الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
إيمان القبيلة بجنسها:
كما آمنت القبيلة بوحدتها هذا الإيمان العميق الذي ترتب عليه ظهور هذه الطائفة من التقاليد الاجتماعية التي تحدثنا عنها، آمنت بجنسها، وذلك لأن من الأسس التي قامت عليها القبيلة العربية إيمان أبنائها "برابطة الدم"، أي أنهم جميعا من دم واحد.
وقد أثار بعض المستشرقين تشكيكا في "رابطة الدم" هذه: أهي رابطة حقيقية أم رابطة مدعاة؟ 1 وليس يعنينا هنا هذا التشكيك؛ لأن مناقشته والانتهاء إلى رأي فيه إنما تكون في مجال دراسة أصول القبائل العربية وأنسابها، وليس هنا مجال هذه الدراسة، وإنما الذي يعنينا هنا هو أن "كل الأفراد الذين ينتمون إلى قبيلة واحدة كانوا يعدون أنفسهم من دم واحد"2، وأنهم جنس واحد، متشابه العناصر والمقومات، لا يختلف أفراده إلا بمقدار ما يختلف أبناء الأسرة الواحدة، بل إن بعض الباحثين المحدثين يرى أن أفراد الحي الواحد من القبيلة كانوا لا يعدون أنفسهم من "دم واحد" فحسب، ولكن من "لحم واحد" أيضا، ومن ملاحظاته التي يؤيد بها رأيه ما تستعمله اللغة العربية من لفظة "اللُّحمة" في التعبير عن معنى القرابة3، ولعل فيما عبر به العرب عن بعض أشكال جماعاتهم بالبطن والفخذ ما يصور ذلك الإحساس الذي كان يحسه العربي بتلك الصلة "الجسدية" التي تربطه بجماعته.
وقد نشأ عن هذا الإيمان بوحدة الجنس في نفوس أبناء القبيلة إيمان بامتيازه، فقد آمنوا بأنهم جنس ممتاز لا تفضلهم قبيلة أخرى4، وهم يفضلون كل القبائل5، آباؤهم أشرف آباء6، وأمهاتهم أكرم أمهات7، وهم أجدر الناس بأن يكونوا خير الناس8، ولعل في هذا الإيمان بامتياز الجنس ما يفسر
1 انظر: SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA، PP. 1، 62; & ZWEMER ARABRA، THE GRADLE OF ISLAM، P. 159.
2 SMITH; KINSHIP & MARRIAGE IN EARLY ARABIA، P;. 25.
3 IBID.; P. 175.
4
حديا الناس كلهم جميعا
…
مقارعة بنيهم عن بنينا
"عمرو بن كلثوم في معلقته". يقول التبريزي: "قالوا معنى حديا الناس كما تقول واحد الناس، وقيل: معناه نحن أشرف الناس". "شرح القصائد العشر/ 232".
5 #إني لمن قوم بنى الله مجدهم
على كل باد في الأنام وحاضر#
"المرزباني: معجم الشعراء/ 227".
6
إنا بني نهشل لا ندعي لأب
…
عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
"حماسة أبي تمام 1/ 51".
7
وأماتنا أكرم بهن عجائزا
…
ورثن العلا عن كابر بعد كابر
"المرزباني: معجم الشعراء/ 227".
8
ونحن بنو ماء السماء فلا نرى
…
لأنفسنا من دون مملكة قصرا
"حماسة أبي تمام 1/ 130".
تلك المنافرات التي امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد شعرائه. ومما شجع على هذا الإيمان بامتياز الجنس في نفوس أبناء القبيلة صلات العداوة بين القبائل المختلفة التي كانت تسيطر على الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي، فقد "كانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى"1.
وقد نشأ عن هذا "الإيمان بوحدة الجنس وامتيازه" طائفة من التقاليد تنظم العلاقات بين الطبقات الاجتماعية في القبيلة.
والناظر في تكوين القبيلة الاجتماعية يستطيع أن يميز ثلاث طبقات اجتماعية: الصرحاء، والعبيد، والموالي.
