المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة - السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية - جـ ٢

[أكرم العمري]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالثالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةالجهاد ضد المشركين

- ‌تشريع الجهاد

- ‌طلائع حركة الجهاد

- ‌تحويل القبلة إلى الكعبة

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌في أعقاب بدر

- ‌غزوة قرقرة الكدر:

- ‌غزوة السويق:

- ‌غزوة ذي أمر:

- ‌غزوة بحران:

- ‌غزوة القردة:

- ‌غزوة أحد

- ‌في أعقاب أحد

- ‌غزوة بدر الموعد:

- ‌من تاريخ التشريع:

- ‌غزوة بني المصطلق (المريسيع)

- ‌غزوة الخندق (الأحزاب)

- ‌في أعقاب غزوة الخندق

- ‌سرية الخبط (سرية سيف البحر)

- ‌غزوة الحديبية

- ‌رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء

- ‌تأديب الأعراب

- ‌عمرة القضاء

- ‌غزوة مؤتة

- ‌غزوة ذات السلاسل

- ‌فتح مكة

- ‌غزوة حنين

- ‌غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌الأحداث الأخيرة

- ‌عام الوفود

- ‌حج أبي بكر بالناس عام 9 ه

- ‌حجة الوداع

- ‌تجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة

- ‌وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابعالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌عالم الغيب:

- ‌الألوهية والربوبية:

- ‌النبوات

- ‌الإيمان بسائر الأنبياء وأثره:

- ‌بشرية الرسول

- ‌ختم النبوة وعموم الرسالة الإسلامية:

- ‌القرآن معجزة الرسول الخالدة:

- ‌أثر القرآن فى تبصير الإنسان:

- ‌خلو القرآن من التعارض:

- ‌حول ما يزعم من وجود الإعجاز الرياضى فى القرآن:

- ‌معجزات الرسول الحسية

- ‌منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

- ‌نبي الرحمة

- ‌محبة الرسول من الإيمان

- ‌أمهات المؤمنين

- ‌جيل عصر السيرةفضل الصحابة ووجوب محبتهم وموالاتهم

- ‌مبادرة الصحابة إلى طاعة الله

- ‌تجرد الصحابة للدعوة إلى الإسلام

- ‌فضل الهجرة

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الأول

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الثاني

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الثالث

- ‌ثبت المصادر والمراجع للفصل الرابع

الفصل: ‌منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

‌منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

لمحة عن الشعائر التعبدية في العهد المكي:

لم تصح رواية في تشريع الوضوء بمكة، ولكن ثمة روايات ضعيفة يسوقها ابن إسحق مرة بمناسبة فرض الصلاة (1)، وأخرى في قصة إسلام عمر بن الخطاب (2)، ويستشف من الآية المكية {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3) إن الوضوء شرع بمكة، وقد رجح ذلك السهيلي (4). وبه قال جمهور العلماء

(5)

. رغم أن الآية الكريمة المتعلقة بالوضوء نزلت بالمدينة باتفاق وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (6) وقد أسمتها عائشة رضي الله عنها آية التيمم، ربما للإشارة إلى أن الوضوء كان مفروضا قبل أن يكون قرآنا يتلى (7).

وكانت قبلة الصلاة بمكة نحو بيت المقدس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف بين الركنين اليماني والأسود، فيجمع بين استقبال الكعبة وبيت المقدس (8).

وقد ورد ذكر الصلاة في عدة سور مكية مثل الآية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (9) والآية {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (10) و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ

(1) سيرة ابن هشام 1/ 244 حيث يسوق ابن إسحق الخبر دون إسناد، وروى الحديث مسندا إلى زيد بن حارثة لكن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف هنا.

(2)

سيرة ابن هشام 1/ 345.

(3)

المدثر: 4 وراجع تفسيرها في ابن كثير 4/ 441.

(4)

الروض الأنف 3/ 13.

(5)

مسلم (بشرح النووي) 3/ 102.

(6)

المائدة: 6.

(7)

الروض الأنف 3/ 13.

(8)

مسلم (بشرح النووي) 5/ 9 و 10 وابن هشام 1/ 347.

(9)

العلق: 9 - 10.

(10)

طه: 132.

ص: 624

تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1) و {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (2).

وتشير بعض الأخبار الضعيفة إلى أن أوائل المسلمين كانوا يصلون، لكنها لا توضح كيفية صلاتهم، ولا عدد ركعاتها إن كان فيها ركوع. ولكنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج مع علي رضي الله عنه إلى شعاب مكة يصليان سراً (3). وأن الصحابة الخمسة الذين دعاهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسلموا وصلوا (4)، على أن عائشة رضي الله عنها ذكرت في حديث صحيح أن الصلاة كانت أول فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر (5)، وبين المزني - صاحب الإمام الشافعي - أن الصلاة قبل حادث الإسراء والمعراج كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها (6).

