الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة:
1-
الصعاليك:
رأينا أن مادة "صعلك" تدور في دائرتين اصطلحنا على تسميتها بالدائرة اللغوية والدائرة الاجتماعية، وتبدأ الدائرتان من نقطة واحدة هي الفقر، فأما الدائرة اللغوية فتنتهي حيث بدأت عند الفقر، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يظل في نطاقها فقيرا؛ لأنه لا يستطيع أن يغير الوضع الاجتماعي الذي فرض عليه لضعف في نفسه، أو لضعف في جسده، ثم يموت فقيرا، وأما الدائرة الاجتماعية فتبعد عن نقطة البدء محاولة ألا تنتهي عندها، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يحاول أن يتغلب على هذا الفقر ولكن بطريقة خاصة هي تلك التي جعلنا شعارها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، تدفعه إلى ذلك قوة في نفسه وقوة في جسده، أي أن المادة في هذه الدائرة الاجتماعية قد اكتسبت صفات اجتماعية جديدة.
ووقفنا بعد ذلك نلتمس السر في نشأة هذه الظاهرة، فنظرنا في المجتمع الجاهلي من ناحية بيئته الجغرافية، ورأينا أن الظاهرة الجغرافية التي تسيطر على هذا المجتمع هي ما اصطلحنا على تسميتها "بظاهرة التضاد الجغرافي"، ورأينا أن هذه الظاهرة كانت العامل الأول في نشأة حركة الصعاليك؛ لأنها كانت السبب في وجود الفقر وفي إحساس الفقراء به. ورأينا أن هذه الظاهرة تدخلت مرة أخرى في توجيه حركات الصعاليك التي كانت تخرج دائما من المناطق الجدبة إلى المناطق الخصبة، ورأينا أن كل مناطق الخصب في الجزيرة العربية قد تعرضت لغزوات الصعاليك، ثم رأينا أنه من الممكن أن نحدد مناطق
حركات الصعاليك، فرأينا أن عروة وصعاليكه قد توزع نشاطهم بين منطقتين أساسيتين: منطقة نجد، ومنطقة يثرب وما يجاورها شمالي جزيرة العرب، وإن لم يمنع هذا من أن يغير أحيانا على غير مناطق اختصاصه، ورأينا أن منطقة جبال السراة فيما بين مكة والطائف وأول الطريق الصاعد إلى اليمن هي المنطقة التي شهدت أكبر عدد من صعاليك العرب، وأن أشهر الصعاليك الذين انتشروا في هذه المنطقة صعاليك فهم وهذيل ومن انضم إليهم من خلعاء القبائل وشذاذها، ورأينا أن منطقة اليمن عرفت أجزاؤها القريبة من الحجاز صعاليك من فهم ومن الأزد، وأما أجزاؤها البعيدة فقد تخصص في الإغارة عليها السليك، وإن يكن تأبط شرا يتعدى أحيانا على منطقة اختصاص السليك. ولفت نظرنا في صعاليك هاتين المنطقتين أن أكثرهم -إن لم يكونوا جميعا- من العدائين، وقد رددنا هذا إلى ثلاثة عوامل، طبيعة المنطقة الجبلية، وبعد الأهداف، وقلة الخيل. ثم وقفنا عند هذه الظاهرة، ظاهرة شدة العدو، وقلنا إنها ليست بالظاهرة المستحيلة، وإنما هي صورة من صور التكيف العضوي بين الإنسان وبيئته.
ثم مضينا إلى المجتمع الجاهلي نلتمس فيه تفسيرا لظاهرة التصعلك، فرأينا أنه مجتمع قبلي، آمنت كل قبيلة فيه بوحدتها الاجتماعية وبكرم جنسها، ورأينا أن إيمان القبيلة بوحدتها أوجد طائفة الخلعاء والشذاذ في هذا المجتمع، وأن إيمانها بجنسها أوجد طائف الهجناء والأغربة، وأن المتمردين من هاتين الطائفتين من شتى القبائل قد اجتمعوا في عصابات من صعاليك العرب، كافرين بالعصبية القبلية، مؤمنين بعصبية مذهبية، معتمدين على قوتهم في سبيل العيش، شأنهم في ذلك شأن المجتمع الذي يعيشون فيه، غاية ما في الأمر أن عملهم فردى يجري بدون رضا القبيلة، وعمل القبائل جماعي معترف به.
ثم مضينا إلى الناحية الاقتصادية في هذا المجتمع فرأينا أن الجزيرة العربية كانت منذ أقدم العصور ممرا تجاريا نشطا لطرق القوافل، وأنه على طول هذه الطرق قامت مجموعة من الأسواق. ورأينا أن مراكز نشاط الصعاليك كانت
عادة على طول هذه الطرق، وبالقرب من هذه الأسواق. ورأينا أن الصعاليك قد استغلوا هذه الأسواق استغلالا آخر فكانت لهم فرصة ينتقون فيها ضحاياهم.
وقد عللنا كثرة الصعاليك في منطقة السراة حول مكة بوقوع هذه المنطقة على الطريق التجاري، وبوجود ثلاث أسواق مشهورة فيها ورأينا أن هذه الأسواق قد شهدت السطور الأولى من قصة طائفتين من طوائف الصعاليك هما طائفة الأغربة وطائفة الخلعاء، ففي هذه الأسواق -أو في بعضها على الأقل- كانت تجري تجارة الرقيق التي كانت سببا في نشأة طبقة الأغربة، وفيها -أو في الأسواق الأساسية منها- كان الإعلان الرسمي الذي تذيعه القبائل عن خلعها بعض أفرادها الخارجين عليها.
ورأينا أن المدن العربية قد عرفت لونا من النشاط التجاري الذي ترتب عليه تضم الثروة وتركزها في أيدي نفر قليل من أهلها، الأمر الذي أحدث لونا من الاختلال الاقتصادي، نشأت عنه كثرة عدد الصعاليك الذين كانوا في حالة سيئة حملت أكثرهم على الهرب إلى الصحراء واللحاق بعصابات الصعاليك المنتشرة بها.
فإذا مضينا إلى داخل البادية العربية وجدنا ثمة صراعا بين طبقة أصحاب الإبل وطبقة الصعاليك، وقد رددنا هذا إلى التفاعل بين ظاهرتين متناقضتين: ظاهرة البعد الاقتصادي، وظاهرة القرب النفسي، ورأينا أن مادة هذا الصراع التي دار حولها كانت عادة الإبل؛ لأنها الثروة الأساسية في المجتمع البدوي، وإن لم يمنع هذا من أن تمتد أيدي الصعاليك إلى أية غنيمة تعرض لهم.