المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بشرية الرسول ومما لاشك فيه أن الأنبياء هم أوعى البشر بحقيقة - السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية - جـ ٢

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالثالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةالجهاد ضد المشركين

- ‌تشريع الجهاد

- ‌طلائع حركة الجهاد

- ‌تحويل القبلة إلى الكعبة

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌في أعقاب بدر

- ‌غزوة قرقرة الكدر:

- ‌غزوة السويق:

- ‌غزوة ذي أمر:

- ‌غزوة بحران:

- ‌غزوة القردة:

- ‌غزوة أحد

- ‌في أعقاب أحد

- ‌غزوة بدر الموعد:

- ‌من تاريخ التشريع:

- ‌غزوة بني المصطلق (المريسيع)

- ‌غزوة الخندق (الأحزاب)

- ‌في أعقاب غزوة الخندق

- ‌سرية الخبط (سرية سيف البحر)

- ‌غزوة الحديبية

- ‌رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء

- ‌تأديب الأعراب

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة مؤتة

- ‌غزوة ذات السلاسل

- ‌فتح مكة

- ‌غزوة حنين

- ‌غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌الأحداث الأخيرة

- ‌عام الوفود

- ‌حج أبي بكر بالناس عام 9 ه

- ‌حجة الوداع

- ‌تجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة

- ‌وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابعالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌عالم الغيب:

- ‌الألوهية والربوبية:

- ‌النبوات

- ‌الإيمان بسائر الأنبياء وأثره:

- ‌بشرية الرسول

- ‌ختم النبوة وعموم الرسالة الإسلامية:

- ‌القرآن معجزة الرسول الخالدة:

- ‌أثر القرآن فى تبصير الإنسان:

- ‌خلو القرآن من التعارض:

- ‌حول ما يزعم من وجود الإعجاز الرياضى فى القرآن:

- ‌معجزات الرسول الحسية

- ‌منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

- ‌نبي الرحمة

- ‌محبة الرسول من الإيمان

- ‌أمهات المؤمنين

- ‌جيل عصر السيرةفضل الصحابة ووجوب محبتهم وموالاتهم

- ‌مبادرة الصحابة إلى طاعة الله

- ‌تجرد الصحابة للدعوة إلى الإسلام

- ‌فضل الهجرة

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الأول

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الثاني

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الثالث

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الرابع

الفصل: ‌ ‌بشرية الرسول ومما لاشك فيه أن الأنبياء هم أوعى البشر بحقيقة

‌بشرية الرسول

ومما لاشك فيه أن الأنبياء هم أوعى البشر بحقيقة الألوهية، ومعرفة استحقاق الإله وحده للعبادة، وذلك بما اختصهم الله به من علم الوحي الإلهي، فالتمييز واضح عندهم بين ما هو حق لله وما هو حق للنبي. لذلك نفي القرآن الكريم عن الأنبياء أن يوجهوا الناس لعبادتهم بدلا من عبادة الله قال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (1).

وهكذا اتضحت طبيعة العلاقة بين "الإله" و "النبي" و "البشر"، ولم يقع في تاريخ الإسلام الطويل أي جدل حول طبيعة النبي كما جرى في تاريخ النصرانية التي كانت قضية طبيعة المسيح وهل هي إلهية أم بشرية، أم إلهية وبشرية متحدة أساسا لانقسامها إلى فرق عديدة متطاحنة.

لقد أعلن محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين جميعا أنه بشر مثلهم كما ورد في القرآن الكريم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (2). وإذا كان الأنبياء لا يستحقون العبادة - وهم أفضل البشر، فإن القادة الفكريين والزعماء المبرزين لا يستحقون

(1) الكهف: 110.

(2)

آل عمران:79.

