الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:
وتتدخل ظاهرة "التضاد الجغرافي" مرة أخرى لترسم لهؤلاء الصعاليك المغامرين طريقهم، وتحدد لهم مناطق نشاطهم، فتكون هي تلك المناطق الخصبة التي تعرفها الجزيرة العربية.
ويلاحظ الدارسون أن هذه الصراع هو الصلة الجغرافية الطبيعية بين الصحاري المقفرة والوديان الخصبة، بين أرض الفقر وأرض الثراء1، فمنذ أقدم العصور، وهذا النطاق الصحراوي الذي يطوق الدنيا القديمة، يرسل على الوديان الخصبة المجاورة موجات متلاحقة من القبائل المغيرة الباحثة عن الخصب في تلك الأرض الطيبة، عندما تقل لديها موارد الرزق، ويحرق جفاف الصيف المراعي، ويجفف موارد المياه2. وليس من الممكن أن يعيش بدو الصحاري وحضر السهول الزراعية في أي مكان متجاورين في سلام وإنما هي الغارات والاعتداءات والثارات3، حتى ليعد هذا النطاق الصحراوي منطقة تقدم لكل أعداء النظام الحماية والأرض الصالحة للتجنيد4.
هكذا اتخذ صعاليك العرب من مناطق الخصب في الجزيرة العربية أهدافا لهم يتجهون إليها، ومناطق نشاط يعملون فيها، حتى إننا لو رسمنا مصورا جغرافيا لحركات الصعاليك في الجزيرة العربية، ووضعنا عليه السهام التي تبين الاتجاهات -كما يفعل أصحاب الخطط الحربية- لوجدنا هذه السهام تخرج من مناطق الجدب، وتتجه رءوسها إلى مناطق الخصب. ويذكر تأبط شرا أن أهدافه هي تلك المزارع الخصبة حيث الماء والزرع والماشية:
1 semple; influences of geographic environment، P. 487.
2 ibid.، P. 7.
3 ibid،. P. 492.
4 o'leary; arabia before muhammed، P. 3.
فيوما على أهل المواشي، وتارة
…
لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل1
ويصرح أبو خراش بمثل هذه الأهداف:
لست لمرة إن لم أوف مرقبة
…
يبدو لي الحرف منها والمقاضيب2
وفي أخبار السليك أنه خرج في بعض غزواته يتتبع الأرياف3.
وقد لاحظنا أن أهم مناطق الخصب في الجزيرة العربية هي اليمن، ونجد، وبعض مناطق السراة، ويثرب والوديان المحيطة بها. ونستطيع أن نقول -ونحن مطمئنون- إن كل هذه المناطق، بدون استثناء، تعرضت لغزوات الصعاليك.
وقد توزع نشاط الصعاليك بين هذه المناطق، حتى ليوشك أن تكون لكل جماعة من جماعاتهم مناطق اختصاص يتركز فيها نشاطهم:
أما عروة بن الورد وصعاليكه، أو "فتيانه" كما كانوا يسمون أحيانا4، فقد تركز نشاطهم الأساسي في منطقة يثرب وما يجاورها من شمالي الجزيرة العربية. وفي شعره وأخباره أحاديث كثيرة عن غزواته لهذه المنطقة. فهو يعلن صعاليكه مرة بأنهم لن يحققوا كل آماله، ولن يبلغوا أقصى همته، حتى يصلوا إلى يثرب منبت النخل فيغيروا عليها:
فإنكم لن تبلغوا كل همتي
…
ولا أربى حتى تروا منبت النخل5
وفي أبيات أخرى يتوعد الأوس، ويعلنهم بأنه سيترصد لهم بأحد الأودية حول يثرب:
1 لسان العرب: مادة "ركب"، ومادة "ثمل" - الركيب: المرزعة. والثميل: الحب.
2 ديوان الهذليين 2/ 159. ويروى في لسان العرب: مادة "قضب" لعروة بن الورد "انظر أيضا ديوانه/ 193". والواضح أنه لأبي خراش فإن مرة هو أبوه، أوفى: أشرف. والحرف من الجبل: أعلاه المحدد، ولعلها هنا تحريف صوابه "الحرث" بمعنى النبات، بدليل "المقاضيب" بعدها، وهي الأرض تنبت النبات الرطب، جمع مقضبة أو مقضاب.