وفي حادثة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة - في رواية مرسلة للزهري - فرضت الصلاة في خمسة أوقات (7)، وحدد عدد ركعاتها، ثنتان للصبح وثلاث للمغرب وأربع للظهر والعصر والعشاء، في السفر والحضر ثم قصرت الصلاة الرباعية بعد الهجرة إلى المدينة فصارت ركعتين فقط للمسافر

(8)

.

وكان المسلمون في المرحلة المكية يؤدون الصلاة سراً (9)، خوفا من بطش المشركين، ونادرا ما جهروا بصلاتهم كما فعلوا مرة عند إسلام عمر بن الخطاب حيث صلى معه بعضهم في (10) الكعبة. وكان الكلام في الصلاة مثل رد السلام

(1) الأعلى 14 - 15.

(2)

المدثر 42 - 43.

(3)

أكرم العمري: الرسوم في مكة ص 65.

(4)

ابن هشام: السيرة 1/ 251 - 252.

(5)

البخاري: الصحيح (فتح الباري (1/ 464).

(6)

السهيلي: الروض الأنف 1/ 11 - 12.

(7)

مسلم (بشرح النووي) 5/ 109.

(8)

البخاري: صحيح (فتح الباري 7/ 267 - 268).

(9)

ابن هشام: سيرة 1/ 263.

(10)

ابن هشام: سيرة 1/ 342.

ص: 625

وتشميت العاطس مسموحا به ثم نهي عن الكلام في الصلاة بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة من المرحلة المكية (1).

وقد شرع قيام الليل بنزول سورة المزمل في المرحلة المكية {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (2).

وفي المرحلة المكية شرعت الزكاة بمعناها العام، وهو الحث على الصدقات وإعطاء المحروم وإطعام المسكين دون تحديد للأنصبة والمقادير، فوصفت السور المكية المؤمنين بأنهم {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} و {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وأنه {حَقٌّ مَعْلُومٌ} (3). أما تحديد النصاب ومقادير الزكاة فقد شرع في سنة اثنتين من الهجرة (4).

وأما صلاة الجمعة فقد كانت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقد تمكن المسلمون في المدينة من أدائها، فقد روى أبو داؤد بإسناد حسن قول كعب ابن مالك الأنصاري:"أول من جمع بنا أسعد بن زرارة في هزم البيت، في نقيع يقال له: نقيع الخضعات .. وقال كعب إنهم كانوا أربعين رجلا"(5).

لقد تأخرت بعض الفرائض التي اعتبرت من أركان الإسلام إلى المرحلة المدنية مثل الصوم والحج أما الصوم فقد كانت فرضيته يوم الاثنين لليلتين خلتا

(1) البخاري: صحيح (فتح الباري 3/ 72 - 73 وابن القيم: زاد المعاد 2/ 118 - 119 وابن كثير: البداية والنهاية 3/ 92.

(2)

المزمل: 1 - 8.

(3)

أنظر سورة "المؤمنون" آية 1 - 4 وسورة الروم آية 39، وسورة الذاريات آية 15 - 19 وسورة المعارج آية 19 - 25.

(4)

ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 347.

(5)

سنن أبي داؤد 1069 ومستدرك الحاكم 1/ 281 وسنن البيهقي 3/ 176 - 177 وقد صرح ابن إسحق بالتحديث عند الحاكم والبيهقي، وقال البيهقي:"وهذا حديث حسن الإسناد صحيح".

ص: 626

من شعبان من السنة الثانية من الهجرة. وأما الحج فقد فرض سنة ست للهجرة، وابن القيم أن افتراضه كان سنة تسع.

ويتمثل منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة بإقامة الفرائض والإكثار من النوافل والاهتمام بالعبادات القلبية من ذكر وخشوع وإنابة رغم غفران الله له ورضاه عنه.

قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (1)، وقد نزلت سورة الفتح في طريق عودة المسلمين من الحديبية إلى المدينة، بعد عقد صلح الحديبية، وكان فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بها عظيما، لما فيها من إقرار لموافقته على الصلح، وتبشير للمسلمين بأن ما تم فتح لهم، لما وراءه من الخير الكثير الذي تحقق بانتشار الإسلام بعد الصلح، وكذلك فإن الآية أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة العظيمة {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .

فما كان حال النبي الموعود بغفران الذنوب؟ هل ترك العمل وجنح إلى الراحة؟ وهل قلل ذلك الغفران من جده في العبادة واجتهاده في الجهاد، وهل قنع بما قدم وطوى صفحات الكفاح في السلم والحرب؟

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل مضى دءوباً في ملء أشواق روحه، وتطلعات قلبه الذي انغمر بمحبة الله تعالى، ولم يعد يفيض إلا الذكر والشكر، قلبه الذي ينبض بذكر الله ويخفق بشكره لا يسعه إلا المضي في السبيل الذي اعتاده، لقد بلغ الستين من عمره أو كاد حين نزول سورة الفتح، وكان العقدان الأخيران حافلين بمهام جسيمة تمثلت في حمل أعباء الرسالة وتبليغها، ومقارعة خصومها بالحجة والبيان في مكة، ثم بالحجة والسنان في المدينة وهو في صراعه الطويل من أجل الحق لا يدع التزود من طاقات الروح الهائلة بوصلها بالخالق القدير، فكان كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان يصلي ليلا طويلا

(1) الفتح: 1.

ص: 627

قائما، وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس ركع وسجد وهو جالس" (1).

ولم يكن يكلف نفسه فوق ما تطيق، بل يعمل ما يتيسر له حسب مراحل عمره وقوة جسده، فلما ثقل جسمه الشريف ولم يعد يطيق القيام الطويل في صلاة التطوع أخذ يصلي قاعدا، قالت عائشة رضي الله عنها:"إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس"(2).

وكان قيامه لصلاة الليل طويلا، وكان أصحابه رضوان الله عليهم لا يطيقون ما يطيق قال عاصم بن ضمرة، سألت عليا كرم الله وجهه عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إنكم لا تطيقون ذلك"(3).

وعن عبد الله بن مسعود قال: "صليت ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء. قيل له وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النبي صلى الله عليه وسلم (4)! " فعبد الله بن مسعود لم يكن يطيق - على ما عرف عنه من كثرة العبادة - ما يطيق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خطر في ذهنه أن يجلس في الصلاة، ويدع رسول الله قائما لفرط تعبه، لكنه لم يفعل وغالب الخطرة، لكنه لم ينس الموقف وأخبر الناس بطول صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا لهم في العبادة وحثا على الاقتداء بالنبي المغفور له، الذي يعبد الله تعالى تحت شعار "أفلا أكون عبدا شكورا" فكيف بمن لا يدري إلى أين يصير إلى الجنة أم النار؟

لقد وصف لنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه كيف يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله، فقد بات ابن عباس عند خالته ميمونة -وهي أخت أمه لأبيه- فشاهد ما حدث وحدَّثَ به قال: "فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قبله

(1) مختصر الشمائل المحمدية 152 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2)

مسلم: الصحيح رقم 116.

(3)

رواه الترمذي وقال حديث حسن (مختصر الشمائل المحمدية 154).

(4)

مسلم: الصحيح 1/ 537 رقم 773.

ص: 628

بقليل، أو بعده بقليل، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران. وقال إلى شِنّ - أي قربة - مُعلَّق فتوضأ منها، فأحسن الوضوء ثم قام يصلي.

قال عبد الله بن عباس: فقمت إلى جنبه، فذكر صلاته اثنتي عشر ركعة، ثم أوتر، ثم نام حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح" (1).

وكانت قراءته للقرآن يمدُّها، ويقطِّعُها فيقول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، ثم يقول {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف. وكان ربما أسرَّ بالقراءة، وربما جهر، وكان يرجِّع صوته بالقراءة - أي يرددها -، وكل ذلك ثابت عنه بالأحاديث الصحيحة (2).

وأحيانا كانت قراءته تختلط ببكائه، ويسمع نشيجه كما في حديث عبد الله بن الشخير قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء "وكيف لا يتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن فيبكي وهو أعرف الناس بالله، وأوعاهم بالحق الذي أنزل عليه، وقد عرف وأبصر من أمور الغيب في الإسراء والمعراج ومباشرة الوحي ما ملأه علماً وخشية وفكراً وتأملا"(3).

وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يسمع القرآن بصوت الآخرين من الصحابة مثل أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري من أصحاب الحفظ والتجويد والأصوات الحسنة بالقرآن.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليّ. فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟. قال: "إني أحب

(1) صحيح البخاري 1/ 53 وصحيح مسلم 1/ 525 حديث رقم 763.

(2)

مختصر الشمائل النبوية 166 - 168.

(3)

أخرجه أبو داؤد رقم 904.