أما الصرحاء فهم في عرف القبيلة أبناؤها ذوو الدم النفي الذي لا تشوبه شائبة، الذين ينتمون جميعا إلى أب واحد، والذين تتمثل فيه العصبية القبلية بأقوى معانيها. ومنهم تتكون الطبقة "الأرستقراطية" في القبيلة، وفيهم رياستها، وبيوتات الشرف فيها. وتعتمد هذه "الأرستقراطية" أول ما تعتمد على النسب2، ومن هنا كان حرص هذه الطبقة على أن يظل دمها نقيا، وعلى أن تجمع الشرف من "كلا طرفيه": الآباء والأمهات، فلا يكون في أحد طرفي الشرف ما يشينه3.
وأما طبقة العبيد فقد كانت تتألف من عنصرين: عنصر عربي، وهم أولئك الأسرى الذين كانوا يقعون في أيدي القبيلة في حروبها مع القبائل الأخرى، وعنصر غير عربي، وهو أولئك الرقيق الذين كانوا يجلبون من البلاد المجاورة للجزيرة العربية.
1 ZWEMER; ARABRA، THE GRADLE OF ISLAM، P. 159.
2 انظر ابن خلدون: المقدمة، الفصل الحادي عشر والثاني والثالث عشر من الباب الثاني من الكتاب الأول/ 131-135.
3 الأغاني 11/ 86 "بولاق". ويقول معقل بن خويلد:
بنو فالج قومي وهم ولدوا أبي
…
وخالي ثمال الضيف من آل فاتك
"السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 121".
وقد قلنا إن الصلات بين القبائل العربية كانت صلات خصام، ومن هنا كانت الحرب دائما قائمة بينها، "وكان سبي الرجال والنساء على السواء أمرا أساسيا في كل غارة"1، ومن الطبيعي أن يكون تعرض النساء للسبي أكثر من تعرض الرجال2، فإن ضعف المرأة في هذه الحالة من الصراع المستمر في الجزيرة العربية يجعلها دائما في مركز الضحية3. وبقدر ما كان العربي يأنف من قتل سبيته لما فيه من نزول بمروءته، كان حرصه على سبي أكثر عدد ممكن من النساء لأن في هذا إهانة لأعدائه. وقد كان يحدث أحيانا أن يفاجأ كل نساء الحي، وهم خلوف، فيؤخذن سبايا4. ومن هنا "كانت حماية النساء والأطفال خطة أساسية في فنهم الحربي"5، ومن هنا أيضا كانت المقدرة على حماية "الظعينة" عنصرا أساسيا من عناصر البطولة العربية جعلهم يطلقون على بعض أبطالهم لقب "حامي الظعينة" أو "فارس الظعينة"6.
وقد كان يحدث أحيانا أن تبيع القبيلة أساراها، فقد اشتعلت حرب بين لحيان وخناعة "فكان بعضهم لا يزال يغزو بعضا، فإذا أصابت بنو لحيان من خناعة أحدا باعوه"7، وكان زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضاعة "أصابة سباء في الجاهلية لأن أمه خرجت به تزور قومها
1 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA، P. 89.
وقد وفد سميفع بن ناكور الكلاعي على عمر بن الخطاب "وله أربعة آلاف أهل بيت قن من العرب مماليك أسرهم في الجاهلية""نقائض جرير والفرزدق 1/ 46".
2 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA، P. 295.
وأخبار سبي النساء في العصر الجاهلي كثيرة. "انظر: الأغاني 3/ 75-78، 11/ 172 بولاق، 19/ 158، ونقائض جرير والفرزدق 1/ 13، وديوان عروة/ 169، 170".
3 LAMMENS; LE BERCEAU DE I'ISLAM، VOL. I، P. 280.
4 انظر نقائض جرير والفرزدق 1/ 145، والأغاني 21/ 63، 64.
5 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA، P. 295.
6 القالي: الأمالي 2/ 271.
7 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 100.
بني معن، فأغارت عليهم خيل بني القين بن جسر فأخذوا زيدا، فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل اشتراه من سوق حباشة"1، وكانت أم عمرو بن العاص "من بني عترة أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ"2، وفي أخبار خناعة أنهم أسروا سيدا من سادة العرب "فباعوه بمكة"3.
