الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
التحلل من الشخصية القبلية:
ونترك هذه الظاهرة الفرعية لنسجل ظاهرة أساسية في "الشعر داخل دائرة الصعلكة" وهي ظاهرة "التحلل من الشخصية القبلية". وهي ظاهرة ليست غريبة على شعر الصعاليك لأنها تتفق وما سجلناه من قبل في دراستنا الاجتماعية لظاهرة الصعلكة من فقد التوافق الاجتماعي بين الصعالك وقبائلهم مما ترتب عليه فقد الإحساس بالعصبية القبلية في نفوسهم. ومن الطبيعي ألا تظهر شخصية القبيلة عند شاعر فقد إحساسه بالعصبية القبلية، وما دامت الصلة بين الشعراء الصعاليك وبين قبائلهم قد انقطعت اجتماعيا فمن الطبيعي أن تنقطع فنيا، ونعني بانقطاعها فنيا تحلل الشاعر الصعلوك من ذلك "العقد الفني" الذي نراه بين الشاعر القبلي وقبيلته، فلا يكون الشاعر الصعلوك "لسان عشيرته" لأن ما بينه وبين عشيرته قد انقطع، ولا يكون شعره "صحيفة
قبيلته" لأنه لم تعد له قبيلة، وإنما يصح شعره صورة صادقة كل الصدق من حياته هو، يسجل فيه كل ما يدور فيها، ويصبح ضمير الفرد "أنا" أداة التعبير فيه بدلا من ضمير الجماعة "نحن" الذي هو أداة التعبير في الشعر القبلي، وتصبح المادة الفنية لشعره مشتقة من شخصيته هو لا من شخصية قبيلته. ومعنى هذا أن ظاهرة الفناء الفني لشخصية الشاعر القبلي في شخصية قبيلته التي نلاحظها بوضوح عند أصحاب المذهب القبلي في الشعر الجاهلي قد اختفت من مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة. وحلت محلها ظاهرة أخرى يصح أن نطلق عليها "ظاهرة الوضوح الفني لشخصية الشاعر الصعلوك".
ولكن شخصية الشاعر الصعلوك شخصية يشاركه فيها أفراد جماعته؛ لأنهم جميعا يؤمنون بمذهب واحد، ويدينون بعصبية مذهبية واحدة. ومن هنا كانت شخصية الشاعر الصعلوك شخصية "جماعية"، ولسنا نقصد بالجماعية فناء الشاعر الصعلوك في جماعته فناء يشبه فناء الشاعر القبلي في قبيلته، وإنما نقصد بها ذلك التشابه في الشخصيات بين أفراد جماعة الصعاليك. ومع ذلك فليس من اليسير أن نتصور جماعة الصعاليك قد تشابهت شخصياتها حتى أصبحت شخصية واحدة، فإن أساس حركة الصعلكة اعتداد بالشخصية الفردية، واعتزاز بمقدرة الفرد على الوقوف في وجه المجتمع. ومن هنا كانت لكل شاعر صعلوك إلى جانب شخصيته الجماعية شخصية فردية خاصة يتفرد بها بين جماعته. ولكنهم -مع اعتدادهم بشخصياتهم الفردية- كانوا حريصين على شخصيتهم الجماعية؛ لأنهم -من غير شك- أقدر جماعة على تحقيق مذهبهم في الحياة منهم أفرادا. ولعل أصدق الأمثلة على هذا عروة وجماعته، فقد كان عروة -مع اعتداده بشخصيته الفردية- يعبر عن جماعته ويتكلم بلسانها، وكذلك جماعة تأبط شرا التي كانت تدعوه "أمهم"1 لقيامه على شئونهم، وتنظيمه زادهم، مما يشعر بقوة روح الجماعة بينهم.
1 تائية الشنفرى في المفضليات شرح ابن الأبناري، البيت 19 وشرحه / 103، وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 21، والسيوطي: المزهر 1/ 302، وتاج العروس "مادة أمم".
والذي نريد أن نصل إليه من هذا هو تفسير ما نراه في الشعر داخل دائرة الصعلكة من آثار الجماعة. فضمير الجماعة "نحن" الذي يتردد أحيانا فيه ليس هو الضمير نفسه الذي نراه في الشعر القبلي، فنحن هنا تعبر عن الشخصية الجماعية، ولكنها هناك تعبر عن الشخصية القبلية.
ومهما يكن من أمر، فالشيء الذي لا ريب فيه هو أن الشعراء الصعاليك قد تخلصوا من الشخصية القبلية في شعرهم داخل دائرة الصعلكة كما تخلصوا منها في حياتهم، وأنهم أصبحوا شخصية فنية "شاذة" في الشعر الجاهلي كما كانوا شخصية اجتماعية "شاذة" في حياتهم، وهذا "الشذوذ" هو العامل المشترك بين شخصيتهم الفردية وشخصيتهم الجماعية، حتى ليصح أن نطلق عليهم أصحاب المذهب الشاذ في الشعر الجاهلي".
وما أظن أننا في حاجة إلى القول بأن الشخصية القبلية ظاهرة في تلك المجموعة من شعر الصعاليك التي اصطلحنا على تسميتها "الشعر خارج دائرة الصعلكة". ومن هنا نستطيع أن نقول إن هذه المجموعة -وإن تكن صورة من الفن الجاهلي- تمثل "شذوذا" في مجموعة شعر الصعاليك "أصحاب المذهب الشاذ في الشعر الجاهلي".