المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

2- ‌ ‌ مادته: حين ننظر في "المادة" التي تجمعت لنا من كنوز - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي

[يوسف خليف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: الصعاليك

- ‌الفصل الأول: التعريف بالصعلكة

- ‌في اللغة

- ‌الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة

- ‌ أهمية العامل الجغرافي:

- ‌ جزيرة العرب:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:

- ‌الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة

- ‌ القبيلة:

- ‌ إيمان القبيلة بوحدتها:

- ‌ إيمان القبيلة بجنسها:

- ‌ الصعاليك والمجتمع القبلي:

- ‌الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة

- ‌ العرب والتجارة:

- ‌ الطرق التجارية:

- ‌ الأسواق:

- ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

- ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

- ‌الباب الثاني: شعر الصعاليك

- ‌الفصل الأول: ديوان الصعاليك

- ‌مصادره

- ‌ مادته:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

- ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

- ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

- ‌الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك

- ‌ شعر مقطوعات:

- ‌ الوحدة الموضوعية:

- ‌التخلص من المقدمات الطلية

- ‌ عدم الحرص على التصريع:

- ‌ التحلل من الشخصية القبلية:

- ‌ القصصية:

- ‌ الواقعية:

- ‌ السرعة الفنية:

- ‌ آثار من الصنعة المتأنية:

- ‌ الخصائص اللغوية:

- ‌ ظواهر عروضية:

- ‌الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان

- ‌ تشابه وتميز:

- ‌ عروة بن الورد:

- ‌الشَّنْرَي

- ‌الخاتمة:

- ‌ الصعاليك:

- ‌ شعر الصعاليك:

- ‌الفهرس:

الفصل: 2- ‌ ‌ مادته: حين ننظر في "المادة" التي تجمعت لنا من كنوز

2-

‌ مادته:

حين ننظر في "المادة" التي تجمعت لنا من كنوز ديوان الصعاليك نلاحظ عليها ثلاثة أشياء: قلتها، وكثرة الاضطراب في رواية نصوصها، ثم الشك الذي يحيط ببعض نصوصها.

والأمر الذي لا شك فيه هو أن مادة شعر الصعاليك قليلة قلة لا تتكافأ مع كثرة مصادرها، ومرد ذلك من غير شك إلى ضياع جزء كبير منها؛ لأنها -من ناحية- شعر جاهلي، ونحن نعرف أن الشعر الجاهلي قد ضاع أكثره، ولم يصل إلينا منه إلا أقله، وهي حقيقة معروفة مقررة عند القدماء1، ثم هي -من ناحية أخرى- نتاج طائفة من الشعراء متمردة على قبائلها، متشردة في مجاهل الصحراء. وليس الأمر استنتاجا نظريا، وإنما هي حقيقة يذكرها القدماء، فهم يذكرون عن قيس بن الحدادية أنه "شاعر قديم كثير الشعر"2، وليست مجموعة شعر قيس التي بين أيدينا بالتي يصح أن نطلق على صاحبها أنه "كثير الشعر". وليس من شك في أن كثيرا من الشعراء الصعاليك كانوا مثل قيس من حيث كثرة الشعر، وأن كل الشعراء

1 يقول أبو عمرو بن العلاء "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير""ابن سلام: طبقات الشعراء/ 10"، ويعلل عمر بن الخطاب لهذا بهلاك رواته من العرب في الفتوح الإسلامية "المصدر السابق/ 10"، ويقول ابن قتيبة "ولا أحسب أحدا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه ولا قصيدة إلا رواها "الشعر والشعراء/ 3"، ويحدثنا الأصمعي أنه "كان ثلاثة إخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار فذهب رجزهم" "المصدر السابق/ 4".

2 المرزباني: معجم الشعراء/ 326.

ص: 169

الصعاليك كانوا مثله ومثل سائر الشعراء الجاهليين من حيث ضياع أكثر شعرهم.

