الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمهات المؤمنين
إن تصفح سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يعطي صوراً مشرقة عن خلقه الكريم عليه الصلاة والسلام في معاملة الناس جميعاً، ولكن سلوكه في بيته ومع أزواجه له دلالته الخاصة على رقة طباعه، وعمق عاطفته، وقدرته الفذَّة على مراعاة مشاعر أزواجه واحترام رغباتهن، ما دامت لا تخرج عن حدود الشرع وأحكامه.
هذه عائشة رضي الله عنها تحج معه صلى الله عليه وسلم فتمنعها حيضتها من أداء العمرة مع الناس، فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة قالت: يا رسول الله تعودون بحج وعمرة، وأعود بحجة وحدها. فإذا بالرسول يشفق أن تعود زوجه وهي تشعر بفوات بعض الفضل والخير عليها، فيتوقف ويطلب من أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن يصحبها إلى التنعيم حيث تحرم بالعمرة (1).
وفي غزوة المريسيع (بني المصطلق) يوقف الجيش كله لأن عقدا لعائشة انفطر منها فهي تجمع حباته من بين الرمال .. وعندما تحضر الصلاة ولا يجد المسلمون الماء للوضوء فتنزل آية التيمم ويعبر أحد الصحابة عن إحساسه بالحب لأبي بكر واعترافه بفضل هذه العائلة وبركتها يقول:"هذه إحدى بركاتكم يا آل أبي بكر"(2).
وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة خيبر وتزوج صفية بنت حيى كان يدير كساء حول البعير الذي تركبه يسترها به، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب!!
ولم يكن هذا المشهد بعيدا عن أعين الناس، بل كان مشهد من جيشه المنتصر .. وكان يعلمهم أن الرسول البشر والنبي الرحمة والقائد المظفر لا ينقص من قدره أن يوطئ أكنافه لأهله، وأن يتواضع لزوجه، وأن يعينها ويسعدها.
(1) صحيح البخاري 2/ 200 - 201 (ط. استنبول).
(2)
صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 431).
ويتجلى موقف رائع يصور عظمة خلق الرسول الكريم حين دخل على امرأة كان قد عقد عليها هي الجونية، روى البخاري من حديث أبي أسيد الساعدي قال:"خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشَّوط حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا هاهنا، ودخل، وقد أتى بالجونية، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها - حاضنة لها - فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: هببي نفسك لي. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة (ولم تعرف أنه رسول الله) قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن. فقالت: أعوذ بالله منك. فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد أكسها رازقيَّين وألحقها بأهلها"(2).
لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعنِّف المرأة، بل لم يجهر أمامها بطلاقها، وإنما أمر أبا أسيد أن يمتعها بالثياب ويعيدها إلى أهلها.
والمتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد الكثير من الأمثلة الرائعة على حسن ذوقه وجميل طبعه وكرم خلقه وحسن معاشرته ورفق معاملته واعتدال مزاجه وعدالة أحكامه وصدق كلامه
…
وهذا الكمال الخلقي من أعظم أدلة نبوته عليه الصلاة والسلام. فقد كان الصدق يملأ حياته، ويحكم علاقاته، ويطبع أقواله وأفعاله، فلا غرابة إذا كان أول المسلمين المؤمنين بدعوته هم أقرب الناس إليه وأعرفهم به، خديجة رضي الله عنها زوجه، وعلى رضي الله عنه ابن عمه، وأبو بكر الصديق صاحبه، وزيد بن حارثة مولاه، والكل ظلوا أوفياء لدعوة الإسلام طيلة حياتهم يفدونها بالنفس والنفيس.
ويشهد الإنسان طابع الصدق في علاقاته صلى الله عليه وسلم بأزواجه، فهو الرسول البشر، ليس فيه تعاظم وكبرياء الأقوياء بجاههم أو غناهم، بل فيه سماحة الأنبياء، وندى العظماء، وسيرة الأتقياء، تجده يحنو على أزواجه ويعينهن، فيقم
(1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب من غزا بصبي للخدمة 6/ 86.
(2)
صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 356).
