الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأصوليين ،مما عنونوا له بـ "تأويل مختلف القرآن" و"تأويل مختلف الحديث".
والمؤمن الواعى يتبع السلف الصالح فى طرائق البحث والاستنباط والترجيح. وإلا تاه وسط آلاف الروايات فى مجلدات التفسير والحديث. فإن استغلق عليه فهم أمر عقدي أو شرعي فليقل كما علمنا ربنا تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1).
حول ما يزعم من وجود الإعجاز الرياضى فى القرآن:
لقد جائت هذه الآيات فى سورة المدثر بعد ذكر موقف الوليد بن المغيرة من الإسلام ،وقوله عن القرآن:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (3).وكان الوليد من رجلات قريش ،كثير المال والولد، حسن المعرفة بالشعر ،وبأفانين الكلام، مما يجعله واعيا لكلام الله تعالى مميزا له ،لكنه آثر الكفر عنادا منه للحق، واستكبارا وبطرا وجحودا للنعم العظيمة التى أنعمها الله عليه، مع أنه كان يطمع فى المزيد من النعم، ولعله كان يطمع فى النبوة بعد أن نالته حظوظ الدنيا شبع منها. فيكون الحسد أحد بواعث إنكاره لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،فمضى يعين قومه فى دعايتهم ويوجههم فيها، مدعيا أن القرآن سحر يأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم عن غيره، ويؤكد لهم أنه لقول بشر كما يذكر القرآن {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (4).
(1) آل عمران:7.
(2)
المدثر:26 - 31.
(3)
المدثر:25.
مع أن المغيرة كان يعلم تماما أنه ليس من كلام البشر، فقد وَضَّحَ لقومه مباينة القرآن لكلام الكهان ومفارقته لشعر الشعراء، ومن هنا توعده الله تعالى بأن يصليه سقر وهو اسم علم لباب من أبواب جهنم، ناره لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا، بل تحرقه كلما تجدد خلقه ليخلد فى العذاب ،وهى "لوَّاحة للبشر" تحرق البشرة، التى تتجدد دوماً ،فتبقى حاسة المعذب كاملة ،فلا تخف معاناته على الدوام ،ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (1).
وقد أخبر الله تعالى رسوله-صلى الله عليه وسلم بأن سقر عليها تسعة عشر خازنا من الملائكة، وذلك أن أبا جهل ظنهم رجالا فزعم أن عدد قريش كثير، وأنهم يغلبون تسعة عشر رجلا، فبين تعالى أنهم ملائكة، وأن ذكر عددهم المحدود فيه فتنة للمشركين الذين استقلوا عددهم وطمعوا فى غلبتهم، وبين تعالى أن عدد خزنة النار مذكور أيضا في التوراة والإنجيل ،وأن هذا الإتفاق فى العدد لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا ،فيزيد يقين أهل الكتاب والمؤمنين بصحة نبوة أنبيائهم وصدق كتبهم، وأما المشركون فيزدادون شكا ونفاقا فى حقيقة البعث والنار التى وصفها القرآن بأنها تذكرة للبشر {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (2).
ويتضح من النص القرآنى وكلام السلف فى بيان معناه أن عدد خزنة النار هم تسعة عشر خازنا، وأنهم من الملائكة، وأن الرقم "تسعة عشر" ليس لغزا غامضا ليأتى الباحثون فى القرن العشرين ،فيدخلوا القرآن فى الكمبيوتر ثم يحلوا لغز الرقم ، وعندها يتجلَّى لهم مالم يتجلَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه الإعجاز القرآنى -فيما يزعمون-!!!
فقد ظهرت خلال العقود الثلاثة دراسات مبينة على أنه ثمة إعجازا رياضيا فى القرآن، وأن هذا الإعجاز كشف عنه الكمبيوتر حيث أظهر أن ثمة خصوصية للرقم "تسعة عشر" فى القرآن حيث تبين الدراسات التى استعانت بالعقل
(1) النساء:56.
(2)
المدثر:31
الآلى أن عدد حروف البسملة تسعة عشر حرفا، وأن كل كلمة منها يتكرر ذكرها فى القرآن تسعة عشر مرة، وأن فواتح السور وردت فى تسع وعشرين سورة، ومجموع حروف الفواتح أربعة عشر حرفا فيكون رقم جمعها سبعة وخمسين ،وهو من مضاعفات رقم تسعة عشر.
ومن خلال التركيز على رقم تسعة عشر يظهر أن بناء القرآن يقوم على هذا الرقم قصدا مما يدل على الإعجاز الرياضى حيث يستحيل على إنسان أن يقيم نظما وفق رقم تسعة عشر ومضاعفاته مما يدل على الإعجاز.