وإلى جانب هذه القلة في المادة نلاحظ أيضا كثرة الاضطراب في رواية نصوصها، وهي ظاهرة تُلاحظ على كل نصوص الشعر الجاهلي، ولكنها تُلاحظ بصورة قوية في نصوص شعر الصعاليك. ومن اليسير أن نفهم هذا ما دمنا قد عرفنا أن الشعراء الصعاليك كانوا يمثلون طائفة متمردة على قبائلها، متشردة في مجاهل الصحراء، وما دام هذا الشعر قد وصل إلينا مفرقا في مصادر الأدب العربي المختلفة، ولم يصل إلينا إلا قليل منه في دواوين مستقلة.

وكما يُلاحظ هذا الاضطراب في ألفاظ هذا الشعر، يُلاحظ في ترتيب أبياته، ويُلاحظ أيضا في عدد هذه الأبيات، وهذا ما سنحاول الإشارة إليه فما يمر بنا منه في هذا البحث.

فإذا ما تركنا هاتين الملاحظتين الشكليتين، فإننا نصل إلى الملاحظة الثالثة، وهي الشك الذي يحيط ببعض نصوص هذا الشعر، وهي ملاحظة جوهرية؛ لأنها تتصل بالمادة التي بين أيدينا: أهي حقا لأصحابها أم هي مزيفة عليهم؟ وشعر الصعاليك في هذه المسألة ليس بدعا من سائر الشعر الجاهلي الذي اتهم بالتزييف والانتحال اتهاما شديدا، والذي تعرض لحملة شديدة كانت على وشك أن تعصف بأركانه. ولسنا نبرئ الشعر الجاهلي من هذا الاتهام، ولكنا أيضا لا نمضي مع هذا الاتهام إلى ذلك الحد الذي يجعل من رواة الشعر الجاهلي "عصبة من المزيفين" لا هم لهم إلا صناعة نماذج من الشعر ثم حملها على الشعراء الجاهليين، والذي يجعل درس الشعر الجاهلي ضربا من الأعمال "البوليسية" التي لا هم لها إلا البحث عن هؤلاء المزيفين ومصادرة "عملتهم" الزائفة.

والأمر الذي لا أكاد أشك فيه هو أن الشعر الجاهلي قد لقي من عناية القدماء نصيبا موفورا، وأن نقاد هذا الشعر لم يشكوا في شيء منه إلا سجلوا هذا الشك، وحسبنا هذا الشك دليلا على عناية القدماء بأمر هذا الشعر. أما

ص: 170

ما كان التزييف فيه بارعا إلى درجة خفيت على القدماء أنفسهم من النقاد والرواة، فما أظن أننا نبيح لأنفسنا الادعاء بأننا أدق حسا بالشعر الجاهلي من هؤلاء القدماء الذين كانوا أقرب منا عهدا بعصر هذا الشعر، أما إذا كان الراوية أو الناقد مجرحا عرفت عنه الغفلة أو الكذب، أو كان المتن نفسه يحمل في أثنائه دليلا على الكذب أو التزييف، فهنا تكون مواضع الشك والاتهام. وليست هذه الخطة بدعا في الدرس، وإنما هي خطة سار عليها علماء الحديث في دراستهم لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتحقيقها.

ومجموعة شعر الصعاليك التي دارت حولها أحاديث الشك نوعان: فمجموعة كان الشك فيها "داخليا" بمعنى أن الرواة قد اتفقوا على أنها من شعر الصعاليك، ولكنهم اختلفوا في نسبتها إلى أيهم، ومن الأمثلة على هذه المجموعة تلك البائية التي تروى مرة لأبي خراش الهذلي1، ومرة للأعلم الهذلي2، ومرة لتأبط شرا3 وهم جميعا من صعاليك منطقة واحدة هي منطقة السراة.