ومن هذا نرى أن بيع القبائل العربية لأساراها كان منتشرا في أسواق مكة بالذات، ويرينا ديوان الهذليين أنه كانت بمكة تجارة منتظمة في الرقيق تروجها الحروب التي كانت لا تنقطع بين القبائل المجاورة4. وكان يحدث أحيانا أن يرد إلى أسواق مكة رقيق من أسرى العرب من المناطق البعيدة عنها، فقد كان أبو صهيب، سنان بن مالك، ينزل بأرض الموصل عاملا لكسرى على الأبلة، "فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوا صهيبا، وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فابتاعته كلب منهم، ثم قدمت به مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان"5.
أما العنصر الآخر الذي شارك في تكوين طبقة العبيد في القبيلة العربية، وهو العنصر غير العربي، فقد كان مصدره البلاد المجاورة لجزيرة العرب كالحبشة وما حواليها من الأمم، فكان تجار الرقيق يحملون العبيد والإماء من هذه البلاد إلى جزيرة العرب يبيعونهم في أسواقها بالمواسم6، ولم يكن ينظر إلى المسألة من جانبها الإنساني، وإنما هي تجارة كسائر التجارات تتخذ منها القبائل وسيلة للربح، فقد "كانت قريش تتجر بالرقيق مثل إتجارها بسائر
1 ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة 2/ 224.
2 المصدر السابق 4/ 116.
3 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 116.
4 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA، P. 89.
5 ابن قتيبة: المعارف/ 114.
6 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 20.
السلع1 وكانت هذه التجارة منتشرة بالذات في بني تميم2، وكان عبد الله بن جدعان التميي رئيس قريش في حرب الفجار من أشهر تجار الرقيق في الجاهلية3.
وكان هؤلاء الأرقاء المجلوبون كثيرين في المجتمع الجاهلي، وكان كل شريف من أشراف العرب يحرص على ألا يخلو منزله منهم، فقد كان لعبد الله بن أبي ربيعة مثلا عبيد من الحبشة يتصرفون في جميع المهن، وكان عددهم كبيرا، حتى لقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعين بهم في عزوة حنين4.
وأما الطبقة الثالثة في المجتمع القبلي، وهي طبقة الموالي، فقد كانت تتألف من العتقاء، ومن العرب الأحرار الذين لجئوا إلى القبيلة من قبائل أخرى، وعاشو في حمايتها، أو حماية رئيسها أو بعض ذوي النفوذ فيها5.
أي أن طبقة الموالي في القبيلة العربية كانت ترجع إلى أصلين: أحرار، وعبيد، أما الأحرار فهم أولئك اللاجئون إلى القبيلة، أو إلى أحد أفرادها، من خلعاء القبائل، طالبين الحماية والنصرة، وكانوا يسمون أحيانا "الحلفاء"، وأما العبيد فهم أولئك الذين أعتقهم سادتهم من نير الرق فظلوا مرتبطين بهم برابطة الولاء6.
وهذه الطبقة كانت تؤلف طبقة مكانتها الاجتماعية بين الطبقتين السابقين،
1 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 20.
2 lammens; la mecque a la veille de l'hegire، p. 167 = 263.
3 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 21.
4 الأغاني 1/ 65. وقد اتخذ بعض الشعراء من عبيد آل أبي ربيعة مادة لفنهم "انظر البيت الوارد في المصدر نفسه/ 64 لأبي ذؤيب الهذلي الذي يشبه فيه حمار الوحش بعبد منهم".
5 smith kinship and marriage in early arabia، pp. 47، 48.
6 في لسان العرب "مادة ولي": "والمولى الحليف وهو من انضم إليك فعز بعزك وامتنع بمنعتك
…
والمولى المعتق انتسب بنسبك"، وهكذا يشير هذا المعنى اللغوي لهذين النوعين الاجتماعيين من طبقة الموالي.
فالمولى عند العرب وسط بين العبد والحر1 "وأحط منزلة من الحر وأرفع من العبد"2.
آمنت القبيلة العربية بهذه الطبقات الاجتماعية، وعرفت لكل طبقة منزلتها، وما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، وتعارفت على الصلات التي تكون بين أفراد كل طبقة وأفراد الطبقتين الأخريين.