بيته بيده، ويحلب الشاة، ويخرز النعل، ويتلطف إليهن، ويداري غضبهن، ويعدل بينهن، ويراعي ما جبلن عليه من الغيرة، ويحتمل هفواتهن، ويرفق بصغيرتهن، وهكذا عاش الرسول البشر عيشة إنسان لا ملاك، تلتصق خطواته بالأرض وقلبه معلَّق بالسماء، يهفو إلى ما عند الله، ويهتف متواضعاً "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد"(1).
ولنعرض لنماذج أخرى من حياة الرسول البشر في بيته: حيث تعيش أمهات المؤمنين في غرفهن الصغيرة بجوار المسجد النبوي، تمتزج حياتهن بأصوات الأذان للصلوات، ويشهدن جموع الناس مقبلين مدبرين، يصلون ويستمعون لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشتركن في بيان تعاليم الإسلام، وخاصة في شؤون المرأة، حين يتعذر على النبي صلى الله عليه وسلم لحيائه - البيان. ثم لهن حياة خاصة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حافلة بالعبادة والعلم، مليئة بالعبر، دافقة بالخير. ولا تخلو من الجدل والخصومة حينا، والغيرة حينا آخر. قالت عائشة رضي الله عنها:"ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت: يا رسول الله أحسبك إذا قبلت لك بنية أبي بكر ذريعتيها - أي ساعديها -؟ ثم أقبلت عليَّ، فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري. فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فيها ما تردُّ عليَّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلّلُ وجهُه"(2).
وهنا نلمس تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لغيرة الضرائر من بعضهن، ومراعاته للفطرة، فقد ترك زينب تفرغ غضبها وأذن لعائشة أن ترد عليها، وعدل بين زينب - وهي بنت عمه وزوجه - وعائشة - وهي بنت صاحبه وزوجه - ولم يغضب من هذه الملاحاة، فهي أمر طبيعي في حياة الضرائر. بل لم تتغير ملامح وجهه إلى العبوس لتكدير صفوه، بل علته ابتسامة رقيقة وهو يشهد انتصاف عائشة من زينب.
(1) ابن سعد: الطبقات 1/ 23 بإسناد صحيح.
(2)
البخاري: الأدب المفرد 558 بإسناد صحيح
وكانت زينب بنت جحش تطاول عائشة وتفاخرها في الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكرت عائشة في حديث الإفك (1)، وكانت تفخر بأن الله تعالى زوجَّها من الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل في ذلك قرآنا {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (2).
أما عائشة رضي الله عنها فكانت البكر الوحيدة من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وكانت تدل بذلك وتشير إليه بذكاء وفطنة امتازت بها، تقول:"يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها. تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها"(3) وهذا الإدلال المقبول لا يخالف الحقيقة ولا يجانب الصدق، فليس من ضرر في استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه لهذا الإدلال والاعتزاز، وإدخاله بذلك السرور على قلب زوجه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب إذا تجاوزت الغيرة حدها، واعتدت على حقوق الآخرين، فلم يكن زمام الموقف يفلت من يده بل كان يبين الخطأ ويقومه. قالت عائشة رضي الله عنها:"ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة. فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد"(4).
وهكذا كان عظيم وفائه لزوجه خديجة أول من آمن به وآزره، وتحمل معه أعباء دعوته فكان يذكرها دائما ويثني عليها وأبدا، ويصل صديقاتها ومعارفها،
(1) ابن حجر: فتح الباري 7/ 431.
(2)
الأحزاب:37.
(3)
صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 120).
(4)
متفق عليه واللفظ للبخاري (فتح الباري 7/ 133).
ويفرح للقاء أقاربها ويكرمهم حتى غارت أم المؤمنين عائشة لإكثاره من ذلك وإلا فهل يغار الحي من الميت!!
ولم يمنعه حبه لعائشة أن يصرِّح بفضل خديجة ومكانها في قلبه، ولو في ذلك الموقف الذي ظهرت فيه غيرتها، بل لم يكتم حبه لها وقد مضت على وفاتها أكثر من خمس سنين؟ فقال لعائشة:"إني قد رزقت حبها"(1)! فما أعظم وفاءه وما أرحب قلبه وما أصدق لسانه، وما أصرح وأفصح تعبيره!؟
إن محمدا الرسول البشر لا يجد غضاضة في أن يحب امرأته، وأن يصارحها بذلك معبرا عن عاطفة خيرة، ويكتم كثيرون سواه عواطفهم تجاه أزواجهم لئلا يخدش كبرياؤهم، أو يقل احترامهم فيما يحسبون وهم مخطئون. روى البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة (2).