ومن الأمثلة على هذه المجموعة أيضا تلك الدالية التي يرويها الأصمعي وأبو عمرو الشيباني والسكري لصخر الغي الهديل4، والتي يذكر أبو عبيدة "أنه رأى جماعة من شعراء هذيل يختلفون في هذه القصدية فيرويها بعضهم لصخر الغي، ويرويها بعضهم لعمرو ذي الكلب، وأن الهيثم بن عدي حدثه عن حماد الرواية أنها لعمرو ذي الكلب"5، وكلا الشاعرين من صعاليك هذيل.

والخطب في هذه المجموعة هين، فإن المسألة لم تخرج عن دائرة الصعاليك. وهذا الاختلاف -وإن يكن له تأثير في الدراسة الفنية للشاعر الواحد-

1 ديوان الهذليين، القسم الثاني/ 168، 169.

2 الآمدي: المؤتلف والمختلف/ 95.

3 ديوان الهذليين، القسم الثاني/ 168، 169، وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 240.

4 الأغاني 20/ 19، وشرح أشعار الهذليين 1/ 12، ويرويها له أيضا ابن قتيبة في الشعر والشعراء/ 420.

5 الأغاني 20/ 19.

ص: 171

لا تأثير له في الدراسة الفنية لشعر الصعاليك من حيث هو شعر مجموعة، ولا تأثير له في الدراسات الاجتماعية لظاهرة الصعلكة.

ومن هنا وقفنا من هذه المجموعة موقفين مختلفين، فاعتمدنا عليها في دراسة ظاهرة الصعلكة، وفي دراسة شعر الصعاليك من حيث هو شعر مجموعة، أما حين ندرس شاعرا معينا، فمن الطبيعي ألا نعتمد عليها، لا في دراسة حياته، ولا في دراسة فنه، وإلا وصلنا إلى نتائج مشكوك في مقدماتها.

أما المجموعة الأخرى فإن الشك فيها شك "خارجي" بمعنى أنه يدور حول نسبتها إلى الشعراء الصعاليك أو إلى غيرهم من الشعراء، كتلك الأبيات التي تنسب مرة إلى تأبط شرا1، ومرة ثانية إلى البعيث2، ومرة ثالثة إلى هدبة العذري3، وكتلك الأبيات البائية التي تنسب في بعض المصادر إلى أبي الطمحان4، وفي بعضها إلى لقيط بن زرارة5، وكالبيتين اللذين ينسبان في بعض المصادر إلى السليك6، وفي بعضها إلى المعتصم بالله بن هارون الرشيد7.

وقد يكون من اليسير أن ينتهي الباحث إلى رأي في هذا الاختلاف إذا أعانته بعض الخصائص الفنية في نصوص هذه الأبيات على التعرف على شخصيات أصحابها، فمثلا قد يكون من اليسير أن نصحح نسبة البيتين الأخيرين إلى المعتصم؛ إذ إن سمات "الأرستقراطية" تبدو عليهما في صورة ذلك السيد الذي يأمر غلامه بأن يهيئ له حصانة ويطرح عليه سرجه ولجامه، فإذا أضفنا إلى هذا أن البيت الثاني يُروى في بعض المصادر "أبلغْ الأتراك"8

1 ابن قتيبة: عيون الأخبار، المجلد الأول/ 281.

2 المصدر السابق/ 276.

3 ابن عبد ربه: العقد الفريد 1/ 116.

4 المبرد: الكامل/ 30، وانظر أيضا ص66، 507.

5 الجاحظ: الحيوان 3/ 93، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 447.

6 أسامة بن منقذ: لباب الآداب/ 182.

7 المرزباني: معجم الشعراء/ 425.

8 المصدر السابق/ 425.

ص: 172

مكان "أبلغ الفتيان"، رجحت لدينا نسبة هذين البيتين للمعتصم، ومن الحق أن السليك كان له فرس اسمه "النحام"1، ولعل هذا هو الذي أشكل على بعض الرواة فنسبوا البيتين له، ولكن هذا ليس كافيا لإثبات صحة هذه النسبة، فقد يكون في خيل المعتصم ما يحمل هذا الاسم.