وما أظن أننا في حاجة إلى القول بأن طبقة العبيد كانت في حالة اجتماعية سيئة في هذا المجتمع الأرستقراطي3 الذي يؤمن بوحدته وبجنسه إيمانا عميقا، والذي يمثل العنجهية الجاهلية بكل ما فيها من معاني الطغيان والجبروت والاستبداد أقوى تمثيل، حتى لنجد أن هذه الطبقة كانت من أسرع الطبقات استجابة إلى دعوة الإسلام الذي ضمن لهم حقوقهم، ونظم علاقاتهم بساداتهم تنظيما إنسانيا عادلا، والذي أتاح لهم فرصا كثيرة للعتق والتحرر. وليس من شك في أن حياة هذه الطبقة كانت سلسلة من الذل، تبدأ منذ أن يشتري السيد عبده، ويقوده إلى منزله ليتصرف فيه كيف شاء. ولم يكن يعهد للعبيد إلا بتلك الأعمال التي يأنف السادة من القيام بها، وهي تلك التي سميناها "الأعمال الفرعية في المجتمع القبلي"، فإذا مات السيد ورث ورثته عبيده كما يرثون سائر متاعه إلا إذا كان قد أوصى لهم بحريتهم بعد موته4.
ومع ذلك، ومع حرص العربي على الشرف في كلا طرفيه، كان يحدث أحيانا أن يتزوج العربي من أمته، ولكن المجتمع الجاهلي كان يرى في هذا الزواج زواجا غير متكافئ، ومن هنا أطلق على ثمرته اسما خاصا، فسمى ابن العربي من الأمة "هجينا"5، ومن الطبيعي ألا ينظر إلى هذه الصلة
1 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 21.
2 المصدر السابق/ 24.
3 lammens; le berceau de i'islam، vol. i، p. 198، p. 277.
4 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 20.
5 في القاموس المحيط "مادة هجن". "والهجين: اللئيم، وعربي ولد من أمة أو من أبوه خير من أمه"، ويقول المبرد "والهجين عند العرب الذي أبوه شريف وأمه وضيعة، والأصل في ذلك أن تكون أمة""الكامل/ 302".
نظرة احترام، فقد كانت كل أمة عندهم تدعى فرتنى أو ترنى1، وكانت طبقة العاهرات تتألف عادة من الإماء أو ممن أعتق منهن2، ولم يكن العربي يعرف لهؤلاء الإماء "مساواة في الحقوق ولا مساواة في المعاملة"3.
ويبدو أن المسألة لم تكن أكثر من نزوة جنسية، فقد كان أبغض ما يبغضه العربي أن تلد أمته منه4، ومن هنا كانوا يستعبدون أولاد إمائهم5، ويرفضون الاعتراف بهم إلا إذا أبدوا نجابة ممتازة، فإنهم حينئذ يلحقونهم بنسبهم6.
وكان أسوأ هؤلاء الهجناء حظا، وأوضعهم منزلة اجتماعية، أولاد الإماء السود الذين سرى إليهم السواد من أمهاتهم، فقد كانوا سبة يعير بهم آباؤهم7. ومرد ذلك من غير شك إلى ظاهرة اللون، فقد كان العرب يبغضون اللون الأسود بقدر ما يحبون اللون الأبيض، وقد وصفوا كل شيء ممدوح عندهم ماديا كان أو معنويا بالبياض8، وكان مما يمدح به الرجل أو يفتخر به أنه أبيض9،
1 نقائض جرير والفرزدق 1/ 41 و63 و64، وشرح السكري على أشعار الهذليين 1/ 46 و235. ومن معاني هاتين الكلمتين "البغي، المرأة الزانية" "انظر مادتي "ترن" و"فرتن" في المعجمات اللغوية".
2 smith kinship and marriage in early arabia، pp. 168-169.
3 lammens; le berceau de l'islam، vol. l، p. 277.
4 "إنا قوم نبغض أن تلد فينا الإماء""الأغاني 20/ 165".
5 انظر: الأغاني 8/ 237، 239، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 130، والبغدادي: خزانة الأدب 1/ 62.
