الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجرد الصحابة للدعوة إلى الإسلام
هذه الآيات الكريمة نزلت في وصف المهاجرين والأنصار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي توضح تجردهم لدعوة الإسلام، فلم يقف حب الديار والتعلق بالمال عائقاً أما خدمتها، فلما أمروا بالهجرة سارعوا إليها تاركين ما ألفته النفس من الديار، وما حازوه من المال تجرداً للدعوة، وابتغاء مرضاة الله التي تعلو على كل حظوظ النفس، وقد وصفتهم الآيات بالإيمان الصادق وتسديد النية في ابتغاء فضل الله ورضوانه، فليس لهم مطمع في المال والجاه والشهرة، وعندما يحين وقت البذل والعطاء نجد أيديهم سمحة بالمال ممدودة بالسخاء، لا تقف عند حدود بذل المال الزائد والفضل عن الحاجة بل تحقق ما هو أرفع
…
تحقق الإيثار على النفس المحتاجة .. فتحرم من حاجتها لتلبي حاجة العقيدة أولاً .. لقد انخلع جيل الصحابة عن الشح ليحققوا الفلاح الذي وصفتهم به الآيات بعد أن استحقوا صفة النصرة لله وللرسول، وبذلك صاروا رموزا شامخة وأعلاماً هادية وقدوات سامقة تتطلع أجيال المسلمين إليهم بكل فخر واعتزاز وبكل تمجيد وتقدير، وما أحسن وصف ابن مسعود لأبناء جيله من الصحابة حين قال:"من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"
(1) الحشر 8 - 9.
نهض الصحابة رضوان الله عليهم بالدعوة إلى دين الله، وعبَّروا عن مضامينه ومقاصده أجمل تعبير، مما يدل على وعي عميق بواقع عصرهم، ومقاصد دينهم .. قال ربعي بن عامر لقائد الفرس رستم:"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيف الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"(1).
وكان الصحابة يحملون رسالة إلى أهل الأرض، وكان أشد فرحهم عند دخول الناس في الإسلام، وكانوا بذلك واعين لأهدافهم حريصين على نشر عقيدتهم مستوعبين لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه يوم خيبر:"لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم"(2).
وكانت قياداتهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد هذا المعنى .. قال الصحابي الجليل أنس بن مالك: "بعثني أبو موسى الأشعري بفتح تُسْتَر إلى عمر، فسألني عمر وكان ستة نفر من بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين - فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت يا أمير المؤمنين، قوم قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل. فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء - أي من الذهب والفضة -.
قلت: يا أمير المؤمنين، وما كنت صانعا بهم لو أخذتهم؟
قال لي: كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن" (3).
ولما عرض المقوقس على عمرو بن العاص الجزية عند فتح الإسكندرية على أن يرد إليهم الأسرى، كتب عمر بن الخطاب إلى ابن العاص بقبول الجزية، وتخيير الأسرى بين الإسلام والنصرانية .. وقد وصف موقف التخيير
(1) تاريخ الطبري 3/ 528.
(2)
صحيح مسلم 2/ 279.
(3)
البيهقي: السنن 8/ 207.
شاهدُ عيانٍ هو زياد بن جزء الزُّبيدي، قال: "فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيِّرهُ بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبَّرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية. قال: ثم نحوزه إلينا. وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً حتى كأنه رجل خرج منا إليهم.
قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم.
وقد أُتي فيمن أتينا به - بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فوقفناه فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية - وأبوه وأمه وأخوته في النصارى - فاختار الإسلام فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وأخوته، يجاذبوننا حتى شقَّقوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا (1) ".
وهذه الحادثة تكشف عن مشاعر الصحابة، وتعلقهم بدينهم، ورغبتهم الصادقة في إسلام الناس، وإن سقطت الجزية عنهم، ثم هي تكشف عن جو الحرية الدينية، وعدم إجبار أحد على اعتناق الإسلام حتى مع القدرة عليهم.
