المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية: - الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي

[يوسف خليف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: الصعاليك

- ‌الفصل الأول: التعريف بالصعلكة

- ‌في اللغة

- ‌الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة

- ‌ أهمية العامل الجغرافي:

- ‌ جزيرة العرب:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك:

- ‌ التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك:

- ‌الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة

- ‌ القبيلة:

- ‌ إيمان القبيلة بوحدتها:

- ‌ إيمان القبيلة بجنسها:

- ‌ الصعاليك والمجتمع القبلي:

- ‌الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة

- ‌ العرب والتجارة:

- ‌ الطرق التجارية:

- ‌ الأسواق:

- ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

- ‌ الصراع الاقتصادي في البادية:

- ‌الباب الثاني: شعر الصعاليك

- ‌الفصل الأول: ديوان الصعاليك

- ‌مصادره

- ‌ مادته:

- ‌الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك

- ‌ الشعر داخل دائرة الصعلكة

- ‌ الشعر خارج دائرة الصعلكة:

- ‌الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك

- ‌ شعر مقطوعات:

- ‌ الوحدة الموضوعية:

- ‌التخلص من المقدمات الطلية

- ‌ عدم الحرص على التصريع:

- ‌ التحلل من الشخصية القبلية:

- ‌ القصصية:

- ‌ الواقعية:

- ‌ السرعة الفنية:

- ‌ آثار من الصنعة المتأنية:

- ‌ الخصائص اللغوية:

- ‌ ظواهر عروضية:

- ‌الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان

- ‌ تشابه وتميز:

- ‌ عروة بن الورد:

- ‌الشَّنْرَي

- ‌الخاتمة:

- ‌ الصعاليك:

- ‌ شعر الصعاليك:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

4-

‌ الصراع الاقتصادي في المدن التجارية:

من الطبيعي أن يشارك في هذه الحركة التجارية النشطة التي عرفتها الجزيرة العربية سكانها، كل حسب طاقته المادية، وحسب ظروفه الاجتماعية، وحسب قربه أو بعده عن مراكز النشاط التجاري، ومن الطبيعي أيضا أن يختلف موقف العرب من هذه الحركة التجارية عن موقف البدو.

أما أولئك العرب الذين تقع مدنهم على الطرق التجارية فقد فرض عليهم موقعهم أن يشاركوا في هذه الحياة التجارية بكل ما تحتمله رءوس أموالهم.

وقد نشطت الحركة التجارية في مكة بالذات نشاطا واسع النطاق، جعل منها كما يحلو للامانس أن يقول عنها "جمهورية تجارية"1، أو كما يسميها درمنجم "جمهورية بلوتقرطية"2، تعتمد في سيادتها على طبقة الأثرياء، أو كما يقول بندلي جوزي "مدينة تجارية محضة لا يفكر أهلها إلا في التجارة، ولا يهمهم إلا جمع المال واستثماره بجميع الوسائل المحللة والغير المحللة"3.

ويؤرخون أهمية مكة الحقيقية في هذا النشاط التجاري بذلك الوقت الذي أصبح فيه عرب الحجاز أصحاب التجارة، وجعلوا من مكة "مركزا إداريا" لأعمالهم، أما قبل ذلك، حينما كانت التجارة في أيدي اليمنيين، فإن مكة لم تعد أن تكون محطة على طريق القوافل، كما يذكر سترابو4. فقد كانت

1 انظر كتابه: la mecque a la veille de l'hegire،

وانظر أيضا مقالته عن mecca في: the ency. of islam، p. 438.

2 the life of mahomet، p. 26.

3 من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 14، 15.

4 o'leary; arabia before muhammad، p. 182.

ص: 134

مكة قبل القرن الخامس الميلادي "محطة للقوافل التي كانت تمر بها وهي راجعة من جنوب الجزيرة تحمل بضائع الهند واليمن إلى سوريا وفلسطين ومصر، فأصبحت في أواخر الجيل السادس مدينة تجارية غنية تمد بما كان يأتيها من البضائع المحلية والأجنبية أكثر سكان الحجاز وأسواقه"1.