وبناء على هذه المقدمات وصل الباحثون المعاصرون إلى نقض كلام المفسرين القدامى ،بل ومعارضة النص القرآنى الذي بين أن خزنة النار تسعة عشر ملكا ،بالقول بأن التسعة عشر التى ذكرت إنما هى عدد حروف البسملة وليست عدد خزنة النار.
وقد يبدو للسذج أن الكشف عن أوجه جديدة للإعجاز القرآنى يخدم قضية الإسلام والإيمان فى هذا العصر. ولكن الصحيح أنها تزيد من الحيرة والشك عندما تبنى استنتاجاتها على أسس واهية ومصادافات واتفاقات اعتباطية ساذجة، فالقرآن لا يحمل ألغازا يكشف عنها الكمبيوتر ،ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام لم يكن يجهل معانى القرآن وطريقة نظمه وأوجه إعجازه ،ولم يخبر بأن ثمة أوجها للإعجاز سيكشف عنها الزمان .. والحق أنه ليس فيما ذكره الباحثون بواسطة الكمبيوتر ما يدل على وجود إعجاز رياضى ،وإنما هى بحوث تلفيقية لجأت إلى ملاحظة ظواهر متكررة بالنسبة للرقم تسعة عشر، ويمكن أن يلاحظ هذا الأطراد والتكرار بالنسبة لأرقام أخرى فلا تبقى ثمة خصوصية للرقم (تسعة عشر) ،وسواء أكان الحافز على مثل هذه الدراسات الرغبة فى الإثارة والتجديد ،أو الارتباط بجهات مشبوهة يعنى الرقم تسعة عشر عندها معنى تحيطه الأسرار والألغاز ،فإن على المسلم أن يحذر هذه الدراسات ولا يطمئن إلا لكلام أهل العلم المعروفين بالصدق والغيرة على دين الله.
إن إعجاز القرآن فى نظمه وأسلوبه ،وقد تحدَّى العرب-وهم أمة البلاغة والفصاحة- أن يأتوا بمثله فعجزوا ،ودام التحدى عبر تاريخ الإسلام دون أن يحقق الأعداء استجابة ناجحة للتحدى .. ثم أن شريعة الإسلام بما تضمنته من أحكام عادلة وعبرت عنه من رؤية شاملة لمصالح البشر وتقدير لآمالهم وآلامهم ،وتحديد دقيق لعلاقاتهم ،وإبراز للحق والواجب ،وكل ذلك بنى على مراعاة المصلحة والتيسير للناس ورفع الحرج عنهم ومنع التعسف والظلم. وكذلك فقد مضى على نزول القرآن أكثر من أربعة عشر قرنا دون أن يظهر العلم المتطور والبحث المتقدم أية تناقضات بين ما ذكره القرآن وما كشف عنه علم الإنسان النظرى والتجريبى فهذا كله دليل على أن القرآن من عند الله وليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم،بل أن الفرق واضح بين بين أسلوب القرآن وأسلوب الرسول كما يظهر فى أحاديثه. ومعروف لدى نقاد الأدب استحالة أن يكتب الكاتب بأسلوبين متمايزين تمايز أسلوبي القرآن والحديث. وهذه الأوجه تغنى عن محاولة افتعال أوجه أخرى للإعجاز مثل فكرة الإعجاز الرياضى التى لم تبن على حقائق العلم بل استغلت موافقات معينة لخدمة أهداف مريبة سواء اتصلت بتدعيم مكانة الرقم تسعة عشر عند البابيين والبهائيين ،أو بالكسب المادى عن طريق الإثارة وادعاء التجديد مما يؤدى إلى رواج المنشور-وانخداع السذج بما فيها من معلومات غريبة ظاهرها خدمة الإيمان ،وباطنها التشكيك والنقض لأقوال السلف بل ولصريح القرآن.
وقد حذَّر رسول الله-صلى الله عليه وسلم من تفسير القرآن بالرأى دون دليل فقال: (من قال فى القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار)(1).وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ)(2).
(1) رواه الترمذى وقال: هذا حديث حسن (سنن2/ 157).
(2)
رواه الترمذى: (سنن2/ 157).
إنَّ القرآن معجزة بيانية ،وإن تشريعاته المحكمة دليل على أنه من عند الله ولكنه ليس المعجزة الوحيدة لمحمد-صلى الله عليه وسلم كما ذهب إلى ذلك البعض من مؤلفى السيرة النبوية المعاصرين (1). بل ثمة معجزات أخرى ثابتة بأحاديث صحيحة لا يمكن ردها أو تأويلها ،وليس من داع لإنكارها سوى الخضوع لمنهج البحث المادى الذى ينكر ما وراء الطبيعة من عالم الغيب والروح.
وفيما يلى أعرض للمعجزات الحسية التى جرت فى عصر السيرة.
(1) منهم الدكتور محمد حسين هيكل فى كتابه (حياة محمد).