ولم يكن طريق الإسلام في جيل الصحابة معبداً مفروشاً بالزهور، وخاصة في أولى مراحل الدعوة بل كان محفوفا بالأخطار، وكان الدخول فيه امتحانا شاقا لا تجتازه بنجاح إلا الهمم الشامخة والنفوس العالية، التي حازت الإيمان والتقوى والإخلاص والمجاهدة .. مرَّ رجل بالمقداد بن الأسود رضي الله عنه فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت!! فقال المقداد: ما يحمل أحدكم على أن يتمنَّى محضراً غيَّبه الله عز وجل عنه. لا يدري لو شهده كيف يكون فيه! والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام - كبهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم - لم يجيبوه ولم يصدقوه! أولاً تحمدون الله إذ أخرجكم الله عز وجل لا تعرفون إلا ربكم مصدِّقين بما جاء
(1) تاريخ الطبري 4/ 227.
به نبيكم عليه السلام، وقد كُفيتُم البلاء بغيركم؟! والله لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشدِّ حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافراً. وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه - أي أقربائه - في النار، وإنها للتي قال الله عز وجل:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} .
وكان معظم الصحابة من الفقراء، وكانت الدولة الناشئة في المدينة المنورة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله في نيل المال أو الجاه أو أي من أعراض الدنيا، ومن طريق الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الصحابي الجليل سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كانت منا امرأة تجعل في مزرعة لها سِلْقًا، فكانت إذا كان يوم الجمع تنزع أصول السلق فتجعله في قِدْر، ثم تجعل قبضة من شعير تطحنه، فتكون أصول السلق عَرْقَة - أي عظمه ولحمه -.
قال سهل: كنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنَّى يوم الجمعة لطعامها ذلك - وفي رواية: ليس فيها شحم ولا وَدَك، وكنا نفرح بيوم الجمعة" (1).
وقد تحمَّل الصحابة الكرام من الجوع والعطش والحرِّ والبرد والأذى، فصبروا على الامتحان، وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فاستحقوا المكانة التي وصلوا إليها حيث خلدهم كتاب الله تعالى بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظت لهم الأمة الإسلامية قدرهم على مدى الزمان.
لقد كان الصحابة يلتزمون بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم للخلفاء الراشدين من بعده، وكان للبيعة قيمة عالية فهي التزام حرُّ وتعاقدٌ بين الطرفين، وقد دلَّلوا
(1) المنذري: الترغيب والترهيب 5/ 173.
دائماً على صدق التزامهم فلبَّوا داعي الجهاد وخاضوا غمار المعارك في أماكن نائية عن ديارهم، ودُفِنَ كثير منهم في أطراف الأرض ما بين كابل والقسطنطينية والقيروان وما عرفوا القعود عن الجهاد والحفاظ على الكرامة والذود عن العقيدة.
وبيعة الناس للخليفة تدل على أن الأمة هي مصدر السلطة، وأن السلطة ليست ثيوقراطية، وليست ممنوحة من الله لأحد من البشر بل هي تعاقد بين المسلمين وحاكمهم على أن يطيعوه في العسر واليسر والمنشط والمكره، مقابل حفاظه على دين الله، وإنفاذه حكم الله، وحفظه للأمن، وتحقيقه لمصالح الرعية، فلا كهنوت في الإسلام ولا تفويض إليهاً، بل بيعة حرة يدرك الطرفان، الأمة والحاكم عمق معناها ومدى التزاماتها؛ ذلك العمق والالتزام النابعان من معنى الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (1).
وما أدق تعبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له عمير بن عطية الليثي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ارفع يدك - رفعها الله - أبايعْكَ على سُنَّة الله ورسوله. فرفع عمر يده وضحك وقال: هي لنا عليكم ولكم علينا. فالتزام البيعة إذاً يشمل الراعي والرعية.
لقد خلد القرآن الكريم مواقف المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار في آيات كثيرة. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2).
والسابقون الأولون هم الذين صلَّوا إلى بيت المقدس أولاً ثم صلوا إلى الكعبة بعد تحويل القبلة إليها، وهذا الرأي قال به سعيد بن المسيب، ومحمد ابن سيرين، وهما من كبار التابعين. وتحويل القبلة إلى الكعبة كان في السنة الثانية من الهجرة بعد ستةَ عشرَ شهراً من قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن كان على الإسلام قبل هذا التاريخ فهو من السابقين الأولين.
(1) الفتح: 10.
(2)
التوبة: 100.
إنَّ أولى السابقة تحمَّلوا المسئولية في ظروف الشدة والخطر، فالمهاجرون ضحوا بالأهل والمال والديار، وهاجروا لنصرة عقيدتهم، والأنصار عرَّضوا مدينتهم للخطر، وآثروا العقيدة بالنفس والمال والأمن.