وقد سيطر على أهل مكة روح تجاري نشط "فاشتعلت في نفس كل منهم حمَّى تدفعه للعمل والمال والمضاربات التجارية، من التاجر ذي الأريكة الخشبية في الهواء الطلق، إلى صاحب الدكان الصغير، إلى رجل الأعمال الكبير صاحب الكتبة الكثيرين، الذي تزدان دفاتر حساباته الجارية بالأختام والكتابات الحاذقة"2، وبلغ من سيطرة هذا الروح التجاري أن كان من ألقاب الشرف في مكة لقب "تاجر"، ذلك اللقب الذي كان يخول لصاحبه أن يشارك في السلطان السياسي3.

وقد أحدث هذا النشاط التجاري نوعا من الاختلال في التوازن الاقتصادي، نشأت عنه طبقة من الصعاليك المعوزين ممن تخلفوا عن القافلة، ونحاهم التيار التجاري الجارف جانبا، حيث يركد الماء، ويتراكم الغثاء. ويرى بعض الباحثين أن عدد أفراد هذه الطبقة في مكة كان كبيرا جدا بالنسبة إلى عدد أصحاب الثروة فيها، وأنهم كانوا في حالة سيئة "لا يملكون شيئا حتى أنفسهم؛ لأن حق التشريع كان محصورا في أيدي الطبقة العليا، فكان أصحابها يسنون من الشرائع ما كان يوافق مصلحتهم، ولما لم يكن لأصحاب هذه الطبقة زاجر من أنفسهم، ولا رادع من ضمائرهم يردعهم عن استثمار أتعاب الصعاليك وامتهانهم، ويوقفهم عند حد معلوم من القساوة، كانت حياة الصعاليك بينهم عرضة دائمة للأخطار، وسلسلة يأس وعذاب، فلا قانون يحميهم، ولا شريعة ترق لحالهم، وتحاول أن تنشلهم من هاوية الموت الاجتماعي والرق

1 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 13، 14.

2 dermenghem; the life of mahomet، p. 29.

3 lammens; la mecque a la veille de l'hegire، p. 165 = 261.

ص: 135

الأبدي، فكانوا يعيشون في شعاب البلدة وأطرافها البعيدة، وفي بيوت حقيرة قذرة، وعيشة ضنك، وجوع مستمر، بينما كان الذين أثروا من أتعابهم يقيمون في وسط المدينة، في قصورهم الفخمة، بالقرب من الكعبة والنادي، أو دار الندوة، مصدرَي ثروتهم وسلطتهم"1.

وكانت العلاقات بين هاتين الطبقتين: طبقة المالة وطبقة الصعاليك من السوء إلى حد بعيد، فقد كانت الطبقة الأولى مسيطرة على كل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وقد رأينا أن حق التشريع كان في أيديهم. وإلى جانب هذا كانوا هم المسيطرين على الحياة الاقتصادية، فكانوا يعمدون أحيانا إلى التلاعب بالأسواق، أو المضاربة بالدراهم والدنانير والتبر والنقود الأجنبية، "فكانوا تارة يزيدون في وزنها أو قيمتها، وطورا يخفضون، تبعا لمصالحهم الشخصية وجريا وراء جشعهم المعهود"2 مما كان يؤدي إلى اختلال التوازن الاقتصادي اختلالا كبيرا، يكون من نتائجه أن تصبح طبقة الصعاليك تحت رحمتهم، فيضطر أفرادها إلى الاستدانة إبقاء على حياتهم وهنا يعمد المتمولون إلى استغلال هذه الفرصة، فيقرضونهم ما يطلبون نظير فائدة فاحشة كانت تتراوح بين أربعين في المائة ومائة في المائة3. ويبدو أن عدد المرابين في مكة والمدينة كان كبيرا جدا، ومعروف أن القرآن الكريم في سوره المكية والمدينة حمل حملات شعواء على الربا والمرابين4. وإلى جانب هذا الربا الذي كانوا يأكلونه "أضعافا مضاعفة" كما يقول القرآن الكريم5 "وكانوا يتلاعبون بالديوان بأن يؤخروا آجالها، أو يقدموها.