6 الأغاني 8/ 237، وانظر المثل على هذا في إلحاق عنترة بابيه في المصدر نفسه/ 237، 239 وفي الشعر والشعراء/ 130، 131.
7 كان لعمرو بن شأس "امرأة من قومه وابن من أمة سوداء يقال له عرار فكانت تعيره إياه""شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 1/ 149".
8 "إذا قالت العرب فلان أبيض، وفلانة بيضاء فالمعنى نقاء العرض من الدنس والعيوب، وإذا قالوا فلان أبيض الوجه، فلانه بيضاء الوجه، أرادوا نقاء اللون من الكلف والسواد الشائن""لسان العرب: مادة "بيض".
9 "بيض الوجوه على العدو ثقال""الفرزدق في نقائض جرير والفرزدق 1/ 287"، "من كل أبيض يستضاء بوجهه""جرير في نقائض جرير والفرزدق 1/ 301"، "بيض الوجوه مصانع لسن""قيس بن عاصم المنقري في شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 4/ 68".
ومن سمات جمال المرأة أن تكون بيضاء1، وهو أيضا دليل على شرفها، فقد كان مما يمدح به الرجل أنه ابن بيضاء2، بل إنهم كانوا يفخرون بأن سباياهم من النساء البيض3. ومن هنا أطلقوا على هؤلاء السود اسما خاصا تمييزا لهم من سائر إخوانهم الهجناء، فسموهم "الأغربة" تشبيها لهم بذلك الطائر البغيض المشئوم في لونه الأسود4، ونسبوهم في أكثر الحالات إلى أمهاتهم5.
ويخرج هؤلاء "الأغربة" إلى الحياة، وقد وسمتهم الطبيعة بذلك اللون الذي يبغضه مجتمعهم، والذي لا بد لهم فيه، ولا خروج لهم منه، فإذا هو يحول من البدء دون أن يعترف بهم آباؤهم، ثم إذا هو بعد ذلك يقف صخرة تتحطم عليها آمالهم في أن يشاركوا في الحياة الاجتماعية كما يشارك غيرهم، ولا يهيئ لهم إلا فرصة ضيقة للحياة على هامش المجتمع حياة ذليلة محتقرة يخدمون فيها سادتهم ويقومون لهم بتلك الأعمال الفرعية التي يأنفون هم من القيام بها، أما الأعمال الأساسية فلا يقوم بها إلا أبناء الحرائر6، فما يحسن هؤلاء الأغربة أولاد الإماء السود غير "الحلاب والصر" كما يقول أحدهم
1 "مهفهفة بيضاء غير مفاضة""امرؤ القيس في معلقته"، "ومن كل بيضاء رعبوبة""المبرد الكامل/ 305".
2 "هو ابن لبيضاء الجبين نجيبة""العجير السلولي في الأغاني 11/ 154 بولاق".
3
رحلنا من الأجيال أجيال طيئ
…
نسوق النساء عوذها وعشارها
ترى كل بيضاء العوارض طفلة
…
تفري إذا شال الشمال صدارها
"عروة بن الورد في ديوانه /171".
4 في لسان العرب "مادة غرب""وأغربة العرب سودانهم، شبهوا بالأغربة في لونهم"، وفي تاج العروس "المادة نفسها" "وكلهم سرى إليهم السواد من أمهاتهم" ويقول أبو عبيدة:"وإنما سموا أغربة لأن أمهاتهم كن سودا""كتاب الشعراء، مخطوط، فصل من غلب اسم أمه على اسم أبيه، ورقة رقم 31".
5 انظر كتاب "من نسب إلى أمه من الشعراء" لابن حبيب، وانظر فصل "من غلب اسم أمه على اسم أبيه" في كتاب الشعراء، وانظر أيضا ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 131، والأغاني 8/ 240.
6 #لا يكشف الغماء إلا ابن حرة
يرى غمرات الموت ثم يزورها#
"حماسة أبي تمام 1/ 25"، ويقول التبريزي:"يعني أن أبناء الحرائر هم الصابرون على المكابرة في ابتناء المجد واكتساب الشرف".
-عنترة بن زبيبة الأمة السوداء- في سخرية لاذعة من تلك الأوضاع الاجتماعية التي وضعها السادة البيض وآمنوا بها1.
