الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
الصعاليك والمجتمع القبلي:
الظاهرة المهمة التي تلفت النظر في حياة صعاليك العرب الاجتماعية هي فقد الإحساس بالعصبية القبلية التي كانت قوام المجتمع الجاهلي، وتطورها في نفوسهم إلى "عصبية مذهبية". وهي ظاهرة من السهل تعليلها بعدما فهمنا الظروف الاجتماعية التي وجد فيها هؤلاء الصعاليك، فأما الخلعاء والشذاذ فقد تخلت قبائلهم عنهم، وسحبت منهم "الجنسية القبلية"، فكان من الطبيعي أن يفقدوا إيمانهم بكل معاني القبلية، وأن يكفروا بتلك العصبية القبلية التي لم يعد لها قيمة في حياتهم، بل قد ينقلبون انقلابا تاما فتصبح صلتهم بقبائلهم صلة عداوة، فيوجهون غزواتهم إليها، كما فعل قيس بن الحدادية لما خلعته قبيلته، فجمع لهم "شذاذا من العرب، وفتاكا من قومه، وأغار عليهم بهم"1، فنحن هنا أمام حالة شاذة في المجتمع الجاهلي، يغير فيها بعض القبيلة على بعضها. وأما الأغربة فقد أدركوا أن قبائلهم لا تكاد تعترف بهم، بل تكاد تنكر صلتها بهم، فلم يكن هناك إذن ما يوجب حرصهم على تلك العصبية القبلية لأنها مرفوضة من جانب القبيلة.
وحين ننظر في أخبار صعاليك العرب نلاحظ هذه الظاهرة واضحة تماما، وقد رأينا في غارة قيس بن الحدادية على قومه أنه ألف جماعته من شذاذ من العرب وفتاك من قومه. وفي أخبار حاجز الأزدي أنه جمع "ناسا من فهم وعدوان فدلهم على خثعم، فأصابوهم غرة وغنموا ما شاءوا"2، فهو أزدي وهم من فهم وعدوان. وكان الشنفرى الأزدي يغير أحيانا على الأزد فيمن معه من فهم3، فهو أزدي يتزعم جماعة من فهم، دون أن يجد الفهميون في ذلك غضاضة، وهو يتزعمهم ليغير بهم على قبيلته، دون أن يجد هو في ذلك عارا. وفي أخبار امرئ القيس أنه بعد أن طرده أبوه "كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيئ وكلب وبكر"4، فنحن هنا أمام جماعة من الصعاليك تألفت من ثلاث قبائل مختلفة.
ولعل السليك هو الشذوذ الوحيد لهذا الشذوذ، فقد "كان لا يغير على مضر، وإنما يغير على اليمن، فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة"5، بل إن المسألة عنده لم تقف عند هذا الجانب السلبي، بل كانت أحيانا تتعداه إلى جانب إيجابي يستخدم فيه مواهبه صعلوكا في سبيل قبيلته، ففي بعض أخباره
1 الأغاني 13/ 2 "بولاق".
2 الأغاني 12/ 51 "بولاق".
3 الأغاني 21/ 135.
4 الأغاني 9/ 87.
5 الأغاني 18/ 134.
أنه رأى طلائع جيش لبكر بن وائل جاءوا ليغيروا على تميم، فاستغل سرعة عدوه لينذر قومه حتى لا يؤخذوا على غرة1.
ولكن من المهم أن نلاحظ أن العصبية القبلية قد تطورت في نفس السليك من عصبية ضيقة الأفق إلى عصبية ذات أفق واسع، ترتفع عن العصبية القريبة التي كانت تؤمن بها القبيلة في حدودها الضيقة إلى عصبية واسعة تشمل الجنس كله الذي تنتمي إليه القبيلة، فهي عصيبة من نوع آخر غير العصبية القبلية التي كانت تؤمن بها كل قبيلة، ويصح أن نطلق عليه "عصبية جنسية".
ويجب ألا نفهم من هذا أن السليك كان مرتبطا بقبيلته كسائر أفرادها، فقد كان يحيا حياته الخاصة، حياة التصعلك، خارج قبيلته، دون أن يرتبط بها في شيء، أو يعتمد عليها في شيء.
وقد نشأ عن كفر صعاليك العرب بالعصبية القبلية، وإيمانهم بعصبية مذهبية قوامها "الغزو والإغارة للسلب والنهب" أنهم كثيرا ما كانوا يقومون في المجتمع الجاهلي بدور يشبه دور "الجنود المرتزقة" عند الأمم الأخرى، "فما دام هؤلاء الصعاليك لا يعرفون العيش إلا في ظلال سيوفهم، وما داموا لا ينتظرون في حياتهم أي سلام أو أمن، فقد كانوا يقاتلون أحيانا كما يقاتل الأبطال الشجعان، ومن هنا كان الأشراف الذين يرغبون في أن يوجهوا إلى خصومهم ضربة قاصمة يلجئون إلى بسالتهم مفضلين إياهم على رجال قبائلهم"2.
وتحدثنا الأخبار أن قوما من شذاذ العرب كانوا يكونون مع الملوك، وكانوا
1 المصدر السابق/ 136، والمبرد: الكامل/ 350، 351، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 215، 216، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 17، والميداني: مجمع الأمثال 1/ 431. ومع أن المبرد يسوق القصة في باب يتحدث فيه تكاذيب الأعراب فإن التكذيب ينصب، كما هو واضح من القصة، على سرعة العدو الحارقة للعادة، وهي مسألة لا صلة لها بما نقرره هنا، وقد ناقشنا مسألة العدو في الفصل السابق.