1 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 20، 21.

2 المصدر السابق/ 19.

3 المصدر السابق/ 18، وفي خزانة الأدب للبغدادي "1/ 345 سطر 11""اقترض ثمانية آلاف درهم باثني عشر ألف"، وفي كتاب المغازي للواقدي "ص21""مال مع قوم قراض على النصف".

4 البقرة/ 275، 276، 278، 279 وهي مدنية، وآل عمران/ 130 وهي مدينة أيضا، والنساء/ 161 وهي مدينة أيضا، والروم/ 39 وهي مكية.

5 آل عمران/ 130.

ص: 136

أو يضيفوا إليها، إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تؤدي دائما إلى خراب المستدين واستعباده"1. وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك إذ وقف من هذا التلاعب بالديوان موقفا رائعا صريحا نظم فيه الصلة بين الدائن والمدين تنظيما واضحا دقيقا، ووضع الشروط التي تضمن لكلا الطرفين حقه، في آيتين طويلتين من سورة البقرة2، وكانت هذه الديون تزداد يوما بعد يوم بما كان يضاف إليها من الربا الفاحش، مما كان يجعل محاولة سدادها أمرا ميئوسا منه، "ولهذا لم يكن وقتئذ أمل في التخلص من أولئك الظلمة بالطرق السلمية إلا فيما ندر، أما أكثر المدينين فإنهم كانوا مضطرين إما إلى الهرب إلى الصحراء، والالتحاق بطبقة المتشردين وقطاع الطرق، وإما أن يدخلوا في طبقة الأرقاء، ويقيموا فيها إلى ما شاء الله"3.

ويرجع هذا إلى أن مكة كانت في الجاهلية -كما هي في الإسلام- حرما مقدسا "لا ظلم ولا بغي فيها"4، نظرا لوجود الكعبة فيها، هذا إلى جانب أنها مدينة لها نظامها الاجتماعي، ويقيم سكانها في منازل، فهي لهذا ليست بالميدان الصالح لحركات الصعاليك المتمردين. ومن هنا لم يجدوا مفرا من الخروج منها إلى البادية الواسعة حيث الحياة فوضى، ومجال العمل المتمرد متسع، وحيث طوائف المتشردين وقطاع الطرق وذؤبان الصحراء منتشرة، فإذا ما ضاقت بهم حياة التصعلك والتشرد، أو ضاقوا بها، أو رغبوا في الراحة منها إلى حين، فإن طريق العودة إلى مكة ميسر، فأبواب البلد الحرام مفتوحة لكل لاجئ أو خائف أو طريد، "من دخله كان آمنا، ومن أحدث في غيره من البلدان حدثا ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله"5. ومن هنا نستطيع أن نفهم السر في كثرة عدد الخلعاء من شتى القبائل فيها، واتخاذهم منها مركزا يلتقون فيه آمنين على حياتهم من الطلب، حتى إذا ما حانت ساعة العمل خرجوا منها إلى ميدان كفاحهم، وقد رأينا في الفصل السابق صورة لأولئك الخلعاء والفتاك الذين كانوا يجتمعون في مكة، حتى إذا ما احتاج إليهم ثائر لغزوة من الغزوات قدم إليهم فيها، وواعدهم في الحرم، ثم خرج بهم جنودا مرتزقة.

1 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 19.

2 282، 283.

3 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 19، 20.

4 تاريخ الطبري 2/ 198.

5 ياقوت: معجم البلدان "مكة" 8/ 136.

ص: 137