3 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة" لوحة رقم 90. وانظر أيضا شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 192.
4 انظر شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8.
5 المصدر السابق 2/ 8، 9.
فإلا أنل أوسا فإني حسبها
…
بمنبطح الأدغال من ذي السلائل1
وفي أخباره أنه أغار على مزينة2، ومنازل مزينة "جبال رضوى وقدس وآرة وما والاها وصاقبها من أرض الحجاز"3 "وبين حرة بني سليم وبين المدينة"4، بل إننا لسنا في حاجة إلى هذا التحديد، فإن قصة الغارة صريحة في أن مزينة كانوا يخالطون بني النضير5، وعروة نفسه يذكر في شعره أنهم كانوا ينزلون "فويق بني النضير"6، وبنو النضير كانوا بنواحي يثرب7. وهذه المنطقة التي أغار عليها منطقة خصبة "فيها العيون والنخل والزيتون والبان والياسمين والعسل وضروب من الأشجار والنبات"8. وفي أخباره أيضا أنه كان ينزل بصعاليكه في ماوان، ويجعل منها "نقطة ارتكاز" لغزواته في تلك المنطقة9، وماوان واد فيه ماء بين النقرة والربذة في منطقة يثرب10، وهو يتحدث في بعض شعره عما كان يحدث له مع صعاليكه في هذه المنطقة11، وفي أخباره أيضا أنه خرج بصعاليكه "متيامنا عن المدينة يريد أرض قضاعة، وقصد بلقين"12، وأنه في مرة أخرى خرج بهم غازيا "ومضى حتى انتهى
1 الأغاني 3/ 75. وذو السلائل: واد بين الفرع والمدينة "ياقوت: معجم البلدان 5/ 105"، والفرع قرية غناء كبيرة بها نخل ومياه كثيرة "المصدر السابق 6/ 363".
2 الأغاني 3/ 75.
3 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88.
4 المصدر السابق/ 91.
5 الأغاني 3/ 76.
6 ديوانه/ 45.
7 تاريخ ابن خلدون 2/ 82.
8 البكري: معجم ما استعجم 1/ 37.
9 الأغاني 3/ 79، 85، وديوانه/ 97، وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9 سطر 18.
10 ياقوت: معجم البلدان 7/ 370.
11 شرح ابن السكيت على ديوانه/ 97 وما بعدها. وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 7، 9.
12 شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8 سطر 12، 13. وانظر أيضا شرح ابن السكيت على ديوانه/ 96.
إلى بلاد بني القين فأغار عليها"1، ومنازل بني القين في أرض التيه2 في الشمال الغربي من جزيرة العرب3، وهو يعلن صعاليكه بأنه لن يستقر بهم حتى يروا "منبت الأثل"4 ومنبت الأثل بلاد بني القين5.
ومع ذلك فقد كان عروة يغير أحيانا على مناطق أخرى غير مناطق اختصاصه، وهو يصرح في شعره بأنه يغير أحيانا على نجد، وأحيانا على تهامة:
فيوما على نجد وغارات أهلها
…
ويوما بأرض ذات شث وعرعر6
وفي أخباره أنه أغار مرة على منازل هذيل7، ومنازل هذيل في جبال السراة8 جنوبي مكة9، ولكن يبدو أن هذا كان نادرا، ولعله لم يكن يحدث إلا في حالات خاصة، فقصة غارته هذه لم تكن إلا لونا من التسلية أراد به أن يظهر براعته وسعة حيلته، وأن يبين للهذلي الذي أغار عليه مقدار غفلته، حتى ليرد عليه ما غنمه منه، لولا أن يأبى الهذلي ذلك إعجابا به10.
أما منطقة جبال السراة فيما بين مكة والطائف، وأول الطريق الصاعد إلى اليمن، فلعلها المنطقة التي شهدت أكبر عدد من صعاليك العرب، ويذكر الأصمعي أن بالحجاز والسراة من هؤلاء العدائين الذين يعدون على أرجلهم ويختلسون أكثر من ثلاثين11، وأن بهذيل وحدها منهم أربعين12، ومرد
1 الأغاني 3/ 82.
2 شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8 سطر 18، 19.