والأمر في الأبيات التي تنسب إلى أبي الطمحان أو لقيط بن زرارة يشبه هذا الأمر، فإن في الأبيات فخرا بقوم الشاعر بالسيادة والحسب، وهذا أليق بلقيط ذلك السيد التميمي الذي يصفه ابن قتيبة بأنه "كان أشرف بني زرارة"2، وكما أن فخر الشاعر بلسان قومه ليس من الخصائص المألوفة في شعر الصعاليك، ومن هنا نستطيع أن نرجح نسبة هذه الأبيات إلى لقيط، وقد تنبه ابن قتيبة إلى هذا حيث يقول "وبعض الرواة ينحل هذا الشعر أبا الطمحان القيني، وليس كذلك، إنما هو للقيط"3.

وقد تنبه القدماء إلى مثل هذا، فقد اختلف الرواة في أربعة أبيات من معلقة امرئ القيس: أهي له أم لتأبط شرا؟ وهي تلك الأبيات التي يتحدث فيها الشاعر عن حملة قربة الماء، وتشرده في الوديان المقفرة مع الذئاب الجائعة، وعن فقره وإسرافه وهزاله4: أما الأصمعي فقد ذهب إلى أن هذه الأبيات ليست لأمرئ القيس وإنما هي لتأبط شرا، وتابعه في هذا الرأي أبو حنيفة الدينوري وابن قتيبة، وأما السكري فقد خالفهم في هذا ورواها لامرئ القيس في معلقته5، وقد تنبه صاحب خزانة الأدب إلى أن هذا الشعر أشبه بكلام اللص والصلعوك لا بكلام الملوك6.

وقد يقال إن امرأ القيس تصعلك حقبة من حياته، فلعله يعبر عن هذه

1 انظر الكامل للمبرد/ 471، ولسان العرب مادة "نحم".

2 الشعر والشعراء/ 446.

3 المصدر السابق/ 447.

4 التبريزي: شرح القصائد العشر/ 37، 38.

5 البغدادي: خزانة الأدب 1/ 65.

6 المصدر السابق/ 65.

ص: 173

الحقبة في هذه الأبيات، ولكن يلاحظ أن وضع هذه الأبيات في المعلقة وضع قلق، إذ إنها حديث شاب "أرستقراطي" عن اللهو والنساء والصيد فليس من المعقول أن يتحدث في أثناء هذا عن حملة قربة الماء وفقره وتشرده، وقد رجحنا منذ قليل أن هذه الأبيات قطعة من لامية لتأبط شرا لم تصل إلينا، وقلنا إنه من الممكن أن تتألف من تلك الأبيات الكثيرة الواردة له في لسان العرب من وزن واحد وعلى قافية واحدة.

وصورة أخرى من هذا "الشك الخارجي" نراها حين تتهم بعض نصوص شعر الصعاليك بأنها قد صنعت وحملت عليهم، فمثلا يقول أبو عمرو تعليقا على القصيدة القافية المنسوبة إلى قيس بن الحدادية في مدح أسد بن كرز:"وهذه الأبيات من رواية أصحابنا الكوفيين، وغيرهم يزعم أنها مصنوعة، صنعها حماد الراوية لخالد القسري في أيام ولايته وأنشده إياها، فوصله، والتوليد بين فيها جدا"1، ويذكر أبو الفرج بعد أن روى القصيدة البائية المنسوبة إلى قيس الحدادية أيضا التي يفتخر فيها بقومه، ويعيِّر عامر بن الظرب بفراره:"هذه القصيدة مصنوعة والشعر بيِّن التوليد"2.

ولعل أشهر ما تعرض لهذا الشك من شعر الصعاليك لاميتان: إحداهما تنسب إلى الشنفرى، وهي المعروفة بلامية العرب، ومطلعها:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

والأخرى اختلف القدماء في نسبتها اختلافا شديدا، ومطلعها:

إن بالشعب الذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يطل

وكلتا اللاميتين اتهم بصنعهما خلف الأحمر3.

والقدماء يصفون خلفا بأنه "كان من أمرس الناس لبيت شعر"

1 الأغاني 13/ 5 "بولاق".

