الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات
مقدمة الطبعة الثانية
…
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية:
لا تكاد هذه الطبعة الجديدة تختلف عن الطبعة السابقة في شيء أساسي، فلم أدخل عليها إلا تعديلات يسيرة لبعض العبارات، وإضافات قليلة لبعض الشروح. وعلى الرغم من أن صلتي بموضوع البحث "الصعاليك" لم تنقطع طوال هذه السنين التي مضت على ظهور الكتاب، فإن النتائج التي كنت قد انتهيت إليها في هذا البحث لم تتغير، بل لقد زادتني هذه السنون إيمانا واقتناعا بها. حتى المصادر التي أُتيح لي الاطلاع عليها في هذه السنين. ولم تكن الفرص قد أتاحت لي الاطلاع عليها من قبل، لم تقدم لي جديدا يفيد البحث أو يغير من نتائجه.
وقد كنت تمنيت -وأنا أعد هذا البحث- لو أتيحت لي فرصة الاطلاع على ديوان تأبط شرا الذي جمعه ابن جني، والذي يذكر بروكلمان أنه مخطوط في الإسكوريال. ثم أتيحت لي في الأيام الأخيرة فرصة الاطلاع على هذا المخطوط، فلم أجده ديوانا لتأبط شرا ولا شبه ديوان، وإنما هو مختارات قليلة اختارها ابن جني من ديوان تأبط شرا الذي كان موجودا عنده كما يذكر صاحب الخزانة، وهي مختارات لم أجد فيها جديدا أضيفه إلى البحث.
على أني أريد هنا أن أؤكد -بصفة خاصة- فكرة كثر الجدل حولها في هذه السنين، وهي فكرة "اشتراكية الصعاليك" التي أدرت حولها بحثي، وفسَّرت في ضوئها هذه الثورة الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الجاهلي، وخاصة عند عروة بن الورد الذي تراءى لي داعية من دعاة
الاشتراكية في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الإنسانية. فقد ذهب بعض الباحثين إلى أنني تعسفت في تفسير الشعر الجاهلي هذا التفسير الاقتصادي، وأنني حملت النصوص والأخبار القديمة ما تنوء به من مصطلحات حديثة ترتبط في أذهان الناس بمفاهيم خاصة لم يعرفها العصر الجاهلي، ولم تدر في خلد هؤلاء الشعراء القدماء.
وأنا لم أزعم أن ثورة الصعاليك في العصر الجاهلي كانت ثورة اشتراكية قائمة على أساس المذهب الاشتراكي كما تعرفه مجتمعاتنا المعاصرة، فمثل هذا التفسير يعد -بدون شك- تعسفا لا يتفق مع المنهجية الجامعية فما من شك في أن هناك فروقا جوهرية بين الاتجاهين سواء في الفلسفة النظرية أو في التطبيق العملي. وإنما الذي ذهبت إليه هو أن في شعر الصعاليك وأخبارهم، وخاصة عروة بن الورد، أفكارا تتصل بمشكلة الفقر والغنى في المجتمع الجاهلي، وتنادي بثورة المستضعفين من فقراء هذا المجتمع والمضطهدين فيه على طبقة المَالَة من الأغنياء المتخمين وخاصة البخلاء منهم، وأن هذه الثورة كانت تستهدف تحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي في هذا المجتمع. وإذا كانت هذه الأفكار لم تأخذ شكل نظرية علمية دقيقة، أو شكل فلسفة اقتصادية متكاملة، وإذا كان التطبيق العملي لهذه الأفكار سلك أسلوبا فرديا أقرب إلى الفوضوية منه إلى أساليب التنفيد العلمي المنظم في الاشتراكية الحديثة، فإن هذا كله لا يمنع من القول بأن هذه الأفكار كانت تنطوي على إحساس عميق بمشكلات المجتمع الاقتصادية، ومحاولة جادة لحلها، وأن هذا -بدون شك- كان يمثل صراعا بين طبقة الفقراء ممثلة في هؤلاء الصعاليك العاملين، وطبقة المالة ممثلة في هؤلاء الأغنياء البخلاء، وهو صراع كان يضم في أعماقه براعم لم تتفتح تماما من النظرية الاشتراكية الحديثة.
وما من شك في أن الصعلكة عند عروة بالذات كانت -كما قلت في
هذا البحث- "نزعة إنسانية نبيلة، وضربة يدفعها القوي للضعيف، والغني للفقير، وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيبا، بل حقا يغتصبونه إن لم يؤد لهم".
وبعد، فكل ما أطمع أن أكون نجحت في إنصاف هؤلاء الصعاليك، ووضعهم في مكانهم الطبيعي في تاريخنا العربي الخالد، وأن أكون قد لفت أنظار الباحثين إلى أن في تراثنا القديم جوانب تحتاج إلى إعادة النظر فيها في أضواء جديدة.
والله نسأل أن يجنبنا الخطأ، ويعصمنا من الزلل.
القاهرة في مايو 1966
يوسف خليف