وكان عليه الصلاة والسلام يراعي صغر سن عائشة رضي الله عنها وحبها للعب مع صديقاتها، قالت عائشة:
"كنت ألعبُ بالبنات - أي اللُّعب - عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه - أي يختفين - فيسربهن إلي فيلعبن معي"(3).وكانت عائشة رضي الله عنها توصي المسلمين بمراعاة ذلك مع أزواجهم حديثات السن تقول: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم، فأقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو"(4).
وهكذا سبق الإسلام نظريات التربية الحديثة في إعطاء الحرية للصغير في اللعب والتسلية البريئين.
(1) صحيح مسلم 4/ 1888 حديث رقم 2436.
(2)
متفق عليه (صحيح البخاري 8/ 74 وصحيح مسلم 4/ 1856 حديث رقم 2384).
(3)
صحيح مسلم 4/ 1890 حديث رقم 2440.
(4)
متفق عليه (صحيح البخاري - فتح الباري 9/ 336. وصحيح مسلم 2/ 609).
بل قد ذكرت عائشة رضي الله عنها: "أنه كان لها بنات - تعني اللُّعب - وكان إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم استتر بثوبه منها. قال أبو عوانة: لكيلا تمتنع (1).
ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضة في أن يسابق عائشة رضي الله عنها -مرتين في منأى عن الناس لادخال السرور على قلبها. قالت عائشة رضي الله عنها: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدَّموا فتقدَّموا. ثم قال لي: تعالي أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا فتقدموا ثم قال: تعالى حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك"(2).
وكان يتلطف معها بالكلام ويداعبها قال لها مرة: إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى. قالت: ومن أين تعرف ذلك؟
قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا وربِّ محمد. وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك" (3).
فما أحسن هذه المعاشرة وما ألطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحسن خلق عائشة رضي الله عنها مع زوجها الرسول الكريم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق الطبع، حسن العشرة، عميق العاطفة، لكن هذه الخصال لم تؤثر على التزامه الدقيق بالعدل بين نسائه أمهات المؤمنين، وهو التزام بشرع الله تعالى الذي بلغه للناس وبينه لهم قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (4).
(1) ابن سعد: الطبقات 7/ 65 بإسناد صحيح.
(2)
أحمد: المسند 6/ 264 بإسناد حسن، وأبو داود: السنن 2/ 28 مختصرا.
(3)
متفق عليه (صحيح البخاري كما في فتح الباري 9/ 325 وصحيح مسلم 4/ 1890 حديث رقم 2439.
(4)
النساء: 3.
والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج في شبابه خديجة رضي الله عنها، ولم يتزوج عليها حتى توفيت، فتزوج سودة بنت زمعة رضي الله عنها، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم زينب بنت خزيمة، ثم أم سلمة بنت أبي أمية، ثم جويرية بنت الحارث، ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث. وقد اجتمعت النسوة التسع في حياته صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه لأن الإسلام لم يبح الجمع - بالزواج - لأكثر من أربع من النساء.
وكانت لكل زوجة غرفة صغيرة، فيها أثاث بسيط لا يكاد يزيد ثمنه على عشرة دراهم. وكان زواجه من كل واحدة يتصل بهدف يحقق مقاصد الإسلام، فعائشة رضي الله عنها تمتاز بحدة الذكاء، وصفاء الذهن، وجودة القريحة، فحفظت من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير، فنفعت وانتفعت، حتى بلغ عدد أحاديثها التي روتها عشرة ومائتين وألفي حديث. ولو قورنت رواياتها بعدد روايات أمهات المؤمنين الأخريات لاتضحت الحكمة من هذا الزواج، فإن أكثرهن حديثا بعد عائشة هي أم سلمة بنت أبي أمية، ولم يتجاوز عدد أحاديثها ثمانية وسبعين وثلثمائة حديث، وشتان ما بين الرقمين! وأما الأخريات فقد روت ميمونة ستة وسبعين حديثا، وروت أم حبيبة بنت أبي سفيان خمسة وستين حديثا، وروت حفصة بنت عمر ستين حديثا، وروت كل من جويرية وسودة بنت زمعة خمسة أحاديث، وروت زينب بنت جحش تسعة أحاديث، وروت صفية عشرة أحاديث، ولم ترو زينب بنت خزيمة شيئا، فلو جمعنا حديث سائر أمهات المؤمنين لبلغت ثمانية وستمائة حديث فقط وهي أقل من ثلث عدد أحاديث عائشة!!