ص: 582

العبادة من باب الأولى، وبالتالي قطع الإسلام الطريق أمام الدعوة إلى عبودية الإنسان من دون الله مهما بلغ مقامه وعظم مكانه. وبذلك حافظ على كرامة الإنسان وحريته، ومنعه من السقوط في هاوية الخضوع الأعمى لغيره من البشر، فضلا عن حمايته من عبادة المخلوقات الأخرى من حيوان وجماد وقوى الطبيعية.

وقد لا يدعو القائد المفكر إلى عبادة ذاته، ولكن يحرف كلام الله ويغير أحكامه، وهو بذلك يعطي نفسه حق التشريع، وهو من حقوق الله وحده، وبذلك يتعبد الناس ويخضعهم لفكره وتشريعه، وهو نمط من العبودية حذر منه الرسول الكريم عليه السلام ونبه بعض المفسرين إلى وقوع الأم السابقة فيه. فقال المفسر ابن جريج في تفسير قوله تعالى:{كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) قال: "كان ناس من اليهود يتعبدون الناس دون ربهم، بتحريفهم كتاب الله عن مواضعه بغير الذي يقرأون مما أنزل الله في كتابه (2). وقال عدي بن حاتم رضي الله عنه: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته، وانتهيت إله وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3) قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم" (4).

وهكذا أوضح المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حق التشريع لله، ومن نازعه فيه فقد دعا الناس إلى تأليه ذاته وعبادته من دون الله تعالى.

(1) آل عمران: 79.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم للآية 79 من سورة آل عمران.

(3)

التوبة:31.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 114.

ص: 583

بل إن الإسلام مضى إلى ما هو أبعد من هذه التوجيهات، احتياطا للناس وإبعادا للأمة من الوقوع في براثن المضللين فجعل الولاء للعقيدة وليس للرجال مهما علت مكانتهم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي أصحابه عن المبالغة في تعظيمه يقول:(لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)(1).

وينهى عن مديح الرجل في وجهه، لئلا يناله العجب بالنفس فيجره ذلك إلى الهلاك، فلما أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك (2) - مرارا".

فأين هذه التعاليم مما تتعود عليه الأمم التي لا دين لها من الانحناء والسجود للزعماء، والتقرب إليهم بمعسول الكلام وعظيم الثناء، وتشبيهم بالله تعالى وإسباغ صفاته عز وجل عليهم، بل والوقوف طوابير في انتظار زيارة قبورهم بعد موتهم في الأعياد والمناسبات الوطنية وصرف المبالغ الطائلة على بناء مقابرهم وزخرفة أضرحتهم، وقديما صرف الفراعنة الملايين وسخروا الألوف من شعبهم لبناء أهراماتهم، وحديثا نجد هذه المظاهر في دول تدعي نبذ الدين وتخليص الناس من الخرافة وتحريرهم من عبودية الله!! فإذا بها تتعبدهم للزعماء من البشر في حياتهم وبعد مماتهم!!

روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال نعم

(3)

.

(1) أخرجه البخاري (الصحيح 4/ 132) كتاب الأنبياء - باب 48 {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} ، والدارمي: سنن 2/ 320، وأحمد: المسند 1/ 23.

(2)

أخرجه البخاري (الصحيح 3/ 158) كتاب الشهادات باب 16 إذا زكى رجل رجلا كفاه. وأخرجه مسلم (الصحيح 4/ 2296).

(3)

أخرجه الترمذي: سنن 5/ 75 حديث رقم 2728وقال: هذا حديث حسن.

ص: 584

ولم يكن الداخل على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يميزه عن أصحابه من هيئته أو مكان جلوسه، بل كان الغريب يسأل عنه ليعرفه .. أخرج الدارمي قال العباس: يا رسول الله إني رأيتهم قد آذوك وآذاك غبارهم فلو اتخذت عريشا تكلمهم منه؟ فقال: لا أزال بين أظهرهم يطأون عقبي، وينازعون ردائي، حتى يكون الله يريحني منهم" (1).