3 ency. of islam; art. 'urwa b. al-ward.
4 شرح ابن السكيت على ديوانه/ 106.
5 شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9 السطر الأول.
6 ديوانه/ 84.
7 الأغاني 3/ 83.
8 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88.
9 ency of islam; art. arabia، P. 368.
10 انظر القصة في الأغاني 3/ 83-85.
11 الأصمعي: فحولة الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 15.
12 المصدر السابق، ورقة رقم 22.
ذلك عندي إلى أربعة عوامل:
فهذه المنطقة، أولا، منطقة يظهر فيها "التضاد الجغرافي" ظهورا شديدا، حتى ليعدها الجغرافيون من المناطق التي يختلط فيها الرعي بالزراعة1. ففيها من المناطق ما يصفه القرآن الكريم بأنه واد غير ذي زرع2، ويذكر بعض الدارسين أن ليس فيما يحيط بمكة من أرض ما يكفي لحياة سكانها3، وليس في جميع جبال مكة -كما يذكر الجغرافيون- نبات إلا شيء يسير من الضهياء يكون في الجبل الشامخ، وليس في شيء منها ماء4، ولكن في هذه المنطقة إلى جانب هذا مناطق شديدة الخصب، وقد رأينا منها الطائف، وتعد منطقة السراة جنوبي مكة أشد مناطق الحجاز خصبا5، تنمو بها أشجار الصمغ والصنوبر والسرو6، وقد قلنا إن ظاهرة التضاد الجغرافي تثير في نفوس الفقراء إحساسا قويا بالفقر يدفعهم إلى التمرد.
وهذه المنطقة، ثانيا، منطقة جبلية. وسكان المناطق الجبلية -في العادة- أشداء مغامرون متكبرون، أخذوا من الصخر شدته، ومن التواء الدروب حب المغامرة، ومن شموخ الجبال الكبرياء العنيدة التي ترفض الخضوع. ويقرر الدارسون للبيئات الجغرافية "أن سكان الجبال الذين لم
1 انظر المصور الجغرافي في كتاب:
semple; influences of geographic environment، P. 487.
2 إبراهيم/ 37.
3 sedillot، histoire generale des arabes، tom i، P. 12.
4 ياقوت: معجم البلدان 3/ 240 - والضهياء: شجر كثير الشوك.
5 ency. of islam، art. arabia، P. 368.
6 lammens، le berceau de i'islam، vol. i، P. 92.
وليس صحيحا ما ذكره لامانس من أن جبالها تنبت الجوز بكثرة، استنادا إلى أنها تسمى جبال الجوز، كما أنه ليس صحيحا ما ذكره من أن كل منطقة الحجاز تنبت الجوز استنادا إلى السبب نفسه
…
"ibid.، pP. 92، 93"
فالجوز هنا ليس المراد به تلك الثمرة المعروفة، وإنما معناه الوسط، فهي جبال الجوز لأنها تتوسط بين نجد وتهامة، وكذلك القول في الحجاز، وليس هناك أي دليل على أن هذه المنطقة تنبت الجوز "انظر تاج العروس، مادة جوز".
يأخذوا بقسط وافر من الحضارة، والذين لم تهيئهم أمزجتهم أو ظروفهم الاقتصادية الضيقة للهجرة، يحلون مشكلة نقص موارد الطعام بالإغارة على حقول جيرانهم الأغنياء ومخازتهم، حتى لتملأ غارات النهب تاريخ سكان الجبال الفطريين"1، ويذكرون أن سكان الجبال القدماء في الألب وشمالي إسبانيا والبلقان وإيطاليا والمرتفعات المحيطة بالفراتين، كلهم قطاع طرق، يعيشون على النهب والسلب، نظرا لجدب بيئتهم الطبيعية وما تسببه لهم من قلة موارد العيش وما يتبع ذلك من فقر وجوع2.
وهكذا لم تكن القبائل العربية التي أنزلت في المناطق الجدبة من سلسلة جبال السراة بدعا في تاريخ العالم.
ثم إن هذه المنطقة، ثالثا، بحكم طبيعتها الجبلية تيسر وسائل الهرب والاختفاء والنجاة لهؤلاء الصعاليك، فما أيسر ما يجدون في دروبها الملتوية، وشعابها المتعرجة، وطرقها الصاعدة الهابطة، فرصا طيبة تساعدهم على الهرب، وما أكثر ما يجدون في كهوفها المتعددة، وثناياها الغامضة المحجبة، وصخورها العالية المتناثرة، أماكن صالحة للاختفاء.