ص: 629

أن أسمعه من غيري". فقرأت سورة النساء حتى بلغت {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: فرأيت عيني رسول الله تَهْمِلان" - متفق عليه - (1).

وروى الإمام البخاري بسنده إلى أنس بن مالك قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: إنَّ الله أمرني أن أقرئك القرآن. قال: الله سمَّاني لك؟ قال: نعم. قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه" (2).

وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه صوت أبي موسى الأشعري وقد شبهه لحسنه بمزاميز آل داؤد.

وهكذا سمع القرآن بأصوات الصحابة رضوان الله عليهم.

وكان يصلي التطوع في بيته، ويؤم الصحابة في المسجد في الصلوات الخمس المكتوبة، وقد سئل عن الصلاة في البيت والمسجد فقال:"قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة (3) " وذلك لأن صلاة الجماعة في المسجد خمس أوقات تحقق أغراضا نافعة؛ منها اجتماع المسلمين في الأماكن المتقاربة في مكان واحد مما يؤدي إلى تعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى، وتفقدهم لأحوال بعضهم، ومنها إقامة شعائر الإسلام بمظهر يدل على القوة والغلبة للإسلام وأهله.

ثم إن صلاة المكتوبات في المسجد أعظم أجراً، لأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما صلاة التطوع فإن أداءها في البيت بعيدا عن الأعين يبعد بصحابها عن الرياء والخيلاء ويقربه من الأخلاص، ويجعله قدوة لأهل بيته ممن ليس يحضر صلاة الجماعة من النساء، وأصحاب الأعذار.

(1) الآية من سورة النساء 41، والحديث أخرجه البخاري: الصحيح 6/ 114 ومسلم: الصحيح حديث رقم 800 والترمذي: سنن 5/ 238 رقم 3025 وسنن أبي داؤد 5/ 74 حديث رقم 3668.

(2)

فتح الباري 8/ 726 حديث رقم 4961.

(3)

سنن أبي داؤد: 919.

ص: 630

وهكذا كانت صلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته في جوف الليل، وفي صلاة الضحى وفيما بين الصلوات المكتوبة، فقد جعلت قرة عينه في الصلاة، فهي معراج المؤمن، وكانت آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو يودع الدنيا وينتقل إلى الرفيق الأعلى:"الصلاة وما ملكت أيمانكم"(1).

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف إلى توثيق صلة القلب بالله بصورة دائمة، كما عبَّرت عائشة رضي الله عنها بقولها:"كان عمله دِيمةً" وقالت مرة وشاركتها القول أم سلمة، وقد سئلتا: أي العمل كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالتا: "ما ديم عليه وإن قلَّ"(2).

وكان ينوِّع في عبادته ما بين صوم وصلاة وذكر وتعليم وجهاد، قال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً، فاستاك ثم توضأ ثم قام يصلي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ثم ركع، فمكث راكعا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه:"سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة"، ثم سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده:"سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة".ثم قرأ "آل عمران" ثم سورة ثم سورة، يفعل مثل ذلك" (3).

وكان عليه الصلاة والسلام كثير الصوم. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته"(4).

وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أنه كان يتحرى صوم الاثنين والخميس" (5) وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب تحريه الصوم يومي الاثنين والخميس

(1) أخرجه ابن ماجه في سننه (الألباني: صحيح سنن ابن ماجة 2/ 109 رقم 2181).

(2)

الألباني: مختصر الشمائل 164 - 165.

(3)

النسائي في سننه 2/ 223 وأحمد: المسند 6/ 24.

(4)

صحيح البخاري 2/ 46.

(5)

الترمذي: سنن 745 وابن ماجة سنن 739 وإسناده صحيح (الإرواء 4/ 105 و 106).

ص: 631

بقوله: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحبَّ أن يعرض عملي وأنا صائم"(1).

ومنهجه في الاتصال الدائم بالله لا يختل سواء كان في صلاة أو صوم أو كان مضجعا، قالت عائشة رضي الله عنها:"يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي"(2).

فقد كان يذكر الله على كل أحيانه، فإذا نام ذكر الله قائلا:"باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"(3).

وإذا استيقظ قال: "الحمد الله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور"(4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. ثم يمسح ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات"

(5)

.

وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد الله الذي أطعمنا وساقانا وكافانا وآوانا، فكم ممَّن لا كافي له ولا مؤوى"(6).