2 المصدر السابق/ 4.

3 ابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 307، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 497، والجاحظ: الحيوان 1/ 182، والقالي: الأمالي 1/ 156.

4 ابن النديم: الفهرست/ 50.

ص: 174

ويقول ابن سلام: "أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعر"1، ويقول الأخفش:"لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف الأحمر الأصمعي"2، ويقول أبو اليزيد:"أتيت بغداد حين قام المهدي محمد، فوافاها العلماء من كل بلدة بأنواع العلوم، فلم أر رجلا أفرس ببيت شعر من خلف"3. ولكنهم مع الأسف يصفونه بأنه "كان يقول الشعر فيجيد، وربما نحله الشعراء المتقدمين، فلا يتميز من شعرهم لمشاكلة كلامه كلامهم"4 ويقول أبو الطيب عبد الواحد اللغوي: "كان خلف يضع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يُعرف"5، ويذكر ابن قتيبة أنه "كان يقول الشعر وينحله المتقدمين"6، ويقول ابن عبد ربه: "وكان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله الشعراء"7، ويذكر ابن النديم عنه أنه "كان شاعرا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم"8، بل إنه هو نفسه يصرح بهذا ففي بعض الأخبار أنه قال: "كنت آخذ من حماد الرواية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها"9.

ومعنى هذا أننا أمام "مزيف" بارع يعرف أساليب العرب في الشعر ويقلدها ثم يحملها عليهم، فلا يكادون يميزونها، وهنا موطن الخطر، فلو لم يكن خلف على هذه البراعة، لاستطاع القدماء، ولاستطعنا نحن أيضا، أن نعرف ما هو صحيح النسبة إلى أصحابه مما يرويه من الشعر وما هو منحول عليهم.

1 ياقوت: معجم الأدباء 11/ 67.

2 المصدر السابق 11/ 67.

3 ابن النديم: الفهرست/ 54.

4 ابن الأنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء/ 69، 70.

5 ياقوت: معجم الأدباء 11/ 68.

6 الشعر والشعراء/ 497.

7 العقد الفريد 5/ 307.

8 الفهرست/ 50.

9 الأغاني 6/ 92.

ص: 175

ولعل الأمر في اللامية الأخيرة "إن بالشِّعب" أيسر، فإن الشك يكتنفها اكتنافا شديدا لم تتعرض لمثله أية قصيدة أخرى من "ديوان الصعاليك"، وتكاد مصادر الأدب العربي المختلفة لا تتفق على قائلها، فهي مرة تنسب إلى تأبط شرا1، ومرة إلى ابن أخت تأبط شرا2، ومرة إلى الشنفرى3، هذا إلى جانب نسبتها إلى خلف الأحمر4، بل إن أبا تمام الذي ينسبها في حماسته في صراحة إلى تابط شرا5، ينسبها في بعض المصادر الأخرى في صراحة أيضا إلى الشنفرى6، بل الغريب أن تنسب أحيانا إلى الشنفرى في رثاء تأبط شرا7، مع أن المعروف أن الشنفرى قتل قبل تأبط شرا، وأن تابط شرا هو الذي رثاه8، والجاحظ لا يعرض لها إلا متشككا، فهو يقول مرة:"وقال تأبط شرا أو أبو محرز خلف بن حيان الأحمر"9، ويقول مرة أخرى:"وقال تأبط شرا، وإن كان قالها"10. وينقل ابن دريد بيتا منها في أسلوب المتشكك حيث يقول: "وقد رُوي البيت المنسوب إلى الشنفرى أو إلى تأبط شرا

"11، ووضع العبارة على هذه الصورة المتشككة، والتعبير بكلمة "المنسوب"، يشعران بما كان يدور في نفس ابن دريد من الشك في صحة هذه النسبة إلى أي من الشاعرين. ويقول ابن عبد ربه: "ويقال

1 حماسة أبي تمام 2/ 160. ولسان العرب: مادة "سلع".