وأخرج الطبراني عن عبد الله بن جبير الخزاعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في أناس من أصحابه فتستر بثوب، فلما رأى ظله رفع رأسه، فإذا بملاءة قد ستر بها فقال له: مه!! وأخذ الثوب فقال: "إنما أنا مثلكم"(2).

وسئلت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم. كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته. (3).

فهذه صورة النبي في الإسلام، وهو أرفع البشر، له الحب والتوقير والدعاء، وله الدرجة الرفيعة، لكنه لا يتجاوز مقام العبودية والطاعة لله، ولا يخلع على نفسه صفات الألوهية، ولا يدعو الناس إلى عبادته، بل يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويجعل نفسه مثلهم الأعلى في عبادة الله وطاعته، وشعاره ({كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} (4).

وقد حرص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على التمييز بين الألوهية والنبوة، خاصة أن الأمم السابقة قد ألهت أنبياءها، فقالت اليهود عزير ابن الله

(1) الدارمي: سنن 1/ 35 - 36 من طريقين، وأخرجه البزار من طريق ابن عباس أيضا (الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 21 وقال: رجاله رجال الصحيح).

(2)

الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 21 وقال: رجاله رجال الصحيح.

(3)

مسند أحمد 6/ 176 وأنظر: 121، 260 منه.

(4)

آل عمران آية: 79.

ص: 585

وقالت النصارى المسيح ابن الله، ولا شك أن تأليه الأنبياء لم يكن في حياتهم، بل بعد زمنهم بقليل أو كثير حيث تدخل المبالغات والأساطير إلى تاريخهم وسيرتهم، ويبالغ أتباعهم في أخبارهم، حتى يوصلوهم إلى مرحلة الألوهية، ويعبدوهم من دون الله، أو يشركوهم في عبادة الله. ومن هنا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأليهه وأكد على صفاته البشرية. فقد "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه فقال:(هوِّن عليك. فإني لست بملك. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد)(1) وهذا تواضع منه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي اختاره الله من خيار خلقه، وعصمه في نسبه وطهارة محتده؛ فكل آبائه وأمهاته من زواج صحيح.

ورغم علو مكانته وسمو خلقه وإشادة القرآن برفعته وعظمته فإنه لم يتخط خصائص البشرية، فهو يتألم كما يتألم البشر، بل إن آلامه تفوق آلامهم. روى البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال:(إن أوعك كما يوعك رجلان منكم)(2)، ولما اشتد المرض عليه حين وفاته لاحظت فاطمة - بنته - ما كان يتغشاه فكانت تقول: واكرب أباه. فيقول لها مهدئا: ليس على أبيك كرب بعد اليوم) (3). وكان يقول: (إنا معشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء)(4).

ولم يدع مناسبة إلا وبين خصائصه البشرية التي لا تنفك عنه إلا في عصمة النبوة، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنما محمد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد أخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته، أو سببته أو جلدته، فاجعلها له كفارة وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة)(5).

(1) ابن ماجة: السنن 2/ 1101 حديث رقم 3312 وصحيح سنن ابن ماجة 2/ 232 حديث رقم 2677.

(2)

صحيح البخاري حديث رقم 5648.

(3)

صحيح البخاري حديث رقم 4462.

(4)

مسند أحمد 3/ 94.

(5)

صحيح مسلم حديث رقم 2601.

ص: 586

وكما يطرأ عليه الغضب يطرأ عليه النسيان، فهو وإن كان الله قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فإنه لم يبرئه من سمات الحدث ولم يخله من الأعراض البشرية (1). فقد سها في صلاته ونسى بعض العدد من ركعاتها حتى ذكر بها ونبه عليها.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم) (2).

ولم تمنع نبوته ورفعة درجته أصحابه من مراجعته في الرأي حتى يعزم الله له، ففي صلح الحديبية راجع عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موافقته على شروط الصلح فقال عمر رضي الله عنه "فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به) (3).

(1) الخطابي: أعلام الحديث 77.