وقد تفاضل الصحابة - رضوان الله عليهم - حسب قدمهم في الإسلام وخدمتهم للعقيدة، فكان البدريون طبقة أولى فهم من السابقين الأولين، وكان من شهد أُحُدًا طبقة ثانية، وكان من شهد الخندق طبقة ثالثة، ومن شهد بيعة الحديبية طبقة رابعة، ومن أسلم في ما قبل الفتح طبقة ومن أسلم بعد فتح مكة طبقة.
وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يقتل حاطب بن أبي بلتعة وهو صحابي بدري، حاول أن يرسل خبر إعداد المسلمين لفتح مكة إلى قريش، لكن الرسالة سقطت بيد المسلمين، واعترف حاطب بأنه أراد أن يحمي أهله بمكة من أذى قريش، وهنا نجد أن سابقة حاطب وشهوده بدراً تشفع له، فلا يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بقتله بل يقول: إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلَّع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم" (1).
وقد اشتكى أحد عبيد حاطب بن أبي بلتعة عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ليدخلنَّ حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتَ لا يدخلها إنه شهد بدراً والحديبية" (2).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية"(3).
وقد اختص عمر بن الخطاب أهلَ السابقة والخدمة للإسلام بعطاءٍ أوفر من الدولة، وهكذا قرن بين التكريم المعنوي والمادي لتمكين هؤلاء الرجال من العيش الكريم، ولتقوية نفوذهم في المجتمع، وتدعيم مركزهم في القيادة
(1) صحيح البخاري (فتح الباري 2/ 519) وصحيح مسلم 4/ 1941.
(2)
صحيح مسلم 4/ 1942. وكذبت تستعمل بمعنى أخطأت.
(3)
صحيح مسلم 4/ 1942.
والتوجيه، وهي التفاتة تدلُّ على عبقرية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
روى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله ما ينضجون كُراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع - أي السنة المجدبة - وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها.
فقال عمر: ثكلتك أمُّك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفييء سهماننا فيه".
وقد تكرر ذلك من عمر رضي الله عنه، فقد قسَّم مروطا (أكسية من صوف أو خز) بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيِّد، فقال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه وكانت زوجة لعمر بن الخطاب.
فقال عمر: أم سُليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحمل للناس القرب يوم أحد (1).
وهكذا فإن تكريم الأبطال الذين يقدمون خدمات عظيمة للمجتمع انسحب على أبنائهم، وبذلك يعرف الناس جميعاً أن تضحياتهم لا تضيع في الدنيا ولا في الآخرة {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
(1) ابن الجوزي: مناقب عمر 57.
ولا شك أن الإسلام جعل اتباعه يتطلعون إلى ما عند الله من الأجر العظيم، الذي لا يعدله شيء من تكريم الدنيا مهما عظم، فقد صحّ أن أعرابياً شهد فتح خيبر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعركة أن يقسم له قِسْمًا وكان غائبًا، فلما حضر أعطوه ما قسم له، فحاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأدخل الجنة.
قال: إن تصدق الله يصدقك.
فلبثوا قليلا. ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بجُبَّتِه وصلَّى عليه ودعا له فكان مما قال:"اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، وأنا عليه شهيد"(1)
وقد أثبت الأبطال المسلمون ترفعا على الدنيا وما فيها، وشمخت نفوسهم إلى الرضوان الأكبر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية، أنه يريد الدنيا مع الآخرة"(2).
ولما قُدِم بسيف كسرى على عمر ومِنْطَقَتِه وزِبْرجِهِ، قال عمر: ان أقواما أَدَّوا هذا لَذَوو أمانة.
فقال علي رضي الله عنه: إنَّكَ عففتَ فعفَّت الرعية (3).
ومن أجل مظاهر تكريم الصحابة في الإسلام أنهم اعتبروا موضعَ قدوة وتأسٍ من بين المسلمين، فكتبت سيرهم وعرفت أخبارهم وبلغت كتب التراجم التي خلدت ذكراهم عشرات الألوف من الكتب، فلم تعنَ أمة بتسجيل تراجم رجالاتها مثل عناية الأمة الإسلامية، وهذا هو السبب الذي جعل كتب التراجم أوسع موضوعات المكتبة العربية الإسلامية.
(1) مصنف عبد الرازق 5/ 276.
(2)
تاريخ الطبري 4/ 19.
(3)
المصدر السابق 4/ 20.