هذا فضلا عن فقهها وفتاويها وخاصة في شؤون المرأة. وكان زواجه من عائشة رضي الله عنها بعد رؤيا تكررت، مما يدل على أن الزواج منها كان بإرشاد الوحي لأن رؤيا الأنبياء حق، وهي جزء من الوحي، روى البخاري قالت عائشة:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أريتك قبل أن أتزوجك مرتين، رأيت المَلَك
يحملك في سَرَقة من حرير فقلت له: اكتشف، فكشف فإذا هي أنت. فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمضِه". وقد تكررت الرؤيا كما أخبر عليه الصلاة والسلام (1). أما سودة بنت زمعة رضي الله عنها فكانت ثيباً كبيرة السن، تزوجها على أثر وفاة خديجة رضي الله عنها، لترفق بأولاده الصغار من خديجة، وتطييبا لخاطرها فقد كانت زوجة للسكران بن عمر، وكان مسلما فهاجر بها إلى الحبشة، ثم رجعا فمات زوجها بمكة، وكان أبوها شيخاً كبيراً أقعدته السن، وكان أخوها عبد بن زمعة مشركاً عنيداً، حتى حثا التراب على رأسه عندما علم بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). أفليست هذه الظروف المحيطة بهذا الزواج تكشف عن طبيعة دوافعه وحقيقة مقاصده. من حماية الأيَّم وحضانة الأولاد؟.
ولما كبرت سودة خشيت أن يطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم، فآثرت عائشة رضي الله عنها بيومها وليلتها، لتبقى في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم (3)، فنزل قوله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (4) قالت عائشة في سبب نزول الآية: لا يستكثر منها، فتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها فتقول له: أنت في حلّ من شأني" (5).
وهكذا بقيت سودة في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وفاته لتبعث في أزواجه يوم القيامة.
وأما حفصة بنت عمر رضي الله عنهما فقد توفى زوجها الصحابي خنيس بن حذافة السهمي بالمدينة، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراماً لأبيها.
وأما زينب بنت خزيمة فكانت متزوجة من عبيدة بن الحارث، فاستشهد بعد بدر، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم جبراً لخاطرها.
(1) متفق عليه (صحيح البخاري 8/ 75 - 76 وصحيح مسلم 4/ 1890 حديث رقم 2438).
(2)
مسند أحمد 6/ 211 بإسناد حسن كما في فتح الباري 7/ 225.
(3)
صحيح مسلم 2/ 1085 حديث رقم 1463 ورقم 1464. وانظر الأحاديث في سنن أبي داؤد 2/ 601 - 602 وسنن الترمذي 5/ 249 وقال: حسن غريب.
(4)
النساء:128.
(5)
صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 265 وصحيح مسلم 4/ 2316).
وأما أم سلمة بنت أبي أمية فقد مات زوجها أبو سلمة بالمدينة، بعد إصابته بجراح في أُحُد تاركا معها ولدين وبنتين، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريماً لها ورعاية لأولادها.
وأما جويرية بنت الحارث فكانت بنت رئيس قبيلتها بني المصطلق، وقعت أسيرة مع نساء قبيلتها، فكانت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبته، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في قضاء المكاتبة، فعرض عليها الزواج وقضى عنها كتابتها وتزوجها فلما علم الناس بذلك أطلقوا سائر السبي وقالوا: أصهار رسول الله، فأعتقوا سائر السبي "فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها" وقد قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بالزواج منها تكريمها، وتأليف قلوب قبيلتها، وإطلاق سبيهم، وقد أثمرت هذه المعاملة الحكيمة ثمرتها فأسلم بنو المصطلق.