ومع ذلك فقد يبدي أحد هؤلاء الأغربة امتيازا في ناحية من النواحي، فتشعر القبيلة أنها أمام فرد تستطيع أن تنتفع به، فيمحو هذا الامتياز عنه معنويا سواد لونه، فيعترف به أبوه، وتعمل القبيلة على تقريبة من مركز الدائرة، ليقوم بدوره في أعمال القبيلة الأساسية، كما حدث لعنترة الذي أصبح بعد اعتراف أبيه به، لشجاعته الفائقة في دفاعه عن قبيلته، عنترة بن شداد العبسي2.
ولكن لم تكن الفرصة التي أتيحت لعنترة بالتي تتاح لكل أولئك الأغربة الذين كان يغص بهم المجتمع الجاهلي3، كما أن منهم من كان يرفض تلك الحياة "الهامشية"، ويتمرد على ذلك الوضع الاجتماعي الذليل المحتقر الذي فرض عليه؛ لأن لديه من القوة النفسية ما يجعله يرفض قبوله، ومن القوة الجسدية ما يمكنه من رفع راية العصيان في وجه هؤلاء السادة4. وقد خرج هؤلاء الأغربة الأقوياء على أوضاع القبيلة، ورفضوا الحياة الذليلة التي فرضتها عليهم، وخرجوا من حماها، ليشقوا طريقهم في الحياة بالأسلوب الذي يضمن لهم حياة كريمة حرة تعتمد على القوة في سبيل الحصول على الحق. ومن هؤلاء
1 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 130، والأغاني 8/ 239.
2 المصدران السابقان: الشعر والشعراء/ 130، 131، والأغاني 8/ 239، 240.
3 يحاول بعض رواة الأدب العربي أن يجددوا عدة أغربة العرب فبينما يحددهم بعضهم بثلاثة "ابن قتيبة في الشعر والشعراء/ 131"، وابن الكلبي في الأغاني 8/ 240، وأبو عبيدة في كتاب الشعراء - مخطوطة - ورقة رقم 31"، يحددهم آخرون بأربعة "النيسابوري في لطائف المعارف - مخطوطة - ورقة 87"، ويحددهم غيرهم بسبعة "ابن الأعرابي في المزهر 2/ 269"، ويحددهم آخرون بأكثر من ذلك "ابن حبيب في المحبر/ 307 وما بعدها، ولسان العرب، وتاج العروس، مادة غرب"، وعندي أن هذه الإحصائيات لا قيمة لها، فإن هذا شيء أكثر من أن يُحصى، ويبدو أن المقصود بها هو تسجيل أسماء المشهورين منهم.
4 يصفهم النيسابوري بأنهم "سودان شجعان""لطائف المعارف - مخطوطة - ورقة رقم 87".
الأغربة المتمردين تألفت جماعات من صعاليك العرب.
وحين نعود إلى شعرائنا الصعاليك لننظر إليهم في ضوء هذا "المصباح الاجتماعي" نجد أن طائفة منهم تألفت من هؤلاء الأغربة.
فالسليك بن السلكة1 السعدي يصفه ابن قتيبة بأنه "أحد أغربة العرب وهجنائهم وصعاليكهم"2، ويصفه المبرد بأنه "كان من غربان العرب"3، ويصفه النيسابوري بأنه كان أسود4، ويقدمه ابن قتيبة في أول ترجمته بأنه "منسوب إلى أمه"5، ويترجم له ابن حبيب في كتابه "من نسب إلى أمه من الشعراء"6، ويصفها ابن قتيبة بأنها "كانت سوداء"7، ويصفها المفضل بأنها "كانت أمة سوداء"8، وكذلك يصفها النيسابوري9، ويذكر عنها المبرد أنها "كانت سوداء حبشية"10، ويضعه ابن حبيب بين "أبناء الحبشيات"11.