2 ابن عبد ربه: العقد الفريد 1/ 252، 3/ 298، 5/ 345، 346.

3 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532. ولسان العرب: مادة "سلع". وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 249.

4 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 497.

5 حماسة أبي تمام 2/ 160.

6 حماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 250.

7 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532. ولسان العرب: مادة "سلع". وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 249.

8 الأغاني 21/ 136.

9 الحيوان 1/ 182.

10 المصدر السابق 3/ 68.

11 جمهرة اللغة 1/ 69.

ص: 176

إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرا وهو:

إن بالشعب الذي دون سلع

لقتيلا دمه ما يطل

لخلف الأحمر، وإنه نحله إياه"1. ويقول التبريزي في صراحة عن هذا الشعر:"وذكر أنه لخلف الأحمر، وهو الصحيح"2. وكذلك يفعل ابن قتيبة إذ يذكر في صراحة لا تحتمل شكا أن قائل هذه القصيدة هو خلف، وهو يذكر هذا في ترجمته له3.

ومعنى هذا أن القدماء لم يتفقوا على نسبتها إلى أحد من الشعراء الصعاليك، وإنما كان اختلافهم في هذا اختلافا عريضا، وأنهم يقفون منها موقف المتشكك في صحة نسبتها إلى أي من الشعراء الصعاليك، بل إن بعض من يعتد برأيهم يصرحون في قوة بأنها لخلف.

ولكنا نعود فنقف أمام نص الخالديين في حماستهما يذكران فيه -بعد أن ذكرا هذه القصيدة منسوبة إلى الشنفرى- "وقد زعم قوم من العلماء أن الشعر الذي كتبنا للشنفرى هو لخلف الأحمر، وهو غلط"4، ثم يرويان خبرا طويلا5 عن الصولي عن أبي العيناء عن العتبي في إثبات هذا، خلاصته أن العتبي كان جالسا يوما بالمربد مع "جماعة من أهل الأدب" ومعهم خلف الأحمر يتذاكرون "أشعار العرب"، ثم أخذ خلف ينشدهم قصيدة له على روي هذه اللامية وقافيتها "يذكر فيها ولد أمير المؤمنين عليهم الرحمة وما نالهم وجرى عليهم من الظلم"؛ إذ هجم عليهم الأصمعي، وكان منحرفا عن أهل البيت، فقطع خلف قصيدته، ودخل في هذه اللامية، ولم يكن في الجماعة "أحد عرف هذا الشعر ولا رواه للشنفرى"، فلما انصرف الأصمعي أقبلوا على خلف ينظرون سرعة بديهته، ومقدرته على الارتجال، ولكنه قال لهم

1 العقد الفريد 5/ 307.

2 شرح حماسة أبي تمام 2/ 160.

3 الشعر والشعراء/ 497.

4 ورقة رقم 250 "مخطوطة".

5 من ورقة رقم 251 - إلى ورقة رقم 254.

ص: 177

"إن كان تقريظكم لي لأني عملت الشعر فما عملته والله، ولكنه للشنفرى تأبط شرا1، والله لو سمع الأصمعي بيتا من الشعر الذي كنت أنشدكموه ما أمسى أو يقوم به خطيبا على منبر البصرة فيتلف نفسي، فادعاء شعر لو أردت قول مثله ما تعذر عليَّ أهون عندي من أن يتصل بالسلطان فألحق باللطيف الخبير".

والخبر على هذه الصورة يحمل في ثناياه كذبه، فماذا يحمل خلفا على أن يدعي أمام الأصمعي أن هذه القصيدة له، ولا ينسبها صراحة إلى صاحبها؟ ثم كيف نتصور أن الأصمعي لم يكن يعرف هذه القصيدة لو كانت حقا للشنفرى أو غيره من الشعراء الجاهليين، وهو الذي يقرنه الأخفش بخلف الأحمر في العلم بالشعر، ويقول إنه لم يدرك أحد أعلم بالشعر منهما؟ 2 كيف نتصور أن خلفا يسيئ الظن بالأصمعي إلى هذا الحد الذي ينشده فيه قصيدة جاهلية، ويدعيها لنفسه، دون أن يظن أن الأصمعي قد يكون يرويها هو أيضا؟ ثم كيف نتصور أن هذه "الجماعة من أهل الأدب" المجتمعة لتتذاكر "أشعار العرب" -على حد تعبيرات القصة- قد خلت من واحد يعرف أن هذه القصيدة جاهلية؟ ثم أين سائر أفراد هذه "الجماعة من أهل الأدب" ولِمَ لَمْ يذكر واحد منهم غير العتبي هذا الخبر؟