وأما زينب بنت جحش فهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوَّجها الرسول صلى الله عليه وسلم من مولاه زيد بن حارثة، فكانت لا تشعر بأنه كفؤ لها لمكانها من قريش مما أدى إلى إخفاق الزواج، وقد تدخل الرسول صلى الله عليه وسلم للاصلاح بينهما دون جدوى حتى نزل الوحي الإلهي يأمره بالزواج منها، لإبطال عادة جاهلية تتمثل بالتبني، وما كان يترتب عليه من آثار، منها عدم زواج الرجل من زوجة متبناه، وقد شق الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يكن وسعه إلا طاعة أمر الله، فكان أن تزوج منها، ولو كان الأمر يتعلق برغبة في الزواج منها لفعل قبل أن يزوجها مولاه زيد.
وأما صفية فقد كانت سيدة قومها، ووقعت في السبي في غزوة خيبر فأسلمت، فأعتقها الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوجها حفاظاً على مكانتها.
وأما ميمونة بنت الحارث فكانت أرملة كبيرة السن، وهي قريبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تمكث بعد زواجها إلاّ يسيراً.
وبعد هذا العرض لملابسات زواجه صلى الله عليه وسلم تتبيَّنُ حقيقة مقاصده من الزواج، وهي مقاصد الإسلام في تأليف قلوب الناس، واجتذابهم إلى الإسلام، ورعاية الأرامل، وتربية اليتامى، وحفظ تعاليم الدين، وخاصة ما يتعلق منها بشؤون المرأة.
أفبعد هذا يجترئ المتشدقون فيمدّون ألسنتهم بالأراجيف الباطلة، والتهم الكاذبة لتشويه صفحة طاهرة من جوانب حياة النبي الكريم، وكأنه أمضى حياته في النعيم، وقضى وقته مع الزوجات العديدات، متناسين زهده وشظف عيشه حتى ضاقت بذلك أمهاتُ المؤمنين، وطلبن التوسعة عليهن في النفقة، فنزلت آية التخيير وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).
فأمره الله تعالى أن يخيِّر أزواجه بين بقائهن معه، واحتمالهن عيشه وزهده، وبين الطلاق مع إعطائهن حقوقهن وتكريمهن، وقد اختارت أمهات المؤمنين البقاء في عصمته. وقد ذكرت عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخيِّر أزواجه" قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري - أي تستشيري- وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه.
قالت: ثم قال: إن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة (2).
وأما بقية أزواجه رضي الله عنهن فقلن كما قالت عائشة، فصبرن على ضيق النفقة وقلة المئونة، رغم أنهن من عقيلات قريش والعرب، وعشن قبل الزواج في ثراء الآباء، وتذوقن رغد العيش، واعتدن الحياة الكريمة، لكنهن آثرن عند تخييرهن الله ورسوله والدار الآخرة.
وقد استفاضت الروايات في بيان قلة الطعام في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان أهله يشبعون من خبز الشعير يومين متتاليين، وكان جل طعامهم التمر،
(1) الأحزاب: 28،29.
(2)
متفق عليه (صحيح البخاري كما في فتح الباري 8/ 519، وصحيح مسلم 2/ 1103 حديث رقم 1475).
وحتى التمر ما شبعوا منه حتى فتحت خيبر، وأما اللحم وخبز البر والسمن والقثاء فقلما كانوا ينالونه، وقد يمضي عليهم الشهر والشهران ما يوقدون ناراً تحت قدر لا لخبز ولا لطعام إلاّ نادراً، مكتفين بالتمر والماء، وقد يبيتون الليالي طاوين، لا يجدون عشاء، لقد خيِّرنَ فاخترنّ متطلعاتٍ إلى الرفيق الأعلى {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} .