وتأبط شرا من هذه الطائفة أيضا يضعه صاحب لسان العرب نقلا عن ابن سيده عن ابن الأعرابي بين أغربة العرب، وكذلك يفعل صاحب تاج العروس نقلا عن التهذيب والمحكم ولسان العرب12، ويضعه ابن الأعرابي في
1 هي أمه "تاج العروس مادة سلك، والأغاني 18/ 133، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 131، وابن حبيب: كتاب المغتالين - مخطوطة - ورقة رقم 86، والمحبر/ 308، والمبرد: الكامل/ 298، والآمدي: المؤتلف والمختلف/ 137، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 17، والنيسابوري: لطائف المعارف - مخطوطة - ورقة رقم 76، والسيوطي: المزهر 2/ 269".
2 الشعر والشعراء/ 214.
3 الكامل /298.
4 لطائف المعارف "مخطوطة" ورقة رقم 77.
5 الشعر والشعراء/ 213.
6 الميداني: مجمع الأمثال 1/ 399.
9 لطائف المعارف "مخطوطة" ورقة رقم 76 رقم 77.
10 الكامل/ 298.
11 المحبر/ 307 و308.
12 مادة "غرب". وخطأ ما ذكراه من أنه من الإسلاميين، فكل المصادر التي بين=
نوادره بين أغربة الجاهلية1، ويذكر FRESNEL أنه ابن أمة2، ويذكر صاحب الأغاني أن اسمها أميمة3، ولكنه يقول "يقال إنها من بني القين بطن من فهم"4، ولعل في هذا التشكيك الذي تثيره صاحب الأغاني حول نسبتها إلى بني القين ما يقلل أهمية هذا الخبر. ومن الحق أن المصادر التي تعرضت لتأبط شرا، ما عدا تلك المصادر التي ذكرته بين أغربة العرب، لم تذكر شيئا صريحا عن أصل أمه، على كثرة ما تعرضت لها، ولكن من الحق أيضا أن هذه المصادر صورتها في صورة امرأة غير محترمة، تؤخذ بول ابنها إذا غزا5، وتسعى في قتله ليخلو لها الجو مع زوج تزوجها بعد أبيه6، وتتحدث هي نفسها بأنها حملت به في ليلة ظلماء وإن نطاقها لمشدود7، وتحدثنا أخبارها بأن أولادها الخمسة كانوا يحملون ألقابا عجيبة تعطينا فكرة عن هوان المنزلة الاجتماعية لهذه الأسرة8.
ومن الطبيعي أن تكون صلة هؤلاء الأغربة بأمهاتهم أقوى من صلتهم بآبائهم، وقد رأينا أن أكثرهم قد نسبوا إليهن، وهي ظاهرة يصح أن نطلق عليها "العصبية النسائية في حياة أغربة العرب". ومرد هذا من غير شك إلى إنكار آبائهم لهم منذ أول حياتهم، وإهمالهم شأنهم بعد ذلك، فنشئوا في رعاية أمهاتهم، أو في إهمالهن، لا يرون لهم أحدا سواهن، فتعصبوا لهن وتعصبن لهم، ويصرح
= أيدينا -ما عداها- مجمعة على أنه جاهلي، وكل أخباره تؤيد هذا.
1 السيوطي: المزهر 2/ 269.
2 lettres sur l'histoire des arabes avant l'islamisme "premiere lettre، p. 108".
3 الأغاني 18/ 209، وأخطأ الأستاذ BRAU في THE ENCY. OF ISLAM حين ذكر أن اسمها أمينة، ولم يتنبه لهذا الخطأ مترجموا الدائرة إلى اللغة العربية.
4 الأغاني 18/ 209.
5 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 175.
6 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 45.
7 المصدر السابق/ 43.
8 الأغاني 18/ 209، وانظر أيضا المرزباني: معجم الشعراء/ 226، والسيوطي المزهر 2/ 275، وانظر لسان العرب وتاج العروس مادة "لغب".
السليك بأن رأسه قد شاب مما تقاسيه خالاته من ضيم وهون ومذلة يعجز لفقره عن إنقاذهن منها1، وهو يذكر هذا في مجال دفاعه عن تصعلكه وفخره به، مما يشعر بأن هذه "العصبية النسائية" كانت من الأسباب الفعالة في هذا التصعلك. وتتحدث أم تأبط شرا عن ابنها حديث المعجبة به، فقد حكى عنها أنها قالت فيه:"إنه والله شيطان، ما رأيته قط مستثقلا ولا ضحكا، ولا هم بشيء مذ كان صبيا إلا فعله"2، وتتحدث عنه مرة أخرى حديثا تبين فيه كيف حملت به، وكيف وضعته، ومدى اهتمامها بتنشئته منذ طفولته الأولى تنشئة قوية3.