ففي أخبار تأبط شرا أنه أغار ومعه ابن براقة على بجيلة، فلما خرجت في آثارهما "مضيا هاربين في جبال السراة، وركبا الحزن"3، وفي أخبار مرة بن خليف4 أنه غزا الأزد، "فأسند في جبل لهم منكر، ليجد فرصة فيغير"5.
ثم إن هذه المنطقة، رابعا، تعرضت لظروف اقتصادية خاصة، سنعرض لها عند تفسيرنا الاقتصادي لظاهرة الصعلكة.
وأشهر الصعاليك الذين انتشروا في هذه المنطقة الجبلية صعاليك فهم وصعاليك هذيل، ومن انضم إلى أولئك وهؤلاء من خلعاء القبائل وشذاذها.
1 semple; influences of geographic environment، P. 586.
2 انظر تفصيل هذا في المصدر السابق: الموضع نفسه.
3 الأغاني 18/ 211.
4 ينص الأغاني على أنه من صعاليك فهم "18/ 215".
5 ابن حبيب: المحبر/ 198.
وقد قدمنا أن قبيلة هذيل كانت تنزل من تلك المنطقة الجيال جنوبي مكة، وكان لهم صدور أوديتها وشعابها الغربية1 التي تلي الرملة من تهامة2، وكانت تجاورهم في جبالهم فهم3، وكانت سراة فهم تجاور سراة ثقيف4 التي تقع إلى جانب الطائف5.
وقد اتجهت أكثر غزوات صعاليك هذه المنطقة إلى ديار بجيلة، وهي إحدى القبائل التي عرفت بالضعف6. ويبدو أن من أسباب هذا نزول بجيلة "في حضرة الطائف"7 هذا الأقليم الشديد الخصب، ومجاورتها سراة فهم نتيجة لذلك. ولهذا نلاحظ أن تابط شرا الفهمي، ورفاقه من صعاليك فهم، ومن شذاذ القبائل الذين كانوا يصحبونه، كانوا مفتونين بالإغارة على هذه المنطقة، ففي أخباره أنه خرج في عدة من فهم "حتى بيتوا العوص، وهم حي من بجيلة، فقتلوا منهم نفرا، وأخذوا لهم إبلا"8، وأنه أغار "ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا لهم نعما"9، وأنه خرج ومعه صاحبان له "يريدون الغارة على بجيلة"10، و"أنه خرج غازيا يريد بجيلة فأخذوا نعما لهم"11، وفي أخبار صعاليك هذيل أنهم كانوا يغزون بجيلة أيضا12.
وقد اتجهت غزوات صعاليك هذيل إلى منطقة مكة أيضا، بحكم قربهم
1 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88.
2 السيوطي: المزهر 2/ 300.
3 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88.
4 المصدر السابق/ 15.
5 المصدر نفسه/ 67.
6 w. robertson smith; kinship and marriage in early arabia، P. 170. "f.n". "
7 البكري: معجم ما استعجم 1/ 90.
8 الأغاني 18/ 215.
9 المصدر السابق /211.
10 المصدر نفسه /217.
11 المصدر نفسه /213.
12 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 234.
منها، ففي أخبار الأعلم الهذلي أنه خرج "هو وأخواه صخر وصخير حتى أصبحوا تحت جبل يقال له السطاع"1، وهو جبل بينه وبين مكة مرحلة ونصف من جهة اليمن2، وفي أخبار بعض الصعاليك الهذليين أنهم كانوا يغيرون على خزاعة3، وكانت خزاعة تقيم بمكة4، ولكن يبدو أن للمسألة جانب آخر اقتصاديا سنحاول استجلاءه في تفسيرنا الاقتصادي لظاهرة الصعلكة.
وقد كانت بين هذيل وفهم ثارات5، فكان صعاليك كل من القبيلتين يغيرون على الأخرى، فيتربص بهم صعاليكها، وهكذا. وبيدو أن سر المسألة يرجع إلى الصراع بين الطائفتين على أهداف واحدة، وقد رأينا أن صعاليك هذيل كانوا يغيرون على بجيلة، هدف صعاليك فهم الأول، ويبدو أن كلا من لطائفتين كانت تريد أن تكون لها وحدها السيطرة المطلقة على هذه المنطقة الخصبة.