لقد انتبه كارلايل (Carlyle) إلى ظاهرة الزهد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "لم يكن محمد في حياته الشخصية من عشاق اللَّذة على الإطلاق، فقد كان متاع بيته يعد من أكثر الأمور اعتدالا، ومع ذلك فلم يحظ أي قيصر بتاجه بالطاعة مثلما حظي هذا الرجل بردائه الذي كان يرقعه بيده"(1)
واعتبر دروزة هذه الحادثة وما نزل فيها من القرآن "أقوى رد على سفهاء المبشرين ومغرضي المستشرقين الذين حاولوا النيل من أخلاقه الكريمة في نسبتهم حب الدنيا ومباهجها وشهواتها إليه، مع ما كان منه من استغراق في الدعوة وابتعاد عن ذلك في مكة، وتبدو قوة الرد حينما يلاحظ أن الآيات قد نزلت في أواسط العهد المدني وبعد أن تمكن من القضاء على أعدائه .. "(2).
إن قصة زواجه من أم المؤمنين زينب بنت جحش أثارت جدلاً طويلاً لذلك يلزم تفصيل خبر هذا الزواج الذي نزل فيه قرآن.
(1) سيرة الرسول في تصورات الغربيين لجوستاف بفانمو للمر g.pfannmulle ترجمة د. محمود حمدي زقزوق (ضمن بحوث مجلة مركز بحوث السنة والسيرة في قطر. العدد الثاني 1407 هـ (1987 م) ص130.
(2)
محمد عزة دروزة: سيرة الرسول 1/ 56.
(3)
الأحزاب:37.
لقد ورد في صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، وزينب هي بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وزيد بن حارثة عربي من بني كعب وقع في السبي في غارة على قوم أمه بني معن من طيء، فأشترى لخديجة أم المؤمنين رضي الله عنها فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رباه رسول الله وأحبه حتى ما كان يدعى إلا زيد بن محمد كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين (1). وقد حاول حارثة والد زيد استعادة ابنه فرفض الابن إلاّ البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد زوجه الرسول الكريم بمولاته أُم أَيمن، ثم زوجه ابنة عمه زينب بنت جحش، وقد نزلت الآيات الكريمة في شأن هذا الزواج الذي لم يكتب له التوفيق، والذي سجل اسم زيد في كتاب الله تعالى حيث انفرد بهذا الذكر من بين سائر الصحابة.
ويظهر من مجموع الروايات التي يسوقها الطبري في تفسيره (2) أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين خطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، استنكفت منه وأعلنت عدم رضاها به، وقالت: أنا خير منه حسبا، وكانت امرأة فيها حدَّة فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فأسلمت زينب أمرها لله ولرسوله كانت امرأة عابدة أَوَّاهة، فتزوجت زيداً دون رغبة فيه.
والحق أن الوحي الإلهي تدخل مباشرةً في عقد هذا الزواج، كما تدخل أخيراً في فصم عُراه، فهو زواج يهدف إلى تحقيق أمر الله عز وجل في تغيير عُرف ساد الحياة العربية في الجاهلية، وتأصل فيها حتى صارت له قدسية العقائد واحترام المحارم، ذلك هو نظام التبني بحيث ينسب الابن المتبني إلى متبنيه بدلاً من أبيه، وتترتبُ على ذلك حقوق في الميراث والحرمة تماثل حقوق الأبوة على البنوة من الصلب. ولا يخفى ما في ذلك من افتئات على الفطرة ومجانبة للعدل، وتجاوز
(1) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 517) وصحيح مسلم 4/ 1884 حديث رقم 2425).
(2)
تفسير الطري 22/ 9 - 11.
على الأنساب، فضلاً عن أن التحريم لا يكون إلاّ بوحي إلهي ولا يستطيع البشر ولو اجتمعوا أن يقرروا حرمة شيء أو حله.
ولكن كيف تبطل هذه العادة فيقلع الناس عن التبني وينتهون عن التحريم والتحليل من دون وحي إلهي؟
لقد اتجه الوحي الإلهي إلى التعامل مع الواقع القائم بصورة عملية كفيلة بالتغيير مباشرة، دون الاكتفاء بالاعلان النظري، وهذا التغيير الواقعي أقوى أثراً وأسرع في إحداث التغيير، فإقرار العدل يحتاج إلى سرعة التغيير، واجتثاث الانحراف والظلم، فكانت قصة زواج زينب بنت جحش من زيد وقصة انفصالهما تحكي تدخل الوحي في أولها وآخرها لإحداث التغيير السريع في الواقع القائم
…
وهكذا كان.