فدعواته صلى الله عليه وسلم عند النوم فيما معاني التسليم لله تعالى، وأنه لا حول ولا قوة للإنسان إلا بالله، وأن الله وحده المحيي والمميت، وإنه يستحق الحمد على النوم والاستيقاظ والطعام والشراب والكفاية عن سؤال الناس والإيواء بما يحمله من معاني الطمأنينة والستر، وما أعظم دلالات قوله عليه الصلاة والسلام:"فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى". نعم كم من الناس على وجه الأرض لا يجد كفايته

(1) صحيح سنن الترمذي 1/ 227.

(2)

صحيح البخاري 2/ 47 - 48 وصحيح مسلم 1/ 509 حديث رقم 838.

(3)

صحيح البخاري 7/ 149.

(4)

صحيح البخاري 7/ 147.

(5)

صحيح البخاري 6/ 106.

(6)

صحيح مسلم 4/ 285 حديثه رقم 2715.

ص: 632

ويسأل غيره العون، إن الجياع أكثر من الطاعمين، والعراة أكثر من الكاسين، ومن عندهم المال ولا يحسون بالكفاية بل يدفعهم الطمع والحرص على جمع المال من كل سبيل إلى القلق وعدم الإحساس بالكفاية.

ومن درس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف قلة ما عنده من طعام وأثاث وأشياء أدرك معنى الزهد والقناعة والإحساس بالكفاية.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن ينظروا إلى من دونهم من الناس، ولا ينظروا إلى من فوقهم، فمن نظر إلى من دونه عرف عظيم نعمة الله تعالى عليه، وقنع بما أعطاه، وأحس الرضا بالقدر والحمد الله على الإيواء، فإن الإحساس بأن الله تعالى آوى العبد إليه، وهداه إلى سبيله، ونسبه إلى نفسه، وتولاه ولم يكله إلى سواه يجعل العبد في غاية الثقة بحاضره وبمستقبله، فلا يقلق لمصاب، ولا ينخلع قلبه خوفا من مواجهة الأحداث الثقيلة والتقلبات العنيفة، بل هو شامخ كالطود أمام أعاصير الحياة ....

وكيف لا تطمئن نفس من آواه الله الذي أحاط بكل شيء علما، والذي لا تعزب عنه مثقال حبة في الأرض ولا في السماء والذي ليس لقدرته حدود ولا لأمره رد؟.

وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلَّى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلُبَنَّكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبُّه على وجهه في نار جهنم"(1)

فأي أمان للإنسان أعظم من أمان الله، وأن يكون في ذمة الله وعهده وحفظه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقعد في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس (2) ثم لا يزال بعدها يشكر نعم الله، فإذا طعم طعاما أو شرب شرابا أو لبس جديدا دعا الله تعالى شاكرا حامدا، فإذا ارتفعت الشمس تطوع لله بأربع وهي صلاة الضحى، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول:

(1) صحيح مسلم 1/ 455.

(2)

صحيح مسلم 1/ 463، 4/ 1810 ومسند أحمد 5/ 91.

ص: 633

"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد"(1).

وفي الحديث القدسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله عز وجل يقول يا ابن آدم اكفني أوَّل النهار بأربع ركعات أكفك بهن آخر يومك (2) " ولا يزال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصن نفسه ليله ونهاره بالأدعية والأذكار، ويعلم أصحابه ذلك، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سيِّدُ الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا انت"(3).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه صلاة الحاجة وصلاة التوبة وصلاة الاستخارة، فكانوا يرتبطون بالله تعالى في صلوات كثيرة، فلا يخلو إنسان من ذنب كبير أو صغير ففي الحديث "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون" (4) ولا ينفك المرء عن حاجة تعرض له صغرت أو كبرت فعن عثمان ابن حنيف رضي الله عنه: أن أعمى أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أدع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: أو أدعك. قال: يا رسول الله إنه قد شق علي ذهاب بصري قال: فانطلق فتوضأ ثم صلَّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة.

يا محمد: إني أتوجَّه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري. اللهمّ شفعه فيَّ وشفعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره" (5).

(1) مسلم: الصحيح 1/ 499 وروى البخاري في صحيحه الوصية بركعتي الضحى 2/ 52.

(2)

رواه أحمد وأبو يعلي ورجال أحدهما رجال الصحيح، وأخرجه الترمذي (السنن 2/ 340 وقال: حسن غريب وأخرجه أبو داؤد: السنن 2/ 13 وأحمد: المسند 5/ 286، 287.

(3)

رواه البخاري (صحيحه 7/ 145).

(4)

صحيح سنن الترمذي 2/ 305.

(5)

رواه الترمذي (سنن 5/ 569) وقال: حسن صحيح غريب. وابن ماجة: سنن (صحيح سنن ابن ماجة 1/ 231 - 232).

ص: 634