وكان العلماء قديماً وحديثاً يوجِّهون النشأ إلى النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير أصحابه الغر الميامين، لينشأوا على حب البطولة والأبطال، وليتأسوا بخلق أصحاب المروءة والشجاعة والكرم والصدق والعفاف والمعروف. وقد نبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة تحقيق هذا المنهج في الاقتداء بالصالحين فقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1). والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم شامل لمنهجه في مطالب الدين والدنيا لأنه لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى.
أما الاقتداء بالعظماء والصالحين من البشر فيكون في الجانب الذي تميزوا به مما يتطابق مع أحكام الشرع ومقاصده، فيستفاد من تطبيقهم ذلك في حياتهم لتوضيح المعنى وإبراز موضع القدوة، مع ضرورة اعتبار بعض القواعد، ومنها أن الأفذاذ من الأبطال والصالحين لهم أخطاؤهم أيضاً، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومن هنا تظهر أهمية قاعدة "اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال" فمن المهم وضوح الحق وتميزه ومعرفة الباطل وتميزه، وقد قال الإمام أحمد:"من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال".
والصحابة أنفسهم يتفاضلون في السابقة والجهاد والعلم بالقرآن والسنة والفقه، فمنهم البدريون والأحديون وأصحاب الخندق ومسلمة ما قبل الفتح ومسلمة ما بعد الفتح، ولا شك أن أصحاب السابقة هؤلاء يمتازون بأنهم رموز الدعوة الإسلامية ومثلها العليا، وكانت أعمالهم سوابق تُحتذى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن أعمال الخلفاء الراشدين سنّة تُحتذى، وسوابق يقاس عليها، وذلك في الحديث "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ"(2).
ونجد الآية الكريمة هنا توجه المؤمنين إلى إتباع أهل السابقة {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} .
(1) الأنعام: 90.
(2)
سنن أبي داود 5/ 14 حديث رقم 4607 وسنن الترمذي حديث رقم 2678 وقال: حسن صحيح. وسنن ابن ماجة حديث رقم 42.
ونجد الخليفة عمر بن الخطاب يختص أهل السابقة من البدريين بأعلى العطاء، وكان يدرك أن ترسيخ جذور هذه الفئة وتقويتها بالدعم المادي والأدبي يمكنها من القيام بدورها خير قيام، ويجعلها تتخلص من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وبذلك تعين على ترسيخ القيم الإسلامية والحفاظ عليها، وتمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن تعيقها الحاجة، أو تستذلها المادة، أو تخيفها من قولة الحق.
إنَّ لكل مجتمع رموزاً وقادة يمثلون قيمه، ويوجهون الأمة نحوها، ورموز المجتمع الإسلامي الأول هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم أهل السابقة، فقد محَّصتهم الفتن، وامتُحِنوا بالنفس والنفيس، فاسترخَصوا كل شيء من أجل رفع راية العقيدة الإسلامية.
هذا صهيب رضي الله عنه أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعه نفر من قريش مشركون، فنزل فانتشل كنانته فقال: قد علمتم يا معشر قريش أني أرماكم رجلا بسهم، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم شأنكم بعد ذلك، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلوا سبيلي، قالوا: نعم. فتعاهدوا على ذلك فدلَّهم، فأنزل الله على رسوله القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (1). حتى فرغ من الآية. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا قال: ربح البيع يا أبا يحيى! ربح البيع يا أبا يحيى! وتلا عليه الآية (2).
وأمثال صهيب كثير عافوا الأرض والأهل والمال، وهاجروا بأنفسهم إلى الله ورسوله، فكانوا مادة الإسلام ورجاله الأولين. وكانت الهجرة نصرةً لدين الله ودفعاً لفتنة الإِقامة بين ظهراني المشركين، كذلك كانت بيعة الأنصار في العقبة الثانية على النصرة، فقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في
(1) البقرة: 207.
(2)
ابن سعد: الطبقات 3/ 162 - 163. والحاكم: المستدرك 3/ 398، وصححه على شرط مسلم.
منازلهم عكاظ ومجنة وفي المواسم يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ "فلا يجيبه أحد يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك. حتى بعث الله إليه الأنصار فآووه وصدقوه ونصروه (1).
وأنفق الأنصار النفقة العظيمة، وواسوا المهاجرين بأموالهم، وآثروهم على أنفسهم حتى قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل القوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة واشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" (2).