أما أنا فأرجح ترجيحا شديدا أن العتبي راوي هذا الخبر هو مختلقه. ويؤيد هذا انفراده بروايته، وقوله إنه لم يبق من يعرفه غيره، وأنه تحدث به في مجلس له ورجل يقرأ عليه شعر الشنفرى، فلما وصل إلى هذه اللامية قال بعض من كان في المجلس: هذه القصيدة لخلف الأحمر، فضحك العتبي مستخفا به، ومضى يقص هذا الخبر. وهذا يجعلنا نرجح أن المسألة كانت تحديا بينه وبين بعض الحاضرين، وفي مثل هذا الموقف قد يعمد بعض الناس إلى الاختلاق. ثم قد يكون العتبي اختلق هذه القصة ليبرئ خلفا من

1 كذا في المخطوطة "ورقة رقم 252" وأظن أن صوابه "للشنفرى يرثي تأبط شرا".

2 ياقوت: معجم الأدباء 11/ 67.

ص: 178

تهمة الكذب، وكلاهما شيعي.

هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية الفنية فقد حاول القدماء ممن نسبوها إلى خلف أن يدللوا على صحة هذه النسبة، ويروي التبريزي عن النمري أنه قال "ومما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها -جل حتى دق فيه الأجل- فإن الإعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا"1. ويروى عن أبي الندى أنه قال "مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه سلعا وهو بالمدينة، وأين تأبط شرا من سلع؟ وإنما قُتل في بلاد هذيل2". ولكن صاحب معجم البلدان يذكر أن في ديار هذيل جبلا اسمه سلع3، ولكنه -من ناحية أخرى- ينقل عن بعض العلماء أنهم استدلوا على أن هذه القصيدة ليست لتأبط شرا "بأن سلعا ليس دونه شعب"4.

على هذه الأسس التاريخية والفنية نظن، بل نرجح، أن هذه اللامية ليس لأحد من الشعراء الصعاليك ولا في رثاء أحد من الصعاليك.

أما القصيدة الأخرى، لامية العرب، فإن الأمر فيها أصعب من هذا، فليس حولها هذا الخلاف العريض الذي رأيناه حول اللامية الأولى، فإن الرواة الذين تعرضوا لها ينسبونها إلى الشنفرى5، ما عدا صاحب تاج العروس الذي ينسبها إلى تأبط شرا6، وليس بين أيدينا من النصوص الصريحة على أنها ليست للشنفرى سوى نص يرويه القالي عن ابن دريد يذكر فيه أن هذه القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى لخلف الأحمر7. وهو نص له قيمته؛ لأن ابن دريد

1 شرح حماسة أبي تمام 2/ 160، 161.

2 المصدر السابق/ 161.

3 ياقوت: معجم البلدان 3/ 108، مادة "سلع".

4 المصدر السابق 1/ 5 "المقدمة".

5 انظر على سبيل المثال التبريزي في شرحه على حماسة أبي تمام 1/ 234، والبغدادي في خزانة الأدب 2/ 414، 3/ 334، والعيني في شرح الشواهد الكبرى "على هامش خزانة الأدب" 2/ 117 وإن كنا نلاحظ أن العيني يذكر أن الشنفرى هو عمرو بن براق، وهو خلط، وهبة الله العلوي في ديوان مختارات شعراء العرب/ 21، وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 130.

6 مادة "آم".

7 الأمالي 1/ 156.