نزلت زينب على قضاء الله ورسوله، فتزوجت زيد بن حارثة، ولم يتم التوافق بين الزوجين، وكلما اشتكى زيد زوجه للرسول صلى الله عليه وسلم قال له: أمسك عليك زوجك مع علمه صلى الله عليه وسلم بقضاء الله تعالى، وتقديره زواجه من ابنة عمته زينب بعد طلاق زيد لها
…
وعلمه هذا كان يخفيه في نفسه، فمواجهة الأعراف المستقرة في قضية خطيرة كانت أمراً ثقيلاً، إذ كيف يتزوج زوجة ابنه - في عرف نظام التبني الجاهلي - ماذا تقول العرب وماذا يقول ضعاف الإيمان من المسلمين؟
لم تكن زينب بعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانت تحت عينه وفي رعايته، فلو كانت له رغبة في الزواج منها لما زوجها زيد بن حارثة ولكن ما كان له بد من تنفيذ قضاء الله.
لم يطق زيد العيش مع زوج لا تألفه فكان أن طلقها، فلما انقضت عدتها أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيداً نفسه يخطبها له، ففعل زيد ذلك وبذلك تبين أنه ما كان راغباً في استمرار زواجه بها، وكان راضياً عن زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو الذي قام بالخِطبة، وقد ذهب زيد إلى زينب خاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها
هابها واستجلَّها من أجل إرادة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، فعاملها معاملة أمهات المؤمنين في الإعظام والإجلال والمهابة، كما يقول الامام النووي شارح صحيح مسلم (1).
ويروي زيد بن حارثة قصة الخِطبة كما في رواية صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال: "فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمِّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتُها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن
…
" (2).
وكان ذلك في ذي القعدة في السنة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة على اختلاف الروايات قبل غزوة بني المصطلق، وقصة زواجها ترتبط بنزول الحجاب. فقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، كان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 228.
(2)
صحيح مسلم 2/ 1048 (ط. استنابول).
إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم خرجوا، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب" (1).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة زواجه بزينب قد أولم عليها بشاة واحدة، وهي أعظم ما أولم على زوجة من أزواجه، كما في حديث أنس بن مالك الذي تقدم.
وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات كما في صحيح البخاري (2).
وهكذا كانت حادثة الزواج خرقا لعرف جاهلي سائد كان يؤدي إلى توارث باطل يحجب أصحاب الحقوق الفعليين. ويحرِّم زواج الرجل من امرأة تحل له، بزعم أنها كانت زوجة ابنه، وإنما هو متبناه. قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3). ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ابن بالغ مبلغ الرجال حين الخطاب، وقال تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (4).
فالعدل ألا يُحرم الوالد من نسبة ولده إليه، وأن تعود حقوق الإرث والحرمات إلى ما شرع الله تعالى في ذلك دون أهواء الناس وأعراف الجاهلية.
وقد يتصور البعض أن زيداً رضي الله عنه لم يكن كفئا للقرشيات، فالحق خلاف ذلك فهو من أوائل المسلمين السابقين زوجه رسول الله بعد طلاقه زينب من عقيلات قريش أم كلثوم بنت عقبة وأروى بنت كريزة ودرة بنت أبي لهب وهند بنت العوام أخت الزبير.
وقد أملت الأهواء على بعض الرواة الضعفاء روايات لا يؤبه لقائلها بأن ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخفيه هو محبةُ زينب ورغبتُهُ في الزواج منها، والحق أن الوحي الإلهي أوضح علة هذا الزواج بقوله تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} .
(1) متفق عليه (صحيح البخاري كما في فتح الباري 9/ 230 وصحيح مسلم 2/ 1050).
(2)
صحيح البخاري كما في فتح الباري 13/ 403.
(3)
الأحزاب آية: 40.
(4)
الأحزاب: 5.
وقد أشارت الآية إلى أن الله تعالى أنعم على زيد بالإسلام، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق والحرية، وارتضاه زوجاً لابنة عمته، وحاول جاهداً الإصلاح بينهما، وكتم العلم بما سيكون من زواجه منها حتى طلقها زيد رضي الله عنه فخطبها وتزوجها بأمر الله تعالى إبطالاً لعادة التبني، وإرجاعاً للحق إلى نصابه.