل القبلة حيث يزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحير في دينه ورجع إلى قبلتهم ويرجف المنافقون في أوساط المؤمنين ما بال محمد يحولنا مرة إلى هنا ومرة إلى هنا حتى خاف المسلمون على صلواتهم التي صلوها إلى بيت المقدس أن يبطل أجرها (3).
فأوضحت الآية أن الله لا يضيع صلاة من صلى منهم إلى بيت المقدس ومات قبل تحويل القبلة دون أن يتجه إلى الكعبة، وهم عشرة من الصحابة، لأنهم أطاعوا الله ورسوله بالاتجاه إلى بيت المقدس كما أطاعه الأحياء في الاتجاه إلى الكعبة (4).
(1) سورة البقرة: آية 142 وانظر تفسير الطبري 2/ 1 - 2.
(2)
سورة البقرة: آية 143.
(3)
تفسير الطبري 2/ 11 - 12.
(4)
طبقات ابن سعد 1/ 243 بإسناد صحيح وفتح الباري 1/ 98، وتفسير الطبري 2/ 17.
(صفحة تحتوي على خريطة)
من كتاب "معجم معالم السيرة النبوية"