وقد استحق الأنصار وصف رجال العقيدة المخلصين كما قال لهم صلى الله عليه وسلم: "إنكم ما علمت تكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع". وتخليداً لمروءتهم وعفتهم وشهامتهم قال صلى الله عليه وسلم: "ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار، أو نزلت بين أبويها"(3).
وهكذا كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم يقدم التضحيات الجسيمة في سبيل نصرة دين الله، فمكَّن الله لهم في الأرض كما وعدهم - ووعدُهُ الحقُّ - بقوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (4).
وقد دلَّل التاريخ على نجاح التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم، فبرز منهم عظماء الإسلام من الخلفاء والولاة والقضاة والقادة والعلماء والمربين، وتمكنوا من إرساء قواعد العقيدة ومنهاج الشريعة وأصول التربية وقيم الأخلاق
(1) الحاكم: المستدرك 2/ 625.
(2)
رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (مسند أحمد 3/ 200 - 204، وسنن الترمذي 4/ 653 حديث رقم 2487 وقال: صحيح حسن غريب.
(3)
الهيثمي: مجمع الزوائد 10/ 40 وقال: رجاله رجال الصحيح.
(4)
النور: 55.
في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك في الدنيا الرجال الذين رباهم على عينه، وقد ودعهم الوداع الأخير عندما أطل عليهم من حجرته صفوفاً منتظمةً خلف الصديق رضي الله عنه فابتسم ابتسامة الرضا والطمأنينة والثقة على مصير العقيدة في أيدي الصحابة الثقات.
وتتالت الأحداث الخطيرة بعد وفاته وعجم التاريخ عود الصحابة واختبر صلابة قناتهم التي لا تلين .. ارتد الأعراب خارج المدينة ومكة والطائف وامتنعوا عن أداء الزكاة، ونصح بعض الصحابة أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يدعهم يصلون ولا يؤدون الزكاة فقال:"والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو ضعوني عَناقًا كان يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"(1). فقاتل الأعراب حتى رجعوا إلى الإسلام، وأعاد توحيد الدولة، ونظم حملات الجهاد لفتح العراق والشام.
وتوفي أبو بكر رضي الله عنه وبايع الناس عمر بن الخطاب، فحرص الناس على الجهاد، وأتم فتح العراق وإيران والشام ومصر، وأعاد تنظيم الجيش ورتب ديوان الجند وفرض الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة، وعزز استقلال القضاة عن الولاة، وحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه:"لم أر عبقرياً يفري فريه"(2).
وعزَّز مبدأ الشورى وطبقه في حياته وعند وفاته، وبذلك أكَّد على دور الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد، وصارت سيرته رمزاً للعدل المطلق على مدى التاريخ، ومات غيلة على يد أبي لؤلؤة المجوسي.
وهكذا كان دور عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب في إقامة صرح الإسلام، وتوسيع رقعة دولته، ودعاء الناس إلى إعتناقه، وإقامة الشرع الحنيف وأحكامه بين أتباعه، وإعلاء راية الجهاد، ونشر العلم، وإشاعة الفقه وتولي الفتيا، وإطفاء الفتن، حتى ماتا شهيدين - كما بشَّرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) النسائي: سنن 5/ 5 - 6.
(2)
صحيح البخاري 4/ 198.
ورغم حداثة عهد العرب بالدولة الواحدة التي لم يعرفوها قبل الإسلام، فقد دامت دولة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قرونا طويلة، مما يدل على عمق الأساس الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى نجاح تربيته للصحابة الذين تولوا الأمر من بعده.
لقد خرَّجت مدرسة القرآن جيلاً عظيماً في دينه، عظيماً في خلقه، عظيماً في جهاده، وحسن بلائه، وفتَّقت الأذهان والقرائح، وأنارت القلوبَ بَوهَج الإيمان، والعقول برحيق القرآن، وأثبتت تاريخياً أنها قادرة على تحقيق إنسانية الإنسان، والحفاظ على جوهره النقي، ومعدنه الأصيل، وفطرته السليمة، في حين أضاعت الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية الإنسان وأحالته إلى مسخ، فصادرت روحه وعقله وخلقه، وغرست التوحش والانتقام، ونمَّت أنيابه ومخالبه، وما زالت مدرسة القرآن قادرة على إعادة الإنسان إلى إنسانيته، عندما يرتشف من رحيق الكتاب والسنة، ويقتدي بجيل الصحابة رضوان الله عليهم.