أما منطقة اليمن فقد عرفت أجزاؤها القريبة من الحجاز، وبخاصة ديار خثعم، صعاليك من فهم وصعاليك من الأزد، ففي أخبار تأبط شرا أنه "أغار على خثعم"6، وفي أخبار حاجز الأزدي أنه جمع "ناسا من فهم وعدوان، فدلهم على خثعم، فأصابوهم غرة وغنموا ما شاءوا"7، وكانت خثعم تنزل تربة وبيشة وظهر تبسالة على محجة اليمن من مكة إليها8، وهي منطقة خصبة "بها من النخل والفسيل شيء كثير"9، وبعض أوديتها،
1 الأغاني 20/ 20.
2 ياقوت: معجم البلدان 5/ 81.
3 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 161، وديوان الهذليين 2/ 142.
4 تاريخ ابن خلدون 2/ 71.
5 انظر أمثلة على هذه العداوات في السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 243، 247، 253، 257.
6 الأغاني 18/ 216، 217.
7 الأغاني 12/ 51 "بولاق".
8 البكري: معجم ما استعجم 1/ 90 وأيضا/ 63.
9 ياقوت: معجم البلدان 2/ 334.
وبخاصة وادي بيشة، ينتمي إلى أطيب مناطق بلاد العرب، وأكثرها خصبا1، ويصف ياقوت بيشة بأنها "قرية غناء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن"2.
وكذلك تعرضت سراة الأزد لبعض الغزوات، فقد كان الشنفرى يغير من ديار فهم على الأزد فيمن معه من فهم أحيانا، ووحده أكثر الأحيان3، وفي أخبار مرة بن خليف "أنه غزا الأزد"4. ويبدو أن من أسباب ذلك أن سراة الأزد كانت تجاور سراة فهم، فسراة الأزد تتلو سراة فهم من ناحية اليمن5، وإن تكن بينهما طائفة من السروات تنزلها قبائل أخرى6، ولكن الأزد كانوا ينزلون منطقة خصبة، فقد كانت منازلهم "أودية مستقبلة مطلع الشمس بتثليث وتربة وبيشة"7 وهي المنطقة التي كانت تنزل فيها خثعم، فقد كانت خثعم تنزل أوساط هذه الأودية8.
أما مناطق اليمن البعيدة فقد تخصص في الإغارة عليها السليك، وقد مر بنا أن عمرو بن معديكرب وصفه بأنه بعيد الغارة، وفي أخباره أنه كان "يتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل اليمن فيغير عليهم"9، وفيها أنه كان "يغير على اليمن"10، وفيها أنه انطلق مع رجلين ليغيروا "فأتوا جوف مراد"11، وجوف مراد في أرض سبأ12.
ومع ذلك فقد كان تأبط شرا يتعدى على اختصاص السليك فيغير على
1 ency. of islam; art، 'asir، P. 487.
2 ياقوت: معجم البلدان 2/ 334.
3 الأغاني 21/ 135.
4 ابن حبيب: المحبر/ 198.
5 الهمداني: صفة جزيرة العرب 1/ 121.
6 المصدر السابق /119.
7 البكري: معجم ما استعجم 1/ 90.
8 المصدر السابق/ 90.
9 الأغاني 18/ 137، 138.
10 المصدر السابق/ 134.
11 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 215.
12 ياقوت: معجم البلدان 3/ 175.
هذه المنطقة أحيانا، ففي أخباره أنه خرج يوما "يريد الغارة فلقي سرحا لمراد فأطرده، ونظرت به مراد، فخرجوا في طلبه فسبقهم إلى قومه"1.