2 lammens; le berceau de i'islam، vol. i، p. 193.
يسمونهم "الصنائع"1. وفي أخبار امرئ القيس أنه لما خرج ليثأر لأبيه "جمع جمعا من بني بكر بن وائل وغيرهم من صعاليك العرب، وخرج يريد بني أسد"2، وفي مرة أخرى غزاهم "وقد جمع جموعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"3، وأنه لما استنصر مرثد الخير الحميري أمده بخمسمائة رجل من حمير خرج بهم، وتبعه شذاذ من العرب4، وفي أخبار زيد الخيل الطائي أنه "جمع طيئا وأخلاطا لهم، وجموعا من شذاذ العرب، فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس"5، وفي أخبار زهير بن جناب أنه جمع بني كلب "ومن تجمع له من شذاذ العرب والقبائل"، فغزا بهم بكرا وتغلب6، وفي أخبار أبي جندب الهذلي أنه خرج ليثأر لأخيه "فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه"7، وفي أخباره أيضا أن بني لحيان قتلوا جارين له، فقدم مكة ولما قضى نسكه "خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة، فاستجاشهم على بني لحيان، فخرجوا معه، حتى صبح بهم بني لحيان"8، وفي شعر خفاف بن ندبة إشارة إلى اشتراك الصعاليك في بعض الغزوات9.
ولعل من أسباب هذا كثرة الصعاليك وانتشارهم في أرجاء الجزيرة العربية في العصر الجاهلي بصورة واسعة، وقد مر بنا في الفصل الأول أن النعمان بن المنذر لما طلبه كسرى، وهرب مستنجدا بقبائل العرب، نصحه بعضهم بالعودة إلى كسرى، فإن صفح عنه عاد ملكا غزيرا، وإلا فالموت خير من أن
1 الأغاني 9/ 81.
2 العباسي: معاهد التنصيص 1/ 5.
3 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532.
4 الأغاني 9/ 92.
5 الأغاني 16/ 52.
6 الأغاني 21/ 96.
7 المصدر السابق /62.
8 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 83، 84، والأغاني 21/ 67، 68.
9 الأغاني 2/ 329، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 471.
يتلعب به صعاليك العرب ويتخطفه ذئابها فتأكل ما له، وفي أخبار معبد بن زرارة "أن قيسا أسرته يوم رحرحان فساروا به إلى الحجاز، فأتى لقيط "أخوه" في بعض الأشهر الحرم، ليفديه فطلبوا منه ألف بعير، فقال لقيط: إن أبانا أمرنا ألا نزيد على المائتين فتطمع فينا ذؤبان العرب"1.
وهنا يجدر بنا أن نقف لنلاحظ أن هذا الأسلوب من أساليب العيش الذي سلكه صعاليك العرب لم يكن إلا صورة من الحياة الاجتماعية التي كان يعرفها المجتمع الجاهلي، ذلك المجتمع الذي كان يؤمن بأن "الغزو أدر للقاح، وأحد للسلاح"2. وليس من شك في أن المجتمع الجاهلي كان يؤمن بالقوة إيمانا جعلها من مقومات حياته، وجعل الغزو أساسا من الأسس التي يقوم عليها بناؤه3، "فبقدر ما كان التناصر بين أفراد القبيلة، كان التخاصم بين القبائل في سبيل الشرف والرياسة أو المال والعيش، لذلك كانت حياة القبائل الجاهلية حمراء مصبوغة بالدم"4 يتسابق أفرادها إلى الجهل، بل يحرص كل منهم على أن يجهل "فوق جهل الجاهلينا"5، مؤمنين بالظلم وبأن "من لا يَظلم الناس يُظلم"6، وبأن في الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان7، وبأن "الشهرة بالشر خير من ألا أُعرف بخير ولا شر"8.
ولعل عمل الصعاليك "كان استئناسا بعمل القبائل معا؛ إذ كانت حياته قائمة إلى حد ما على الغزو والسلب، والفرق بين الصورتين أن عمل القبائل جماعي منظم، وعمل الصعاليك فردى لا نظام له"9.
1 المبرد: الكامل/ 276.
2 ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 244.
3 lammens; le berceau de i'islam، vol. i، p. 247.
4 أحمد الشايب: تاريخ الشعر السياسي/ 27.
5 عمرو بن كلثوم في معلقته "التبريزي: شرح القصائد العشر/ 249".
6 زهير بن أبي سلمى في معلقته "المصدر السابق/ 127".
7 الفند الزماني "التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 14".
8 الجاحظ: الحيوان 2/ 90.
9 أحمد الشايب: تاريخ الشعر السياسي/ 35.
وخلاصة القول أن إيمان القبيلة بوحدتها أوجد في المجتمع الجاهلي طائفة الخلعاء والشذاذ، وأن إيمانها بجنسها أوجد فيه طائفة الأغربة، وأن المتمردين من هاتين الطائفتين من شتى القبائل قد اجتمعوا في عصابات من صعاليك العرب، كافرين بالعصبية القبلية، مؤمنين بعصبية مذهبية قوامها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، معتمدين على قوتهم في سبيل العيش، شأنهم في ذلك شأن المجتمع الذي يعيشون فيه، وإنْ يكن عملهم فرديا فلم يُعترف به.