ص: 179

كان قريب عهد بخلف، فأكثر أخباره مروية عن تلاميذ الأصمعي عن خلف، ثم إنه كان على صلة بأعمال المدرسة البصرية التي ينتمي إليها خلف1، فإذا أضفنا إلى هذا أن أبا الفرج قد أغفل هذه اللامية في ترجمته للشنفرى إغفالا تاما ولم يشر إليها أي إشارة على كثرة ما روى من شعره2، كما فعل مع اللامية الأولى في ترجمته لتأبط شرا3، وأن لسان العرب -على كثرة ما نقل من شعر الصعاليك- لم يرد أي ذكر لها ولا أي بيت منها، بدأت كفة الشك في صحة نسبتها إلى الشنفرى ترجح.

هذه من الناحية التاريخية، أما من الناحية الفنية فإن أول ما يلفت نظرنا أن هذه اللامية طويلة طولا ليس مألوفا في شعر الصعاليك، وسنرى فيما بعد أن شعر الصعاليك كان في مجموعة شعر مقطوعات، فهذه اللامية تبلغ ثمانية وستين بيتا، في حين لا تزيد أطول قصيدة في "ديوان الصعاليك" وهي تائية الشنفرى المفضلية على خمسة وثلاثين بيتا في بعض المصادر4، أي أن هذه اللامية تبلغ ضعف أطول قصيدة في ديوان الصعاليك تقريبا وإلى جانب هذه نلاحظ قلة الاضطراب في رواية ألفاظها، وفي ترتيب أبياتها، وهي ظاهرة ليست مألوفة في شعر الصعاليك، فقد لاحظنا في أول هذا الفصل أن مما يميز شعر الصعاليك الاضطراب في رواية ألفاظه وترتيب أبياته. فإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظه كرنكو5 من قلة أسماء المواضع والأشخاص فيها، وهي ظاهرة ليست طبيعية في قصائد الشعر العربي المبكرة، زادت كفة الشك في صحة نسبة هذه اللامية إلى الشنفرى في الرجحان.

وقد نتساءل بعد هذا: ما السر في تلك العناية الغريبة التي لقيتها هذه

1 Kenkow; the ency. of islam، art. al-shanfara.

2 21/ 134-143.

3 18/ 209-218.

4 انظر في شرح ابن الأنباري على المفضليات "ط بيروت" تعليق الأستاذ lyall على البيت الأخير من التائية "ص207".

5 the ency of islam، art. al-shanfara.

ص: 180

اللامية حتى تؤلف فيها تلك الشروح الكثيرة المتعددة1، وحتى يحرص الغربيون على ترجمتها إلى لغاتهم؟ 2

الذي يبدو لي أن سر إقبال الشراح العرب عليها هو أنهم وجدوا فيها مادة لغوية طيبة، ثم أخذت المسألة تصبح لونا من التقليد والتنافس بين الشراح، أما الغربيون فقد وجدوا فيها صورة متقنة لحياة الأعراب في الجزيرة العربية، فكان اهتمامهم بها لغرض اجتماعي، كما كان اهتمام العرب بها لغرض لغوي.

والحق يقال إن خلفا قد صور حياة صعاليك العرب في هذه اللامية تصويرا رائعا ممتازا، حتى ليصح أن تكون مصدرا من مصادر دراسة حياتهم الاجتماعية.

والأمر الذي لا شك فيه هو أن خلفا قد تمثل أولا حياة صعاليك العرب وخصائص شعرهم الفنية، ثم مضى يصور هذه الحياة وهذا الفن في قصيدة رائعة، حاول ما استطاع أن يجعلها صورة صادقة لما عرف عن شعرهم وأخبارهم، حتى ليصح أن نطلق عليها لا "لامية العرب" وإنما "لامية الصعاليك" أو "دنيا الصعاليك".

1 انظر فهرس دار الكتب المصرية في شروح هذه اللامية التي تبلغ أكثر من عشرين شرحا.

2 the ency. of islam، art. al-shanfara.

ص: 181