ومن هنا أيضا كثر رثاء قريبات هؤلاء الأغربة لهم، وحديثهن عن حزنهن عليهم، فقد رثت السليكة ابنها السليك بأبيات رائعة تفيض حزنا وتفجعا، تصور فيها مصابها الشديد فيه، وحسرتها البالغة عليه4، ورثت أم تأبط شرا ابنها بقطعتين مسجعتين لعلهما تمثلان مرحلة من مراحل أولية الشعر العربي، لم تنس فيهما أن تصور بطولته وشجاعته5، وكذلك فعلت أخته ريطة
1 المبرد: الكامل/ 299، والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 286، ويقول المبرد "وإنما توجع لخالاته لأنهن كن إماء""2/ 299"، وانظر الأبيات كلها وشرحها في الكامل 2/ 298 وما بعدها.
2 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 43.
3 المبرد: الكامل/ 79، والجاحظ: الحيوان 1/ 286، ولسان العرب، وتاج العروس، مادة "وضع"، مع بعض الخلاف اللفظي، وزيادات في العبارات في بعض المصادر، لعلها من صنع الرواة، رغبة منهم في إطالة هذه السجعات، ولعل أصح هذه الروايات رواية الكامل ورواية الحيوان.
4 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 191، 192، وأسامة بن منقذ: لباب الآداب/ 183، ويقال إنها لأم تأبط شرا "المعري: شرح حماسة أبي تمام - مخطوطة بدار الكتب - ورقة رقم 5، وانظر أيضا شرح التبريزي 4/ 186 و187"، ولكن التبريزي يرجح أنها لأم السليك "ص192"، وتُروى في العقد الفريد "3/ 261، 427" الأعرابي مجهول في قصة واحدة في الموضعين، ولكن يلاحظ أن القصة لا تتفق مع الأبيات، وبخاصة البيت الثالث "ص261" فليس هناك محل لهذا التساؤل في البيت ما دامت القصة تذكر أن أفعى لدغت ابن هذا الأعرابي فمات.
5 لسان العرب، المواد "قرب - هوف - هيف".
فقد رثته برجز تحدثت فيه عن مكارم أخلاقه1، وكذلك فعلت أخت حاجز الأزدي، فقد رثته ببيتين تصور فيهما حسرتها على فقده، وحيرتها لاختفائه2، ورثت عمرا ذا الكلب3 أخته جنوب بمجموعة من القصائد الممتازة4.
وقد انضمت هذه الطائفة من الصعاليك الأغربة إلى الطائفة السابقة من الصعاليك الخلعاء والشذاذ، ليشتركوا جميعا في العمل ضد هذا المجتمع الذي فقدوا توافقهم الاجتماعي معه، إما لأنه تخلى عن رعاتيهم كما في حالة الأغربة، وإما لأنه تخلى عن حمايتهم كما في حالة الخلعاء الشذاذ.
1 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة بدار الكتب" لوحة رقم 83 ورقم 84، ولسان العرب مادة "رخم"، وينسب هذا الرجز إلى أمه "ياقوت: معجم البلدان 4/ 242 مادة رخمان".
2 الأغاني 12/ 52 "بولاق".
3 ينص صاحب الفلاكة والمفلوكين نقلا عن بعض مصادره على أنه من صعاليك العرب/ 119.
4 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 241-246، وانظر أيضا الأغاني 19/ 23، وحماسة ابن الشجري/ 82، 83 مع بعض الاختلاف في الألفاظ وترتيب الأبيات وعددها، وتنسب بعض هذه الأبيات إلى أخت عمرو "ريطة"" الأغاني 19/ 23" وإلى أخته "عمرة""شرح أشعار الهذليين 1/ 244". ولكن هذا الاختلاف في كل هذه المواضع لا يغير من الفكرة التي نقررها شيئا.