وكان السليك يعد العدة لتلك الغارات البعيدة التي يضطر معها إلى اختراق المفازة المهلكة التي توصل إلى اليمن، فكان، أولا، لا يغير إلا في الصيف حينما تنقطع إغارة الخيل2، فيضمن بهذا عدم تعرضه لمطاردات الخيل البعيدة المدى، وهو لا يملك إلا قدميه يعدو بهما، ثم كان، ثانيا، يدير "موارد تموينه" في طريق غزواته الجدب، فكان "في الربيع يعمد إلى بيض النعام، فيملؤه من الماء، ويدفنه في طريق اليمن في المفاوز، فإذا غزا في الصيف مر به فاستأثره"3، وكان يعتمد في هذا على خبرته الواسعة بمجاهل الصحراء، فقد كان -كما يصفه الرواة- "أدل من قطاة، يجيء حتى يقف على البيضة"4.
والشيء الذي يلفت النظر في صعاليك هاتين المنطقتين الأخيرتين: منطقة السراة الممتدة من مكة حتى أول الطريق الصاعد إلى اليمن، ومنطقة السراة بعد ذلك حتى اليمن، هو أن أكثرهم -إن لم يكونوا جميعا- من العدائين الرجليين الذين يعدون على أرجلهم، فيسبقون الخيل، وقد رأينا أن المثل في سرعة العدو يضرب باثنين منهم هما السليك والشنفرى، وأن الأصمعي يذكر أن في هذيل وحدها أربعين من هؤلاء العدائين، ويذكر السكري "أن هذيلا ليسوا بأصحاب دواب، وإنما هم رجالة"5، وديوان الهذليين ناطق بكثرة عدد هؤلاء العدائين الذين كانوا يعتمدون على العدو في غاراتهم وفي فرارهم، وتشهد بهذا أيضا حماسة البحتري6.
1 الأغاني 18/ 216.
2 المصدر السابق/ 133، 134.
3 المصدر السابق/ 135.
4 المصدر السابق /134.
5 ديوان الهذليين 2/ 76.
6 انظر الباب الخامس والعشرين "فيما قيل في الفرار على الأرجل" / 63-69.
ومرد ذلك، عندي، إلى أمرين:
أولهما: طبيعة المنطقة الجغرافية، فهي منطقة جبلية تمتد على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر، "مقبلة من قعرة اليمن حتى تبلغ أطراف بوادي الشأم"1 "في عرض أربعة أيام في جميع طول السراة، يزيد كسر يوم في بعض هذه المواضع، وقد ينقص مثله في بعضها"2، وترتفع بعض ذراها إلى خمسمائة وألفين من الأمتار3. وفي الجبال تشتد عضلات الأرجل إلى درجة غير عادية نتيجة لطبيعة الأرض، وما تستلزمه من صعود وهبوط دائمين، ويقرر الدارسون "أن الطبيعة تمنح سكان الجبال عضلات في سقانهم من حديد ليتسلقوا بها المرتفعات"4.
والآخر: أن هذه المنطقة الجبلية المجدبة ليست بالمنطقة الصالحة لتربية الخيل؛ لأن الخيل لا تربى إلا في البقاع الخصبة5، ومن هنا اعتمد هؤلاء الصعاليك على أقدامهم في كل تحركاتهم.
ولهذا السبب أيضا نلاحظ أن عروة وصعاليكه ممن كانوا يغيرون على منطقة نجد وشمالي الجزيرة العربية لم يذكر عنهم أنهم كانوا من العدائين أو الرجليين، وإنما كانوا يستخدمون الخيل أحيانا6، وذلك لأن هذه المناطق مناطق خصبة تصلح لتربية الخيل، وهم يذكرون أن "في نجد وحدها أعز الخيول العربية وأرشقها"7.
والواقع أن هذه الظاهرة، ظاهرة شدة العدو الخارقة للعادة ليست الأمر المستحيل الذي يأباه واقع الحياة، فإننا نجد في حياتنا الواقعية التي تحيط بنا
1 الهمداني: صفة جزيرة العرب 1/ 48.
2 المصدر السابق 1/ 67.
3 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 51.
4 semple; influences of geographic environment، P. 1.
5 جوستاف لوبون: حصارة العرب/ 55.
6 انظر ديوان عروة/ 68، 69، 111.
7 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 55.
ما يؤيد ما حملته إلينا مصادر الأدب العربي القديم من أخبار تلك السرعة التي عرف بها صعاليك السراة.
ومرد المسألة في جميع هذه الحالات إلى تكيف الإنسان عضويا مع البيئة الطبيعية التي يعيش فيها، والحياة التي يحياها بينها.