(2)

صحيح البخاري حديث رقم 482 (فتح الباري 1/ 565).

(3)

رواه البخاري في صحيحه كما في فتح الباري حديث رقم 2731.

ص: 587

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقف على الحكمة من موافقته على شروط الصلح، وكان يرغب في إذلال المشركين، "فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه"(1).

ولم تقتصر المراجعة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المقربين، ولا على أصحاب المسئولية في الدولة والمجتمع، بل إن النساء كن يراجعنه أيضا. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"كنا معشر قريش نغلب الناس، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني! فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فأفزعني ذلك فقلت: جاءت من فعلت ذلك منهم بعظيم، ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله حتى الليل، فقالت: نعم. فقلت: خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله. لا تستكثري على رسول الله، ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه وسليني ما بدا لك"(2).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد لأصحابه هذا المعنى، معنى بشريته، وأنه إنما يمتاز عليهم بالنبوة، ويحذرهم من فعل الأمم السابقة مع أنبيائهم عندما غلت فيهم فاتخذتهم آلهة مع الله سبحانه.

وإنما نهاهم عن المبالغة في مدحه خشية أن يجر ذلك مع الأيام إلى إسباغ صفات الألوهية عليه كما حصل لمن أطرى عيسى ابن مريم من النصارى، وقد تمسك عليه الصلاة والسلام بصفة العبودية لله وصفة الرسالة، فهو عبد الله ورسوله، وفيه تتمثل العبودية الصادقة لله فهو أكثر البشر عبادة وطاعة وأشدهم التزاما بتعاليم الرسالة ....

(1) ابن حجر: فتح الباري 5/ 346 - 347.

(2)

صحيح البخاري 3/ 103.

ص: 588

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" (1).

إن عبادة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي ثمرة إحساسه صلى الله عليه وسلم بعظمة الخالق ونعمه الكثيرة عليه، وخاصة ائتمانه على الرسالة الخاتمة التي حملها للعالمين .. والتي صارت بفضل الله ثم بفضل تبليغ الرسول لها أعظم نعم الله على العباد، فهي تتقدم سائر النعم الأخرى جليلها وصغيرها، فليس من نعمة أعظم من الهداية إلى معرفة الله الخالق، واستبانة طريقه المستقيم المفضي إلى النعيم المقيم. في الآخرة، وإلى الطمأنينة والراحة النفسية في الدنيا، حيث لم يعد الإنسان بحاجة إلى طواف طويل وجهد عقلي كبير سعيا للوصول إلى الحق، وتعرفا على الله، ووصولا إلى الحق والخير والجمال. فكل ذلك جاءت به الرسالة الخاتمة التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغها لأصحابه رضوان الله عليهم، وهم بدورهم حملوها إلى أمم الأرض، وتوارثها الخلف عن السلف عبر القرون، فاهتدى بنورها ألوف الملايين من أهل الأرض.

إن نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى في روحه وعقله وبدنه، بحيث إن الإنسان الواحد يمتلك ثروة عظيمة جهزه بها الخالق القدير في أعضائه المختلفة، ومن البديهي أن الإنسان صاحب هذه الأعضاء لا يرضى أن يستبدل أيا منها بالألوف المؤلفة من الدنانير والذهب والفضة، وهذا ينطبق على نعمة البصر والسمع والعقل، بل واليد والرجل .... وقد جاء الوقت الحاضر ليرى الناس جميعا أن أعضاء البدن تقوم بالمال الكثير عندما يحتاج مريض إلى كلية أو غيرها.

إن النعم تحيط بالإنسان وتكتنفه لكن تعوده عليها ينسيه قيمتها، ولو فقد الإنسان شربة ماء ثم وجدها بالمال الكثير لدفعه لحيازتها، لكن كرم الخالق معه

(1) متفق عليه (صحيح البخاري 2/ 44) وصحيح مسلم حديث رقم 2819.

ص: 589